المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جَاهِلُونَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ - تفسير المنار - جـ ٨

[محمد رشيد رضا]

الفصل: جَاهِلُونَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ

جَاهِلُونَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ، مَا يَكْفِي لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ أُولُو الْأَبْصَارِ، نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكْثِرَ فِي أُمَّتِنَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ إِلَّا بِذَلِكَ وَإِلَّا فَهِيَ هَالِكَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا جَزَاءٌ مُطَّرِدٌ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاءُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَنْكَى، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عز وجل:

(يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ مَنْ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْأَوْزَارِ إِذَا قَدِمُوا عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ وَيُسْأَلُونَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْمَعْشَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ‌

‌ 130

فَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ التَّوْبِيخِيِّ، وَقَوْلُهُ:(رُسُلٌ مِنْكُمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ أَرْسَلَ اللهُ مِنْهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ

الرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، كَحَصْرِ الرِّسَالَةِ فِي الرِّجَالِ وَجَعْلِهَا فِي ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ صَرَفُوا النَّظْمَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنْ جُمْلَتِكُمْ - لَا مِنْ كُلٍّ مِنْكُمْ، وَهُوَ يُصَدِّقُ بِرُسُلِ الْإِنْسِ الَّذِينَ تَثْبُتُ رِسَالَتُهُمْ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرُوا لَهُ شَاهِدًا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)(55: 22) بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)(55: 19) إِلَخْ. أَيِ الْمِلْحُ وَالْحُلْوُ وَهُوَ الْبُحَيْرَاتُ وَكِبَارُ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْبِحَارَ الْحُلْوَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لُؤْلُؤٌ وَلَا مَرْجَانُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهَا كَبَعْضِ أَنْهَارِ الْهِنْدِ، ثَبَتَ ذَلِكَ قَطْعًا وَاسْتَدْرَكَهُ (سَايِلْ) مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ. وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقَائِقِ الْأَكْوَانِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى فِي أَيَّامِ حَضَارَتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِهِمْ لِلْأَقْطَارِ. ذَكَرَ هَذَا الشَّاهِدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: جَمَعَهُمْ كَمَا جَمَعَ قَوْلَهُ: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)(35: 12) وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْهَارِ حِلْيَةٌ انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْعَدُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ آيَةِ الرَّحْمَنِ بَلْ هُوَ يُبْطِلُهُ، وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَقَوْلِهِمْ: أَكَلْتُ تَمْرًا وَلَبَنًا. (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوا قَوْمَهُمْ وَهُمْ رُسُلٌ إِلَى قَوْمِهِمْ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْجِنِّ هُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِنْهُمُ الدَّعْوَةَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ وَبِلَّغُوهَا لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ كَالَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصَتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)(46: 29) الْآيَاتِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ رَسُولِ

ص: 92

الرَّسُولِ رَسُولًا. وَذَكَرُوا أَنَّ مِنْهُ رُسُلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ " يس "(36: 13 - 20) وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ سُئِلَ عَنِ الْجِنِّ هَلْ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللهِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) فَقَالُوا: بَلَى؟ وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ يَرُدُّونَ التَّأْوِيلَ السَّابِقَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَوْ صَدَقَ فِي رُسُلِ الْجِنِّ لَصَدَقَ فِي رُسُلِ الْإِنْسِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الضَّحَّاكَ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)(35: 24) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ)(10: 47) وَقَوْلُهُ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي

كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (16: 36) مَعَ ضَمِيمَةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(6: 38) وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ بِتَكْلِيفِ الْحَيَوَانَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ (35: 24) وَأَنَّ الشَّعْرَانِيَّ ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَذْرُهَا مِنْهَا وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ غَيْرِهَا، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)(6: 9) أَيْ بِنَاءً عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَفَهْمِهِ عَنْهُ، وَقَدْ يَرُدُّ هَذَا بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْجِنَّ يَفْهَمُونَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْخِلَافِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ، وَالظَّوَاهِرُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْجُمْهُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِرُسُلِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُمْ، وَلَيْسَتْ أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِ الرُّسُلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَالْجِنُّ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ عَنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ - وَكَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ - عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، وَحَكَى تَعَالَى عَنِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا:(إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)(46: 30) فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ. فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ:(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) أَيْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَيْكُمُ الْمُبَيِّنَةَ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَسَنَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ الْأَحْوَالِ وَسَلَامَةُ الْمَآلِ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا بِإِعْلَامِكُمْ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ كَفَرَ عَنْ جُحُودٍ أَوِ ارْتِيَابٍ.

(قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) هَذَا مَا حَكَاهُ تَعَالَى مِنْ جَوَابِهِمْ عَنِ السُّؤَالِ عِنْدَمَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ بِالْكَلَامِ، وَثَمَّ مَوَاقِفُ أُخْرَى لَا يَنْطِقُونَ فِيهَا وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَمَوَاقِفُ يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُنْكِرُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ

ص: 93

مِنْ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا وَجِيزٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكُفْرِهِمْ وَيُقِرُّونَ بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ وَبُلُوغِهِمْ دَعَوْتُهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ نَقَلَهَا عَنْهُمْ. وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أَيْ غَرَّهُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَحُبِّ

الرِّيَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى النَّاسِ، وَرَأَوْا مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي عَصْرِهِمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمْ يَجْعَلُ الرَّئِيسَ مِنْهُمْ مَرْءُوسًا وَمُسَاوِيًا لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَدْ يُكْرَمُونَ عَلَيْهِ بِمَا يَفْضُلُونَهُ بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ بِشَجَاعَتِهِمْ أَوْ ثَرْوَتِهِمْ أَوْ عَصَبِيَّتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ كُفْرَ كِبْرٍ وَعِنَادٍ يُقَلِّدُهُمْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ تَقْلِيدًا، فَيَغْتَرُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا يَعْتَزُّ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ الْآخَرِ. وَكَانَ عَصْرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ نَحْوًا مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَلَفَ عَنْهُ بِمَا تَجَدَّدَ لِلْإِسْلَامِ مِنَ الْمُلْكِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِجِبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ مِنَ الِارْتِدَادِ عَنْهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ عُمَرَ يَقْتَصُّ مِنْهُ لِأَحَدِ السُّوقَةِ.

وَأَمَّا غُرُورُ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالدُّنْيَا الْمَانِعِ لَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، فَهُوَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْجَاهِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومَيْنِ فِي كُلِّ دِينٍ، وَقَدْ زَالَتْ مِنْ أَكْثَرِ الْبِلَادِ الْحُكُومَاتُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الدِّينِ يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَحَلَّ مَحَلَّهَا حُكُومَاتٌ مَادِّيَّةٌ لَا يَرْتَقِي فِيهَا وَلَا يَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَ أَهْلِهَا مَنْ يَتَّبِعُ الرُّسُلَ، بَلْ لَمْ يَعُدْ هَذَا الِاتِّبَاعُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرِيَاسَتِهَا الْمَشْرُوعَيْنِ، فَمَا الْقَوْلُ بِالْمَحْظُورَيْنِ. وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَبِسُوهُ مَقْلُوبًا حَتَّى جَهِلُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا سِيَّمَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلُ الْمُكَمِّلُ الْمُتَمَّمُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ حَاجَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَجَمِيعِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ وَالسِّيَادَةِ بِالْحَقِّ. وَلَوْ كَانَ لِلْإِسْلَامِ مُلْكٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَقَلَّ فِي اللَّابِسِينَ لِبَاسَهُ النِّفَاقُ وَالْفُسُوقُ - دَعِ الْكُفْرَ وَالْمُرُوقَ - وَلَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا.

(وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) أَيْ وَشَهِدُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنْ مَوَاقِفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذْ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَافِرِينَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ ; إِذْ لَا يَجِدُونَ فِيهِ مَجَالًا لِلْكَذِبِ وَالْمُكَابَرَةِ وَلَا لِلتَّأْوِيلِ. وَلَيْسَ الْكُفْرُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مَحْصُورًا فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْقَوْلِ، بَلْ مِنْهُ عَدَمُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الطِّبَاعِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَرَتُّبِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا، فَالْكُفْرُ نَوْعَانِ: عَدَمُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَعَدَمُ الْإِسْلَامِ لَهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ. وَالذَّنْبُ الْعَارِضُ لَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ كَمَا فُصِّلَ مِرَارًا.

(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ

ص: 94

إِتْيَانِ الرُّسُلِ يَقُصُّونَ عَلَى الْأُمَمِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِصْلَاحِ الرُّوحِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَيُنْذِرُونَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، بِسَبَبِ أَنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ بِالْإِصْلَاحِ الْأَكْمَلِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي تَرْبِيَةِ خَلْقِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى أَيِ الْأُمَمُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَلَا بِعَذَابِ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُخَالِفِي هِدَايَتِهِمْ بَعْدَ قَبُولِهَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِظُلْمٍ مِنْهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا بِهِ هَذَا الْهَلَاكَ، بَلْ يَتَقَدَّمُ هَلَاكَ كُلِّ أُمَّةٍ إِرْسَالُ رَسُولٍ يُبَلِّغُهَا مَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْوَحْيِ فِي عَصْرِهِ، أَوْ بِمَا يَنْقُلُ إِلَيْهَا مَنْ يُبَلِّغُونَهَا دَعْوَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي تُنَبِّهُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ ; ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ جَعْلَ جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ عِقَابٍ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ اسْتَحَقُّوهُ بِهِ، فَيَكُونُ عِقَابُهُمْ تَرْبِيَةً لِمَنْ يُسْلِمُ مِنْهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سُنَّةَ اللهِ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الرَّبِّ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَالتَّعْذِيبَ لَيْسَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُتَعَلِّقِهَا سَوَاءٌ أَذْنَبَ الْمُكَلَّفُونَ أَمْ لَمْ يُذْنِبُوا، بَلْ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي يُرَبِّي بِهَا عِبَادَهُ.

أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (بِظُلْمٍ) فِيهِ وَجْهَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ بَيَّنَّاهُمَا بِمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَلَخَّصَ قَوْلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَشَايَعَهُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِظُلْمٍ) وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِ أَهْلِهَا بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ غَافِلُونَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ عَلَى حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَأْخُذُهُمْ غَفْلَةً فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ وَاللهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.

وَتَقُولُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِكُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ نَظْمُ كِتَابِهِ مِنْ مَعْنًى صَحِيحٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عِدَّةُ آيَاتٍ مِنْهَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي إِهْلَاكِ الْقُرَى بِظُلْمِهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ:(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(11: 102) وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ فِيهَا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(117)

ص: 95

وَقَدْ جَزَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ تَفْسِيرِهِ بِهِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)(6: 82) الْآيَةَ. وَاسْتِشْهَادُ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ لُقْمَانَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(31: 13) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ فِيهَا بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ - وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ - لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الظُّلْمِ الَّذِي يُلْبَسُ بِهِ الْإِيمَانُ فَصَحَّ فِيهِ الْعُمُومُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ ; لِأَنَّ قَلِيلَ الشِّرْكِ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَكَثِيرِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الْآنَ وَفِي آيَةِ هُودٍ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا فَقَدْ وَرَدَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي مَقَامِ بَيَانِ سَبَبِ إِهْلَاكِ الْقُرَى، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ فِيهِ مُطْلَقًا لِمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى الْمُؤَيَّدَةِ بِوَقَائِعِ التَّارِيخِ مِنْ هَلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَبَقَائِهَا زَمَنًا طَوِيلًا مَعَ الشِّرْكِ إِذَا كَانَتْ مُصْلِحَةً فِيهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ آيَةِ هُودٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ نَقَلَ عِبَارَةَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ بِالْمَعْنَى فَقَالَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الظُّلْمِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، فَأَشَارَ إِلَى الْعُمُومِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ: بِشِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ وَكُفْرِ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وَهِيَ تُنَافِي صِيغَةَ الْعُمُومِ وَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُخْطِئُ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ.

هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ فَصَّلْنَا مِنْ قَبْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ مِنْ أَنَّ عِقَابَ اللهِ تَعَالَى لِلْأُمَمِ وَكَذَا لِلْأَفْرَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْوَاعٌ، وَأَنَّ مِنْهُ مَا يُسَمَّى عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ عَانَدُوا الرُّسُلَ بَعْدَ أَنْ جَاءُوهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَنْذَرُوهُمُ الْهَلَاكَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ تَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِهَا كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، فَسُنَّةُ اللهِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةٌ وَقَدِ انْقَطَعَتْ بِانْقِطَاعِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِذْ لَيْسَتْ جَارِيَةً عَلَى سَائِرِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ.

وَمِنْهُ هَلَاكُ الْأُمَمِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الظُّلْمِ أَوِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ الَّذِي

يُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ وَيَقْطَعُ رَوَابِطَ الِاجْتِمَاعِ، وَيَجْعَلُ بَأْسَ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا اجْتِمَاعِيًّا لِسَلْبِ اسْتِقْلَالِهَا وَذَهَابِ مُلْكِهَا بِحَسَبِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ أَنْذَرَنَا اللهُ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيُرَاجَعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ التَّفْسِيرِ.

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ - كَآيَةِ هُودٍ - مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي لَا يَزَالُ فِي طَوْرِ الْوَضْعِ وَالتَّدْوِينِ ; وَهُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي قُوَّةِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَضَعْفِهَا وَعِزِّهَا وَذُلِّهَا وَغِنَاهَا وَفَقْرِهَا وَبَدَاوَتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَأَعْمَالِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ فِي الْأُمَمِ كَفَائِدَةِ عِلْمِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ فِي حِفْظِ اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَهَمُّ قَوَاعِدِهِ وَأُصُولِهِ

ص: 96

وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِهَا، وَبَدَأَ ابْنُ خَلْدُونَ بِجَعْلِهِ عِلْمًا مُدَوَّنًا يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَلَكِنِ اسْتَفَادَ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا كَتَبَهُ فِي ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَيْهِ وَوَسَّعُوهُ فَكَانَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَادُوا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَجِبُ ; لِأَنَّهُ كُتِبَ فِي طَوْرِ تَدَنِّيهِمْ وَانْحِطَاطِهِمْ، بَلْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ الْعُلْيَا فِي إِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيمَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَا يَزَالُونَ مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا الرُّشْدِ وَالْهِدَايَةِ عَلَى شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ تَنَازُعُ الْبَقَاءِ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَإِنَّا نَرَى بَعْضَهُمْ يُعَزِّي نَفْسَهُ عَنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِ وَيَعْتَذِرُ عَنْ تَقْصِيرِهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي يَفْهَمُهُ مَقْلُوبًا بِمَعْنَى الْجَبْرِ أَوْ يُسَلِّيهَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ وَارْتَكَسَ بَعْضُهُمْ فِي حَمْأَةِ جَهْلِهِ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى ارْتَدُّوا عَنْهُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا زَاعِمِينَ أَنَّ تَعَالِيمَهُ هِيَ الَّتِي أَضْعَفَتْهُمْ وَأَضَاعَتْ عَلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَالْتَمَسُوا هِدَايَةً غَيْرَ هِدَايَتِهِ لِيُقِيمُوا بِهَا دُنْيَاهُمْ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أَيْ وَلِكُلٍّ مِنْ مَعْشَرَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلُ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ وَمُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ. فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وَيُضَاعِفُ اللهُ الْحَسَنَاتِ دُونَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ الْفَضْلَ مَا كَانَ فَوْقَ

الْعَدْلِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ آخِرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْكَافِرُونَ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ - فَالدَّرَجَاتُ بِمَعْنَى الدَّرَكَاتِ كَالدَّرْجِ وَالدَّرْكِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْخَيْرِ وَجَزَائِهِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِهِ وَمِنْهُ:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(4: 145) وَالرَّاغِبُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ بِاعْتِبَارِ الْحُدُورِ وَالْهُبُوطِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا كِلَاهُمَا عَامًّا لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَشَذَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُسْلِمِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ ثَوَابٌ، وَأَشَدُّ مِنْهُ شُذُوذًا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ نَقَلَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَلَيْثٌ هَذَا مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَقَدِ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَلَعَلَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ.

هَذَا وَإِنَّنَا وَإِنْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبَطِلَةٌ لَلَقَوْلِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ الْهَادِمِ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ الَّذِي أَلْبَسُوهُ ثَوْبَ الْقَدَرِ الثَّابِتِ بِالْعِلْمِ الْمُؤَيِّدِ لِلْقُرْآنِ، فَإِنَّنَا نَرَى أَنْ نُصَرِّحَ بِأَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - قَدْ صَرَّحَ فِي تَفْسِيرِهَا بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ وَأَنْ نَذْكُرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا وَنُبَيِّنَ بُطْلَانَهَا وَإِنْ سَبَقَ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهَا مَنْ يَنْخَدِعُ بِلَقَبِهِ وَكِبَرِ شُهْرَتِهِ قَالَ:

" اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

ص: 97

تَعَالَى حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلِمَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ بِعَيْنِهَا وَأَثْبَتَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ زُمْرَةَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ لَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَلَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَلَصَارَ ذَلِكَ الْإِشْهَادُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلٍّ دَرَجَاتٍ مِمَّا عَمِلُوا (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(132) وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ " اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا وَمُبْطِلًا لِحُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَمُكَذِّبًا لِوَحْيِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدَّرَجَاتِ تَكُونُ لِلْمُكَلَّفِينَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ تَعَالَى " قَدْ حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ " إِلَخْ. فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ مَجْبُورًا عَلَى هَذَا

الْفِعْلِ وَهُوَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُخْتَارٌ، وَالْقُرْآنُ قَدْ صَدَّقَ الْوِجْدَانَ بِإِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْإِنْسَانِ. وَنَوْطُ مَشِيئَتِهِ بِمَشِيئَةِ اللهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى شَاءَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَوْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنْ شَاءَهُ فَكَانَ، وَعَلِمَ ذَلِكَ وَكَتَبَهُ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَشَرْعَهُ.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مُؤَيِّدَةٌ لِلثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا. أَمَّا تِلْكَ فَبَيَانٌ لِحُجَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ فَجَحَدُوا بِهَا، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَأَنَّ عِقَابَهُمْ هُنَالِكَ حَقٌّ وَعَدْلٌ - وَبَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْفُسِهَا لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ بَلْ بِظُلْمِهَا لِأَنْفُسِهَا ظُلْمًا لَا عُذْرَ لَهَا فِيهِ - وَبَيَانُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادٍ دَرَجَاتٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَحَاصِلُ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

ص: 98

وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي قَفَّى بِهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَيْضًا فِي بَيَانِ عِقَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَتَحْقِيقِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا لِحَاجَةٍ لَهُ تَعَالَى فِيهِ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، بَلْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مَقْرُونٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَهَاكَ تَفْصِيلُهُ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ.

خَتَمَ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أَيْ بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهَا وَمُجَازٍ عَلَيْهَا وَبَدَأَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لِإِثْبَاتِ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَحْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ

وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَوِ الْقَصْرَ كَمَا قَالُوا. أَيْ وَرَبُّكَ غَيْرُ الْغَافِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ هُوَ الْغَنِيُّ الْكَامِلُ الْغِنَى، وَذُو الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ أَنَّ الْغِنَى هُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَكَمَالِ مَعْنَاهُ، بَلْ أَصْلُ مَعْنَاهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَالصِّفَاتُ الْكَمَالِيَّةُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ ; إِذْ كَلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَمُحْتَاجٌ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى قِوَامَ وَجُودِهِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْخَلْقِ هَذَا غَنِيٌّ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِأَهَمِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَغِنَى النَّاسِ مَثَلًا إِضَافِيٌّ عُرْفِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُسَمَّى غَنِيًّا كَثِيرَ الْحَاجَاتِ فَقِيرٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَالزَّوْجِ وَالْخَادِمِ وَالْعَامِلِ وَالطَّبِيبِ وَالْحَاكِمِ، دَعْ حَاجَتَهُ إِلَى خَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي قَالَ تَعَالَى فِيهَا:(يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(35: 15) وَقَدْ " كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ مَعَهُ " غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عَمَلِ الطَّائِعِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا إِلَى دَفْعِ عَمَلِ الْعَاصِينَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ بَلْ يَضُرُّهُمْ، فَالتَّكْلِيفُ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ يَكْمُلُ بِهِ نَقْصُ الْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ.

رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل (مِمَّا يُسَمَّى بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ) أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ

ص: 99

إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا

فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " وَالْمُرَادُ بِإِطْعَامِهِ تَعَالَى وَكَسْوِهُ لِعِبَادِهِ خَلْقُهُ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَصْنَعُونَ مِنْهُ لِبَاسَهُمْ، وَبِاسْتِطْعَامِهِ وَاسْتِكْسَائِهِ طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ كَالْآيَاتِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى ذَا الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ وَحْدَهُ فَجَلِيٌّ ظَاهِرٌ عَقْلًا وَفِعْلًا وَنَقْلًا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَّا إِلَّا وَيَقْسُو وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ أَحْيَانًا، حَتَّى أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ كَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَمَا الْقَوْلُ بِمَنْ دُونَهُمْ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ذِي رَحْمَةٍ فَرَحْمَتُهُ مِنْ فَيْضِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى خَالِقِ الْأَحْيَاءِ وَوَاهِبِ الْغَرَائِزِ وَالصِّفَاتِ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا بِسَقْيٍ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فَأَخَذَتْهُ فَالْتَزَمَتْهُ - وَفِي رِوَايَةٍ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا - فَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ - قُلْنَا: لَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ - فَقَالَ: اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ". وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ " رَوَيَاهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا " إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ " وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحْمَةَ رَحْمَتَانِ: صِفَةُ ذَاتٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَهِيَ لَا تَتَعَدَّدُ وَصِفَةُ فِعْلٍ وَهِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مِائَةَ قِسْمٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي نِسْبَةِ رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِبَيَانِ تَعْظِيمِ قَدْرِهَا، فَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنْ لَمْ يَقْدِرْهَا قَدْرَهَا وَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنِ اغْتَرَّ بِهَا فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَنَسِيَ حِكْمَتَهُ فِي الْجَزَاءِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ وُجُوبِ الْجَمْعِ

ص: 100

بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ حَادِي الْأَرْوَاحِ كَلَامٌ حَافِلٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْقَوْلِ فِيهَا هُنَا.

وَقَدْ بَيَّنَ " الرَّازِيُّ " وَجْهَ حَصْرِ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي اتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِمَا وَحْدَهُ عَلَى

طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: " وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ، وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رحمه الله قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ:(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) اهـ.

أَقُولُ: إِنَّهُ يَعْنِي بِأَهْلِ السُّنَّةِ هُنَا الْأَشْعَرِيَّةَ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَعْذِيبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَتَنْعِيمَ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ، حَتَّى عَطَّلُوا بَعْضَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَأَوْجَبُوا عَلَى اللهِ مَا أَوْجَبُوا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْأَثَرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ تَأْوِيلِ بَعْضِهَا بِرَدِّهِ إِلَى مَذْهَبٍ يَلْتَزِمُ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، أَوْ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ - كَمَا يُعَبِّرُ كُتَّابُ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ بِرَسُولِهِ الْمُعَانِدُونَ لَهُ وَاسْتِخْلَافَ غَيْرِكُمْ بَعْدَكُمْ يُذْهِبْكُمْ بِعَذَابٍ يُهْلِكُكُمْ بِهِ، كَمَا أَهْلَكَ أَمْثَالَكُمْ مِنْ مُعَانِدِي رُسُلِهِ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَيَسْتَخْلِفُ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَإِنْشَاءِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكُمْ أَوْ ذُرِّيَّةِ غَيْرِكُمْ أَحَقِّ بِرَحْمَتِهِ مِنْكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَيُقِيمُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ.

وَقَدْ أَهْلَكَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ عَادَوْا خَاتَمَ رُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا وَجَحَدُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مَعَ اسْتِيقَانِهِمْ صِدْقَهُ، وَاسْتَخْلَفَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَهَبَتْ بِهِ آيَاتُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِإِرْشَادِهِ فَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْظَمَ مُظْهِرٍ لِرَحْمَةِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحِهِمْ كَمَا شَهِدَ بِذَلِكَ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ

ص: 101

حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ

فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَخْلَفِينَ الْجِنُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْإِنْسِ وَلَا الْجِنِّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ عَجَائِبِ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَلَا الْإِبْهَامِ لِأَجْلِ ذَهَابِ الْخَيَالِ كُلَّ مَذْهَبٍ فِيهِ، بَلْ مَقَامَ الْإِنْذَارِ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمَحْفُوظِ التَّارِيخِ وَبَقَايَا الْعَادِيَاتِ وَالْآثَارِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْغِنَى وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، هِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ النَّاسَ بِالْفَقْرِ وَوَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغَنِيِّ الْحَمِيدِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ:(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ: (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(47: 38) .

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهَلَاكَهُمْ فِيهَا أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ إِنَّمَا تُوعَدُونَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ لَآتٍ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِلَّهِ بِهَرَبٍ وَلَا مَنْعٍ مِمَّا يُرِيدُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى بَدْءِ خَلْقِكُمْ. وَهَذَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا. وَقَدْ قَرَّبَ الْعِلْمُ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَمْرَ الْبَعْثِ مِنَ الْعُقُولِ. بِمَا قَرَّرَهُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْعَالِمِ ثَابِتٌ أَصْلُهُ لَا يَزُولُ، وَإِنَّمَا هَلَاكُ الْأَشْيَاءِ وَفَنَاؤُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحَلُّلِ مَوَادِّهَا وَتَفَرُّقِهَا، وَبِمَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَوَادِّ الْمُتَفَرِّقَةِ وَإِرْجَاعِهَا إِلَى تَرْكِيبِهَا الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْأَحْيَاءِ، بَلْ تَصَدَّى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ لِإِيجَادِ الْبَشَرِ بِطَرِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ صِنَاعِيَّةٍ بِتَنْمِيَةِ الْبَذْرَةِ الَّتِي يُولَدُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَلَقَةً فَمُضْغَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ بِاتِّخَاذِ وَسَائِلَ أُخْرَى لِتَغْذِيَةِ الْمُضْغَةِ فِي حَرَارَةٍ كَحَرَارَةِ الرَّحِمِ أَنْ تَتَوَلَّدَ فِيهَا الْأَعْضَاءُ حَتَّى تَكُونَ إِنْسَانًا تَامًّا. وَقَدْ بَيَّنَ تَجْرِبَتَهُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَرَنَاهُ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ لِإِتْمَامِ الْعَمَلِ بِإِيجَادِ مَعَامِلَ لِإِيجَادِ النَّاسِ كَمَعَامِلِ التَّفْرِيخِ لِإِيجَادِ الدَّجَاجِ فِي خِطَابٍ قَرَأَهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَطِبَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْكَوْنِ فَأُعْجِبُوا بِنَظَرِيَّاتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِمْكَانَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ الْكَثِيرُ وُصُولَ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ. وَإِنَّ الْمُخْتَرِعَ الشَّهِيرَ إِدِيصُونَ أَكْبَرَ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَاءِ يُحَاوِلُ اخْتِرَاعَ آلَةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ لِأَجْلِ اتِّصَالِ النَّاسِ بِأَرْوَاحِ مَنْ يَمُوتُ وَاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تُعْنَى الْأَرْوَاحُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعِيهِ

الرُّوحِيُّونَ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْوُسَطَاءَ لِلْأَرْوَاحِ وَتَجَسُّدِهَا وَتَلَقِّيهِمْ عَنْهَا هَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا يَقُولُونَ أَوْ خِدَاعٌ كَمَا يَقُولُ الْمُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ؟ وَغَرَضُنَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا أَنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْعَالِمِ الْمُخْتَرِعِ الْكَبِيرِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُمْكِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَقَعٌ

ص: 102

بِالْفِعْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ تَقْلِيدًا لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يُعِدُّونَ هَذَا مُحَالًا لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا وَيَرَى أَكْبَرُ عُلَمَاءِ الْمَادَّةِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُصُولُهُمْ إِلَيْهِ فِعْلًا فَهَلْ يَعْجَزُ عَنْهُ خَالِقُ الْبَشَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(41: 53: 54) . هَذَا وَإِنَّ كَلِمَةَ (تُوعَدُونَ) مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ لِوَعَدَ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمَا - وَلِأَوْعَدَ الرُّبَاعِيِّ الْخَاصِّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ أَوِ الضُّرِّ. وَرَجَّحَ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي إِنْذَارِ الْكَافِرِينَ وَنَفْيِ الْإِعْجَازِ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ " الرَّازِيُّ " وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ. وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ:(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) يَعْنِي كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْوَعْدِ وَالثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يَعْنِي لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحُكْمِنَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزَمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ:(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ غَالِبٌ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَرْجِيحِ فَنَاءِ النَّارِ. وَلَكِنَّنَا نَرَاهُ ضَعِيفًا وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ سَابِقٌ وَغَالِبٌ فِي أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْوَعِيدِ، كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ خَاصًّا بِالثَّوَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعِقَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(22: 72) وَقَوْلُهُ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ)(22: 47) . وَقَدْ خَتَمَ اللهُ هَذَا الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: (قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ

إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فِي هَذَا النِّدَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالدَّعْوَةِ أَوَّلًا، بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيَحْرِصُ عَلَى خَيْرِهِمْ وَمَنْفَعَتِهِمْ بِبَاعِثِ الْفِطْرَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ كَانَتِ النُّعَرَةُ الْقَوْمِيَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَى مِنْهَا عِنْدَ الْمَعْرُوفِ حَالُهُمُ الْيَوْمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَكَانَ نِدَاؤُهُمْ بِقَوْلِهِ:" يَا قَوْمِي " جَدِيرًا بِأَنْ يُحَرِّكَ هَذِهِ الْعَاطِفَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَحْمِلُ الْمُسْتَعِدَّ عَلَى الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِمِثْلِ هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ " هُودٍ " وَأَوَاسِطَ

ص: 103

سُورَةِ " الزَّمَرِ " وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُعَيْبٍ عليهما السلام. وَالْمَكَانَةُ فِي اللُّغَةِ حِسِّيَّةٌ وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَبَوَّأُهُ الْإِنْسَانُ، وَمَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ وَشَاكِلَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. إِنِّي عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِي وَشَاكِلَتِي الَّتِي هَدَانِي رَبِّي إِلَيْهَا وَأَقَامَنِي فِيهَا. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بَعْدَ حِينٍ مَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ الدَّارِ بِتَأْثِيرِ عَمَلِهِ. نَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي تَرَتُّبِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْمُنْبَعِثَةِ عَلَى عَقَائِدِهَا وَصِفَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا. يُقَالُ: مُكِّنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ، وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمُقَامٌ وَمُقَامَةٌ. وَقَوْلُهُ: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) يَحْتَمِلُ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ أَوِ اعْمَلُوا عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالِهِ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ: أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ (إِنِّي عَامِلٌ) عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا. الْمَعْنَى اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُصَابَرَتِكُمْ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أَيُّنَا تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ. وَطَرِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)(41: 40) وَهِيَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَصَّى عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِخِلَافِهِ اهـ.

وَقَدْ أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى)(18: 12) إِلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَهُ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (مَنْ) بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ فَسَوْفَ تَعْرِفُونَ الْفَرِيقَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الدَّارَ (الدُّنْيَا) لَهَا. قَالَ: وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ

فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ (بِكَسْرِ الذَّالِ) مُحِقٌّ، وَالْمُنْذَرَ (بِفَتْحِ الذَّالِ) مُبْطِلٌ اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ غَايَةَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَرُوحَهُ الْإِحَالَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِقَهْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَ هَذَا شَيْئًا لَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ جُمْهُورُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيُنِهِمْ فَيَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ بِهِمَا مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ، وَلَا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ عَاقِبَةُ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ هِيَ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ عَاقِبَةَ مِنْ كَفَرَ بِهِ وَنَاوَأَهُ هِيَ السُّوءَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا السَّبَبِ بِفَاصِلَةِ الْآيَةِ:(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أَيْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا أَعْيَتِ الْمَرْءَ أَسْبَابُهُ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِي هَذَا وَحْدَهُ. وَأَمَّا

ص: 104

مَا عُرِفَ سَبَبُهُ فَيُطْلَبُ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَسْبَابِ وَمُسَخِّرَهَا هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(31: 13) - فَهَذَا شَرُّ الظُّلْمِ وَأَشَدُّهُ إِفْسَادًا لِلْعُقُولِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ - فَيَلْزَمُهُ إِذًا سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(: 82) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ فَلَاحُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِالْأَوْلَى مُنْتَفِيًا بِشَرْعِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الْعَادِلَةِ، انْحَصَرَ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا لِرُسُلِ اللهِ وَجُنْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ أَوَّلًا كَأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ؟ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ نَصَرَ أَصْحَابَهُ عَلَى أَعْظَمِ أُمَمِ الْأَرْضِ وَأَقْوَاهَا جُنْدًا وَأَعْظَمِهَا مُلْكًا وَأَرْقَاهَا نِظَامًا كَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ؟ ثُمَّ نَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَشَعْبٍ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَلَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا النَّاسَ وَصَارَ حَظُّهُمْ مِنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ نَحْوًا مِمَّا كَانَ مِنْ حَظِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ مِنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ لِلنَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، بَلِ انْحَصَرَ الْفَوْزُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ. وَالْعَدْلِ وَالنِّظَامِ وَنَرَى

كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِمْ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ قَطُّ بِنَصْرِ مَنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ. وَإِنَّمَا وَعَدَ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُقِيمُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَلْقَابُهُمْ. إِذَا نَازَعَهُمُ الْبَقَاءُ مَنْ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَوِ النِّظَامِ مِنْهُمْ (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (14: 13، 14) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْبَحْثِ غَيْرَ مَرَّةٍ.

قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (مَكَانَاتِكُمْ) بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَكَانَةِ أَلَّا تُجْمَعَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِفَادَةُ أَنَّ لِلْكُفَّارِ مَكَانَاتٍ مُتَفَاوِتَةً، لِتَعَدُّدِ الْبَاطِلِ وَوَحْدَةِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ (تَكُونُ) بِالْفَوْقِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الْعَاقِبَةِ لَفْظِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ كَتَأْنِيثِهِ، وَفِي حَالِ الْفَصْلِ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا.

وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ اقْتِرَانُ سَوْفَ بِالْفَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُرِكَتِ الْفَاءُ فِي آيَةِ هُودٍ (11: 93) لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ

ص: 105

عَنْ قَوْلِهِمْ: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)(11: 91) إِلَخْ. فَهُوَ إِخْبَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ مَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ دُرَّةِ التَّنْزِيلِ.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ

اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)

بَعْدَ مُحَاجَّةِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَسَائِرِ الْعَرَبِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَآخِرُهَا الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ ذَكَرَ بَعْضَ عِبَادَاتِهِمُ الشَّرِكِيَّةِ فِي الْحَرْثِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِبَاعِثِ الْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ. وَالْخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ. فَقَالَ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) أَيْ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ أَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِمَّا ذَرَأَ وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْ ثَمَرِ الزَّرْعِ وَغَلَّتِهِ كَالتَّمْرِ وَالْحُبُوبِ وَنِتَاجِ الْأَنْعَامِ، وَنَصِيبًا لِمَنْ أَشْرَكُوا مَعَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ

ص: 106

وَقَدْ حُذِفَ ذِكْرُ هَذَا النَّصِيبِ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أَيْ فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ: هَذَا لِلَّهِ، أَيْ نَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَفِي الثَّانِي: هَذَا لِشُرَكَائِنَا، أَيْ مَعْبُودَاتُهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ بِزَعْمِهِمْ مَعْنَاهُ بِتَقَوُّلِهِمْ وَوَضْعِهِمُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَلَا هُدًى مِنَ اللهِ ; لِأَنَّ جَعْلَهُ قُرْبَةً لِلَّهِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِهِ وَأَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ دِينٌ، وَإِنَّمَا الدِّينُ لِلَّهِ وَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَمُلْكًا فَغَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لَهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ مِنْ دُعَاءٍ وَصَدَقَةٍ وَذَبَائِحِ نُسُكٍ، وَأَنْ يُطَاعَ غَيْرُهُ طَاعَةَ خُضُوعٍ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا شِرْكٌ جَلِيٌّ. وَمِنْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا أَشْرَكُوا مَعَهُ.

رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ نَصِيبَ اللهِ تَعَالَى لِقِرَى الضِّيفَانِ وَإِكْرَامِ الصِّبْيَانِ

وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَنَصِيبَ آلِهَتِهِمْ لِسَدَنَتِهَا وَقَرَابَتِهَا وَمَا يُنْفَقُ عَلَى مَعَاهِدِهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُرِنَ الْأَوَّلُ بِالزَّعْمِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، دُونَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ وَبَاطِلٌ بَحْتٌ وَبِهِ كَانَ الْأَوَّلُ شِرْكًا فِي الْقِسْمَةِ وَدُونَ جَعْلِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْسِنَهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْعَاقِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَاحْتِيجَ إِلَى قَرْنِهِ بِكَوْنِهِ زَعْمًا مُخْتَرَعًا لَهُمْ لَا دِينًا مُشْتَرَعًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ بِهَذَا بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ فَوْقَ كَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ إِذْ جَعَلُوا مِثْلَهُ لِمَا اتَّخَذُوا لِلَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ مَعَ أَحْكَامٍ أُخْرَى لَهُمْ فِيهِ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ:(فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْهُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ لَا بِالتَّصَدُّقِ وَلَا بِالضِّيَافَةِ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ يَعْنُونَ بِحِفْظِهِ لَهَا بِإِنْفَاقِهِ عَلَى سَدَنَتِهَا وَذَبْحِ النِّسَائِكِ عِنْدَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ) أَيْ وَمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَهُوَ يُحَوَّلُ أَحْيَانًا إِلَى التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهَا فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ قَبُحَ حُكْمُهُمْ هَذَا أَوْ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ. وَقُبْحُهُ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللهِ بِالتَّشْرِيعِ. وَمِنْهَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ أَدْنَى نَصِيبٍ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا تَرْجِيحُ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِخَالِقِهَا وَخَالِقِهِمْ فِيمَا فُصِّلَ آنِفًا وَهُوَ أَدْنَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ. وَالثَّانِي: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ مَا لِشُرَكَائِهِمْ وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالثَّالِثُ: تَرْجِيحُ مَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّهُ لَا هِدَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعُقُولَ تُدْرِكُ حُسْنَ الْأَحْكَامِ وَقُبْحَهَا وَيُحْتَجُّ بِهَا فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ مَوْرِدُ هَذَا هُوَ الرِّوَايَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ سَخَافَاتٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ الْجَائِرَةِ، اخْتَرْنَا أَنْ نَنْقُلَ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ:

ص: 107

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعُوفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهُ جُزْءًا وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا، فَمَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفِظُوهُ وَأَحْصَوْهُ وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِيمَا سُمِّيَ لِلصَّمَدِ. رَدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَبْقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ فَسَقَى شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ جَعَلُوا ذَلِكَ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرْثِ وَالثَّمَرَةِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَاخْتَلَطَ بِالَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ قَالُوا هَذَا فَقِيرٌ وَلَمْ

يَرُدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وَإِنْ سَبَقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَسَقَى مَا سُمِّيَ لِلْوَثَنِ تَرَكُوهُ لِلْوَثَنِ. وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ فَيَجْعَلُونَهُ لِلْأَوْثَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَهُ قُرْبَةً لِلَّهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى:(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) الْآيَةَ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ مِنْ ذَبْحٍ يَذْبَحُونَهُ لَا يَأْكُلُونَهُ أَبَدًا حَتَّى يَذْكُرُوا مَعَهُ أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ وَمَا كَانَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ مَعَهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ سَاءَ مَا يَقْسِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوَّلًا فِي الْقَسْمِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ وَفِي تَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. ثُمَّ لَمَّا قَسَمُوا فِيمَا زَعَمُوا الْقِسْمَةَ الْفَاسِدَةَ لَمْ يَحْفَظُوهَا بَلْ جَارُوا فِيهَا بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا:(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)(16: 57) وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)(43: 15) وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)(53: 21، 22) اهـ.

(وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) هَذَا حُكَمٌ آخَرُ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ الَّتِي لَا يَسْتَحْسِنُهَا عَقْلٌ سَلِيمٌ، وَلَمْ تَسْتَنِدْ إِلَى شَرْعٍ إِلَهِيٍّ قَوِيمٍ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينُ لِقِسْمَةِ الْقَرَابِينِ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. فَأَمَّا الشُّرَكَاءُ هُنَا فَقِيلَ: هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ وَخَدَمُهَا وَقِيلَ: بَلْ هُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ مَا يُزَيِّنُ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرِيكًا لِأَنَّهُ يُطَاعُ وَيُدَانُ لَهُ فِيمَا لَا يُطَاعُ بِهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا التَّزْيِينِ وُجُوهٌ:

(أَحَدُهَا) اتِّقَاءُ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ أَوِ الْمُتَوَقَّعِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)(6: 151) وَالثَّانِي مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)(17: 31) وَقَدَّمَ فِي الْأَوَّلِ رِزْقَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى رِزْقِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ تَابِعٌ لِوَالِدِهِ فِي الرِّزْقِ الْحَالِّ، وَقَدَّمَ فِي الثَّانِي رِزْقَ الْأَوْلَادِ عَلَى رِزْقِ الْوَالِدَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَكَثِيرًا مَا يَعْجَزُ فِيهِ الْآبَاءُ عَنْ كَسْبِ الرِّزْقِ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْفَاقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَيْهِمْ:

ص: 108

(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) اتِّقَاءُ الْعَارِ وَهُوَ خَاصٌّ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ - أَيْ دَفْنُهُنَّ حَيَّاتٍ - خَشْيَةَ أَنْ يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعَارِ إِذَا كَبُرْنَ ; فَهُمْ يُصَوِّرُونَ الْبِنْتَ لِوَالِدِهَا الْجَبَّارِ الْعَاتِي تَرْتَكِبُ

الْفَاحِشَةَ أَوْ تَقْتَرِنُ بِزَوْجٍ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ فَتَلْحَقُهُ الْخِسَّةُ، أَوْ تُسْبَى فِي الْقِتَالِ.

(وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ) التَّدَيُّنُ بِنَحْرِ الْأَوْلَادِ لِلْآلِهَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا بِنَذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ نَذْرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَنْذِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ، كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَخَبَرُهُ مَعْرُوفٌ يُذْكَرُ فِي قَصَصِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ. وَلَوْلَا الشِّرْكُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعُقُولَ لَمَا رَاجَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ عِنْدَهُمْ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ هُنَا بِوَصْفِ (الْمُشْرِكِينَ) فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ فِيهِمْ، وَسَمَّى الْمُزَيِّنِينَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَالسَّدَنَةِ أَوِ الْجِنِّ شُرَكَاءَ وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُمْ هُمْ آلِهَةً أَوْ شُرَكَاءَ ; لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ طَاعَةَ إِذْعَانٍ دِينِيٍّ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ الْمَعْبُودِ كَمَا وَرَدَ مَرْفُوعًا فِي تَفْسِيرِ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) فَإِنَّ مُقْتَضَى الْفِعْلِ الْإِذْعَانِيِّ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ مَدْلُولِ الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَوْتَى تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً خَاشِعِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ بَاكِينَ مُتَضَرِّعِينَ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ وَذَبَائِحِ النُّسُكِ مَنْذُورَةً أَوْ غَيْرَ مَنْذُورَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَلَا يُسَمُّونَ عِبَادَتَهُمْ هَذِهِ شِرْكًا وَلَا عِبَادَةً، وَقَدْ يُسَمُّونَهَا تَوَسُّلًا. وَالْأَسْمَاءُ لَا تُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَالْأَفْعَالَ، وَمِنْهَا الْأَقْوَالُ كَالدُّعَاءِ أَدَلُّ عَلَى الْحَقَائِقِ مِنَ التَّسْمِيَةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، فَهَذِهِ أَفْعَالُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا لَا مَجَازًا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (زُيِّنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ (قَتْلُ) وَنَصَبَ (أَوْلَادَهُمْ) مَفْعُولًا لِلْقَتْلِ وَجَرَّ الشُّرَكَاءَ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ بِمَفْعُولِهِ، وَهُوَ غَيْرُ فَصِيحٍ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَإِنْ أَجَازُوهُ حَتَّى فِي غَيْرِ الشِّعْرِ ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَلِطَ ابْنُ عَامِرٍ لِظَنِّهِ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَهَا مِنْ كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْأَلْفِيَّةِ وَشَنَّعُوا عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي إِنْكَارِهَا وَكَانُوا يُكَفِّرُونَهُ بِهِ، وَلَكِنْ سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْآنُ مِنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فَصِيحَةً عَلَى لُغَةِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِبَيَانِ عَمَلِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَصِيحَةً عِنْدَ مَنْ رَاعَى جُمْهُورُ النُّحَاةِ لُغَاتِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ، وَقَدْ يَكُونُ وُرُودُ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ شَاذًّا ; لِنُكْتَةٍ تَجْعَلُهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِمَكَانٍ كَإِفَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ مَعَ مُنْتَهَى الْإِيجَازِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. وَمَعْنَاهَا زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ أَيِ اسْتَحْسَنُوا مَا تُوَسْوِسُهُ شَيَاطِينُ

الْإِنْسِ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ مِنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ

ص: 109

فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ. فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذًا تَذْكِيرُ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ بِقُبْحِ طَاعَةِ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ فِي أَفْظَعِ الْجَرَائِمِ وَالْجِنَايَاتِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ.

ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا التَّزْيِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ لِيُرْدُوهُمْ، أَيْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ، الَّذِي يُذْهِبُ بِمَا أُوْدِعَ فِي قُلُوبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ عَوَاطِفِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلْ يَقْلِبُهَا إِلَى مُنْتَهَى الْوَحْشِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ، حَتَّى يَنْحَرَ الْوَالِدُ رَيْحَانَةَ قَلْبِهِ بِمُدْيَتِهِ. وَيَدْفِنَ بِنْتَهُ الضَّعِيفَةَ وَهِيَ حَيَّةٌ بِيَدِهِ. فَهَذَا إِرْدَاءٌ نَفْسِيٌّ مَعْنَوِيٌّ فَوْقَ الْإِرْدَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ الْقَتْلُ وَتَقْلِيلُ النَّسْلِ. وَأَمَّا لَبْسُ دِينِهِمْ عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِيهِ مَا كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام، وَقَدِ اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الشِّرْكِيَّةِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ يُتَّبَعُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ تُبْتَدَعُ، فَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الَّذِي يَشْتَبِهُ فِيهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ دِينُهُمُ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبَسٍ مُشْتَبَهٍ لَا تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَلَا تَخْلُصُ فِيهِ هِدَايَةٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَتَزْيِينَهُمْ وَسْوَسَتُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ ; لِأَنَّ السَّدَنَةَ لَا تَقْصِدُ الْإِرْدَاءَ لَهُمْ وَلَبْسَ الدِّينِ عَلَيْهِمْ كَذَا قِيلَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِرْدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي لَبْسِ الدِّينِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ يَقْصِدُونَ الْعَبَثَ بِدِينِ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيَدِينُ لَهُمُ الْتِذَاذًا بِطَاعَتِهِمْ وَاسْتِعْلَاءً بِالرِّيَاسَةِ فِيهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يَفْعَلَ الشُّرَكَاءُ ذَلِكَ التَّزْيِينَ، أَوِ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ وَسُنَنَهُ الْحَكِيمَةَ فِيهِمْ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ وَلَا لِسُنَنِهِ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَطْبُوعِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى طَبْعًا لَا يَسْتَطِيعُونَ غَيْرَهُ كَالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِغْوَاءٌ، بَلْ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَسْوَسَةٌ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِهَا، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَلِاخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَغْلِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مَا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَتَأْثِيرِ الْمُعَاشَرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ

وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا اسْتِعْدَادًا وَاسْتِفَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِانْتِحَالِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَيْهَا وَعَلَيْكَ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ

ص: 110

وَلِلَّهِ تَعَالَى سُنَنٌ فِي الِاهْتِدَاءِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، فَلَا يُحْزِنْكَ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَغْلِبَ حَقُّكَ بَاطِلَهُمْ.

هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللهِ وَمُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يَقْتُلَ هَؤُلَاءِ أَوْلَادَهُمْ تَعَلُّقًا ابْتِدَائِيًّا بِأَنْ يَكُونَ أَمْرًا خَلْقِيًّا كَدَوَرَانِ الدَّمِ فِي الْبَدَنِ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى تَرْكِهِ، كَيْفَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ تَرَكُوا هَذَا السَّفَهَ بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِلْجَبْرِيَّةِ وَإِنْ لَهَجَ بِهَا خَوَاصُّهُمْ وَعَوَامُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ.

(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْمُخْتَرَعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى غِوَايَةِ شِرْكِهِمْ. (فَالْأَوَّلُ) أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ أَنْعَامِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا وَيَمْنَعُونَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَّا فِيمَا يَخُصُّونَهَا لَهُ تَعَبُّدًا وَيَقُولُونَ: (هِيَ حِجْرٌ) وَهُوَ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمَحْجُورِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَالذَّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ، وَيَجْرِي وَصْفًا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ - حُكْمَ الْأَسْمَاءِ - غَيْرُ الصِّفَاتِ، وَأَصْلُهُ مَا أُحِيطَ بِالْحِجَارَةِ وَمِنْهُ حِجْرُ الْكَعْبَةِ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِمَّا يَضُرُّ وَيُقَبِّحُ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الْحِجْرُ الْحَرَامُ مِمَّا حَرَّمُوا مِنَ الْوَصِيلَةِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا انْتَهَى أَيْ وَمَا حَرَّمُوا مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حِجْرٌ أَيِ احْتَجَرُوهَا لِآلِهَتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حِجْرٌ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَتَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ. أَيْ وَلِهَذَا قَالَ بِزَعْمِهِمْ. قَالُوا: وَكَانُوا يَحْتَجِرُونَهَا عَنِ النِّسَاءِ وَيَجْعَلُونَهَا لِلرِّجَالِ، وَقَالُوا: إِنْ شِئْنَا جَعَلْنَا لِلْبَنَاتِ فِيهِ نَصِيبًا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَجْعَلْ. وَهَذَا أَمْرٌ افْتَرَوْهُ عَلَى اللهِ (وَالثَّانِي) أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا: أَيْ أَنْ تُرْكَبُ. قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ

(مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(5: 103) . (وَالثَّالِثُ) أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا فِي الذَّبْحِ، بَلْ يُهِلُّونَ بِهَا لِآلِهَتِهِمْ وَحْدَهَا. وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ: كَانُوا لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا فَلَا يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا، لَا إِنْ رَكِبُوا وَلَا إِنْ حَلَبُوا وَلَا إِنْ حَمَلُوا وَلَا إِنْ سَحَبُوا وَلَا إِنْ عَمِلُوا شَيْئًا اهـ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ فَنَسَبُوهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى حُكْمًا وَدِيَانَةً (افْتِرَاءً عَلَيْهِ) أَيْ قَالُوهُ أَوْ فَعَلُوهُ مُفْتَرِينَ إِيَّاهُ أَوِ افْتَرَوْهُ افْتِرَاءً

ص: 111

وَاخْتَلَقُوهُ اخْتِلَاقًا وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ أَنْ يُحَلِّلَ أَوْ يُحَرِّمَ عَلَى الْعِبَادِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(10: 59) أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ بِأَهْوَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَالْمُنْتَحِلِينَ لِمَذَاهِبِهِمْ، إِمَّا مُوَقَّتًا بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ تَنَسُّكِ تَصَوُّفٍ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا دَائِمًا، وَهُمْ يَجْهَلُونَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سُوءَ حَالِهِمْ، وَذُيِّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَيَانِ سُوءِ مَآلِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ سَيُجْزَوْنَ الْجَزَاءَ الشَّدِيدَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْقَبِيحِ.

(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ) هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِهِمُ السَّخِيفَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا فِي بُطُونِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ مِنَ اللَّبَنِ وَالْأَجِنَّةِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا الْبَحَائِرُ وَحْدَهَا أَوْ هِيَ وَالسَّوَائِبُ، كَانُوا يَجْعَلُونَ لَبَنَهَا لِلذُّكُورِ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَيًّا جَعَلُوهُ خَالِصًا لِلذُّكُورِ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ وَإِذَا كَانَ مَيْتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَإِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا لِأَجْلِ النِّتَاجِ. وَبَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ لَمْ يُقَيِّدُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ بِالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي أَنْعَامٍ أُخْرَى يُعَيِّنُونَهَا بِغَيْرِ وَصْفِ الْبَحِيرَةِ أَيْ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ وَتُتْرَكُ لِلْآلِهَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ.

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْبَحِيرَةَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي شَأْنِ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - قُلْنَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ.

قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " وَإِنْ تَكُنْ " بِالتَّاءِ " وَمَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَابْنُ كَثِيرٍ:" يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةٌ " بِالرَّفْعِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ وَ " مَيْتَةً " بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا تَأْنِيثُ الْفِعْلِ " تَكُنْ " لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا حَذْفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ - أَوْ - وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ، وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْأَنْعَامِ نَفْسِهَا وَبِأَجِنَّتِهَا الَّتِي فِي بُطُونِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا جُعِلَتْ " يَكُنْ " بِمَعْنَى يُوجَدُ أَيْ فِعْلًا تَامًّا. وَقَالُوا فِي تَقْدِيرِ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ: وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورَةُ مَيْتَةً، وَهُوَ يَشْمَلُ تِلْكَ الْأَنْعَامَ وَمَا فِي بُطُونِهَا أَيْضًا. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ هَذَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً)

ص: 112

بِالنَّصْبِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُونِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ مَيْتَةً. فَالْفَائِدَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَمَا عَدَاهُ فَاخْتِلَافُ وُجُوهٍ جَائِزَةٍ فِي اللُّغَةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: (خَالِصَةٌ) فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ التَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَرَاوِيَةِ وَدَاهِيَةٍ وَطَاغِيَةٍ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ) مُذَكَّرُ اللَّفْظِ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِنَّةُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ خَبَرِهِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى - وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَطَاؤُكَ عَافِيَةٌ، وَالْمَطَرُ رَحْمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ نِعْمَةٌ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِ فِي الظَّرْفِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (لِذُكُورِنَا) .

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يُقَالُ: جَزَاهُ كَذَا وَبِكَذَا - أَيْ جَعَلَهُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلٍ عَمِلَهُ، قَالَ تَعَالَى:(أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)(25: 75) إِلَخْ وَقَالَ: (فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ)(21: 29) وَقَالَ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(10: 52) وَقَالَ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(27: 90) وَجَعْلُ الْجَزَاءِ عَيْنَ الْعَمَلِ قَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَقَدَّرُوا لَهُ كَلِمَةَ جَزَاءٍ أَوْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ لَا مَا يُجَازَى بِهِ، وَلَكِنَّ تَعْبِيرَ الْكُتَّابِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنُكْتَةٍ

عَالِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهِيَ عِنْدَنَا الْإِيذَانُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ أَثَرًا لِمَا يُحْدِثُهُ الْعَمَلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ كَانَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْعَمَلِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تُنَعَّمُ أَوْ تُعَذَّبُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَطْبَعُهَا فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَبِهَذَا يَتَجَلَّى لَكَ هُنَا مَعْنَى جَعْلِ جَزَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ فِي التَّشْرِيعِ وَصْفَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ النَّفْسِ وَصُورَتُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ مَعَ تَعْلِيلِهَا: سَيَجْزِيهِمُ اللهُ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَنَاشِئِهَا مِنْ صِفَاتِهِمْ، بِأَنْ يَجْعَلَ عِقَابَهُمْ عَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ وَنَعْتُهُمُ الرُّوحِيُّ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ صِفَاتٍ تَجْعَلُهَا فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عِلِّيِّينَ، أَوْ سِجِّينٍ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْجِسْمِ السَّائِلِ الْخَفِيفِ تَقْتَضِي بِسُنَنِ اللهِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ كَمَا تَرَى فِي الزَّيْتِ إِذَا وُضِعَ فِي إِنَاءٍ مَعَ الْمَاءِ، وَمَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنْ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مَوَازِينِهَا الْمَعْرُوفَةِ مِثَالٌ مُوَضِّحٌ لِلْمُرَادِ، فَمَنْشَأُ الْجَزَاءِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ عَقَائِدِهَا وَسَائِرِ صِفَاتِهَا الَّتِي يَطْبَعُهَا الْعَمَلُ عَلَيْهَا. وَإِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ مَصْدَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْمُولِهِ كَأَنْ يُقَالَ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ لِرَبِّهِمْ بِمَا جَعَلُوا لَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّشْرِيعِ، أَوْ وَصْفَ أَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ بِمَا افْتَرَوْا عَلَيْهِ فِيهِمَا:(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)(16: 116) الْآيَةُ.

ص: 113

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَادَّةِ وَصْفِ الْأَسَاسِ: وَمِنَ الْمَجَازِ وَجْهُهَا يَصِفُ الْحُسْنَ، وَلِسَانُهُ يَصِفُ الْكَذِبَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ نَاقَةٌ تَصِفُ الْإِدْلَاجَ. قَالَ الشَّمَّاخُ:

إِذَا مَا أَدْلَجَتْ وَصَفَتْ يَدَاهَا

لَهَا الْإِدْلَاجَ لَيْلَةَ لَا هُجُوعَ

وَفِي رَوْحِ الْمَعَانِي أَنَّ الْجُمْلَةَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَلِيغِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَصَفَ كَلَامُهُ الْكَذِبَ، إِذَا كَذَبَ، وَعَيْنُهُ تَصِفُ السِّحْرَ أَيْ سَاحِرَةٌ، وَقَدُّهُ يَصِفُ الرَّشَاقَةَ، بِمَعْنَى رَشِيقٍ مُبَالَغَةً حَتَّى كَأَنَّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ وَصَفَ لَهُ ذَلِكَ بِمَا يَشْرَحُهُ لَهُ: قَالَ الْمَعَرِّيُّ:

سَرَى بَرْقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ

فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْمَلَالَا

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) حَاصِلُ مَا أَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذَا السِّيَاقِ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْفَظِيعَيْنِ اللَّذَيْنِ نَعَتْهُمَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَحَكَمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا حُكْمًا حَقًّا وَعَدْلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَبِوَأْدِ الْبَنَاتِ - الْآتِي بَيَانُهُ وَغَيْرُهُ - خُسْرَانًا عَظِيمًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ خَسِرُوا الدَّالِّ عَلَى الْعَوَامِّ فِي بَابِهِ

لِيَتَرَوَّى السَّامِعُ فِيهِ، وَيَتَأَمَّلَ مَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ خُسْرَانَ الْأَوْلَادِ يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ كُلِّ مَا كَانَ يُرْجَى مِنْ فَوَائِدِهِمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْفَخْرِ وَالزِّينَةِ وَالسُّرُورِ وَالْغِبْطَةِ، كَمَا يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ الْوَالِدِ الْقَاتِلِ لِعَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ وَرَأْفَتِهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالشَّرَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا الْعَيْشُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ ; وَلِذَلِكَ عُلِّلَ هَذَا الْجُرْمُ بِسَفَهِ النَّفْسِ وَهُوَ اضْطِرَابُهَا وَحَمَاقَتُهَا، وَبِالْجَهْلِ أَيْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ.

ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدِ هَذَا أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهَذَا سَفَهٌ وَجَهْلٌ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا سَبَقَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِهِ بَشَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَهُوَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ بِجَعْلِهِ دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ نَتِيجَةَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فِيهِمَا، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ أَقْبَحُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ غِوَايَةِ الشِّرْكِ وَقَدْ عَادَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ وَجَعْلِهِ دِينًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ

ص: 114

فِيمَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنَاتِ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ. كَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِطُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّكِ تَئِدِينَ جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا) وَتَسْتَحْيِينَ (أَيْ تُبْقِينَ) أُخْرَى، فَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي تُوءَدُ غَدَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ أَوْ رَاحَ وَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي (أَيْ مُحَرَّمَةً) إِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكِ وَلَمْ تَئِدِيهَا، فَتُرْسِلُ إِلَى نِسْوَتِهَا فَيَحْفُرْنَ لَهَا حُفْرَةً فَيَتَدَاوَلْنَهَا بَيْنَهُنَّ فَإِذَا بَصَرْنَ بِهِ مُقْبِلًا دَسَسْنَهَا فِي حُفْرَتِهَا وَيُسَوِّينَ عَلَيْهَا التُّرَابَ - أَيْ وَهِيَ حَيَّةٌ - وَهَذَا هُوَ الْوَأْدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا صُنْعُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَقْتُلُ ابْنَتَهُ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَالْفَاقَةِ وَيَغْذُو كَلْبَهُ.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا

تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

ص: 115

هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ بَعْدَهَا فِي تَتِمَّةِ سِيَاقِ مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ، ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَقِّ التَّشْرِيعِ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ يُعْبَدُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ، وَلَا شَارِعَ سِوَاهُ لِعِبَادَةٍ وَلَا حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَفِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مُنْتَهَى تَكْرِيمِ الْإِنْسَانِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الْأَحْيَاءِ وَتَرْبِيَتُهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِالتَّدْرِيجِ كَإِنْشَاءِ السَّحَابِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالشِّعْرِ وَالدُّوْرِ وَالْجَنَّاتِ الْبَسَاتِينَ وَالْكُرُومِ الْمُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجُنُّ الْأَرْضَ وَتَسْتُرُهَا. وَالْمَعْرُوشَاتُ الْمَسْمُوكَاتُ عَلَى الْعَرَائِشِ وَهِيَ مَا يُرْفَعُ مِنَ الدَّعَائِمِ وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا مِثْلُ السُّقُوفِ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْقَصَبِ. وَمَادَّةُ عَرَشَ تَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ وَمِنْهَا

عَرْشُ الْمَلِكِ. وَالْمَعْرُوشَاتُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يُقَالُ: عَرَّشَ دَوَالِيَ الْعِنَبِ عَرْشًا وَعُرُوشًا وَعَرَّشَهَا تَعْرِيشًا إِذَا رَفَعَهَا عَلَى الْعَرِيشِ. وَيُقَالُ: عَرَّشَتِ الدَّوَالِي تُعَرِّشُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) إِذَا ارْتَفَعَتْ بِنَفْسِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ مَا لَا يُعَرِّشُ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ: مَا عَرَّشَ النَّاسُ أَيْ فِي الْأَرْيَافِ وَالْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي مَا خَرَجَ فِي الْجِبَالِ وَالْبَرِّيَّةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الْكَرْمَ مِنْهُ مَا يُعَرِّشُ وَمِنْهُ مَا يُتْرَكُ مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ، وَكُلُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرُوشَاتِ الَّتِي أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا خَاصِّيَّةَ التَّسَلُّقِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِمَا تَتَسَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ عَرِيشٍ مَصْنُوعٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ أَنْوَاعُ الْمَعْرُوشَاتِ بِالْقُوَّةِ كَالْكَرْمِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا تُعَرِّشُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَبِالثَّانِي غَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْتَوِي عَلَى سُوقِهِ وَلَا يَتَسَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَخَصَّهُمَا بَعْضُهُمْ بِالْكَرْمِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ النَّخْلِ عَلَيْهِ وَقَرْنُهُ بِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمُهُ فِي كَوْنِ ثَمَرِهِمَا مِنْ أَصُولِ الْأَقْوَاتِ وَقَرِينَهُ فِيمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالشَّبَهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّخْلَ مِنْ قِسْمِ الْجَنَّاتِ غَيْرِ الْمَعْرُوشَاتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَخْصِيصًا لَهُ مِنْ إِفْرَادِ الْعَامِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ وَلَا سِيَّمَا لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ بُسْرَهُ وَرُطَبَهُ فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ وَثَمَرَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَقْوَاتِ الَّتِي تُدَّخَرُ، وَأَيْسَرِهَا تَنَاوُلًا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَبْخٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، وَنَوَاهُ عَلَفٌ لِلرَّوَاحِلِ، وَلَهُمْ مِنْهُ شَرَابٌ حَلَالٌ لَذِيذٌ إِذَا نُبِذَ فِي الْمَاءِ زَمَنًا قَلِيلًا - وَهُوَ النَّبِيذُ أَيِ النَّقُوعِ - وَكَانَ أَكْثَرُ خَمْرِهِمْ مِنْهُ وَمَنْ بُسْرِهِ (وَلَا مِنَّةَ فِي الرِّجْسِ) دَعْ مَا فِي جَرِيدِ النَّخْلِ وَلِيفِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، فَهُوَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ

ص: 116

الْمَزَايَا يُفَضَّلُ الْكَرْمُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الشَّجَرِ مِنْهُ وَأَشْبَهُهُهُ بِهِ شَكْلًا وَلَوْنًا فِي عِنَبِهِ وَزَبِيبِهِ وَمَنَافِعِهِ تَفَكُّهًا وَتَغَذِّيًا وَتَحَلِّيًا وَشُرْبًا:

ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الزَّرْعَ وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يَكُونُ بِحَرْثِ النَّاسِ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يُزْرَعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِيمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْجَنَّاتِ بِالْكَرْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا يَأْتِي مِنْهُ الْقُوتُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، وَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى فِي التَّغْذِيَةِ وَاقْتِيَاتِ النَّاسِ إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَعَمِّ، فَإِنَّ الْحُبُوبَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مُعَوَّلُ أَكْثَرِ الْبَشَرِ فِي أَقْوَاتِهِمْ، وَهَذَا عَكْسُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا

قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) (99) فَتَرْتِيبُ الْأَقْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى فِي الِاقْتِيَاتِ إِلَى الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ فِي مَقَامِ سَرْدِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَقَبْلَهَا آيَاتٌ فِي آيَاتِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ دُونَهُ، وَعَالَمُ النَّبَاتِ أَدْنَى مِنْهُمَا، فَرُوعِيَ التَّدَلِّي فِي أَنْوَاعِهِ كَمَا رُوعِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَالْمَقَامُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا بَعْدَهَا مَقَامُ ذِكْرِ الْأَقْوَاتِ لِبَيَانِ شَرْعِ مَنْشَئِهَا فِي إِبَاحَتِهَا، فِي مُقَابَلَةِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِأَهْوَاءِ الشِّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) إِلَخْ فَقَدَّمَ هُنَالِكَ الْحَرْثَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيهَا. وَجَرَى هُنَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَذَكَرَ الْحَرْثَ أَوَّلًا لِمَا ذُكِرَ، وَتَرَقَّى إِلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ لِكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ فِيهَا وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمُهِمِّ إِلَى الْأَهَمِّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَتَأْخِيرٌ لَمَّا اقْتَضَتِ الْحَالُ إِطَالَةَ الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ. فَحَسُنَ التَّرَقِّي فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَقْوَاتِ النَّبَاتِيَّةِ تَفْصِيلًا كَمَا حَسُنَ فِيمَا بَيْنَهَا بِجُمْلَتِهَا وَبَيْنَ الْأَقْوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ فِي الْآيَتَيْنِ قَالَ فِي آيَةِ:(انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ)(99) وَقَالَ هُنَا: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النُّكَتِ هُنَا.

أَنْشَأَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ) الْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ وَفِيهِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَبِهِ قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَسُكُونُ الْكَافِ مَعَ ضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ قِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّرْعِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا ثَمَرُهُ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ فِي شَكْلِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ عِنْدَمَا يُوجَدُ، أَيْ قَدَّرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ إِنْشَائِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس بَعْدَ ذِكْرِ الْحَبِّ وَجَنَّاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ:(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ)(36: 35)

ص: 117

أَيْ ثَمَرِ الْمَذْكُورِ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَهًا وَاسْتَشْهَدَ لَهُ وَلِمَثَلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

وَقَالَ إِنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ لِمَ قَالَ:" كَأَنَّهُ " وَلَمْ يَقُلْ " كَأَنَّهَا " وَهِيَ جَمْعٌ مُؤَنَّثٌ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ. وَالَّذِي رَاجَعَهُ فِيهِ هُوَ الرَّاوِيَةُ أَبُو عُبَيْدَةَ.

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أَيْ وَأَنْشَأَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ

مُتَشَابِهًا فِي الْمَنْظَرِ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الْمَطْعَمِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ التَّشَابُهُ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ مِنَ التَّشَابُهِ فِي الشَّجَرِ وَالتَّمْرِ، مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الطَّعْمِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرٍّ، وَفِي لَوْنِ الْحَبِّ مِنْ أَحْمَرَ قَانِئٍ قُمُدٌّ أَوْ فُقَاعِيٌّ وَأَبْيَضَ نَاصِعٍ أَوْ أَزْهَرَ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ. وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا وَفِي مَكَانِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (99) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُ تَعْلَمُ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ.

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أَيْ كُلُوا مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَسَيَأْتِي مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ آذَنَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَسْتَغِلُّونَ مِنْهُ أَقْوَاتَهُمْ، آذَنَهُمْ بِأَنَّهُ أَبَاحَهُ كُلَّهُ لَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ حَقٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعِبَادِ وَلِلْأَقْوَاتِ جَمِيعًا، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ تَعَالَى، وَمَنْ أَذْعَنَ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ اللهِ وَأَطَاعَهُ فِيهِ فَقَدْ أَشْرَكَهُ مَعَهُ سبحانه وتعالى، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِي الْآيَاتِ بَعْدَهَا، وَالْكَلَامُ فِي التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِ هَذَا الثَّمَرِ لِسَبَبٍ غَيْرِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَا شِرْكَ فِيهِ، وَقَدْ يُوَافِقُ بَعْضَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَنْعًا شَرْعِيًّا، أَيْ تَحْرِيمًا كَمَنْعِ الطَّبِيبِ بَعْضَ الْمَرْضَى مِنْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوِ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ، فَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الطَّبِيبِ الثِّقَةِ أَنَّ التَّمْرَ يَضُرُّهُ مَثَلًا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَيْسَ تَشْرِيعًا مِنَ الطَّبِيبِ بَلِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ، وَإِنَّمَا الطَّبِيبُ مُعَرِّفٌ لِلْمَرِيضِ بِأَنَّهُ ضَارٌّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ قَدْ طُبِخَ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ لَحْمِ كَبْشٍ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَدَّقَهُ أَكْلُهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْعُ السُّلْطَانِ مِنْ صَيْدِ بَعْضِ الطَّيْرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى كَثْرَتِهِ فِي حِفْظِ بَعْضِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ الْمُهْلِكَةَ لَهُ مَثَلًا. وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَيْنِ لَيْسَ تَحْرِيمًا ذَاتِيًّا لِمَا ذُكِرَ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بَلْ مُوَقَّتًا بِدَوَامِ

ص: 118

سَبَبِهِ، وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ شَرْعًا بِصِيَانَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ.

وَقَوْلُهُ: (إِذَا أَثْمَرَ) لِإِفَادَةِ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَقْتَ إِطْلَاعِ الشَّجَرِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعِ الْحَبَّ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ وَأَيْنَعَ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) فَالْكَرْمُ يُنْتَفَعُ بِثَمَرِهِ حِصْرِمًا فَعِنَبًا فَزَبِيبًا، وَالنَّخْلُ يُؤْكَلُ ثَمَرُهُ بُسْرًا فَرُطَبًا فَتَمْرًا، وَالْقَمْحُ يُؤْكَلُ حَبُّهُ فَرِيكًا قَبْلَ يُبْسِهِ، وَأَكْلُهُ بُرًّا مَطْبُوخًا أَوْ طَحْنُهُ وَجَعْلُهُ خُبْزًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أَيْ وَأَعْطُوا الْحَقَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ زَمَنَ حَصَادِهِ فِي جُمْلَتِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، لَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُ وَلَا بَعْدَ تَنْقِيَتِهِ وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْحَصَادِ الْخَاصِّ بِالزَّرْعِ فِي الْأَصْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَنْيُ الْعِنَبِ وَصَرْمُ النَّخْلِ، كَتَغْلِيبِ الثَّمَرِ فِيمَا قَبْلَهُ لِإِدْخَالِ حَبِّ الْحَصِيدِ فِيهِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ خَاصٌّ بِالشَّجَرِ، وَهَذِهِ مُقَابَلَةٌ تُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُعَدَّ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ.

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: " مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيهِ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ السُّنْبُلِ، فَإِذَا طَيَّبْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا دُسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا ذَرَّيْتَهُ وَجَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَإِذَا بَلَغَ النَّخْلُ وَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ التَّفَارِيقِ وَالْبُسْرِ، فَإِذَا جَدَدْتَهُ (أَيْ قَطَعْتَهُ) فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا جَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا إِذَا صَرَمُوا النَّخْلَ يَجِيئُونَ بِالْعَذْقِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجِيءُ السَّائِلُ فَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا فَيُسْقِطُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، الرَّجُلُ يُعْطِي مِنْ زَرْعِهِ وَيَعْلِفُ الدَّابَّةَ وَيُعْطِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَيُعْطِي الضِّغْثَ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ

ص: 119

الْمَحْدُودَةِ فِي الْأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ الْعُشْرُ وَرُبْعُ الْعُشْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ

عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهَا قُيِّدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الزَّكَاةُ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُقَيَّدَةَ الْمَعْرُوفَةَ نَسَخَتْ فَرْضِيَّةَ الزَّكَاةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالنَّسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ.

أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنُّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِيهَا قَالَ: كَانُوا إِذَا حُصِدَ وَإِذَا دُرِسَ وَإِذَا غُرْبِلَ أَعْطَوْا مِنْهُ شَيْئًا فَنَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. قُلْتُ لَهُ عَمَّنْ؟ قَالَ: عَنِ الْعُلَمَاءِ أَيْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَعْنَاهُ نَسْخُ فَرْضِيَّتِهَا الْمُطْلَقَةِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ إِلَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم (لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ) عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا يَوْمَ الْحَصَادِ، وَمَا تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ تَكَلُّفٌ فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ إِطْعَامُ الْمُعْدَمِ الْمُضْطَرِّ وَاجِبًا عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؟ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَمْوَالِ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَإِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا الْعَيْنِيَّةِ الثَّابِتَةِ. وَالْحَصَادُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا - مَصْدَرُ حَصَدَ الزَّرْعَ إِذَا جَزَّهُ أَيْ قَطَعَهُ كَمَا قَالَ فِي الْأَسَاسِ، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.

وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ أَصَحُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا حَقَّهُ) إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ نُزُولِهِ، لِئَلَّا تَبْقَى الْآيَةُ مُجْمَلَةً. (قَالَ) : وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ الْمُرَادَ بِهَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ الصَّدَقَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ

ص: 120

بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ مَكِّيَّةٍ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ.

ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّرْعُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله. فَإِنْ قَالُوا لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:(يَوْمَ حَصَادِهِ) يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ. انْتَهَى بِعِبَارَتِهِ السَّقِيمَةِ، وَخَطَّأُ الْمَعْنَى فِيهَا أَشْنَعُ مِنْ خَطَأِ الْعِبَارَةِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ، وَالْحَصْدُ فِي اللُّغَةِ: جَزُّ الزَّرْعِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا أَوْ تَغْلِيبًا، فَجَنْيُ الزَّيْتُونِ لَيْسَ مِنَ الْحَصْدِ وَلَا الْقَطْعُ، وَلَيْسَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَاجِبًا، وَالْآخِرُ هُوَ الرُّمَّانُ، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ وَحْدَهُ، فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى جُمْلَةِ الْمَذْكُورَاتِ بِتَقْدِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا، أَوْ إِلَى مَا يُحْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةً لَا تَغْلِيبًا وَهُوَ الزَّرْعُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ. ثُمَّ إِنَّ إِيجَابَهُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَخِيرِ يُبْطِلُ أَصْلَ دَعْوَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ بِالنَّصِّ لِذِكْرِ الْحَقِّ بَعْدَهَا، فَمَا أَضْعَفَ دَلَائِلَ هَذَا (الْإِمَامِ) الشَّهِيرِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُلَقَّبِ بِالْكَبِيرِ.

وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(9: 103) مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَحْصُرُ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَكَذَا الذُّرَةُ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِيهِ مَتْرُوكٌ يُعَضِّدُهُ مُرْسَلٌ لِمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهَا كَوْنُهَا الْقُوتَ الْغَالِبَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَكُونُ قُوتًا يُدَّخَرُ عِنْدَهُ مَنِ اتَّخَذُوهُ قُوتًا غَالِبًا كَالْأُرْزِ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْيَابَانِ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

تَقْدِيرُ الْأَوَّلِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(7: 31) وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(5: 90) فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالِاعْتِدَاءُ كَذَلِكَ،

وَالْحَدُّ الَّذِي يُنْهَى

ص: 121

عَنْ تَجَاوُزِهِ إِمَّا شَرْعِيٌّ كَتَجَاوُزِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا إِلَى الْحَرَامِ، وَإِمَّا فِطْرِيٌّ طَبْعِيٌّ وَهُوَ تَجَاوُزُ حَدِّ الشِّبَعِ إِلَى الْبِطْنَةِ الضَّارَّةِ.

(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَا تُسْرِفُوا فِي الصَّدَقَةِ أَيْ فِي أَمْرِهَا، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَذَّ نَخْلًا فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ، فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ:(وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وَلَكِنَّ ثَابِتًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي حُكْمِ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ - كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مِرَارًا - وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَبَاذَرُوا وَأَسْرَفُوا فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تُسْرِفُوا) إِلَخْ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْإِسْرَافَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ مَنْعَهَا. فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ:(وَلَا تُسْرِفُوا) قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ فَتَعْصُوا. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَاصًّا بِالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ. فَعَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قَالَ: عُشُورَهُ. وَقَالَ لِلْوُلَاةِ: (وَلَا تُسْرِفُوا) لَا تَأْخُذُوا مَا لَيْسَ لَكُمْ بِحَقٍّ. فَأَمَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَأَمَرَ الْوُلَاةَ بِأَنْ لَا يَأْخُذُوا إِلَّا الْحَقَّ.

(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْإِسْرَافَ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ سَرَفٍ، وَفِي إِنْفَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْإِسْرَافُ مَذْمُومٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَيْ فِي نَفْسِهِ لَا فِي عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ فِيهَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الظَّاهِرُ - وَهُوَ كَمَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْرِدِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا ; وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ وَأَيَّدْنَاهُ بِآيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْمَائِدَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بِعُمُومِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْقِعِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كُلِّ إِسْرَافٍ، وَنَاهِيكَ بِتَعْلِيلِ النَّهْيِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ:(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(25: 67) وَقَالَ: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)(17: 26) وَقَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)(17: 29) .

(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) أَيْ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً، وَهِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ الْأَثْقَالَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَهُوَ كِبَارُهَا - وَهِيَ كَالرَّكُوبَةِ لِمَا يُرْكَبُ لَا وَاحِدًا لَهُ مِنْ لَفْظِهِ - وَفَرْشًا: وَهُوَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَكَذَا صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ الْفَرْشُ مِنْ صُوفِهِ وَوَبَرِهِ وَشَعْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا حُمِلَ عَنِ الْإِبِلِ وَالْفَرْشُ صِغَارُهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتِلْمِيذِهِ مُجَاهِدٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْحَمُولَةَ الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ

ص: 122

وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَمُولَةِ لُغَوِيٌّ، فَإِنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ، ذَكَرَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْشَ سُمِّيَتْ فَرْشَا لِصِغَرِهَا وَدُنُوِّهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْفَرْشُ مَا يُفْرَشُ مِنَ الْأَنْعَامِ، أَيْ يُرْكَبُ. وَكُنِّيَ بِالْفِرَاشِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْمَفَارِشِ. انْتَهَى. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ:(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(40: 79، 80) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ يس وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا وَانْتَفِعُوا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْهَا (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِغْوَائِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْشِئُ وَالْمَالِكُ لَهَا حَقِيقَةً، وَقَدْ أَبَاحَهَا لَكُمْ وَهُوَ رَبُّكُمْ، فَأَنَّى لِغَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا لَيْسَ لَهُ خَلْقًا وَإِنْشَاءً وَلَا مُلْكًا، وَلَا هُوَ بِرَبٍّ لَكُمْ فَيَتَعَبَّدَكُمْ بِهِ تَعَبُّدًا، وَالْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي اتِّبَاعِ مَاشٍ يَتْبَعُ خُطُوَاتِهِ كُلَّمَا انْتَقَلَ تَأَثَّرَهُ فَوَضَعَ خَطْوَهُ مَكَانَ خَطْوِهِ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ مِنْ أَقْبَحِ الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّبَاعِ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ ضَلَالٌ فِي حِرْمَانٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَا فِي تَمَتُّعٍ بِالشَّهَوَاتِ كَمَا هُوَ أَكْثَرُ إِغْوَائِهِ.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوهُ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ مِنْ دُونِ الْخَلْقِ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ، أَوْ بَيِّنُهَا أَيْ ظَاهِرُهَا بِكَوْنِهِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ وَيَسُوءُ فِعْلُهُ أَوْ أَثَرُهُ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَبِالِافْتِرَاءِ الْمَحْضِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(2: 169) وَهَذَا حَقٌّ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ الْمِيزَانَ لِخَوَاطِرِهَا، وَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ عَدُوِّهِ حَتَّى فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِهَا!

(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) نَصَبَ ثَمَانِيَةً عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ حَمُولَةٍ وَفَرْشًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا

قِسْمَيْنِ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرِينَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَزَاوِجَةِ، وَعَلَى كُلِّ قَرِينَيْنِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالْخُفِّ، وَالنَّعْلِ، وَعَلَى كُلِّ مَا يَقْتَرِنُ بِآخَرَ مُمَاثِلًا لَهُ أَوْ مُضَادًّا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالِاثْنَانِ زَوْجَانِ. يُقَالُ: لَهُ زَوْجَا حَمَامٍ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى)(53: 54) وَقَوْلُهُ: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ، وَتَبْكِيتِهِمْ وَتَجْهِيلِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا

ص: 123

دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصَّصٍ، أَيْ مِنَ الضَّأْنِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا الْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ، وَمِنَ الْمَعِزِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا التَّيْسُ وَالْعَنَزُ، وَفِي الْمَعِزِ لُغَتَانِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا - وَقَدْ بَدَأَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بِنَوْعِ الْفَرْشِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَبِمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْأَكْلِ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِشُمُولِهِ لِصِغَارِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ تَحْرِيمِ أَكْلِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ فِي الْإِجْمَالِ ذِكْرُ الْحَمُولَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَقَامِ الْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْمِنَّةِ بِكَوْنِ خَلْقِهَا أَعْظَمَ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا أَعَمَّ، فَإِنَّهَا كَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَنَاهِيكَ بِسَائِرِ مَنَافِعِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا بِخَلْقِ أَعْظَمِ صِنْفَيْهَا:(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(88: 17) .

(قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَحَرَّمَ اللهُ الذَّكَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَحْدَهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ، أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وَحْدَهُمَا، أَمِ الْأَجِنَّةَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَرْحَامُ إِنَاثِ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. وَبِهَذَا السُّؤَالِ التَّفْصِيلِيِّ يَظْهَرُ لِلْمُتَفَكِّرِ فِيهِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا وَجْهَ يُعْقَلُ لِقَوْلِهِمْ ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَوِ الْحَمْلِ يَكُونُ لَغْوًا أَوْ جَهَالَةً فَاضِحَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا وَجْهَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبِعَدَمِهِ يَلْزَمُهُمُ التَّحَكُّمُ فِي أَحْكَامِ اللهِ وَكَوْنُ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَدْنَى عِلْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ:(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أَيْ خَبِّرُونِي بِعِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدِ رُسُلِ اللهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ مُتَلَبِّسَةٍ بِعِلْمٍ يَرْكَنُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِأَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ، وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُ مَا حَرَّمْتُمْ دُونَ أَمْثَالِهِ جَهْلًا مَحْضًا كَمَا أَنَّهُ افْتِرَاءُ كَذِبٍ.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) الْإِبِلُ اسْمُ جَمْعٍ لِجِنْسِ الْأَبَاعِرِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ لِمَا لَا يُعْقَلُ لَزِمَهُ التَّأْنِيثُ، وَتَدْخُلُهُ الْهَاءُ إِذَا صُغِّرَ نَحْوُ أُبَيْلَةٍ وَغُنَيْمَةٍ، وَتُسَكَّنُ يَاؤُهُ لُغَةً لِلتَّخْفِيفِ. وَمُفْرَدُهُ بَعِيرٌ وَهُوَ يَقَعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِثْلُ الْإِنْسَانِ وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْمُوَلِّدِينَ عَلَى الذَّكَرِ، وَإِنَّمَا الْجَمَلُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ كَالرَّجُلِ فِي النَّاسِ، وَالنَّاقَةُ لِلْأُنْثَى كَالْمَرْأَةِ. وَالْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ وَتُطْلَقُ الْبَقَرَةُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَالشَّاةِ مِنَ الْغَنَمِ وَإِنَّمَا الْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ، وَالثَّوْرُ الذَّكَرُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْأُنْثَى ثَوْرَةٌ وَالْجَمْعُ ثِيرَانٌ وَأَثْوِرَةٌ وَثِيرَةٌ (كَعِنَبَةٍ) وَالْبَقَرُ الْأَهْلِيَّةُ صِنْفَانِ عِرَابٌ وَجَوَامِيسُ وَيُقَابِلُهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ بِالذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَمَا حَمَلَتْ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْغَنَمِ وَالْمَعِزِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي طَرِيقِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَدْ لَخَّصَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ بِقَوْلِهِ فِي رُوحِ الْمَعَانِي:

ص: 124

وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَجِلَّةِ الْعُلَمَاءِ: إِنْكَارُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَمَا فِي بُطُونِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِإِيرَادِ الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ افْتِرَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ ذُكُورَ الْأَنْعَامِ تَارَةً وَإِنَاثَهَا تَارَةً وَأَوْلَادَهَا كَيْفَمَا كَانَتْ تَارَةً أُخْرَى، مُسْنِدِينَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلِ الْمُنَكَّرُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْهَمْزَةَ، وَالْجَارِي فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ مَا نُكِّرَ وَلِيَهَا لِأَنَّ مَا فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ أَبْلَغُ، وَبَيَانُهُ عَلَى مَا قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ: إِنَّ إِثْبَاتَ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ مَحَلِّهِ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا انْتَفَى مَحَلُّهُ وَهُوَ الْمَوَارِدُ الثَّلَاثَةُ لَزِمَ انْتِفَاءُ التَّحْرِيمِ عَلَى وَجْهٍ بُرْهَانِيٍّ، كَأَنَّهُ وَضَعَ الْكَلَامَ مَوْضِعَ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ ثُمَّ طَالَبَهُ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ كَيْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ وَيَفْتَضِحَ عِنْدَ الْمُحَاقَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُورِدْ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ عَقِيبَ تَفْصِيلِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ بِأَنْ يُقَالَ: قُلْ آلذُّكُورَ حَرَّمَ أَمِ الْإِنَاثَ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْإِنَاثِ لِمَا فِي التَّكْرِيرِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّبْكِيتِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ بِأَنَّ لِلضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ مِنْهَا الذَّكَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذُكُورِهَا حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ جَلَّ شَأْنُهُ الْأُنْثَى وَجَبَ

أَنْ يَكُونَ إِنَاثُهَا حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْإِنَاثِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَرْحَامَ تَشْتَمِلُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ الْأَرْبَعَةَ مَحْصُورَةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَا حَكَمُوا بِتَحْرِيمِهِ مَحْصُورَةً فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بَلْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهَا كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ، كَمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَبْحَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ إِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ ذَكَرًا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ أُنْثَى وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ أُنْثَى، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لَازِمًا عَلَيْهِ فَكَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَجْهَيْنِ مِنْ عِنْدِهِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا غِنًى عَنْ نَقْلِهِمَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ فِي الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَالْبَقَرِ: الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، وَفِي الْإِبِلِ: الْعَرَبِيُّ وَالْبُخْتِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ لَيْثِ بْنِ سُلَيْمٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الطَّبَرْسِيِّ إِنَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَهُوَ " شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ " اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ الرَّازِيِّ إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ هِيَ كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً لَا كَوْنُهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ حَمْلًا لَهَا - فِيهِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي جَعْلِهِمْ إِيَّاهَا كَذَلِكَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ آيَةِ الْمَائِدَةِ فَهُوَ جَهْلٌ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فَالْحَرَامُ مِنْهُ مِثْلُ

ص: 125

الْحَلَالِ، وَمَا ذُكِرَ فِي التَّفْصِيلِ فِي الْإِنْكَارِ يُذَكِّرُ الْمُفَكِّرَ الْمُسْتَقِلَّ بِأَنَّ مَا قَالُوهُ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَهُوَ مَا انْفَرَدْنَا بِبَيَانِهِ آنِفًا.

وَقَوْلُهُ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا) بَعْدَ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ بِتَحْرِيمِ مَا زَعَمُوا، أَلْزَمَهُمْ هُنَا ادَّعَاءَ تَحْرِيمِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ بِوَصِيَّةٍ سَمِعُوهَا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ عَنِ اللهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِرِوَايَةِ رَسُولٍ لَهُ يُخْبِرُ بِوَصِيَّةٍ عَنْهُ، أَوْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ مِنْهُ سبحانه وتعالى بِغَيْرِ وَاسِطَةِ رَسُولٍ، وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْحُضُورُ الْمُشَاهِدُونَ لِلشَّيْءِ وَهُوَ جَمْعُ شَهِيدٍ. وَالْمَعْنَى: أَعِنْدَكُمْ عِلْمٌ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ فَنَبَّئُونِي بِهِ، أَمْ شَاهَدْتُمْ رَبَّكُمْ فَوَصَّاكُمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ كِفَاحًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ هَذَا وَلَا ذَاكَ وَإِنَّمَا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ بِدَعْوَى التَّحْرِيمِ افْتِرَاءً مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ، وَيُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا وَاقْتِرَافِ كُلِّ مَا اقْتَرَفُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا

بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (7: 28) وَالِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ هُنَا يَتَضَمَّنُ التَّهَكُّمَ بِهِمْ، إِذْ كَانُوا بِعَدَمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ كَالْمُدَّعِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِلرِّسَالَةِ بِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ اللهَ وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا اسْتَبْعَدَتْهُ أَنْظَارُهُمُ السَّقِيمَةُ مِنَ الْوَحْيِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا الَّذِي يَقَعُونَ فِيهِ بِإِنْكَارِهِمْ لَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ:(مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)(91) وَإِلَّا لَزِمَهُمُ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى لِإِضْلَالِ عِبَادِهِ وَهُوَ أَشَدُّ الظُّلْمِ الَّذِي يَجْنِيهِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِهِ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ وَشَرْعِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ عَنْ جَهْلٍ عَامٍّ تَامٍّ. فَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ يَشْمَلُ مَا يُؤْثَرُ أَوْ يُعْقَلُ وَيُسْتَنْبَطُ كَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَطُرُقِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ وَالْمَضَارِّ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ وَعَمَلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَلِمَةِ غَيْرِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا حِكْمَةُ نَفْيِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ غَيْرُ وَحْيِ اللهِ وَرُسُلِهِ؟ قُلْنَا: هِيَ تَسْجِيلُ الْجَهْلِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِمْ عَامَّةً. وَسُوءُ النِّيَّةِ عَلَى مُفْتَرِي ذَلِكَ لَهُمْ خَاصَّةً بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا قَصْدٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى إِلَى حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ، وَتَسْجِيلُ الْغَبَاوَةِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ عَلَى مُتَّبِعِيهِ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هُدًى.

وَقَدْ وُجِدَ فِي الْبَشَرِ أُنَاسٌ آخَرُونَ تَفَكَّرُوا وَبَحَثُوا فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُشْكَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ تَعَبُّدًا مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ، وَفِيمَا يَنْبَغِي

ص: 126

اجْتِنَابُهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ضَارٍّ بِالْبَدَنِ أَوِ الْعَقْلِ - وَهُمُ الْحُكَمَاءُ - فَأَصَابُوا فِي بَعْضِ مَا هَدَتْهُمْ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ وَتَجَارِبُهُمْ، وَأَخْطَئُوا فِي بَعْضٍ، فَكَانُوا خَيْرَ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ فِي فَتَرَاتِ الرُّسُلِ الَّتِي فُقِدَتْ فِيهَا هِدَايَةُ الْوَحْيِ. وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(3: 21) فَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَبِشُكْرِ الْمُنْعِمِ هُمْ حُكَمَاءُ الْبَشَرِ وَعُقَلَاؤُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ قُصَيٌّ لِلْعَرَبِ سُنَنًا حَسَنَةً لِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَرِفَادَتِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَلِلشُّورَى فِي الْخُطُوبِ، وَمِنْ أَعْمَالِ قُرَيْشٍ

الْحَسَنَةِ حِلْفُ الْفُضُولِ لِمَنْعِ الظُّلْمِ وَقَدْ مَدَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ بِسَائِقِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ لِمَفَاسِدِهَا. وَيَدُلُّ هَذَا الْقَيْدُ عَلَى تَعْظِيمِ الْإِسْلَامِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ لَهُمُ السَّوَائِبَ وَبَحَّرَ الْبَحَائِرَ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَاتَّبَعُوهُ، وَسَنَعْقِدُ لِهَذَا فَصْلًا خَاصًّا وَفَاءً بِمَا وَعَدْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ.

(إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. لَا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَصُدُّهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، فِيمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى صَوَابِهِمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَةُ ظُلْمِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ أَظْلَمُ النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفْتِ الْآيَةُ ظُلْمَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ لِإِضْلَالِ عِبَادِهِ! .

(فَصْلٌ فِي تَارِيخِ وَثَنِيَّةِ الْعَرَبِ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ وَمَا تَبِعَهَا مِنْ هَذِهِ الضَّلَالَةِ) رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ - زَادَ مُسْلِمٌ - وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ " وَرَوَى نَحْوَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قِصَّةِ خُزَاعَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَبُو خُزَاعَةَ " قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَتْحِ: وَأَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَتَمَّ مِنْهُ. وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانِ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ " ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ سَبَبَ عِبَادَةِ لُحَيٍّ لِلْأَصْنَامِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَاسْتَوْهَبَهُمْ وَاحِدًا مِنْهَا وَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَنَصَبَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ (وَهُوَ هُبَلُ) وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ فَجَرَ رَجُلٌ

ص: 127

يُقَالُ لَهُ أَسَافٌ بِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا نَائِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللهُ جَلَّ وَعَلَا حَجَرَيْنِ فَأَخَذَهُمَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَنَصَبَهُمَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَصَارَ مَنْ يَطُوفُ يَتَمَسَّحُ بِهِمَا يَبْدَأُ بِأَسَافٍ وَيَخْتِمُ بِنَائِلَةَ.

وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ - أَنَّهَا كَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِيهِمْ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، فَنَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ يَأْخُذُونَ كَأَخْذِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ فَكُنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فَصَوَّرُوا ثُمَّ مَاتُوا فَنَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَعَبَدُوهَا. وَمَعْنَى قَوْلِ إِبْلِيسَ وَحْيُهُ وَوَسْوَسَتُهُ. وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ لَهُمْ تَوَسُّلًا بِهِمْ وَاسْتِشْفَاعًا وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ وَذَبَائِحَ تُذْبَحُ لَهُمْ مَنْذُورَةً أَوْ غَيْرَ مَنْذُورَةٍ، وَطَوَافًا بِتَمَاثِيلِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَّخِذُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ صُوَرًا وَلَا تَمَاثِيلَ يُعَظِّمُونَهَا وَيَطُوفُونَ بِهَا وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَبْدَلُوا الْقُبُورَ الْمُشَيَّدَةَ وَمَا يَضَعُونَهُ عَلَيْهَا بِالتَّمَاثِيلِ. وَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، بَلْ قَالُوا أَقْوَالًا جَرَّأَتِ النَّاسَ عَلَى اسْتِحْسَانِ هَذِهِ الْبِدَعِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّ قُبُورَ الصَّالِحِينَ تُزَارُ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا. وَإِجَازَةِ بَعْضِهِمْ تَشْرِيفَهَا بِالْبِنَاءِ وَكِسْوَتَهَا كَالْكَعْبَةِ وَاتِّخَاذَهَا مَسَاجِدَ خِلَافًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَتَشْرِيعًا شِرْكِيًّا لِتَرْوِيجِ الشِّرْكِ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ وُدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِمْ، وَذَكَرَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُمْ صَوَّرُوهُمْ لِيَتَذَكَّرُوا بِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقْتَدُوا بِهِمْ، وَهَكَذَا فَعَلَ النَّصَارَى بِصُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَا زَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْآنَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ الَّتِي يَتَّخِذُونَهَا فِي كَنَائِسِهِمْ، بَلْ يُرِيدُونَ بِوَضْعِهَا فِيهَا تُذَكُّرَ أَصْحَابِهَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَتَعْظِيمَهُمْ بِالتَّبَرُّكِ بِهَذِهِ الذِّكْرَى، وَلَا أَزَالُ أَذْكُرُ كَلِمَةَ رَاهِبٍ قَالَهَا لِي فِي كَنِيسَةِ دَيْرِ الْبَلْمَنْدِ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ، وَهِيَ أَوَّلُ كَنِيسَةٍ دَخَلْتُهَا لِأَجْلِ التَّفَرُّجِ وَالِاخْتِبَارِ وَكُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّاهِبُ يُخْبِرُنِي أَنَا وَمَنْ مَعِي بِمَا فِي الْكَنِيسَةِ وَبِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ الصُّوَرِ الَّتِي فِي جُدُرِهَا وَقَدْ قَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَهَا وَلَكِنَّهَا " تِذْكَارٌ " وَكَانَ يُكَرِّرُ كَلِمَةَ " تِذْكَارٌ " وَلَعَلَّهُ كَانَ يَجْهَلُ كَمَا يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَيَظُنُّ أَنَّ تَعْظِيمَ تِلْكَ الصُّوَرِ وَوَضْعَهَا فِي الْكَنَائِسِ وَدُعَاءَهَا وَنِدَاءَهَا وَالنَّذُرَ لَهَا وَالتَّوَسُّلَ وَالِاسْتِشْفَاعَ بِهَا إِلَى اللهِ

لَا يُسَمَّى عِبَادَةً لَهَا وَلِأَصْحَابِهَا، وَأَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَلُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُسَمَّى عِبَادَةً ; لِأَنَّ اللُّغَةَ لُغَتُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُرْفٌ دِينِيٌّ مُخَصَّصٌ

ص: 128

لِعُمُومِ الْعِبَادَةِ اللُّغَوِيِّ وَلَا بَاعِثَ عَلَى التَّأْوِيلِ أَوِ التَّحْرِيفِ، فَكَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامَهُمْ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً ; لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبًّا خَالِقًا، وَيَقُولُونَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ:(هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(10: 18) وَيُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْضًا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)(39: 3) الْآيَةَ. وَقَدْ فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَمَّوْهُ تَوَسُّلًا وَأَنْكَرُوا تَسْمِيَتَهُ عِبَادَةً وَالتَّسْمِيَةُ لَا تُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَعْبُودَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَا يُذَكِّرُ بِهَا مِنْ صُورَةٍ وَتِمْثَالٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ تَابُوتٍ كَالتَّابُوتِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْهِنْدِ لِلشَّيْخِ الصَّالِحِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، فَكُلُّ تَعْظِيمٍ دِينِيٍّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ بِمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ عِبَادَةٌ لَهَا وَإِشْرَاكٌ مَعَ اللهِ عز وجل مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ.

(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)

تَقَرَّرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ - وَكَذَا غَيْرُهُ - إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ فِي وَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى مُعْتَدٍ عَلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ لَا يُحَرِّمُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا رَبُّهُمْ. وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ

فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَنَّ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا حَرَّمَتِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ كَمَا فُصِّلَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ،

ص: 129

وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذَا السِّيَاقَ بِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَضُرُّهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ: لَا أَجِدُ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيَّ طَعَامًا مُحَرَّمًا عَلَى آكِلٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، بَلِ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُؤْكَلَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لِذَاتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، أَيْ بَهِيمَةً مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَلَوْ بِسَبَبٍ غَيْرِ التَّذْكِيَةِ بِقَصْدِ الْأَكْلِ، أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا، أَيْ مَصْبُوبًا كَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَبِيثٌ تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَضَارٌّ بِالْأَبْدَانِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَهُوَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَبُّدًا وَيُذْكَرُ اسْمُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْوَصْفَ بِالرِّجْسِ لِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَجَاسَةِ شَعْرِهِ. وَمَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْوَصْفِ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْسِ الْحِسِّيُّ مِنْهُ فَإِنَّ طِبَاعَ أَكْثَرِ الْبَشَرِ تَسْتَقْذِرُهُمَا وَتَعَافُهُمَا، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَجْمَلِ اللُّحُومِ مَنْظَرًا فَلَا يَعَافُهُ إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَذَلِكَ اسْتِقْذَارٌ مَعْنَوِيٌّ لَا حِسِّيٌّ، وَإِنَّمَا يُسْتَقْذَرُ الْخِنْزِيرُ حَيًّا بِمُلَازَمَتِهِ لِلْأَقْذَارِ وَأَكْلِهِ مِنْهَا. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ لَا كَوْنُهُ مِنَ الْقَذَرِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ (تَكُونُ مَيْتَةً) بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ مَيْتَةٍ، وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ مَعَ رَفْعِ مَيْتَةٍ عَلَى مَعْنَى إِلَّا أَنْ تُوجَدَ مَيْتَةٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ مَعَ نَصْبِ مَيْتَةٍ وَهَذِهِ

وُجُوهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ كُلُّهَا جَائِزَةٌ فَصِيحَةٌ.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَمَنْ دَفَعَتْهُ ضَرُورَةُ الْمَجَاعَةِ وَفَقْدِ الْحَلَالِ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُرِيدٌ لِذَلِكَ قَاصِدٌ لَهُ وَلَا مُتَعَدٍّ فِيهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ رَبَّكَ الَّذِي لَمْ يُحَرِّمْ مَا ذُكِرَ إِلَّا لِضَرَرِهِ. غَفُورٌ رَحِيمٌ فَلَا

ص: 130

يُؤَاخِذُهُ بِأَكْلِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي مَنْ يَبْغِي عَلَى مُضْطَرٍّ مِثْلِهِ فَيَنْزِعُ مِنْهُ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ إِيثَارًا لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ حَظْرُهُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَقِيلَ: هُوَ مَنْ يَبْغِي عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ وَيَخْرُجُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَا دَخْلَ لَهَا فِي حِلِّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتِهِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ عَطْفِ مَا حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهَا أَنَّ حَصْرَ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ شَرَائِعِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى: لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ وَلَا فِيمَا شُرِعَ عَلَى لِسَانِي أَنَّ اللهَ حَرَّمَ طَعَامًا مَا عَلَى طَاعِمٍ مَا يَطْعَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْيَهُودِ تَحْرِيمًا مُوَقَّتًا عُقُوبَةً لَهُمْ وَهُوَ مَا ذُكِرَ جُمْلَتُهُ أَوْ أَهَمُّهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُوَقَّتًا مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عليه السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (3: 50) وَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِيمَنْ يَتَّبِعُ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(7: 157) وَدَلِيلُ كَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا لِذَاتِهِ مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ)(3: 93) .

الْآيَةُ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْقَطْعِيِّ، فَهِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي حِلِّ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي حُصِرَ التَّحْرِيمُ بِهَا فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَأَكِيلَةَ السَّبْعِ اللَّاتِي تَمُوتُ بِذَلِكَ وَلَا تُدْرَكُ تَذْكِيَتُهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ نَوْعِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ تَفْصِيلٌ لَهَا لَا أَنْوَاعٌ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُعَدَّ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى فِي الطَّعَامِ غَيْرِ هَذِهِ فَيُجْعَلَ نَاسِخًا لِلْحَصْرِ فِيهَا، فَإِنَّ لَفْظَ الْخَبَائِثِ يَشْمَلُ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَالْأَقْذَارِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَكُلِّ شَيْءٍ رَدِيءٍ. قَالَ تَعَالَى:(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)(2: 267) فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا وَلَا مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهَا، وَمَا يُرِيدُ اللهُ نَسْخَهُ أَوْ تَخْصِيصَهُ لَا يَجْعَلُهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُؤَكَّدَةِ كُلَّ هَذَا التَّأْكِيدِ الَّذِي نَشْرَحُهُ بَعْدُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ

وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ الْجَوَارِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي ; وَلِذَلِكَ. اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَةِ. وَهَاكَ مُلَخَّصُ الْمَأْثُورِ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ:

أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ وَيَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ فَنَزَلَتْ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا

ص: 131

فَبَعْثَ اللهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) فَقَالَ: مَا خَلَا هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ مِنَ الدَّوَابِّ شَيْءٌ حَرَامٌ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةُ.

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَقَرَأَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعَتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا سُئِلَتْ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ تَلَتْ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شَاةً لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مَاتَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ

مَاتَتْ فُلَانَةُ - تَعْنِي الشَّاةَ - قَالَ: " فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَأْخَذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً)" وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ وَإِنَّمَا تَدْبُغُونَهُ حَتَّى تَنْتَفِعُوا بِهِ " فَأُرْسِلَتْ إِلَيْهَا فَسَلَخَتْهَا ثُمَّ دَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا حُرِّمَ مِنْ

ص: 132

الْمَيْتَةِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْمُ، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْقَدُّ وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَهُوَ حَلَالٌ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبَحُوا أَوَدَجْوًا الدَّابَّةَ وَأَخَذُوا الدَّمَ فَأَكَلُوهُ. قَالُوا: هُوَ دَمٌ مَسْفُوحٌ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حُرِّمَ مِنَ الدَّمِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا فَأَمَّا لَحْمٌ يُخَالِطُهُ الدَّمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:(أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) قَالَ: الْمَسْفُوحُ الَّذِي يُهْرَاقُ وَلَا بَأْسَ بِمَا كَانَ فِي الْعُرُوقِ مِنْهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: آكُلُ الطِّحَالَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ عَامَّتَهَا دَمٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي الدَّمِ يَكُونُ فِي مَذْبَحِ الشَّاةِ أَوِ الدَّمِ يَكُونُ عَلَى أَعْلَى الْقِدْرِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ ذِي شَيْءٍ إِلَّا مَا ذَكَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْفِيلِ وَالْأَسَدِ - فَتَلَا (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْجِرِّيثِ فَقَالَ:(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ وَالْهِرِّ

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5: 101) كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ أَشْيَاءَ فَلَا يُحَرِّمُونَهَا وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ كِتَابًا فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالًا وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامًا وَأَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) .

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.

ص: 133

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ.

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ الْحُمُرَ الْإِنْسِيَّةَ وَلُحُومَ الْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةَ وَالْحِمَارَ الْإِنْسِيَّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَحَرَّمَ الْمُجَثَّمَةَ وَالْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ،

وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: " لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ (وَهِيَ خَالَتُهُ) فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ (مَشْوِيٍّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ) فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولِ اللهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ " قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ.

ص: 134

هَذِهِ جُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ وَيُخَالِفُهُ. وَتَرَكْتُ أَضْعَفَ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ كَحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِيمَا حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَفِيهِ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ خَالِدٌ بَعْدَ خَيْبَرَ. وَفِي أَصَحِّهَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ عَلَى حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيمَا حَرَّمَتْهُ بِالنَّصِّ وَإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُ وَلَا يَرَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا نَاسِخًا لَهَا وَلَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّوْنَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

أَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْإِنْسِيَّةُ (وَيُقَابِلُهَا الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ وَهِيَ مُجْمَعٌ عَلَى حِلِّهَا) فَمَا وَرَدَ فِي حَظْرِهَا بِلَفْظِ النَّهْيِ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِلْكَرَاهَةِ كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا، وَأَقْوَاهَا مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ، إِذْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا كَالْخِنْزِيرِ وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ رِوَايَةً بِالْمَعْنَى مِمَّنْ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي فَهْمِهِ وَتَعْلِيلِهِ. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِحِلِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " وَأَكْلِهِ فِي بَيْتِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ خُلَاصَةَ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنَبْنِي عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِيهَا فَنَقُولُ:

ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَوَقَّفَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ، هَلْ كَانَ لِمَعْنًى خَاصٍّ أَوْ لِلتَّأْبِيدِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ: لَا أَدْرِي أَنْهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةً لِلنَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ (قَالَ) : وَهَذَا التَّرَدُّدُ أَصَحُّ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ مَخَافَةَ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. (قَالَ الْحَافِظُ) : وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوَكَانَتْ جَلَّالَةً (أَيْ تَأْكُلُ الْجِلَّةَ وَالْعَذِرَةَ) أَوْ كَانَتِ انْتُهِبَتْ حَدِيثُ أَنَسٍ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: " فَإِنَّهَا رِجْسٌ " وَكَذَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: " فَإِنَّهَا رِجْسٌ " ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْحُمُرِ لِأَنَّهَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهَا مِنَ الْقُدُورِ وَغَسْلِهَا، وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِعَيْنِهَا لَا لِمَعْنًى خَارِجٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَمْرُ بِإِكْفَاءِ

ص: 135

الْقُدُورِ ظَاهِرٌ أَنَّهُ سَبَبُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْحُمُرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَلٌ أُخْرَى إِنْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ. وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ.

وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِخَشْيَةِ قِلَّةِ الظَّهْرِ فَأَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْخَيْلِ، فَإِنَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ وَالْإِذْنَ فِي الْخَيْلِ مَقْرُونًا، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَجْلِ الْحَمُولَةِ لَكَانَتِ الْخَيْلُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا.

وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَخَبَرَ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا فَهُوَ مُقَدَّمٌ وَأَيْضًا فَنَصُّ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ نُزُولِهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمَأْكُولِ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فِيهَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَحْكَامٌ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَالْخَمْرِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةِ إِلَى آخِرِهِ. وَكَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثَتُهَا الْكَرَاهَةُ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: أَصَابَتْنَا سَنَةٌ

فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ قَالَ:" أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ " يَعْنِي الْجَلَّالَةَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَالْمَتْنُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ:" أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَصِبْ مِنْ لُحُومِهَا " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ قَالَ: سَأَلْتُ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ - فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَالٌ وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مِنَ الْأَهْلِيِّ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ فَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ مِنْهُ (وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِمَنْعِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَسَنَدُهُ أَنَّ بَعْضَ الْأَهْلِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي وَحْشِيِّهِ كَالْهِرِّ) اهـ.

أَقُولُ: هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحَمِيرِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ عُمْدَةَ الْجَازِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُعَلِّلُ لَهُ بِأَنَّهَا رِجْسٌ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ الْمَذْكُورِ آنِفًا لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي رَدُّوهُ بِهِ وَجَعَلُوهُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ ; إِذْ فَسَّرُوا وَصْفَهَا بِالرِّجْسِ بِأَنَّهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ

ص: 136

كَالْخِنْزِيرِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ لِلنَّجَاسَةِ وَهُوَ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ شَرْعًا، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ. وَحَدِيثُ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ يُفَسِّرُ كَوْنَهَا رِجْسًا بِأَنَّهَا كَانَتْ هُنَالِكَ (أَيْ فِي خَيْبَرَ) تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ ; وَبِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ كَالْبَيْضَاوِيِّ كَوْنَ الْخِنْزِيرِ رِجْسًا أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْخِنْزِيرَ مُلَازِمٌ لِلْأَقْذَارِ دَائِمُ التَّغَذِّي مِنْهَا، وَأَمَّا الْحُمُرُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَارِضًا لَهَا كَمَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاجِنِ كَالدَّجَاجِ، فَجَوَالُّ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ جَالَّةٍ كَهَوَامَّ جَمَعُ هَامَّةٍ وَدَوَابَّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ الْجَلَّالَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَيَخْبُثُ لَحْمُهَا، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهَا، وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا عَارِضًا مُوَقَّتًا، أَيْ مَا دَامَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا مُتَغَيِّرًا مِنَ النَّجَاسَةِ بِالنَّتِنِ وَتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَهَذَا هُوَ الْعُمْدَةُ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانَ أَكْثَرُ

عَلَفِهَا نَجِسًا، فَحَدِيثُ أَنَسٍ شَاهِدٌ يُقَوِّي حَدِيثَ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ فَيُجْعَلُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ، فَلَا يَضُرُّهُ اضْطِرَابُ سَنَدِهِ إِذًا مَعَ عَدَمِ الطَّعْنِ بِرِجَالِهِ. وَحَدِيثُ أَمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ بِتَعْلِيلِهِ حِلَّ لُحُومِ الْحُمُرِ بِكَوْنِهَا تَأْكُلُ الْكَلَأَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ أَيْ لَا النَّجَاسَةَ - فَالْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ الْقَطْعِيَّةِ اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ عَارِضًا مُوَقَّتًا فَيُقْصَرُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَيُبَاحُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَصْلِ وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَعْلِيلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهُ بِقِلَّةِ الظَّهْرِ أَيْ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَتَلَاهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّهَا رِجْسٌ. وَمَا قِيلَ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِحِلِّ الْخَيْلِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْحَمْلِ هِيَ حَمْلُ الْمَتَاعِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ تَكُنِ الْخَيْلُ تُسْتَعْمَلُ لِهَذَا وَلَا تَفِي بِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَزِيزَةً وَقْتَئِذٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْحَمِيرُ نَجِسَةَ الْعَيْنِ شَرْعًا لَوَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي نَقْلِهِ وَتَوَاتُرِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِكْفَاءُ الْقُدُورِ وَغَسْلُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرِّجْسِ الْعَارِضِ مِنْ أَكْلِهَا الْعَذِرَةَ لَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِمَحْضِ النَّظَافَةِ كَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْقُدُورِ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا بَعْدَ فَرَاغِهَا.

وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ بَيَّنَتْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا وَقْتَ نُزُولِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ تَحْرِيمَ غَيْرِهِ بَعْدَهَا كَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ. فَهُوَ غَفْلَةٌ وَقَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَجَلَّ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يُخْطِئُ.

الْآيَةُ قَدْ أَكَّدَتْهَا آيَةٌ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَآيَةٌ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَغْذِيَةِ

ص: 137

وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَطْعِمَةً فَتَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُمُرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْهُ فَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ الْقَوِيَّ فِيهِ، فَهَذَا بَيَانُ بُطْلَانِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا بِالْإِجْمَالِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ فِيهِ قَرِيبٌ. وَمِنْ غَرَائِبِ السَّهْوِ ذِكْرُ الْحَافِظِ أَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِمَّا حُرِّمَ بَعْدَهَا

وَهُوَ فِيهَا.

وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ نَصًّا فِي التَّحْرِيمِ لِاحْتِمَالِهِ الْكَرَاهَةَ، وَتَرْجِيحُ الِاحْتِمَالِ بِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي الْحِجَازِ، وَلَوْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا فِي غَزْوَةٍ مَشْهُورَةٍ لَنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا النَّهْيَ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ السِّبَاعِ لَا بِتَحْرِيمِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ حَمْلِهِ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ الْآيَاتُ وَاسْتِبَاحَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَكْلِ السِّبَاعِ إِذْ كَانَ يُحْتَجُّ بِعَمَلِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا - وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ " فَأَكْلُهُ حَرَامٌ " فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَيْ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ فَعَبَّرَ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَحَادِيثَ كَكَثْرَةِ مَرَاسِيلِهِ. وَمِمَّا يُعِلُّ بِهِ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ فَقِيهًا وَمَذْهَبُهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَمَا خَالَفَهُ، وَنَاهِيكَ بِمِثْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ. وَحَدِيثَا جَابِرٍ وَالْعِرْبَاضِ الْمُصَرِّحَانِ بِالتَّحْرِيمِ لَيْسَا صَحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا حُسِّنَا لِمُوَافَقَتِهِمَا لِأَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَذَا وَكَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَمَّا فَهِمَا مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَارِضٌ مُوَقَّتٌ وَفَهِمَ آخَرُونَ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ فَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (يَعْنِي عَدَمَ التَّحْرِيمِ) وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ (قُلْ لَا أَجِدُ) وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ غَيْرِ مَا ذُكِرَ إِذًا فَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةٌ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا حِكَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ

ص: 138

كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِآرَائِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) أَيْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ

وَلَا يُرَدُّ كَوْنُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا قَرَنَتْ بِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِذَا وَرَدَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْآيَةَ حَاصِرَةً لِمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ إِبَانَةَ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقَّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَخْصِيصِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا أَقْوَى وَأَوْسَعُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنِ الْآيَةِ قَدْ لَخَّصَهُ أَحْفَظُ الْحُفَّاظِ وَأَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا، وَكُلُّهُ سَاقِطٌ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِيهِ، وَفِي سُقُوطِهِ أَكْبَرُ حُجَّةٍ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِنْصَافِ، بِزَعْمِ أَنَّ مَشَايِخَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ أَحَاطُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، حَتَّى فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَلَسْنَا نُسْقِطُهُ بِنَظَرِيَّاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَإِنَّمَا نُسْقِطُهُ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ الْبَحْثِ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ - وَذَلِكَ أَظْهَرُ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ - وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ تَقَرَّرَ مَضْمُونُ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا فِي آيَةِ النَّحْلِ الْمَكِّيَّةِ (16: 115) وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَتْمًا فَلَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْحَافِظُ آنِفًا عَلَى عِلَّاتِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا نَصْرُ الْمَذْهَبِ لَمَا نَسِيَ الْحَافِظُ هَذَا عِنْدَ النَّقْلِ، وَلَا تَأْيِيدُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ لِلْحَصْرِ فِيهَا وَرَدُّهُ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَهَذَا نَصُّ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2: 172، 173) لَفْظُ (إِنَّمَا) يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَا يَأْتِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَكَلَّفُوهَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا حَتَّى جَعَلُوا الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ

الْأُصُولِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ جَرَيَانَهَا فِي الْآيَةِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ عَنِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ، وَفِي آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ بِـ (إِنَّمَا) لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَعَرَّضَ لَهَا، وَإِنَّمَا

ص: 139

أَخَذْتُهَا مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِإِمَامِ عُمُومِ الْبَلَاغَةِ وَوَاضِعِهَا الشَّيْخِ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ فَنُلَخِّصُ قَوْلَهُ فِيهَا مَزِيدًا فِي الْبَيَانِ، وَدَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ:

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) النَّصْبُ فِي الْمَيْتَةِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَيَجُوزُ (إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ " مَا " هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ " إِنَّ " مِنَ الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ لِأَنَّ " إِنَّمَا " تَأْتِي إِثْبَاتًا لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا وَنَفْيًا لِمَا سِوَاهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا لَا يُنَافِيهِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْحَصْرِ وَأَوْرَدَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ أَوْ لِمَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ. تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ. لَا تَقُولُهُ لِمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُ صِحَّتَهُ وَلَكِنْ لِمَنْ يَعْلَمُهُ وَيُقِرُّ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُنَبِّهَهُ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْأَخِ وَحُرْمَةِ الصَّاحِبِ. . . . . .

وَمِثَالُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(36) وَقَوْلُهُ عز وجل: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)(36: 11) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)(79: 45) كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ اسْتِجَابَةٌ إِلَّا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَعْقِلْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِنْذَارًا وَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ إِذَا كَانَ مَعَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَخْشَاهُ وَيُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالسَّاعَةِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ فَالْإِنْذَارُ وَتَرْكُ الْإِنْذَارِ مَعَهُ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ أُخْرَى:

وَأَمَّا الْخَبَرُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوُ: مَا هَذَا إِلَّا كَذَا، وَإِنْ هُوَ إِلَّا كَذَا، فَيَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا مُصِيبٌ، أَوْ مَا هُوَ إِلَّا مُخْطِئٌ - قُلْتَهُ لِمَنْ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا مِنْ بَعِيدٍ فَقُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا زَيْدٌ - لَمْ تَقُلْهُ إِلَّا وَصَاحَبُكَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ وَأَنَّهُ

إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَجِدُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي الْقَاعِدَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)(14: 10) إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ دُونَ " إِنَّمَا " مَعَ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّسُلَ كَأَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ قَدْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ وَادَّعَوْا أَمْرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ هُوَ بَشَرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُخْرِجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَهُ حَيْثُ يُرَادُ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَدَّعِي خِلَافَهُ. ثُمَّ جَاءَ الْجَوَابُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(14: 11) كَذَلِكَ بِـ " إِنْ " وَ " إِلَّا " دُونَ " إِنَّمَا " -

ص: 140

لِأَنَّ مِنْ حِكَمِ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ خَصْمُهُ الْخِلَافَ فِي أَمْرٍ هُوَ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَنْ يُعِيدَ كَلَامَ الْخَصْمِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَحْكِيهِ كَمَا هُوَ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي مَسَائِلِ " إِنَّمَا " وَصَرَّحَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِأَنْ " إِنَّمَا " تُفِيدُ فِي الْكَلَامِ بَعْدَهَا إِيجَابَ الْفِعْلِ لِشَيْءٍ وَنَفْيَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَطَالَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَشَرْحِهَا كَعَادَتِهِ.

وَهَذَا التَّحْقِيقُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَآيَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ، مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ تَعَالَى. كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ - فَجَاءَ حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مِنَ السُّورَةِ:(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)(6: 119) وَلَمْ يُفَسَّرْ بِآيَةِ النَّحْلِ مَعَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ النَّحْلِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ النَّحْلِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى قَاعِدَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهَا الْتِفَاتًا إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْجَحَ مِنْ جَعْلِهَا خَاصَّةً بِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي السُّورَتَيْنِ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ الَّذِي يَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا نَصُّهُمَا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (16: 114، 115) وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّهَا خِطَابٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ قَدْ جَاءَتَا بَعْدَ آيَةٍ فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهِيَ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

فَتَكُونُ آيَتَا النَّحْلِ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْبَقَرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَالْإِطْنَابِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْهُودٌ، وَبَيَّنَّا سَبَبَهُ مِنْ قَبْلُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ أُنْزِلَتْ بَيَانًا لِحُكْمِ اللهِ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِهِ. بِمَا كَانُوا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَقَهَا بَيَانٌ مِنَ الْوَحْيِ فِي ذَلِكَ فَجَاءَتْ بِحَصْرِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ النَّحْلِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِهَا فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فِي سِيَاقِ مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِشُكْرِهَا فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ هِيَ السُّورَةُ الَّتِي خُصَّ أُسْلُوبُهَا بِسَرْدِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ آيَةِ النَّحْلِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَعُبِّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَصْرَ كَانَ مَعْرُوفًا وَمُقَرَّرًا بِآيَةِ الْأَنْعَامِ.

ص: 141

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ الْمُكَرَّرِ بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ وَمِمَّا سَيَأْتِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَلَا التَّخْصِيصَ، فَهِيَ نَفْسُهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْحِلُّ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَخْصِيصٌ آخَرُ لِذَلِكَ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُنَالِكَ أَخْبَارٌ آحَادٌ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ النَّصِّ وَلَا الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا عَلِمْتَ - وَأَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ - أَحَدُ أَرْكَانِ رُوَاتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِالسُّنَّةِ فِي وَطَنِهَا الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْحِجَازُ - إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَحَدِ فُقَهَائِهَا فَكَيْفَ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ وَبُلِّغَ لِلنَّاسِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فِيهِ وَبَقِيَ إِلَى زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ خَفِيًّا عَنْ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالرِّوَايَةِ؟ وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ

وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ وُقُوعَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ حِلِّ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَى حَصْرِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْكِتَابِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَأُنَاسٌ آخَرُونَ بِقُيُودٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ الرَّازِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ بَعْضُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا كَكَوْنِ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وَالنَّسْخُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ عُمُومَ إِبَاحَةِ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ كَانَ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ تَخْصِيصَهُ عِنْدَ إِنْزَالِ آيَةِ الْمَائِدَةِ لَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَمَا أَكَّدَهُ بَعْدَهَا مِرَارًا.

وَقَدْ أَطْنَبَ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الْحَصْرِ وَكَوْنِهَا مُحَكَمَةً بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا وَدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ عَلَيْهَا، وَزَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ التَّحْرِيمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، وَكَوْنُ الْوَحْيِ قَرَّرَ هَذَا الْحَصْرَ، وَأَكَّدَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِيهِ بِآيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ - أَنْ جَعَلَ آيَةَ أَوَّلِ الْمَائِدَةِ مُؤَكِّدَةً لِتَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) مَعَ

ص: 142

إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ أُخْرَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إِلَخْ. (قَالَ) : فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ.

وَأَقُولُ: إِنَّنَا مَا تَرَكْنَا ذِكْرَ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِيمَا كَتَبْنَا قَبْلَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ نِسْيَانًا لَهَا، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِنَا حِينَئِذٍ مِنْ مَعْنَاهَا إِلَّا الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْسُ الْأَنْعَامِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا مِنْ قَبِيلِ شَجَرِ الْأَرَاكِ أَوْ بِمَعْنَى الْبَهِيمَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأَنْعَامِ، قَالُوا: أَيْ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَهُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْإِضَافَةِ، وَبَعْدَ مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ تَذَكَّرْنَا أَنَّنَا قَدِ اخْتَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ مَا يَسْتَطِيبُهُ النَّاسُ فِي مَجْمُوعِهِمْ وَإِنْ عَافَهُ أَفْرَادٌ أَوْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ، فَقَدْ عَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْلَ الضَّبِّ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ

; وَبِهَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُؤَيِّدَةً لِلْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ آخِرُ السُّورِ نُزُولًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِمَا فِيهَا ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسُّبَاعِ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ - إِنْ صَحَّ أَنَّهُ بَعْدَهَا وَأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّخْصِيصِ لَا النَّسَخِ - تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةً لَهُ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ حَتْمًا.

وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ طَعَامٍ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حَصَرَتِ الْآيَاتُ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيهَا، فَهُوَ إِمَّا لِلْكَرَاهَةِ وَإِمَّا مُؤَقَّتٌ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَمِيرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْهُ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى لَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم. وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ رَدَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بِآيَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَرِّمَ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا جَاءَ نَصُّ الْقُرْآنِ الْمُؤَكِّدُ بِحِلِّهِ. وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عِيسَى بْنِ نُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) . . . . . فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ اهـ. فَقَوْلُهُ: " إِنْ كَانَ " مُشْعِرٌ بِشَكِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَهُ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَبِيثٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ. عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ. وَيَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَالْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الْكَثِيرَ

ص: 143

مِنْهَا قَدْ سَمِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَذَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ لَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِيهَا الْعَنْعَنَةُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ لِضَرَرِهِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَهُنَّ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ، وَكَذَا الْحِدَأَةُ وَالْوَزَغُ، أَوِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ كَالنَّمْلِ وَالنَّحْلِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ ; إِذِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ الضَّارِّ لِاتِّقَاءِ ضَرَرِهِ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ تَدُلَّ الدَّلَائِلُ الْعَامَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَقَدْ دَلَّتْ!

وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ عَبَثًا أَوْ لِغَرَضٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَتْلِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا حَظْرُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ، فَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا أَوْ دَجَاجَةً يَتَرَامُونَهَا وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَّمَا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. وَالْغَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ وَيَرْمُونَ إِلَيْهِ لِلتَّمَرُّنِ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالسِّهَامِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ الْوَسْمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ:" لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ " وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَارَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً " وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا " مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عز وجل عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ " يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهَا " وَالْأَحَادِيثُ فِي الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ - دَعْ تَرْكَ إِيقَاعِهِ بِهِ - كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَذَّبَهَا اللهُ فِي النَّارِ بِحَبْسِ الْهِرَّةِ حَتَّى مَاتَتْ، وَحَدِيثُ الْبَغِيِّ (الْمُومِسِ) الَّتِي غَفَرَ اللهُ لَهَا إِذْ رَحِمَتْ كَلْبًا عَطْشَانَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ بِنَعْلِهَا حَتَّى سَقَتْهُ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَهْيٍ خَاصٍّ عَنْ قَتْلِ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ سَبَبٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، فَالْعَامُّ كَتَعَوُّدِ النَّاسِ قَتْلَ بَعْضِ الْحَشَرَاتِ احْتِقَارًا لَهَا بِأَدْنَى سَبَبٍ كَقَتْلِ النَّحْلِ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَسَلِ أَوِ السُّكَّرِ وَكَذَا النَّمْلُ، وَالْخَاصُّ كَالَّذِي قَالَهُ

ص: 144

أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِهِ فَنُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ لِيَزُولَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنِ اعْتِقَادِ التَّشَاؤُمِ.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْهُدْهُدَ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ الضَّارَّةَ بِالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ

فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ، كَمَا تَنْهَى الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ عَنْ قَتْلِهِ وَصَيْدِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ حَظْرِ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِجَعْلِهِ دَوَاءً مَعَارِضٌ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ الْمَنَافِعِ وَبِمَفْهُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قَتْلِ الْعُصْفُورِ عَبَثًا وَهُوَ أَصَحُّ مِنْهُ.

وَجَعْلُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْحَيَوَانِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَاسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ دَلَائِلَ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ قَالَ الْمَهْدِيُّ (مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ) : أُصُولُ التَّحْرِيمِ إِمَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِ كَالْخَمْسَةِ (أَيِ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي وَرَدَ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ) أَوِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ كَالْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالصُّرَدِ - أَوِ اسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ كَالْخُنْفُسَاءِ وَالضُّفْدَعِ. . . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(7: 157) وَهِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَكَانَ اسْتِخْبَاثُهُمْ طَرِيقَ تَحْرِيمٍ فَإِنِ اسْتَخْبَثَهُ الْبَعْضُ اعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ وَالْعِبْرَةُ بِاسْتِطَابَةِ أَهْلِ السَّعَةِ لَا ذَوِي الْفَاقَةِ اهـ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ إِنِ اسْتَطَابَهُ أَهْلُ يَسَارٍ وَطِبَاعٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعَرَبِ فِي حَالِ رَفَاهِيَةٍ حَلَّ وَإِنِ اسْتَخْبِثُوهُ فَلَا. . . . وَاشْتَرَطَ شُرَّاحُهُ أَنْ يَكُونُوا حَضَرًا لَا بَدْوًا.

وَنَقُولُ: أَمَّا الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ فَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِخْبَاثُ الْعَرَبِ إِيَّاهُ فَقَدْ رَدَّهُ الْمُخَالِفُونَ لَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَبِرِ اسْتِخْبَاثَ الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ بَلْ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، وَإِنَّ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرَبِ، فَاعْتِبَارُ مَا تَسْتَقْذِرُهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ إِنِ اعْتُبِرَ اسْتِقْذَارُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَجَمِيعُهُمْ لَمْ يَسْتَقْذِرُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالْأَسَدَ وَالذِّئْبَ وَالْفَأْرَ، بَلِ الْأَعْرَابُ يَسْتَطِيبُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَإِنِ اعْتُبِرَ بَعْضُهُمْ فَفِيهِ أَمْرَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِهِمْ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ بَعْضُهُمْ. (وَثَانِيهِمَا) لِمَ كَانَ الْبَعْضُ الْمُسْتَقْذِرُ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُسْتَطِيبِ؟

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مَا نَصُّهُ: وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ

ص: 145

خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ " وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُمْ يَأْكُلُونَ الضَّبَّ قَالَ: يَعَافُهُ طَبْعِي. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ، وَأَمَّا

سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ؟ اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ فِي تَحْرِيمِ مَا اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ لَا أَصْلَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا مَفْهُومَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَإِحْلَالِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (7: 157) فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ مَنْعَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا وَبِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مِنْهُ كَالطَّيِّبَاتِ هُنَا آخَرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَالْأَخْفَشِ وَابْنِ فَارِسٍ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَاشْتَرَطَ لَهُ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ شُرُوطًا لَا تَتَحَقَّقُ هُنَا، أَقْوَاهَا أَلَّا يُعَارِضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ مَنْطُوقٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَقَدْ عَارَضَتْهُ هُنَا الْآيَاتُ الْقَطْعِيَّةُ، عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمَعْنَاهُ: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي كَانَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ فَقَطْ وَهِيَ مَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِالرِّبَا وَغَيْرِهِ وَمَا كَانَ خَبِيثًا مِنَ الطَّعَامِ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا. وَالْخَبِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَعَلَى الْقَبِيحِ وَالرَّدِيءِ ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)(2: 267) وَكُلُّ مُحَرَّمٍ خَبِيثٌ وَمَا كُلُّ خَبِيثٍ بِمُحَرَّمٍ ; فَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ بِالشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ وَأَكْلُهُمَا مُبَاحٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ خَبِيثٍ عَلَى مَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ مَكْرُوهٌ لَا مُحَرَّمٌ.

فَبِهَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُهْدَمُ هَذَا الْأَصْلُ الِاجْتِهَادِيُّ مِنْ أُصُولِ التَّحْرِيمِ الَّذِي عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا، وَإِنْ لَمْ يُطَبِّقُوا هَذَا التَّعْرِيفَ عَلَى كُلِّ مَا ادَّعَوْا حُرْمَتَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْجَهْدِ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ. وَمِنَ الثَّابِتِ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمْ أَنَّ لِلْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا تَأْثِيرًا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فَالَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى عِبَادِ اللهِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لَهُمْ وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(2: 29) كَانُوا عَائِشِينَ فِي حَضَارَةٍ

ص: 146

يَتَمَتَّعُ أَهْلُهَا بِخَيْرَاتِ مُلْكِ الْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ فِي مَدَائِنَ كَجَنَّاتِ النَّعِيمِ كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْصَارِ

فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ جَعَلُوا مَا يَسْتَقْذِرُهُ مُتْرَفُو الْعَرَبِ فِي حَضَارَتِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَى الْبَدْوِ الْبَائِسِينَ وَعَلَى خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْحَضَارَةِ لَرَاعَوْا فِي اجْتِهَادِهِمُ الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَعُمُومِهَا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْتِزَامَ ذَوْقِ مُنَعَّمِي الْعَرَبِ فِي طَعَامِهِمْ - وَلْتَذْكُرُوا أَنَّ هَذَا التَّشَدُّدَ فِي التَّحْرِيمِ يُضَيِّقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمُعْوِزُونَ أَمْرَ مَعِيشَتِهِمْ، وَالتَّوَسُّعُ فِي أَصْلِ الْإِبَاحَةِ يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُوسِرِينَ كَمَا رَاعَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ وَقَذَّرَهُ وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمْهُ، إِنَّ اللهَ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ اهـ. ثُمَّ لِتَذْكُرُوا مَعَ هَذَا وَذَاكَ مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ كُنَّا نَأْخُذُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُشَدِّدِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَنَجِدُهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَحْثِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَذْوَاقِنَا وَعِيشَتِنَا. فَقَدْ نَشَأْنَا فِي بَيْتٍ لَا يَكَادُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ إِلَّا الضَّأْنَ ; وَيَعَافُونَ لَحْمَ الْبَقَرِ وَمَا تَعَوَّدْنَا أَكْلَهُ إِلَّا فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَوَابًا حَتَّى فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَلَكِنْ لَا عُذْرَ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُهُ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِمَا وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَلِ الطَّعْنِ فِيهِ وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُجِيزُ هَذَا التَّقْلِيدَ. وَيَرْضَى أَنْ يُتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّشْرِيعِ.

وَلَيْسَ فِيمَا أَطَلْنَا بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ اسْتِطْرَادٌ وَلَا خُرُوجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا كُلَّ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيمِهِ مُنَافِيًا لَهَا وَبَيَّنَّا بُطْلَانَ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ نَكُنْ خَارِجِينَ عَنْ حَدِّ تَفْسِيرِهَا وَلَكِنْ مَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا كَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ وَالْخَيْلِ وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَيُعَارِضُهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ.

وَمُلَخَّصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ - الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بِمَا تَقَدَّمَ - هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْمُحْكَمُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا فَهِمَهَا حَبْرُ الْأُمَّةِ وَإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَعْظَمُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ مُفَسِّرِي أَهْلِ النَّظَرِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالنَّيْسَابُورِيِّ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ عِنْدَ إِنْزَالِهَا - وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - أَنَّهُ سَيَنْسَخُهَا أَوْ يُخَصِّصُ عُمُومَهَا لَمَا أَنْزَلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَلَمَا أَكَّدَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا وَأَيَّدَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِهَا وَمُؤَيِّدَاتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ:

(الْأَوَّلُ) الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ آيَةُ النَّحْلِ ثُمَّ آيَةُ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ أَوَّلُ الْمَائِدَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي مَوْضُوعِ الطَّعَامِ خَاصَّةً.

ص: 147

(الثَّانِي) إِحْلَالُ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ لَا يَكَادُونَ يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ مِمَّا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ.

(الثَّالِثُ) الْآيَاتِ الدَّالَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْعَالَمِ عَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(2: 29) وَقَوْلِهِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(22: 65) وَفِي مَعْنَاهُ بَعْدَ ذِكْرِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(45: 13) وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ الْأَكْلِ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ فَقَالَ: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)(16: 14) إِلَخْ. (الرَّابِعُ) مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ، وَهُوَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي حَظْرِ تَحْرِيمِ أَيِّ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللهِ غَيْرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ النَّحْلِ فِي الْحَصْرِ:(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)(16: 116) وَقَالَ بَعْدَهَا بِآيَةٍ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(118) فَآيَاتُ النَّحْلِ بِمَعْنَى آيَاتِ الْأَنْعَامِ فِي جُمْلَتِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) نَصٌّ فِي نُزُولِ النَّحْلِ بَعْدَ الْأَنْعَامِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)(9: 31) قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِهَا: " أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الشَّهِيرِ بِالْجُودِ، وَكَانَ عَدِيُّ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفَرَّ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الشَّامِ، فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَمَنَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَاهَا، فَلَحِقَتْ بِهِ وَرَغَّبَتْهُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ: " بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ. وَرَوَوْا مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ

أَرْبَابًا بِمَعْنَى شَارِعِينَ، وَهَذِهِ عِبَادَةُ رُبُوبِيَّةٍ لَا أُلُوهِيَّةٍ، فَالشَّرْعُ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِهِمْ وَفِي بَيَانِهِمْ لِمَا بَلَغُوهُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَتُهُمْ فِي التَّبْلِيغِ وَلَكِنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ بِاللهِ أَنْ يَتَّبِعَ عَالِمًا فِي قَوْلِهِ هَذَا حَرَامٌ إِلَّا إِذَا جَاءَهُ بِبَيِّنَةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ فَعَقَلَهَا وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهَا. قَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

ص: 148

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بَعْدَ مَا نَقَلَ حَدِيثَ عَدِيٍّ وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنه: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ. يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ شَيْخَهُ رحمه الله كَانَ مُجْتَهِدًا بِحَقٍّ، وَأَمَّا هُوَ فَعَلَى تَوَسُّعِهِ فِي فَنِّ الِاسْتِدْلَالِ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ تَارَةً بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَدَلِ وَيَسْتَقِلُّ بِالِاسْتِدْلَالِ أُخْرَى. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ شَيْخِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِثْلُهُ وَلَكِنَّ كَثْرَةَ الْمُقَلِّدِينَ وَتَأْيِيدَ الْحُكَّامِ لَهُمْ قَدْ نَصَرَ بَاطِلَهُمْ عَلَى حَقِّ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ، وَلَوْلَا الْحُكَّامُ الْجَاهِلُونَ وَالْأَوْقَافُ الَّتِي وَقَفَتْ عَلَى فِقْهِ الْمَذَاهِبِ لَمْ يَتَفَرَّقِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ شِيَعًا، حَتَّى صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا وَرَدَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللهُ وَوَفَّقَهُ لِإِيثَارِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي قُرِّرَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ وَأَيَّدَتْهُ جُنُودُ اللهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْآيَاتِ تُؤَيِّدُهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَحِكْمَةُ التَّشْرِيعِ الرَّجِيحَةُ - أَمَّا السُّنَّةُ فَكَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ " مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا " وَتَلَا (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(19: 64) وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا " حَسَّنَهُ الْحَافِظُ

أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ فِي أَمَالِيهِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى.

وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ فِي دِينٍ عَامٍّ يُطَالِبُ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهِ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا وَرَدَ مِنْ يُسْرِ شَرِيعَتِهِ وَعَدَمِ إِعْنَاتِهَا لِلْبَشَرِ، وَمَبْنِيَّةٌ عَلَى بُلُوغِ هَذَا النَّوْعِ فِي جُمْلَتِهِ دَرَجَةَ الرُّشْدِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي شُئُونِ حَيَاتِهِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالْمَعَادِيَةِ فَلَا تُقَيِّدُهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا يَزِيدُ فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ' " خَاصَّةً عُقُوبَةً لَهُمْ، لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ شَرْعِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ قَبْلُهُمْ أَوْ بَعْدَهُمْ، فَكَانَ مِنَ الْمُلْحَقِ بِالْمُسْتَثْنَى " فِي الْآيَةِ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ نَفْيِ تَحْرِيمِ أَيِّ طَعَامٍ عَلَى أَيِّ طَاعِمٍ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعَامِّ مَا حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَامًّا مُؤَبَّدًا عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ مَا حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَارِضًا عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لِسَبَبٍ خَاصٍّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ آخَرُ يُبِيحُهُ لَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:

ص: 149

(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْآتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)(7: 156) أَيْ رَجَعْنَا وَتُبْنَا، وَأَصْلُ الْهُودِ الرُّجُوعُ بِرِفْقٍ قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَيْ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا - دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ - حَرَّمْنَا فَوْقَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إِلَخْ. وَقَوْلُنَا:" دُونَ غَيْرِهِمْ " هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ. وَالظُّفُرُ مِنَ الْأَصَابِعِ مَعْرُوفٌ، وَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَائِرٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرُوا الْمِخْلَبَ بِظُفُرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَالظُّفُرُ عَامٌّ وَالْمِخْلَبُ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ كَالْبُرْثُنِ لِلسَّبْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِعَارَةِ: أَنْشَبَتِ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا فِي فُلَانٍ - وَفِي اللِّسَانِ عَنِ اللَّيْثِ الظُّفُرُ ظُفُرُ الْأُصْبُعِ وَظُفُرُ الطَّائِرِ، وَفِيهِ: وَقَالُوا: الظُّفُرُ لِمَا لَا يَصِيدُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا يَصِيدُ أَيْ خَاصٌّ بِمَا يَصِيدُ مِنَ الطَّيْرِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: " دَخَلَ فِي ذِي الظُّفُرِ ذَوَاتُ الْمَنَاسِمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالنَّعَامِ لِأَنَّهَا لَهَا كَالْأَظْفَارِ. وَهَذَا تَوْجِيهٌ لُغَوِيٌّ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ بِالْبَعِيرِ وَالنَّعَامَةِ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تُفْرَجْ قَوَائِمُهُ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَمَا انْفَرَجَ أَكَلَتْهُ الْيَهُودُ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْإِبِلَ وَالنَّعَامَ وَالْوَرَنِيَّةَ وَالْبَطَّ وَالَوَزَّ وَحِمَارَ الْوَحْشِ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، ثُمَّ قَالَ:

كَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقَالَ: وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْحَافِرِ ظُفُرًا، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ الْحَافِرَ لَذَكَرَهُ، وَجَزَمَ بِوُجُوبِ حَمْلِ الظُّفُرِ عَلَى الْمَخَالِبِ وَالْبَرَاثِنِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تُصْطَادُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ. ثُمَّ قَالَ:

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) فَائِدَةٌ - فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَلَّا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ، ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اهـ.

وَأَقُولُ: " إِنَّ تَضْعِيفَهُ الْحَدِيثَ مَعَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ

ص: 150

جِهَةِ الْمَتْنِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ مُخَالَفَتَهُ لِلْقُرْآنِ وَكُلِّ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، وَهَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثِ الظَّنِّيِّ وَالْقُرْآنِ الْقَطْعِيِّ، وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.

وَقَدْ فَسَّرُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(4: 160) وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ذَوَاتُ الْأَنْيَابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ طَيِّبَاتٍ بِالنَّصِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا إِبْقَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (بِظُلْمٍ) وَقَوْلِهِ (طَيِّبَاتٍ) عَلَى نَكَارَتِهِمَا، وَإِبْهَامِهِمَا، وَأَنَّ آيَةَ:(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ)(3: 93) مَعْنَاهَا: أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لَهُمْ وَلِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِلَّا مَا حَرَّمُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ وَكَانَ سَبَبًا لِشَدِيدِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ - وَأَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ الْيَهُودُ يَقُصُّونَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَصْدُقُ فِي بَيَانِ مَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَنْ يَمِينُ وَالْمُحَرَّمَاتُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ كَثِيرَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِينَ، (الْأَحْبَارِ) فَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْهُ بَيَانُ

أَنَّ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ هُوَ ذُو الْأَظْلَافِ الْمَشْقُوقَةِ الَّذِي يَجْتَرُّ دُونَ غَيْرِهِ كَالْجَمَلِ وَالْوَبَرِ وَالْأَرْنَبِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِعَدَمِ انْشِقَاقِ ظِلْفِهِ وَإِنْ كَانَ يَجْتَرُّ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَرُّ وَإِنْ كَانَ مَشْقُوقَ الظِّلْفِ - وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَرَّمِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السِّبَاعِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - ثُمَّ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ وَهُوَ مَا لَهُ زَعَانِفُ. ثُمَّ بَيَانُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيْرِ وَهِيَ النَّسْرُ وَالْأَنُوقُ وَالْعُقَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأْفُ وَالْبَازِي عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالْبُومُ وَالْغَوَّاصُ وَالْكُرْكِيُّ وَالْبَجَعُ وَالْقُوقُ وَالرَّخْمُ وَاللَّقْلَقُ وَالْبَبَّغَاءُ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالْهُدْهُدُ وَالْخُفَّاشُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ذَوَاتُ أَظَافِرَ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا تُسَمَّى أَظَافِرُهُ مَخَالِبَ. وَهُوَ مَا يَصِيدُ وَيَأْكُلُ اللُّحُومَ. وَكُلُّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَجِسٌ لَهُمْ كَمَا صُرِّحَ بِهِ مِرَارًا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي إِحْصَاءِ كُلِّ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ. وَمَجْمُوعُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً فَهُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ جُمْلَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الشَّحْمُ جَوْهَرُ السِّمَنِ - أَيِ الْمَادَّةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْحَيَوَانُ سَمِينًا

ص: 151

وَفِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي سَنَامَ الْبَعِيرِ وَبَيَاضَ الْبَطْنِ شَحْمًا، وَشَحَمَ شَحَامَةً سَمِنَ وَكَثُرَ شَحْمُهُ فَهُوَ شَحِيمٌ، وَيَغْلِبُ الشَّحْمُ فِي عُرْفِنَا عَلَى الْمَادَّةِ الدُّهْنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى كِرْشِ الْحَيَوَانِ وَكُلْيَتَيْهِ وَأَمْعَائِهِ وَفِيهَا وَفِي سَائِرِ الْجَوْفِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَلْيَةِ وَمَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْمِ مِنَ الْمَادَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ مُوَلَّدٌ لَا نَدْرِي مَتَى حَدَثَ. وَالْحَوَايَا جَمْعُ حَاوِيَةٍ كَزَاوِيَةٍ وَزَوَايَا أَوْ حَوِيَّةٍ كَقَضِيَّةٍ وَقَضَايَا، وَفُسِّرَتْ بِالْمَبَاعِرِ وَبِالْمَرَابِضِ وَبِالْمَصَارِينِ وَالْأَمْعَاءِ، وَالْمَرَابِضُ مُجْتَمَعُ الْأَمْعَاءِ فِي الْبَطْنِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمُ الثَّرْبُ وَشَحْمُ الْكِلْيَةِ وَكُلُّ شَحْمٍ كَانَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ. وَالثَّرْبُ كَفَلْسٍ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْكِرْشِ وَالْأَمْعَاءِ. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مَا عَلَقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ. وَالْحَوَايَا: الْمَبَاعِرُ (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) قَالَ: الْأَلْيَةُ إِذَا اخْتَلَطَ شَحْمُ الْأَلْيَةِ بِالْعُصْعُصِ فَهُوَ حَلَالٌ وَكُلُّ شَحْمِ الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ. يَقُولُونَ: قَدِ اخْتَلَطَ ذَلِكَ بِعَظْمٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمُ الثُّرُوبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ.

وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الْآيَةَ أَوْجَزَتْ أَبْلَغَ الْإِيجَازِ فِي بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّحُومِ وَمَا أُحِلَّ لَهُمْ، فَلِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيجَازِ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَشُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِنْهَا؟ وَمَا نُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ الْخَاصِّ فِيهَا؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِجَعْلِهِ " كَقَوْلِكَ: مِنْ زِيدٍ أَخَذْتُ مَالَهُ - تُرِيدُ بِالْإِضَافَةِ زِيَادَةَ الرَّبْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَحْمُ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَشَحْمُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ وَتُرِكَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ عَلَى التَّحْلِيلِ لَمْ يُحَرَّمْ مِنْهُمَا إِلَّا الشُّحُومُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الثُّرُوبُ وَشُحُومُ الْكُلَى " اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ النُّكْتَةُ هُوَ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِمَّا أُحِلُّ لَهُمْ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا الزَّائِدَةَ الَّتِي تُنْتَزَعُ بِسُهُولَةٍ لِعَدَمِ اخْتِلَاطِهَا بِلَحْمٍ وَلَا عَظْمٍ، وَأَمَّا مَا حَمَلَتِ الظُّهُورُ أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. فَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِبَيَانِ الْحَصْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا هَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ مِنَ الشُّحُومِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامًا فِيمَنْ يَحْلِفُ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَأَكَلَ مِمَّا اسْتُثْنِيَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ مَدْلُولِ اللُّغَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْحُكْمِ هُوَ أَنَّ الْقَرَابِينَ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَكَانَ يُتَّخَذُ مِنْ شَحْمِهِمَا الْمَذْكُورِ الْوَقُودُ لِلرَّبِّ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ الشَّحْمُ الَّذِي يَغْشَى الْأَحْشَاءَ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالْأَلْيَةَ مِنْ عِنْدِ الْعُصْعُصِ (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وَقَالَ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فِي قَرَابِينِ السَّلَامَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِقِسْمَيْهِ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ مَا نَصُّهُ:" 3: 16 كُلُّ الشَّحْمِ لِلرَّبِّ 17 فَرِيضَةٌ فِي أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ لَا تَأْكُلُوا شَيْئًا مِنَ الشَّحْمِ وَلَا مِنَ الدَّمِ " اهـ.

ص: 152

(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) الْإِشَارَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ أَوِ الْجَزَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ جَزَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةَ بَغْيِهِمْ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَمَا هُوَ بِخَبِيثٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (كُلُّ الطَّعَامِ) أَوَّلَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا)(4: 160) فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ [ص49 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ] .

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ شَرِيعَةِ الْيَهُودِ مِنَ الْأَنْبَاءِ الَّتِي لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَ مِنْهَا شَيْئًا لِأُمِّيَّتِهِمْ، وَكَانَ مَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِالْوَحْيِ وَجَزْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ بِشَرْعِ الْيَهُودِ، وَمَظِنَّةَ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ

إِنَّ تَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ لَهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الْمُبَيَّنِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) فَأَكَّدَ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ وَصِدْقَ الْمُخْبِرِ بِـ " إِنَّ " وَالْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الطَّرَفَيْنِ وَلَامِ الْقَسَمِ، أَيْ صَادِقُونَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَعِلَّتِهِ، لِأَنَّ أَخْبَارَنَا صَادِرَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَيْنَا لِاسْتِحَالَةِ كُلِّ نَقْصٍ عَلَى الْخَالِقِ.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ كُفَّارُ قَوْمِكَ أَوِ الْيَهُودُ فِي هَذَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ ذِكْرًا. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ بِالذَّاتِ. إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْوَى بِالْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَرْعِهِمْ عِقَابًا لَهُمْ، لِلتَّشْدِيدِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ بَغْيِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى رَسُولِهِمْ، يُنْتَظَرُ مِنْهُمْ أَنْ يُكَذِّبُوا الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ تَعْلِيلِهِ بِمَا ذُكِرَ، وَيَحْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِ كَوْنِهِ عُقُوبَةً بِكَوْنِ الشَّرْعِ رَحْمَةً مِنَ اللهِ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدْحَضُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِإِثْبَاتِهِ لَهُمْ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى وَاسِعَةٌ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ سَعَتَهَا لَا تَقْتَضِي أَنْ يُرَدَّ بَأْسُهُ وَيُمْنَعَ عِقَابُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ، وَإِصَابَةُ النَّاسِ بِالْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ عِقَابًا عَلَى جَرَائِمَ ارْتَكَبُوهَا قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِغَيْرِهِمْ، لِيَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِهَا أَوْ لِيَتَرَبَّوْا عَلَى تَرْكِ التَّرَفِ وَالْخُنُوثَةِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُهُمْ فَيَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْجَرَائِمِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُطَّرِدَةِ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ فِي الْأَفْرَادِ لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَلِذَلِكَ قَالَ:(عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْيَهُودِ لِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِبِلَ أَوْ عِرْقَ النِّسَا كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)(3: 93) وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يَغُشُّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ

ص: 153

عِنْدَمَا خَالَطُوهُمْ وَعَاشَرُوهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَجَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحْرِيمِ هُنَا.

وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذَا الْجَوَابِ فِي تَكْذِيبِ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِأَنَّهُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا

عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِطْمَاعٌ لَهُمْ فِي رَحْمَةِ اللهِ الْوَاسِعَةِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ ; إِذْ يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا بِحِلِّ الطَّيِّبَاتِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ الْإِسْلَامَ مِنَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ، وَسُعَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ بِكَمَالِ الِاتِّبَاعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) قَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانًا مُفَصِّلًا لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَدَحْضًا لِشُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ مَظَاهِرُ شِرْكِهِمْ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، وَخُرَافَاتٍ وَتَضْلِيلٍ، وَأَوْهَامٍ وَأَبَاطِيلَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِشُبْهَةٍ مِنْ أَكْبَرِ شُبُهَاتِهِمُ الَّتِي ضَلَّ بِمِثْلِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا أَوْرَدُوهَا عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ السُّورَةَ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ الْعَقَائِدِ وَإِثْبَاتِهَا بِالْحُجَّةِ النَّاهِضَةِ، وَإِبْطَالِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ الدَّاحِضَةِ، مَا قِيلَ مِنْهَا، وَمَا سَيُقَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 154

بَعْدَ نُزُولِهَا. فَذَكَرَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا بِمَا يُبْطِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِهِ بِأُمُورِ الْغَيْبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) أَيْ سَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا نُشْرِكَ بِهِ مَنِ اتَّخَذْنَا لَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَأَلَّا نُعَظِّمَ مَا عَظَّمْنَا مِنْ تَمَاثِيلِهِمْ وَصُوَرِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ وَسَائِرِ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ - وَأَلَّا يُشْرِكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا كَذَلِكَ لَمَا أَشْرَكُوا وَلَا أَشْرَكْنَا - وَلَوْ شَاءَ أَلَّا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمْنَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَغَيْرِهِمَا لَمَا حَرَّمْنَا. أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ نُشْرِكَ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ وَالشُّفَعَاءَ بِهِ وَهُمْ لَهُ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى، وَشَاءَ أَنْ نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا فَحَرَّمْنَاهَا، فَإِتْيَانُنَا مَا ذُكِرَ دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، بَلْ عَلَى رِضَاهُ وَأَمْرِهِ بِهِ أَيْضًا، - كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ:(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(7: 28) وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ مَشِيئَتَهُ مُلْزِمَةٌ وَمُجْبِرَةٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ:(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)(16: 35) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(43: 20) .

وَقَدْ رَدَّ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) إِلَخْ.

أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّكْذِيبِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللهِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهَا حَقُّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِرُسُلِهِمْ. أَيْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ تَكْذِيبًا جَهْلِيًّا غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَالرُّسُلُ - وَلَا سِيَّمَا خَاتَمُهُمْ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَقَامُوا الْحُجَجَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَأَيَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نَظَرَ الْإِنْصَافِ لِاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَأَصَرُّوا عَلَى جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَهُ تَعَالَى، وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فَجَعَلَهَا الرُّسُلُ نَذِيرًا لَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَمَا دُونَهُ لِغَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَةُ اللهِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي إِجْبَارًا مُخْرِجًا لِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ.

وَهُوَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ - وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَتُهُ لِذَلِكَ مُتَضَمِّنَةً لِرِضَاهُ عَنْ فَاعِلِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِهِ - خِلَافًا لِمَا قَالَ الرُّسُلُ - لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ تَصْدِيقًا لِلرُّسُلِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) بَيَانٌ لِلْبُرْهَانِ الْفِعْلِيِّ الْوَاقِعِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ

ص: 155

الرُّسُلِ فِي دَعْوَاهُمْ وَبُطْلَانِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ عَطَّلُوا شَرَائِعَهُمْ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِهَا وَبِهِمْ.

وَبَعْدَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلٍ عِلْمِيٍّ عَلَى زَعْمِهِمْ فَقَالَ: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أَيْ هَلْ عِنْدَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ عِلْمٌ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَتَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا لِنَبْحَثَ مَعَكُمْ فِيهِ، وَنَعْرِضَهُ عَلَى مَا جِئْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَحْكِيَّةِ عَنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَكُمْ، وَنَنْصِبَ بَيْنَهُمَا الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيزِ وَالتَّوْبِيخِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ حَقِيقَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ:(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مَا مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ مَا تَتَّبِعُونَ فِي بَقَائِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَقِيدَةٍ وَقَوْلٍ فِي الدِّينِ وَعَمَلٍ بِهِ إِلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا لَيْسَ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ وَلَا ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ يَطْمَئِنُّ لَهَا الْقَلْبُ وَيُرَجِّحُهَا الْعَقْلُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ أَصْلَيِ الدِّينِ وَهُمَا عَقَائِدُهُ وَقَوَاعِدُ التَّشْرِيعِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا، بَلْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ وَأَضْعَفَهَا لَا يَعْدُونَهَا، وَهِيَ دَرَجَةُ الْخَرْصِ، أَيِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ الْحُكْمُ، كَخَرْصِ مَا يَأْتِي مِنَ النَّخِيلِ أَوِ الْكَرْمِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخَرْصُ عَلَى لَازِمِهِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُفَارِقَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ هُنَا.

بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمْ أَدْنَى مَا يُقَالُ لَهُ عَلِمٌ، وَحَصَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الظَّنِّ، مَعَ أَنَّ أَعْلَاهَا لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ مِنْ شَيْءٍ. أَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحُجَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي لَا تَعْلُوهَا حُجَّةٌ فَقَالَ:

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْحُجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَقِيمُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فَهِيَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعْنَى قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ دِينِهِمْ عَلَى أَسَاسِ الْخَرْصِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الظَّنِّ، بَعْدَ تَعْجِيزِكَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ أَوْ قَوْلٍ يَرْتَقِي إِلَى أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مَا فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَلِلَّهِ وَحْدَهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، مِمَّا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ مَحَجَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَصِرَاطِهِ

الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكَمِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْكَامِلَةِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَتَكْمِيلِهَا لِلنِّظَامِ الْعَامِّ، الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَكْوَانِ، الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ، إِلَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْهِدَايَةِ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِلْحَقِّ الْحَرِيصُ عَلَى طَلَبِهِ، الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ، دُونَ مَنْ أَطْفَأَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى

ص: 156

نُورَ فِطْرَتِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامَ عَقْلِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَشَهْوَتِهِ، الْمُعْرِضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ اسْتِكْبَارًا عَنْهَا، أَوْ حَسَدًا لِلْمُبَلِّغِ الَّذِي جَاءَ بِهَا، أَوْ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَاتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّمَا الْحُجَّةُ عِلْمٌ وَبَيَانٌ، لَا قَهْرٌ وَلَا إِلْزَامٌ، وَمَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَإِلَّا فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَقَامَ أَمْرَ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَهِيَ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ أَوِ الْقَهْرُ وَالْإِلْزَامُ - لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ بِجَعْلِكُمْ كَذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مَفْطُورِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَطَاعَةِ الرَّبِّ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) أَوْ بِخَلْقِ الطَّاعَةِ فِيكُمْ بِغَيْرِ شُعُورٍ مِنْكُمْ وَلَا إِرَادَةٍ كَجَرَيَانِ دِمَائِكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ، وَهَضْمِ مِعَدِكُمْ لِطَعَامِكُمْ، أَوْ مَعَ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَضَتِ الْحِكْمَةُ وَسَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنْ يُخْلَقَ مُسْتَعِدًّا لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنُهُ يُرَجِّحُ بَعْضَ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ عَلَى بَعْضِ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُهُ لِأَحَدِ النَّجْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَنْفِي مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى وَلَا يُعَارِضُهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا)(107) وَقَوْلُهُ مِنْهَا أَيْضًا: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)(35) وَأَيْضًا (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(39) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)(5: 48) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(11: 118، 119) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(10: 99) فَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كُلُّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ جَمِيعًا لَا لَهُمَا.

وَقَدْ تَمَارَى الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَذَاهِبِهِمَا فِي

إِنْكَارِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ كَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي نَفْيِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِثْبَاتِ الْأَشْعَرِيَّةِ لَهُمَا. وَقَدْ جَمَعْنَا فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا بَيْنَ رَدِّ الشُّبْهَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِهِمَا إِلَى الْيَوْمِ كَثِيرُونَ يَنْتَمُونَ إِلَى مَذَاهِبَ مَا لَهُمْ بِهَا مِنْ عِلْمٍ.

وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَاتِ لِيُعْرَفَ مِنْهُ ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ احْتِجَاجَهُمْ كَمَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ بِعَيْنِهِ مَا نَصُّهُ: أَيْ جَاءُوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللهَ عز وجل رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا، وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُودَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ، وَهُوَ تَكْذِيبُ اللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ اهـ.

ص: 157

وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ خُصُومُهُمُ الْأَشْعَرِيَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْفِ بَلْ أَثْبَتَتْ وُقُوعَ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مِمَّنْ فَعَلَهُ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ عَلَيْهِ لِإِتْيَانِهِ إِيَّاهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بِمَعْنَى الرِّضَا وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ، وَقَرَّرَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْمُشْرِكِينَ بِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِهِمْ لِمَا حَرَّمُوا، بِدَلِيلِ مَشِيئَتِهِ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ احْتَجَّ السَّلَفُ بِالْآيَةِ عَلَى مُنْكِرِي الْقَدَرِ قَبْلَ حُدُوثِ مَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَقَدْ رَوَى أَكْثَرُ مُدَوِّنِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِقَدَرٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ هَذِهِ الْآيَةُ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ الْأَخِيرَةِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَدِّ الْآيَةِ عَلَى شُبْهَتِهِمْ: أَيْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللهُ بَأْسَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ انْتَهَى. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَذَّبَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللهَ رَضِيَ مِنْهُمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، لَا بِقَوْلِهِمْ:(لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَخْ. فَإِنَّهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ، أَيْ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ

أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِتَشْبِيهِهِ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِرُسُلِ اللهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارِ الشِّرْكِ، وَمَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُضْطَرِبَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ عِبَارَاتِهِ فِي الْجَلَاءِ. وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهَا أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ عِلَلًا أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ (قَالَ) :" وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ " وَمَا قَالَ هَذَا إِلَّا مِنْ شُعُورٍ بِضِعْفِ الْعِبَارَةِ وَأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْهَمُ بِسُهُولَةٍ.

وَقَدْ جَارَى أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ صَاحِبَ الْكَشَّافِ عَلَى جَعْلِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ عَيْنَ شُبْهَةِ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مُبْطِلَتَيْنِ لِمَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُجْبِرَةِ جَمِيعًا، فَقَالَ فِي الِانْتِصَافِ مَا نَصُّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ اخْتِيَارَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ، وَأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى اللهِ وَرُسُلِهِ بِذَلِكَ، فَرَدَّ اللهُ قَوْلَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ عَدَمَ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُمْ بِهَذَا الْخَيَالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ وَأَشْرَكَ بِاللهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى أَنَّهُ

ص: 158

إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَرَامَ إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ لَهُ لَا لَهُمْ بِقَوْلِهِ:(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) ثُمَّ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّ كُلًّا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنْهُمْ إِلَّا مَا صَدَرَ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مِنْهُمُ الْهِدَايَةَ لَاهْتَدَوْا أَجْمَعُونَ بِقَوْلِهِ:(فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَحَضَّ وَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَتَلَخَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَعُمُومِ تَعَلُّقِهَا بِكُلِّ كَائِنٍ عَنِ الرَّدِّ وَيَنْصَرِفَ الرَّدُّ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى إِقَامَتِهِمُ الْحُجَّةَ بِذَلِكَ. وَإِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ وَجَدْتَهَا كَافِيَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْهُورٌ عَلَيْهَا، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُجْبِرَةِ، وَالْمُصَنِّفُ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ فَيُسَمِّي أَهْلَ السُّنَّةِ مُجْبِرَةً وَإِنْ أَثْبَتُوا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً ; لِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُونَهَا مُقَارِنَةً لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، مُمَيِّزَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَفْعَالِهِ الْقَسْرِيَّةِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ سِوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْبِرَةِ وَيَجْعَلُهُ لَقَبًا عَامًّا لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَجِمَاعُ الرَّدِّ عَلَى الْمُجْبِرَةِ

الَّذِينَ مَيَّزْنَاهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ رَدٌّ صُرَاحٌ عَلَى طَائِفَةِ الِاعْتِزَالِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَاءَ الْهِدَايَةَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ تَقَعْ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ (لَوْ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ نَفَتْهُ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ:(فَلَوْ شَاءَ) لَمْ يَكُنِ الْوَاقِعُ أَنَّهُ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ، وَلَوْ شَاءَهَا لَوَقَعَتْ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِبُطْلَانِ زَعْمِهِمْ وَمَحَلِّ عَقْدِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ عَقِيدَةِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ: الْمُجْبِرَةِ فِي أَوَّلِهَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي آخِرِهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ السُّنَّةِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا ; فَإِنَّ أَوَّلَهَا كَمَا بَيَّنَّا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ حُجَّتَهُ وَعُذْرَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَآخِرُهَا يُثْبِتُ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ فِي الْعَبْدِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ خَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ عَيْنُ عَقِيدَتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ كَمَا يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَهُمَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثُبُوتَهُمَا قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِ، مُلْزِمٌ لَهُ بِالطَّاعَةِ عَلَى وَفْقِ اخْتِيَارِهِ، وَيُثْبِتُونَ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ أَيْضًا وَقُدْرَتَهُ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ، يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَ وَيَنْفُونَ مَا نَفَى، مُؤَيِّدُونَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ أَجَادَ إِلَّا فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، فَهَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْأَثَرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَبَعْضُ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِهِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ

ص: 159

الَّذِي رَبَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالْوُجْدَانِ وَالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِهِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَغَيْرِهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُطَالِبَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَسَاهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي إِثْبَاتِ تَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ الْحَزْرِ وَالْخَرْصِ لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ وَلَا الشُّهُودِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّقْلِ عَنْ ذِي عِلْمٍ شُهُودِيٍّ فَقَالَ لَهُ:(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا) أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ عِلْمٍ شُهُودِيٍّ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الَّذِي زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ، وَهُوَ طَلَبُ تَعْجِيزٍ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ، فَهُوَ كَالِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَبْلَهُ، وَكَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ:(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا)(144) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ هَاتُوا

شُهَدَاءَ لِيُحْضِرُوا أَيَّ امْرِئٍ يَقُولُ مَا شَاءَ، فَإِضَافَةُ الشُّهَدَاءِ إِلَيْهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ إِحْضَارُهُ هُوَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ تَتَلَقَّى عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَجْعَلُ النَّظَرِيَّاتِ كَالْمَشْهُودَاتِ بِالْحِسِّ، أَوْ كَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الدِّينَ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُونُوا أَنْتُمْ عَلَى عِلْمٍ تُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ عِنْدَكُمْ شُهَدَاءُ تَلَقَّيْتُمْ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فَأَحْضِرُوهُمْ لَنَا، لِيَدُلُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي قَلَّدْتُمُوهُمْ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ:(فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أَيْ فَإِنْ فُرِضَ إِحْضَارُ شُهَدَاءَ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، أَيْ فَلَا تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ وَلَا تُسِلِّمْهَا لَهُمْ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهَا فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْبَاطِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ كَالشَّهَادَةِ بِهِ، بَلْ بَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ زَعْمِهِمُ الَّذِي سَمَّوْهُ شَهَادَةً - فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْفُرُوضِ تُذْكَرُ لِأَجْلِ التَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَتْ كَمَا يَزْعُمُ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ فِيهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أَيْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ لَمْ يَقُلْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، لِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ - إِصْرَارًا عَلَى تَقَالِيدِهِ الْبَاطِلَةِ - إِنَّمَا يَكُونُ صَاحِبَ هَوًى وَظَنٍّ لَا صَاحِبَ عِلْمٍ وَحُجَّةٍ.

(وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أَيْ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَيَحْمِلُهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فَيَتَّخِذُونَ لَهُ مَثَلًا وَعِدْلًا يُعَادِلُهُ وَيُشَارِكُهُ فِي جَلْبِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِقْلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَبِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ " هَلُمَّ " اسْمٌ بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَالِيَةِ

ص: 160

نَجْدٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ أَصْلَهُ " هَا " الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَ " لُمَّ " الَّتِي بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَفِعْلُهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَيُقَالُ: هَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا.

(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ

نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ بِهِ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّعَامِ - ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَجَامِعَهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ وَالْبِرِّ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:

(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أَيْ قُلْ - أَيُّهَا الرَّسُولُ - لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْخَرْصِ وَلِلتَّخْمِينِ فِي دِينِهِمْ، وَلِلْهَوَى فِيمَا يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَيْضًا بِمَا لَكَ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ: تَعَالَوْا إِلَيَّ وَأَقْبِلُوا عَلَيَّ أَتْلُ وَأَقْرَأْ لَكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الرَّبَّ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا أَنَا

ص: 161

مُبَلِّغٌ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، أَرْسَلَنِي لِذَلِكَ وَعَلَّمَنِي - عَلَى أُمِّيَّتِي - مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ، وَأَيَّدَنِي بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ خَصَّ التَّحْرِيمَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي بَيَّنَ بِهَا التِّلَاوَةَ أَعَمُّ لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يُحَرِّمَ غَيْرُ اللهِ ; وَلِأَنَّ بَيَانَ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّ مَا عَدَاهَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأُصُولِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ هَذَا الْحَلَالِ الْعَامِّ. وَأَصْلُ (تَعَالَوْا) وَ (تَعَالَ) الْأَمْرُ مِمَّنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَنْ دُونَهُ بِأَنْ يَتَعَالَى وَيَصْعَدَ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْأَمْرِ فِي الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا.

وَاسْتِعْمَالُ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ مِنْ ضُرُوبِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ إِلَّا إِذَا كَثُرَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَرِينَةٍ، وَلَمْ يُنْظُرْ فِيهِ إِلَى عَلَاقَةٍ كَهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهِيَ فِيهِ خِطَابٌ مِمَّنْ هُوَ فِي أَعْلَى مَكَانٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى لِمَنْ هُمْ فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَمُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَسْمُو إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْجَهْلِ وَالْآثَامِ.

وَقَوْلُهُ: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا حَرَّمَ الرَّبُّ وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضَهُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ، وَبَعْضَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ حَسَبَ مَا تَقْضِيهِ الْبَلَاغَةُ كَمَا سَيَأْتِي، وَ " أَنْ " تَفْسِيرِيَّةٌ، وَنَدَعُ النُّحَاةَ فِي اضْطِرَابِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ مَا فِي حَيِّزِهَا مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، فَنَحْنُ لَا يَعْنِينَا إِلَّا فَهْمُ الْمَعَانِي مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ كَانَ صَحِيحًا مُطَّرِدًا، وَمَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَسَنُرِيكَ فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، مَا يُغْنِيكَ عَنْ تَحْقِيقِ السَّعْدِ، وَحَلِّ إِشْكَالَاتِ أَبِي حَيَّانَ.

بَدَأَ تَعَالَى هَذِهِ الْوَصَايَا بِأَكْبَرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْظَعِهَا وَأَشَدِّهَا إِفْسَادًا لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لَهُ، أَوِ الشُّفَعَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ فِي إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفِينَ لَهَا فِي الْأَعْمَالِ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ وَأَصْنَامٍ أَوْ قُبُورٍ - أَوْ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ الْأَحْكَامَ، وَيَتَحَكَّمُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - وَكَذَا مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ الْخَفِيُّ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ - وَكُلُّ ذَلِكَ وَاضِحٌ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَتَفْسِيرِهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَوَّلُ مَا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ - أَوْ - أَوَّلُ مَا وَصَّاكُمْ بِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَاحِقُ الْكَلَامِ، هُوَ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فِي الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ عَظِيمَةً فِي الْقَدْرِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَإِنَّمَا عِظَمُ الْأَشْيَاءِ الْعَاقِلَةِ وَغَيْرِ الْعَاقِلَةِ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مِنْ خَلْقِ اللهِ وَمُسَخَّرَةً بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ الْعَاقِلِ مِنْهَا مِنْ عَبِيدِهِ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) - أَوْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ صَغِيرَهُ أَوْ كَبِيرَهُ - وَمُقَابِلُهُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَا بِأَهْوَائِكُمْ، وَلَا بِأَهْوَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَمْثَالِكُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ

ص: 162

الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ.

(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ وَالثَّانِي مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَنْ

تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا كَامِلًا لَا تَدَّخِرُونَ فِيهِ وُسْعًا، وَلَا تَأْلُونَ فِيهِ جَهْدًا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْإِسَاءَةِ وَإِنْ صَغُرَتْ، فَكَيْفَ بِالْعُقُوقِ الْمُقَابِلِ لِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْقِرَانُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي أَوْسَعُ تَفْصِيلٍ فِيهِ فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ " أُفٍّ " لَهُمَا وَقَدِ اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْإِحْسَانِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَابِلِهِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْإِسَاءَةُ مُطْلَقًا، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فَيَحْتَاجَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فِي مَقَامِ الْإِيجَازِ ; لِأَنَّهَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْآدَابُ الْمَرْعِيَّةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَعَدَّى بِـ " الْبَاءِ " وَ " إِلَى " فَيُقَالُ: أَحْسِنْ بِهِ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَالْأُولَى أَبْلَغُ، فَهُوَ بِالْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى أَلْيَقُ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنْتَ بِهِ هُوَ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ بِرُّكَ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِكَ، وَيَلْتَصِقُ بِهِ مُبَاشَرَةً عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْكَ وَعَدَمِ انْفِصَالٍ عَنْكَ - وَأَمَّا مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تُسْدِي إِلَيْهِ بِرَّكَ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ يُسَاقُ إِلَيْهِ سَوْقًا. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي تَعْبِيرَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عليه السلام فِي سُورَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ:(هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ)(12: 100) . (وَالثَّانِي) التَّعْبِيرُ بِالْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَرْبَعِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ عَطَفَ فِيهِمَا ذُو الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِالتَّبَعِ - وَالْأَنْعَامِ وَالْإِسْرَاءِ. وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا)(46: 15) كَمَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مِنَ السَّبْعَةِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (حُسْنًا) كَآيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي رُوِيَتْ كَلِمَةُ إِحْسَانًا فِيهَا مِنَ الشَّوَاذِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ فِيهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنَا.

وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وَلَوْ غَيْرَ مُكَرَّرٍ لَكَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ عِنَايَةِ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ، بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ وَالتَّعْدِيَةُ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَرَنَهُ بِعِبَادَتِهِ وَجَعَلَهُ ثَانِيهَا فِي الْوَصَايَا، وَأَكَّدَهُ بِمَا أَكَّدَهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي وَصِيَّةِ سُورَةِ لُقْمَانَ فَقَالَ:(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)(31: 14) وَوَرَدَ فِي مَعْنَى التَّنْزِيلِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَكْتَفِي مِنْهَا بِحَدِيثِ

عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:

"

ص: 163

الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا " وَفِي رِوَايَةٍ لِوَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ: " قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " فَقَدَّمَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ. ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَعَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي بِرِّ وَالِدَيْهِ وَالْإِحْسَانِ بِهِمَا كَانَ فَاسِدَ الْفِطْرَةِ مِضْيَاعًا لِلْحُقُوقِ كُلِّهَا فَلَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ لِأَحَدٍ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى جَعَلُوا مِنْ مُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَعَهُمَا كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ مَعَ السَّيِّدِ الْقَاسِي الظَّالِمِ، وَقَدْ أَطْمَعُوا بِذَلِكَ الْآبَاءَ الْجَاهِلِينَ الْمَرِيضِي الْأَخْلَاقِ حَتَّى جَرَّءُوا ذَا الدِّينِ مِنْهُمْ عَلَى أَشَدِّ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ ضُعَفَاءُ الدِّينِ مِنَ الْقَسْوَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فِي الصِّغَرِ، وَإِلْجَاءٌ لَهُمْ إِلَى الْعُقُوقِ فِي الْكِبَرِ، وَإِلَى ظُلْمِ أَوْلَادِهِمْ كَمَا ظَلَمَهُمْ آبَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ وَتَحَكُّمِهِمَا فِي شُئُونِهِمْ وَلَا سِيَّمَا تَزْوِيجُهُمْ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ صَفْحَةَ 70 وَمَا بَعْدَهَا ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَكَمْ أَفْسَدَتِ الْأُمَّهَاتُ بَنَاتِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّهِمَا وَاحْتِرَامِهِمَا احْتِرَامَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ، لَا احْتِرَامَ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَسَنُفَصِّلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا.

(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أَيْ وَالثَّالِثُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ - مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ - أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمُ الصِّغَارَ مِنْ فَقْرٍ وَاقِعٍ بِكُمْ لِئَلَّا تَرَوْهُمْ جِيَاعًا فِي حُجُورِكُمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، أَيْ وَيَرْزُقُهُمْ بِالتَّبَعِ لَكُمْ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)(17: 31) فَقَدَّمَ رِزْقَ الْأَوْلَادِ هُنَالِكَ عَلَى رِزْقِ الْوَالِدَيْنِ - عَكْسُ مَا هُنَا - لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَكُونُ الْأَوْلَادُ فِيهِ كِبَارًا كَاسِبِينَ. وَقَدْ يَصِيرُ الْوَالِدُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْكَسْبِ بِالْكِبَرِ. فَفَرَّقَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ وَالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ، فَقَدَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمَانَ الْكَاسِبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كَسْبَ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلرِّزْقِ خِلَافًا لِمَنْ يُزَهِّدُونَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِشِبْهِ كَفَالَتِهِ تَعَالَى لِرِزْقِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّكْتَةَ مِنْ

بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)(137) .

(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أَيْ وَالرَّابِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْرَبُوا مَا عَظُمَ قُبْحُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْخِصَالِ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَنِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهَا سُمِّيَ فِي التَّنْزِيلِ فَاحِشَةً، فَهُوَ مِمَّا ثَبَتَتْ شِدَّةُ قُبْحِهِ شَرْعًا

ص: 164

وَعَقْلًا، وَلِذَلِكَ يَسْتَتِرُ بِفِعْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَهُمَا، وَقَلَّمَا يُجَاهِرُ بِهِمَا إِلَّا الْمُسْتَوْلِغُ مِنَ الْفُسَّاقِ الَّذِي لَا يُبَالِي ذَمًّا وَلَا عَارًا إِذَا كَانَ مَعَ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمَا لَدَى خِيَارِ النَّاسِ وَفُضَلَائِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ الزِّنَا وَيَعُدُّونَهُ أَكْبَرَ الْعَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ مِنَ الْحَرَائِرِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْهُنَّ نَادِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُجَاهِرُ بِهِ الْإِمَاءُ فِي حَوَانِيتَ وَمَوَاخِيرَ تَمْتَازُ بِأَعْلَامٍ حُمْرٍ فَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا أَرَاذِلُهُمْ، وَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ فَيَزْنُونَ سِرًّا مِمَّنْ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَخْدَانِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) (4: 25) وَالْخِدْنُ الصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيُعَبِّرُونَ بِمِصْرَ عَنْ خِدْنِ الْفَاحِشَةِ بِالرَّفِيقَةِ وَالرَّفِيقِ، وَعَنِ الْمُخَادَنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ، وَهُوَ عِنْدَ فُسَّاقِهِمْ فَاشٍ وَلَا سِيَّمَا الْأَغْنِيَاءُ مِنْهُمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِالزِّنَا فِي السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللهُ الزِّنَا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، أَيْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْفَوَاحِشِ بِبَعْضِ أَفْرَادِهَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ (قَالَ) : الْعَلَانِيَةُ. وَمَا بَطَنَ. . قَالَ: السِّرُّ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا ظَهَرَ مِنْهَا نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " أَرَأَيْتُمُ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَشَارِبَ الْخَمْرِ مَا تَقُولُونَ فِيهِمْ "؟ - قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الرَّهَاوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلَاهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَسْأَلَةُ النَّاسِ مِنَ الْفَوَاحِشِ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فَإِذَا نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ. نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا: وَلَدَتْ لَهُ: وَأَخْرَجَ هُوَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ. مَا ظَهَرَ مِنْهَا ظُلْمُ النَّاسِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ. أَيْ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَهَا فِي الْخَفَاءِ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ " فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُفَسِّرِي

السَّلَفِ فِي جُمْلَتِهِمْ يَحْمِلُونَ الْفَوَاحِشَ عَلَى عُمُومِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْهَا أَمْثِلَةٌ لَا تَخْصِيصٌ.

وَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)(120) مِنَ الْوُجُوهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا فَيُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (120) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا الْجُزْءِ، إِلَّا أَنَّ الْإِثْمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَاحِشَةِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ ضَارٍّ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فَحُشَ قُبْحُهُ أَمْ لَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحْسِنِينَ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (53: 32) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(7: 33) قِيلَ: إِنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكُلِّيَّةَ وَهِيَ عَلَى التَّرَقِّي فِي قُبْحِهَا كَمَا سَيَأْتِي

ص: 165

فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا.

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ وَالْخَامِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَوِ الْعَهْدِ أَوِ الِاسْتِئْمَانِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا الْحَرْبِيَّ.

وَيُطْلَقُ الْعَهْدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ وَإِيذَائِهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدَ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللهِ فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ خَرِيفًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ:(إِلَّا بِالْحَقِّ) هُوَ مَا يُبِيحُ الْقَتْلَ شَرْعًا كَقَتْلِ الْقَاتِلِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ.

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَصَايَا الْخَمْسِ الَّتِي تُلِيَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّامُ فِيهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُعْدِ مَدَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصَايَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ - أَوْ بَعْدَهَا عَنْ مُتَنَاوَلِ أَوْضَاعِ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْأُمِّيَّةِ. وَالْوَصِيَّةُ مَا يُعْهَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَرْكِ شَرٍّ بِمَا يُرْجَى تَأْثِيرُهُ، وَيُقَالُ: أَوْصَاهُ وَوَصَّاهُ. وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ عِبَارَةً عَمَّا يُطْلَبُ مِنْ عَمَلٍ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ. وَأَصْلُ مَعْنَى " وَصَى " الثُّلَاثِيِّ " وَصَلَ "، وَمُوَاصَاةُ الشَّيْءِ مُوَاصَلَتُهُ. وَهُوَ خَاصٌّ بِالنَّافِعِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. يُقَالُ: وَصَى النَّبْتُ اتَّصَلَ وَكَثُرَ، وَأَرْضٌ وَاصِيَةُ النَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُدُرَيْدٍ فِي وَصْفِ صَيِّبِ الْمَطَرِ.

جَوْنٌ أَعَارَتْهُ الْجَنُوبُ جَانِبًا

مِنْهَا وَوَاصَتْ صَوْبَهُ يَدُ الصَّبَا

أَيْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْدَادِكُمْ وَبَاعِثِ الرَّجَاءِ فِي أَنْفُسِكُمْ لِأَنْ تَعْقِلُوا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَنْفَعَةُ فِي تَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ وَإِدْرَاكِ الْعُقُولِ لَهُ بِنَظَرِهَا، وَإِذَا هِيَ عَقَلَتْ ذَلِكَ كَانَ عَاقِلًا لَهَا وَمَانِعًا مِنَ الْمُخَالَفَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا تُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ لِلْأَنْظَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ مُصْلِحَةٌ.

(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أَيْ وَالسَّادِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ فِيمَا حَرَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيتُمْ أَمْرَهُ أَوْ تَعَامَلْتُمْ بِهِ وَلَوْ بِوَسَاطَةِ وَصِيِّهِ أَوْ وَلِيِّهِ، إِلَّا بِالْفِعْلَةِ أَوِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا يُفْعَلُ بِمَالِهِ، مِنْ حِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ

ص: 166

وَتَنْمِيَتِهِ وَرُجْحَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ مَعَاشُهُ وَمَعَادُهُ، وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهِ وَتُوقِعُ فِيهِ، وَعَنِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فِيهِ، فَيَحْذَرُهَا التَّقِيُّ إِذْ يَعُدُّهَا هَضْمًا لِحَقِّ الْيَتِيمِ، وَيَقْتَحِمُهَا الطَّامِعُ إِذْ يَرَاهَا بِالتَّأْوِيلِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ لِعَدَمِ ضَرَرِهَا بِالْيَتِيمِ، أَوْ لِرُجْحَانِ نَفْعِهَا لَهُ عَلَى ضَرَرِهَا، كَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِوَسِيلَةٍ لَهُ فِيهِ رِبْحٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فِي عَمَلٍ لَوْلَاهُ لَمْ يَرْبَحْ وَلَمْ يَخْسَرْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ فِي الْيَتَامَى مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَتَفْسِيرِ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (2: 220) مِنَ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ هُنَا فِي تَحْرِيرِ مَسْأَلَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَمُخَالَطَتِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَالْمُعَامَلَةِ. (رَاجِعْ ص271 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ)

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) هُوَ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ هَذَا الْقُرْبِ لِمَالِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْهِيبِ عَنِ التَّعَامُلِ فِيهِ - أَوْ غَايَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ النَّهْيَ مِنْ إِيجَابِ حِفْظِ مَالِهِ حَتَّى مِنْهُ هُوَ ; فَإِنَّ الْوَلِيَّ أَوِ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْمَحَ لِلْيَتِيمِ بِتَبْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِضَاعَتِهِ أَوِ الْإِسْرَافِ فِيهِ. وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهِ سِنَّ الرُّشْدِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ يَتِيمًا أَوْ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ، أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، أَوْ لَهُ وَاحِدٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْأَشُدُّ مَبْلَغُ الرَّجُلِ الْحِنْكَةَ وَالْمَعْرِفَةَ - وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِنَا أَوْ حُجَّةٌ لَهُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ: بَلَغَ الرَّجُلُ أَشُدَّهُ إِذَا اكْتَهَلَ، وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ أَقْوَالًا

فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ بَلَغَتْ ثُلْثَيْ وَرَقَةٍ مِنْهُ، وَمُلَخَّصُ الْمَعْنَى أَنَّ لَهُ طَرَفَيْنِ أَدْنَاهُمَا الِاحْتِلَامُ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ سِنِّ الْقُوَّةِ وَالرُّشْدِ، وَنِهَايَتُهُ سِنُّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ الْكُهُولَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ لِلْمَرْءِ حِنْكَتُهُ وَتَمَامُ عَقْلِهِ - قَالَ - فَبُلُوغُ الْأَشُدِّ مَحْصُورُ الْأَوَّلِ مَحْصُورُ النِّهَايَةِ غَيْرُ مَحْصُورِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: يَعْنِي حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَالِاحْتِلَامُ يَكُونُ غَالِبًا بَيْنَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَشُدُّ سِنُّ الثَّلَاثِينَ، وَقِيلَ: سِنُّ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: السِّتِّينَ. وَالْأَخِيرُ بَاطِلٌ، وَمَا قَبْلَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)(46: 15) وَلَكِنْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا لَا يَظْهَرُ هُنَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَيْهِ وَهَضْمٍ لَهُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ الْخَطَابَ فِيهِ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ خَاصَّةً، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ جَعْلُ (حَتَّى) غَايَةً لِلنَّهْيِ، وَجَعْلُ " الْأَشُدِّ " بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ سِنُّ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ بِالتَّجَارِبِ، وَالْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالِاحْتِلَامِ يَكُونُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ قَلِيلَ التَّجَارِبِ فَيُخْدَعُ كَثِيرًا. وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ

ص: 167

لَا يَحْتَرِمُونَ إِلَّا الْقُوَّةَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ إِلَّا لِلْأَقْوِيَاءِ، فَلِذَلِكَ بَالَغَ الشَّرْعُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالضَّعِيفَيْنِ: الْمَرْأَةِ، وَالْيَتِيمِ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْقُوَّةُ الَّتِي يَحْفَظُ بِهَا الْمَرْءُ مَالَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ قُوَّةَ الْبَدَنِ مَعَ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ قَلَّمَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ، وَأَمَّا هَذَا الزَّمَانُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ فِيهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ رَشِيدًا فِي أَخْلَاقِهِ وَعَقْلِهِ وَتَجَارِبِهِ لِكَثْرَةِ الْغِشِّ وَالْحِيَلِ، وَإِنَّ سَفَهَ الشُّبَّانِ الْوَارِثِينَ فِي مِصْرَ مَضْرِبُ الْمَثَلِ، فَأَكْثَرُ الشُّبَّانِ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَغْنِيَاءِ مُسْرِفُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، فَمَتَى مَاتَ مَنْ يَرِثُونَهُ أَقْبَلَ عَلَى مُعَاشَرَتِهِمْ أَخْدَانُ الْفِسْقِ وَسَمَاسِرَتُهُ وَمَنْهُومُو الْقِمَارِ، فَلَا يَتْرُكُونَهُمْ إِلَّا فُقَرَاءَ مَنْبُوذِينَ، وَقَلَّمَا يَسْتَيْقِظُ أَحَدُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِ إِلَّا مِنْ سِنِّ الْكُهُولَةِ الَّتِي يَكْمُلُ فِيهَا الْعَقْلُ وَتُعْرَفُ تَكَالِيفُ الْحَيَاةِ الْكَثِيرَةُ وَيُهْتَمُّ فِيهَا بِأَمْرِ النَّسْلِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّرْعُ لِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ سِنَّ الْحُلُمِ وَالرُّشْدِ مَعًا، وَظُهُورَ رُشْدِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ بِالِاخْتِبَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) إِلَى قَوْلِهِ: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)(4: 6) وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ.

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أَيْ وَالسَّابِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَنْ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ لِلنَّاسِ أَوِ اكْتَلْتُمْ عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَالْمِيزَانُ إِذَا وَزَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِيمَا تَبْتَاعُونَ أَوْ لِغَيْرِكُمْ فِيمَا تَبِيعُونَ، فَلْيَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ وَافِيًا تَامًّا

بِالْقِسْطِ أَيِ الْعَدْلِ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(83: 2، 3) أَيْ يُنْقِصُونَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ. فَهَذَا هُوَ النَّهْيُ الْمُقَابِلُ لِلْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ، فَالْجُمْلَةُ مُوجَزَةٌ، فَكَلِمَةُ (بِالْقِسْطِ) هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ الْإِيفَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ، أَيْ أَوْفُوا مُقْسِطِينَ أَوْ مُلَابِسِينَ لِلْقِسْطِ مُتَحَرِّينَ لَهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ يُقْسَطُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَأَيْنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ! لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الْمِائَةِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ بِلَادِنَا هَذِهِ بَائِعًا يُوفِي الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ لِمُبْتَاعٍ يُسَلِّمُ الْأَمْرَ لَهُ وَيَرْضَى بِذِمَّتِهِ.

(لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حُكْمِ مَا يَعْرِضُ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالْوَرَعِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ فِي الْإِيفَاءِ ; فَإِنَّ أَقَامَّةَ الْقِسْطِ أَمْرٌ دَقِيقٌ جِدًّا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَوَازِينَ كَمِيزَانِ الذَّهَبِ الَّذِي يَضْبِطُ الْوَزْنَ بِالْحَبَّةِ وَمَا دُونَهَا، وَفِي الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْحُبُوبِ وَالْخُضَرِ وَالْفَاكِهَةِ حَرَجٌ عَظِيمٌ يَخْطُرُ فِي بَالِ الْوَرِعِ السُّؤَالُ عَنْ حُكْمِهِ، فَكَانَ جَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا مَا يَسَعُهَا فِعْلُهُ بِأَنْ تَأْتِيَهُ بِغَيْرِ عُسْرٍ وَلَا حَرَجٍ، فَهُوَ لَا يُكَلِّفُ مَنْ يَشْتَرِي أَوْ يَبِيعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَنَحْوِهَا أَنْ يَزِنَهُ وَيَكِيلَهُ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ حَبَّةً وَلَا مِثْقَالًا، بَلْ يُكَلِّفُهُ أَنْ يَضْبِطَ الْوَزْنَ وَالْكَيْلَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ يُعْتَدُّ بِهِ عُرْفًا. وَقَاعِدَةُ الْيُسْرِ

ص: 168

وَحُصْرِ التَّكْلِيفِ بِمَا فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الْعُسْرِ، مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ هَذَا الشَّرْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَقْوَى أَسَاسٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَلَا يُسَاوِيهِ فِيهِ قَانُونٌ مِنْ قَوَانِينِ الْخَلْقِ، وَلَوْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ مُعَامَلَتِهِمْ وَعَظُمَتِ الثِّقَةُ وَالْأَمَانَةُ بَيْنَهُمْ، وَكَانُوا حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ وَالْمُفْسِدِينَ. وَمَا فَسَدَتْ أُمُورُهُمْ وَقَلَّتْ ثِقَتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا ثِقَتُهُمْ بِالْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ إِلَّا بِتَرْكِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا، ثُمَّ تَجِدُ بَعْضَ الْمَارِقِينَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ يَهْذُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ دِينَنَا هُوَ الَّذِي أَخَّرَنَا وَقَدَّمَ غَيْرَنَا! ! . قَدْ قَصَّ التَّنْزِيلُ عَلَيْنَا فِيمَا قَصَّ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ لِنَعْتَبِرَ وَنَتَّعِظَ بِهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِمَا كَانَ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا التَّطْفِيفَ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ: " إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا

هَلَكَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ وَقَالَ: إِنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَرَوَى غَيْرُهُ مَا يُؤَيِّدُهُ.

(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أَيْ وَالثَّامِنُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ هُوَ أَنْ تَعْدِلُوا فِي الْقَوْلِ إِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فِي شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمٍ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَقُولُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ صَاحِبَ قَرَابَةٍ مِنْكُمْ، فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْأَفْعَالِ كَالْوَزْنِ وَالْكَيْلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ شُئُونُ النَّاسِ، فَهُوَ رُكْنُ الْعُمْرَانِ وَأَسَاسُ الْمُلْكِ وَقُطْبُ رَحَى النِّظَامِ لِلْبَشَرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُحَابِيَ فِيهِ أَحَدًا لِقَرَابَتِهِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ الْمُوجَزَ بِآيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ أُولَاهُمَا قَوْلُهُ:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)(4: 135) إِلَخْ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(5: 8) إِلَخْ. فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ وَمُنْتَصَفِ الْجُزْءِ السَّادِسِ (ص370 ج 5 وَمَا بَعْدَهَا وَص226 ج 6 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أَيْ وَالتَّاسِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَنْ تُوفُوا بِعَهْدِ اللهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا عَهِدَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَبِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْوُجْدَانِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَمَا يُعَاهِدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَمَا يُعَاهِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْحَقِّ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ. قَالَ تَعَالَى:(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ)(20: 115) وَقَالَ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)(36: 60) وَقَالَ أَيْضًا وَهُوَ مِنَ الثَّانِي: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)(16: 91) وَقَالَ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(2: 100) وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)(2: 177) فَكُلُّ مَا وَصَّى اللهُ بِهِ وَشَرَعَهُ

ص: 169

لِلنَّاسِ فَهُوَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ. وَمَنْ آمَنَ بِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ فَقَدْ عَاهَدَ اللهَ - بِالْإِيمَانِ بِهِ - أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ فَهُوَ عَهْدٌ عَاهَدَ رَبَّهُ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ)(9: 75، 76) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَاهَدَ الْإِمَامَ وَبَايَعَهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، أَوْ عَاهَدَ غَيْرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ، وَالسُّلْطَانُ يُعَاهِدُ الدُّوَلَ - فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ مِنْ عَهْدِ اللهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا عُقِدَ بِاسْمِهِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِهِ، وَكَذَا تَنْفِيذُ شَرْعِهِ.

وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ هُنَا تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْفِعْلِ " أَوْفُوا " عَلَيْهِ، وَهُوَ يَدُلُّ

عَلَى الْحَصْرِ. وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْحَصْرُ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ، وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُمْ أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ تَفْسِيرُهُمْ لِلْعَهْدِ، بِهَذِهِ الْوَصَايَا أَوْ بِكُلِّ مَا عَهِدَ اللهُ إِلَى النَّاسِ، عَلَى أَنْ تَدْخُلَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي قَاصِرٌ. أَمَّا بُطْلَانُ الْأَوَّلِ ; فَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنَ الْوَصَايَا الْمَقْصُودَةِ الْمَعْدُودَةِ وَلَهُ مَعْنًى خَاصٌّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ عَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا قُصُورُ الثَّانِي، فَظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ. فَالْعَهْدُ إِذًا عَامٌّ لِكُلِّ مَا شَرَعَ اللهُ لِلنَّاسِ، وَكُلِّ مَا الْتَزَمَهُ النَّاسُ مِمَّا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُ شَرْعَهُ، وَيُقَابِلُهُ مَا لَا يُرْضِي اللهَ مِنْ عَهْدٍ كَنَذْرِ الْحَرَامِ، وَالْحَلِفِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمُعَاهَدَةِ الْحَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِلْأُمَّةِ وَهَضْمٌ لِمَصَالِحِهَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي. فَحَصَرَ اللهُ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ فِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُرْضِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُ هَذَا الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْخِطُهُ. وَنَكْتَفِي مِنَ السُّنَّةِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:" أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا - إِذَا حَدَّثَ كَذِبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ".

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (تَذْكُرُونَ) مُخَفَّفَةً مِنَ الذِّكْرِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَمَا قِيلَ ; فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنَ الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ تُعْطِي مَعَانِيَ خَاصَّةً وَيُتَجَوَّزُ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَصِحُّ فِي بَعْضٍ، فَالذِّكْرُ يُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ عَلَى إِخْطَارِ مَعْنَى الشَّيْءِ أَوْ خُطُورِهِ فِي الذِّهْنِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَعَلَى النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ اللِّسَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ، وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (43: 44) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَبِهِ يُسَمَّى الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ذِكْرًا، وَمِنْهُ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

ص: 170

وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَمَعْنَاهُ تَكَلُّفُ ذِكْرِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، أَوِ التَّدَرُّجِ فِيهِ بِفِعْلِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّعَاظِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)(40: 13) وَقَوْلُهُ: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)(87: 10) وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ، وَمِثْلُهُ الِادِّكَارُ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَالِافْتِعَالُ يَقْرُبُ مِنَ التَّفَعُّلِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِفَادَةُ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلَّانِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ.

وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الْمَتْلُوُّ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي - الْبَعِيدَةِ مَدَى الْفَائِدَةِ وَمَسَافَةِ الْمَنْفَعَةِ لِمَنْ قَامَ بِهَا - وَصَّاكُمُ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ رَجَاءَ أَنْ تَذْكُرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ لَكُمْ، فَيَحْمِلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، أَوْ رَجَاءَ أَنْ يُذَكِّرَهُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّوَاصِي الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(103: 3) وَلِكُلٍّ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسِيِّ وَاللِّسَانِيِّ وَجْهٌ هُنَا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا - وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَعَانِي التَّذَكُّرِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَصَّاكُمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذِكْرَ هَذِهِ الْوَصَايَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَنْ كَانَ كَثِيرَ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ أَوْ كَثِيرَ الشَّوَاغِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَنْ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِتِلَاوَةِ آيَاتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَبِغَيْرِ ذَلِكَ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَّعِظَ بِهَا مَنْ سَمِعَهَا وَقَرَأَهَا أَوْ ذَكَرَهَا أَوْ ذُكِّرَ بِهَا، وَبَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَامٌّ يُطْلَبُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا خَاصٌّ.

(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ وَالْعَاشِرُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ، هُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالشَّرْعِ الْحَنِيفِيِّ الْعَذْبِ الْمَوْرِدِ السَّائِغِ الْمَشْرَبِ بِمَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَصَايَا الَّتِي لَا يُكَابِرُ ذُو مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فِي حُسْنِهَا وَفَضْلِهَا - أَوْ - أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ بِهِ إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ: هُوَ صِرَاطِي وَمِنْهَاجِي الَّذِي أَسْلُكُهُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَنَيْلِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أُشِيرُ إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا ظَاهِرَ الِاسْتِقَامَةِ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وَلَا يَهْتَدِي تَارِكُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الْأُخْرَى الَّتِي تُخَالِفُهُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَتَتَفَرَّقُ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِي سَبِيلِ ضَلَالَةٍ مِنْهَا يَنْتَهِي بِهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَلَيْسَ أَمَامَ تَارِكِ النُّورِ إِلَّا الظُّلُمَاتُ. وَقَدْ أُضِيفَ الصِّرَاطُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى اللهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ. وَإِلَى الدُّعَاةِ إِلَيْهِ وَالسَّالِكِينَ لَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِضَافَتَهُ هُنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطِبُ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَفِعْلُهَا مُسْنَدٌ إِلَيْهِ تَعَالَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.

ص: 171

وَقَدْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالنَّهْيِ عَنْ مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَإِنَّ هَذَا صِرَاطِي) بِكَسْرِ هَمْزَةِ " إِنَّ " وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَأَمَّا كَسْرُهَا فَعَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ فِي بَيَانِ وَصِيَّةٍ هِيَ أُمُّ الْوَصَايَا

الْجَامِعَةِ لِمَا قَبِلَهَا، وَلِغَيْرِهَا - وَأَمَّا الْفَتْحُ فَعَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ فَهُوَ يَقُولُ: وَلِأَجْلِ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ، عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْثِرُونَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الِاعْوِجَاجِ، وَتُرَجِّحُونَ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَأَكْثَرُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا " ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: " وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ "، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ الْجَنَّةُ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادُّ (بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ جَادَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ) وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادُّ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، فَمَنْ أُخِذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِّ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ أُخِذَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " ضَرْبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ (أَيْ تَدْخُلُهُ) فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَاعِظَ هُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّاسُ بِالْوُجْدَانِ وَالضَّمِيرِ.

وَقَدْ أَفْرَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهُوَ سَبِيلُ اللهِ، وَجَمَعَ السُّبُلَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ مَا خَالَفَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فَيَشْمَلُ الْأَدْيَانَ الْبَاطِلَةَ مِنْ مُخْتَرَعَةٍ وَسَمَاوِيَّةٍ مُحَرَّفَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ وَالْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ، وَبِهَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ هُنَا، وَالْمَعَاصِيَ كَمَا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَقَدْ نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ فِي صِرَاطِ الْحَقِّ وَسَبِيلِهِ، فَإِنَّ التَّفَرُّقَ فِي الدِّينِ الْوَاحِدِ هُوَ جَعْلُهُ مَذَاهِبَ يَتَشَيَّعُ لِكُلٍّ مِنْهَا شِيعَةٌ وَحِزْبٌ يَنْصُرُونَهُ وَيَتَعَصَّبُونَ لَهُ، وَيُخَطِّئُونَ مَا خَالَفَهُ، وَيَرْمُونَ أَتْبَاعَهُ بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، أَوِ الْكُفْرِ أَوِ الِابْتِدَاعِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِضَاعَةِ الدِّينِ بِتَرْكِ طَلَبِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ

شِيعَةٍ فِيمَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهَا وَيُظْهِرُهَا عَلَى مُخَالِفِيهَا، لَا فِي الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى اسْتِبَانَتِهِ وَفَهْمِ نُصُوصِهِ بِبَحْثِ أَيِّ عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ تَعَصُّبٍ وَلَا تَشَيُّعٍ، وَالْحَقُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا مَحْبُوسًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَالِمٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ

ص: 172

فَكُلُّ بَاحِثٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْمُلْتَزِمِينَ لَهَا مُخَالِفُونَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِصِرَاطِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ الْوَاحِدُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ وَإِلَى مَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُمَا وَآثَرُوا عَلَيْهِمَا قَوْلَ أَيِّ مُؤَلِّفٍ لِكِتَابٍ مُنْتَمٍ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ.

وَلَمَّا كَانَ اتِّبَاعُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الْمُوَحِّدَ لِأَهْلِ الْحَقِّ الْجَامِعَ لِكَلِمَتِهِمْ، وَتَوْحِيدِهِمْ وَجَمْعُ كَلِمَتِهِمْ هُوَ الْحَافِظُ لِلْحَقِّ الْمُؤَيِّدُ لَهُ وَالْمُعِزُّ لِأَهْلِهِ - كَانَ التَّفَرُّقُ فِيهِ بِمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَذُلِّهِمْ وَضَيَاعِ حَقِّهِمْ. فَبِهَذَا التَّفَرُّقِ حَلَّ بِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَا حَلَّ مِنَ التَّخَاذُلِ وَالتَّقَاتُلِ وَالضَّعْفِ وَضَيَاعِ الْحَقِّ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالْهَوَانِ مَا يَتَأَلَّمُونَ مِنْهُ وَيَتَمَلْمَلُونَ وَلَمْ يَرْدَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فَرْقٌ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) حِفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ أَدْنَى تَغْيِيرٍ وَأَقَلِّ تَحْرِيفٍ، وَضَبْطُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ نَظِيرٌ. (وَثَانِيهُمَا) وُجُودُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَتَّبِعُهُ بِالْعَمَلِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا بَشَّرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ قَلُّوا فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ، وَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكَثِّرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَئِمَّتِهِمْ فَقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) وَقَوْلِهِ: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(42: 3) وَنَحْوِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ.

وَقَدْ سَبَقَ لَنَا سَبْحٌ طَوِيلٌ فِي بَحْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ كَتَفْسِيرِ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(3: 103) وَمَا بَعْدَهَا فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ

الرَّابِعِ وَتَفْسِيرِ (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(4: 59) وَتَفْسِيرِ (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(4: 165) وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(5: 3) وَتَفْسِيرِ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا)(6: 65) وَفِيهِ بَحْثٌ مُسْتَفِيضٌ فِي عَذَابِ

ص: 173

هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَيْهَا وَضَعْفِهَا بِالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مَظَانِّهِ وَفَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَسَيُعَادُ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(159) مِنْ بَعْدِ بِضْعِ آيَاتٍ.

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أَيْ ذَلِكُمُ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّهْيِ عَنْ سَبِيلِ الضَّلَالَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ الْمُعْوَجَّةِ، وَهُوَ جَامِعُ الْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْبَعِيدَةِ الْمَرْمَى، الْمُوصِلُ إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنَ السَّعَادَةِ الْعُظْمَى، وَصَّاكُمُ اللهُ بِهِ لِيُعِدَّكُمْ وَيُهَيِّئَكُمْ لِمَا يُرْجَى لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنِ اتِّقَاءِ كُلِّ مَا يُشْقِيهِ وَيُرْدِيهِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْجَامِعَ لِلتَّكَالِيفِ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنَ الطُّرُقِ خَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اتِّقَاءُ النَّارِ ; إِذْ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُ نَجَا النَّجَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَحَصَلَ عَلَى السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ.

وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ التَّقْوَى تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَّقَى مِنَ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُهُ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي التَّنْزِيلِ فِي سِيَاقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَآدَابٍ وَقِتَالٍ، وَسُنَنِ اجْتِمَاعٍ، وَطَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَعِشْرَةٍ وَزَوَاجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهِيَ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ اتِّبَاعِ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ.

وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَوْضِعِ خَتْمِ الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ بِالذِّكْرِ وَالتَّذَكُّرِ وَمَا قَبِلَهُمَا بِالْعَقْلِ. وَبَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ كُلِّهَا رَاجَعْتُ مَا لَدَيَّ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَرَأَيْتُ السَّيِّدَ قَدْ أَتَى بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ فِي نُكَتِ هَذِهِ الْخَوَاتِيمِ لِلْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَهَذَا نَصُّهُ:

وَخُتِمَتِ الْآيَةُ الْأُولَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وَهَذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَقُرْبَانِ الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ (غَيْرَ) مُسْتَنْكِفِينَ وَلَا عَاقِلِينَ قُبْحَهَا، فَنَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ قُبْحَهَا فَيَسْتَنْكِفُوا عَنْهَا وَيَتْرُكُوهَا، وَأَمَّا حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِمْ وَإِيفَادُ الْكَيْلِ وَالْعَدْلُ فِي الْقَوْلِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَفْتَخِرُونَ بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ إِنْ عَرَضَ لَهُمْ نِسْيَانٌ، قَالَهُ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: إِحْسَانُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي أَيْضًا، فَكَيْفَ ذُكِرَ مِنَ الْأَوَّلِ؟ قُلْتُ: أَعْظَمُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ نِعْمَةُ اللهِ تَعَالَى، وَيَتْلُوهُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْمُؤَثِّرَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْهُمَا نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ وَالْحِفْظِ عَنِ الْهَلَاكِ فِي وَقْتِ الصِّغَرِ، فَلَمَّا نَهَى عَنِ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى نَهَى بَعْدَهُ عَنِ الْكُفْرَانِ فِي نِعْمَةِ

ص: 174

الْأَبَوَيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يَرْتَكِبُوا الْكُفْرَانَ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَلَّا يَرْتَكِبُوا الْكُفْرَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ (الرَّازِيُّ) : السَّبَبُ فِي خَتْمِ كُلِّ آيَةٍ بِمَا خُتِمَتْ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَوَجَبَ تَعَقُّلُهَا وَتَفَهُّمُهَا. وَالتَّكَالِيفُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُمُورٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ. انْتَهَى.

(قَالَ الْآلُوسِيُّ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَكْثَرَ التَّكْلِيفَاتِ الْأُوَلِ أُدِّيَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ، وَالْمَرْءُ حَرِيصٌ عَلَى مَا مُنِعَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَلَّلَ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ بِمَا فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحَبْسِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّكْلِيفَاتِ الْأُخَرِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَهَا قَدْ أُدِّيَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ الْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرًا كَمَا فِي النَّهْيِ، فَيَكُونُ تَأْكِيدَاتُ الطَّلَبِ وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ لِيَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَتَذَكَّرَ إِذَا نَسِيَ فَلْيُتَدَبَّرْ اهـ.

وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذِهِ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةَ الشَّأْنِ بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِيهَا نَقْلًا عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَلَيْهِ خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟ - ثُمَّ تَلَا (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ - ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجُرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ آخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَلْقَى صَحِيفَةً مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِخَاتَمٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ

رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ إِلَى مِنًى وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَوَقَفَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَمَضَارِبِهِمْ بِمِنًى فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَرَدُّوا السَّلَامَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقٌ، وَكَانَ مَفْرُوقٌ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي

ص: 175

وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ حَقَّ اللهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) إِلَى قَوْلِهِ: (تَتَّقُونَ) فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَوَاللهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)(16: 90) الْآيَةَ. فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللهِ يَا قُرْشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ. وَقَالَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَيُعْجِبُنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ - يَعْنِي أَرْضَ فَارِسٍ وَأَنْهَارَ كِسْرَى - وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا

مُنِيرًا) (33: 45، 46) الْآيَةَ. ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَابِضًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ.

(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ)

ص: 176

كَانَتِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُجَجِ اللهِ الْأَدَبِيَّةِ عَلَى حَقِيَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، قَفَّى بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أُصُولِ هَذَا الدِّينِ، وَدَحْضِ شُبُهَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُمْتَرِينَ، وَلَمَّا كَمُلَتْ بِذَلِكَ حُجَجُ السُّورَةِ وَبَيِّنَاتُهَا حَسُنَ أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا عَلَى مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْهِدَايَةِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَإِعْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا هُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَقَدِ افْتُتِحَ هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ بِذِكْرِ مَا يُشْبِهُ الْقُرْآنَ فِي شَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ مِمَّا اشْتُهِرَ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ كِتَابُ مُوسَى عليه السلام فَقَالَ عز وجل:

(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّشَابُهِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْلَمُونَ

أَنَّ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ اسْمُهُ التَّوْرَاةُ، وَلَهُمْ رَسُولٌ اسْمُهُ مُوسَى، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ يَتَمَنَّى لَوْ يُؤْتَى الْعَرَبُ مِثْلَمَا أُوتِيَ الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِثْلُ كِتَابِهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ انْتِفَاعًا ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ.

وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَدْءِ هَذِهِ الْآيَةِ بِـ (ثُمَّ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا عُطِفَ بِهَا عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهِ. فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ عَطْفَ عَلَى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) بِحَذْفِ (قُلْ) وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَوَصَّاكُمْ بِهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا - ثُمَّ قُلْ لَهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى (وَصَّاكُمْ) بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدِيمَةٌ وَصَّى اللهُ بِهَا جَمِيعَ الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وَهُوَ أَبْعَدُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ إِيضَاحُهُ بِأَنَّ مُوسَى أُعْطِيَ الْكِتَابَ - بَعْدَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا - فِيهِ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلِيَّةَ تَجِيءُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ - وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَأْيَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا، وَقَالَ: إِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ

ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) عَطْفٌ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ

ص: 177

كَقَوْلِهِ: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)(46: 12) وَقَوْلِهِ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)(91) وَبَعْدَهَا (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) الْآيَةَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ.

فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْعَطْفِ وَكَوْنِهِ بِـ (ثُمَّ) لَخَّصْنَاهُ بِأَقْرَبِ تَصْوِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَقْوَالَهُمْ بِتَصَرُّفٍ، جَعَلَهَا فِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ، كَمَا نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ بِإِيجَازٍ مُخِلٍّ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ مُرَادُهُ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ نَظَرًا.

وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ أَنَّ (ثُمَّ) لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ لَا لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَمَا جَعَلَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهِ أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ بِثُمَّ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ كَمَا يُرَاعَى فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ وَعَطْفِ الْمُفْرَدِ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخَرَ كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)(39: 6) وَالْبَيْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ تَرْتِيبٌ لِتَسَلْسُلِ السِّيَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَمْدُوحِ بِطَرِيقِ التَّرَقِّي بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَبْلَهُ فِي الْأَبِ ثُمَّ قَبْلَهُ فِي الْجِدِّ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جُمْلَةَ (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) فِعْلِيَّةٌ، وَجُمْلَةَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فِيهَا قِرَاءَتَانِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ هَمْزَةَ " إِنَّ "، وَإِنْشَائِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ جَعَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَيْهَا هُوَ الصَّوَابَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي صِحَّتِهِ وَفَصَاحَتِهِ اللَّائِقَةِ بِالتَّنْزِيلِ وَجَزَمَ بِأَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فِيهِ نَظَرٌ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّأْوِيلِ؟ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَقْفَةٌ لِصَاحِبِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا تَقْدِيرُ كَلِمَةِ (قُلْ) وَلَكِنَّ قَرِينَتَهُ ظَاهِرَةٌ. وَأَنَّ أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْرَاةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرِيعَةً كَامِلَةً، وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ لَيْسَا كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِ عِظَاتٌ وَأَمْثَالٌ، وَأَكْثَرُ الثَّانِي ثَنَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ.

وَمِنَ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا التِّسْعَ أَوِ الْعَشْرَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَنَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْوَصَايَا الْعَشْرَ الْمَشْهُورَةَ كَانَتْ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام مِنْ أُصُولِ الدِّينِ قَبْلَ تَفْصِيلِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَوَصَايَا الْقُرْآنِ أَجْمَعُ لِلْمَعَانِي، فَهِيَ تَبْلُغُ الْعَشَرَاتِ إِذَا فُصِّلَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ وَصَايَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ هَنَا عَيْنُ وَصَايَا التَّوْرَاةِ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ نَصَّ

ص: 178

وَصَايَا التَّوْرَاةِ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ لِيُعْرَفَ بِهِ صِحَّةُ قَوْلِنَا وَغِشُّ كَعْبٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ:

" أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ (1) لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي (2) لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَلَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَلَا مَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ، لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَهٌ غَيُّورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الْآبَاءِ

فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ (3) لَا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِكَ بَاطِلًا، لِأَنَّ الرَّبَّ لَا يُبَرِّئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا (4) اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ، سِتَّةُ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ، لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ، لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ; لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ (5) أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ (6) لَا تَقْتُلْ (7) لَا تَزْنِ (8) لَا تَسْرِقْ (9) لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ (10) لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ ".

وَلَمَّا كَانَ جُلُّ هَذِهِ الْوَصَايَا وَتِلْكَ هِيَ أُصُولَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، حَكَمْنَا بِأَنَّ كَلَامَ الْكَشَّافِ فِي تَقْدِيرِهِ الْعَطْفُ وَجِيهٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ يُعِدُّهُ تَكَلُّفًا. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)(42: 13) وَلَيْسَ الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى مُوصِيًا بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَّا التَّوْحِيدَ وَأُصُولَ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيَ عَنْ كَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمَذْكُورَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْآيَةِ: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) كَمَا قَالَ فِي آخِرِ وَصَايَا الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَبِهَذَا التَّشَابُهِ يَقْوَى كَوْنُ الْخِطَابِ بِالْوَصِيَّةِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ خَاتَمُ الرُّسُلِ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الشُّورَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) مَعْنَاهُ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ فِي اتِّبَاعِهِ وَاهْتَدَى بِهِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(5: 3) وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ تَمَامًا كَامِلًا جَامِعًا لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَقَوْلِهِ:

ص: 179

(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(7: 145) جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ أَوْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِهِ - التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ لِابْنِ كَثِيرٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(2: 124) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)(32: 24) وَالثَّانِي عَزَاهُ إِلَى ابْنِ جَرِيرٍ عَلَى

جَعْلِ (الَّذِي) مَصْدَرِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)(9: 69) أَيْ كَخَوْضِهِمْ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

وَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ

فِي الْمُرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْعَدُ عَنِ التَّكَلُّفِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) عَامٌّ فِي بَابِهِ، أَيْ مُفَصِّلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ (وَهُدًى وَرَحْمَةً) أَيْ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ (لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أَيْ آتَاهُ الْكِتَابَ جَامِعًا لِمَا ذَكَرَ لِيَعِدَ بِهِ قَوْمَهُ، وَيَجْعَلَهُمْ مَحَلَّ الرَّجَاءِ لِلْإِيمَانِ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ كَرَامَتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بِوَحْيِهِ.

(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) أَيْ وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ - أَنْزَلْنَاهُ كَمَا أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، جَامِعًا لِكُلِّ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ مُوسَى، فَالْمُبَارَكُ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ فِي الْخَيْرِ، قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ بَرْكِ الْبَعِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَزَايَا الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أَيْ فَاتَّبِعُوا مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ، وَاتَّقُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَحَذَّرَكُمْ إِيَّاهُ لِتَكُونَ رَحْمَتُهُ تَعَالَى مَرْجُوَّةً لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ هُدًى وَرَحْمَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا يَلِي تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِهِ.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيلِ الَّذِي مَعْنَاهُ قَطْعُ طَرِيقِ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ وَالْمَعْنَى - عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِ " أَنْ " - أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا أَوْ مَنْعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ شِرْكِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ الْهَادِي إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَطَرِيقِ طَاعَتِهِ وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّ حَقِيقَةَ حَالِنَا وَشَأْنِنَا أَنَّنَا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ لِجَهْلِنَا بِلُغَاتِهِمْ وَغَلَبَةِ الْأُمِّيَّةِ عَلَيْنَا - وَالْحَصْرُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ عِلْمِهِمْ بِحَالِ الطَّائِفَتَيْنِ لِمُجَاوَرَتِهِمْ لَهُمْ - (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) لِأَنَّنَا أَذْكَى أَفْئِدَةً وَأَعْلَى هِمَّةً وَأَمْضَى عَزِيمَةً،

وَقَدْ قَالُوا هَذَا فِي الدُّنْيَا كَمَا حَكَاهُ تَعَالَى

ص: 180

عَنْهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(35: 42، 43) إِلَخْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْبَشَرِ فِطْرَةً وَأَعْلَاهُمُ اسْتِعْدَادًا لِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وَكَانَ اعْتِقَادًا رَاسِخًا فِي عُقُولِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْ وُجْدَانِهِمْ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِ مَا رَوَاهُ التَّارِيخُ لَنَا مِنَ الْمُفَاخَرَاتِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ، وَإِذَا كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ كُلُّهَا تَعْتَقِدُ أَنَّ شَعْبَهُمْ أَزْكَى مِنْ جَمِيعِ الْأَعَاجِمِ فِطْرَةً، وَأَذْكَى أَفْئِدَةً وَأَعَزُّ أَنْفُسًا وَأَكْمَلُ عُقُولًا وَأَفْهَامًا وَأَفْصَحُ أَلْسِنَةً وَأَبْلَغُ بَيَانًا، فَمَا الْقَوْلُ بِقُرَيْشٍ الَّتِي دَانَتْ لَهَا الْعَرَبُ وَاعْتَرَفَتْ بِفَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْهُمْ؟ وَلَكِنَّ جُمْهُورَ سَادَةِ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاءَهَا قَدِ اسْتَكْبَرُوا بِذَلِكَ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، حَتَّى كَذَّبُوا بِأَعْظَمِ مَا فُضِّلَ - وَاللهِ - بِهِ جِيلُهُمْ وَقَوْمُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْيَالِ وَالْأَقْوَامِ بِالْحَقِّ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - وَصَدُّوا عَنْهُ وَصَدَفُوا عَنْ آيَاتِهِ، فَكَانَ إِقْسَامُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَإِنْ صَدَقَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً لَهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَسَمُ صَادِرًا عَنْ عَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ، فَلَا جُرْمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُنِيرِ لَاعْتَذَرُوا فِي الْآخِرَةِ بِهَذَا الْعُذْرِ، عَلَى أَنَّ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ ظَلُّوا يُطَالِبُونَ النَّذِيرَ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَهُوَ - أَيِ الْكِتَابُ - أَقْوَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عِلْمِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَدَلَالَاتَهَا وَضْعِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا تَشْبِيهٌ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ وَسَائِرِ الْغَرَائِبِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَاعْتُبِرَ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ طه:(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)(20: 133، 134) . (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِكُلِّ تَعِلَّةٍ وَعُذْرٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِلتَّعْظِيمِ، إِذِ الْبَيِّنَةُ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ، وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْعَقَائِدِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، وَفِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ بِمَا تَصْلُحُ

بِهِ أُمُورُ الْبَشَرِ وَشُئُونُ الِاجْتِمَاعِ، وَهُدًى كَامِلٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجْذِبُهُ بِبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَإِلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ الَّذِي بَيْنَ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْبَشَرِ الَّذِينَ تَنْتَشِرُ فِيهِمْ هِدَايَتُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِمْ شَرِيعَتُهُ، حَتَّى الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ آمِنِينَ فِي ظِلِّهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، مُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي

ص: 181

حُقُوقِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ. عَائِشِينَ فِي وَسَطٍ خَالٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ وَتُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، هَكَذَا كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ. وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالْمُؤْمِنُونَ قَلِيلُونَ مُضْطَهَدُونَ، وَالْجَمَاهِيرُ مُكَذِّبُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ يَصُدُّونَ عَنِ الْكِتَابِ وَيَصْدِفُونَ.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَيْ وَإِذَا كَانَتْ آيَاتُ اللهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ وَالْهِدَايَةِ الشَّامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَكْتَفِ بِصُدُوفِهِ عَنْهَا وَحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْهَا، بَلْ صَدَفَ النَّاسَ، أَيْ صَرَفَهُمْ وَرَدَّهُمْ أَيْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ كُبَرَاءُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ: كَانُوا يَصْدِفُونَ الْعَرَبَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مِنْهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْجَذِبُوا إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ:(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(26) وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَصَدَفَ بِمَعْنَى صَدَّ، وَاسْتُعْمِلَ مِثْلُهُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَفِي مَعْنَاهُمَا الصَّرْفُ وَالصَّدْعُ، وَلَا مَانِعَ عِنْدِي مِنِ اسْتِعْمَالِ صَدَفَ هُنَا لَازِمًا مُتَعَدِّيًا كَمَا كَانَتْ حَالُ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَمَنْعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَعَانِيهِ إِذَا كَانَتِ الْعِبَارَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ - إِنْ لَمْ يُعَدَّ مِنْهُ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ - وَقَدْ قَالَ بِهِمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. عَلَى أَنَّ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي تَلَازُمًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّ الصَّادَّ لِغَيْرِهِ عَنْ شَيْءٍ يَكْرَهُهُ وَيُعَادِي الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَالْقَائِمَ بِهِ وَيَكُونُ هُوَ أَشَدَّ صُدُودًا وَإِعْرَاضًا عَنْهُ. وَإِنَّمَا يَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيَصُدُّ عَنْهُ غَيْرَهُ مَنْ يُحِبُّهُ وَيَأْخُذُ بِهِ إِذَا كَانَ مُرَائِيًا أَوْ خَادِعًا لِمَنْ يَنْهَاهُ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، كَالْوُعَّاظِ الْمُرَائِينَ، وَالتُّجَّارِ

الْغَاشِّينَ. وَمِنَ الصَّدِّ اللَّازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)(4: 61) وَمِنَ الْمُتَعَدِّي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ مُحَمَّدٍ أَوِ الْقِتَالِ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)(47: 1) . (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) أَيْ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ النَّاسَ وَيَرُدُّونَهُمْ عَنْ آيَاتِنَا وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا سُوءَ الْعَذَابِ، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّدْفِ عَنْهَا وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بِذَلِكَ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ مَنْ صَدَفُوهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَبَبِ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ وَضَعَ الْمَوْصُولَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ فَقَالَ:(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) وَلَمْ يَقُلْ: سَنَجْزِيهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّدْفِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ طَرِيقِ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْتَعِدِّينَ لِاتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا كَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ

ص: 182

كَمًّا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِدَلَالَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ - فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)(16: 88) أَيْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا سَيِّئًا شَدِيدًا بِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَوْقَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِهَذَا الصَّدِّ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(16: 89) فَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ بِمَعْنَى آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي السِّيَاقِ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أُصُولَ الدِّينِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فِي إِثْرِ تَفْصِيلِ السُّورَةِ لِجَمِيعِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالْإِعْذَارِ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ وَمَنْ يَتَّبِعُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، الَّذِينَ كَانُوا يُقْسِمُونَ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ

لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ النَّذِيرُ اسْتَكْبَرُوا وَزَادُوا نُفُورًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَرَنَ هَذَا الْإِعْذَارَ بِالْإِنْذَارِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِسُوءِ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي هَذِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ حَصَرَ فِيهَا مَا أَمَامَهُمْ وَأَمَامَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ بِمَا يُعَرِّفُهُمْ بِحَقِيقَةِ مَا يَنْتَظِرُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ مَوْتِ الرَّسُولِ، وَانْطِفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ بِمَوْتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَقَالَ:

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمَامَهُمْ غَايَةٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِحَسَبَ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ - وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَأْتِيَهُمُ) - الْمَلَائِكَةُ، أَيْ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ فُرَادَى، أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ لِاسْتِئْصَالِهِمْ (وَهَذَا الْأَخِيرُ خَاصٌّ بِالْأُمَمِ الَّتِي يُعَانِدُ الرُّسُلَ سَوَادُهَا الْأَعْظَمُ بَعْدَ أَنْ يَأْتُوهَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ) أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ

ص: 183

أَيُّهَا الرَّسُولُ، قِيلَ: إِنَّ إِتْيَانَ الرَّبِّ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ إِتْيَانِ مَا وَعَدَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّصْرِ، وَأَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ فِي الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ:(فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)(59: 2) الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِالْعَذَابِ أَوِ الْجَزَاءِ مُطْلَقًا، فَهَاهُنَا مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تُشَابِهُ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهَا:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(16: 33) وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ إِتْيَانُهُ سبحانه وتعالى بِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلَا شَبَهٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَتَعَرُّفُهُ إِلَى عِبَادِهِ وَمَعْرِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ إِيَّاهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) قَالَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ:(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)(2: 210) وَنَقَلْنَا فِيهِ عَنِ الْأُسْتَاذِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلًا نَفِيسًا فَلْيُرَاجَعْ فِي ص207 - 213 ج 2 ط. الْهَيْئَةِ. وَلَكِنْ يُضَعِّفُ هَذَا الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُهُ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَجُعِلَ الْأَخِيرَ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يُنْتَظَرُ، أَوِ الْأَوَّلُ لِعَظَمِ شَأْنِهِ.

وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِانْتِظَارُ بِحَسَبِ مَا فِي أَذْهَانِهِمْ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ وَرُؤْيَةَ رَبِّهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِ الرَّبِّ مَا اقْتَرَحُوهُ غَيْرَ هَذَيْنِ كَنُزُولِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ وَكَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَكَّةَ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ لِأَنَّ اقْتِرَاحَهُمْ كَانَ لِلتَّعْجِيزِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ هِيَ مَا يَنْتَظِرُونَهُ كَغَيْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْبَعْضِ شَيْءٌ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى الرُّسُلِ يَقْتَضِي فِي سُنَّةِ اللهِ هَلَاكَ الْأُمَّةِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)(40: 85) وَاللهُ لَا يُهْلِكُ أُمَّةَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، بَلْ يُصَدِّقُ هَذَا بِكُلِّ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ لِرَائِيهَا الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ الْإِيمَانِ الْقَهْرِيِّ الَّذِي لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) أَيْ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ الْمُوجِبَةِ لِلْإِيمَانِ الِاضْطِرَارِيِّ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِهَا إِيمَانُهَا بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا وَعَمَلًا صَالِحًا مَا عَسَاهَا تَكْسِبُ مِنْ خَيْرٍ فِيهِ لِبُطْلَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ - أَيِ التَّكْلِيفُ - مَبْنِيٌّ عَلَى مَا وَهَبَ اللهُ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْإِرَادَةِ

ص: 184

وَالِاخْتِيَارِ، بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّكْلِيفِ. وَالْبَعْضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ قُبَيْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَهِيَ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى، وَلَا تَرَاهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا إِلَّا قُبَيْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ لَهَا آيَاتٍ كَآيَاتِ الْمَوْتِ بَعْضُهَا ظَنِّيٌّ وَبَعْضُهَا قَطْعِيٌّ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْإِيمَانِ الْقَهْرِيِّ وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ مَا تَرَى، فَإِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ كَلِمَةِ (نَفْسًا) الدَّالَّةِ عَلَى الشُّمُولِ لِكَوْنِهَا نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَبَيْنَ صِفَتِهَا هِيَ جُمْلَةُ (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) إِلَخْ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ (إِيمَانُهَا) وَعَطْفَ جُمْلَةِ (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) عَلَيْهَا قَدْ أَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَا بَسَطْنَا بِهِ الْمَعْنَى آنِفًا.

وَقَدْ رُوِيَ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا الصَّحِيحُ السَّنَدِ وَالضَّعِيفُ الَّذِي لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَحْدَهُ، بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُبْهِمَتْ وَأُضِيفَتْ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَتَهْوِيلِهِ، هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا قُبَيْلَ تِلْكَ الْقَارِعَةِ الصَّاخَّةِ الَّتِي تَرُجُّ

الْأَرْضَ رَجًّا، وَتَبُسُّ الْجِبَالَ بَسًّا. فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَبَطَلَ هَذَا النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ وَقَدْ كَانَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا بَعِيدًا عَنِ الْمَأْلُوفِ الْمَعْقُولِ، وَلَا سِيَّمَا مَعْقُولُ مَنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْعُقُولِ، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَى عُقُولِهِمْ أَنْ تَتَصَوَّرَ حَادِثًا تَتَحَوَّلُ فِيهِ حَرَكَةُ الْأَرْضِ الْيَوْمِيَّةُ فَيَكُونُ الشَّرْقُ غَرْبًا وَالْغَرْبُ شَرْقًا، وَلَا نَدْرِي أَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَغْيِيرًا آخَرَ فِي النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ أَمْ لَا؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَدَارَهَا بِالْقُطْبِ (أَيِ الْمِحْوَرِ) فَجَعَلَ مَشْرِقَهَا مَغْرِبَهَا وَمَغْرِبَهَا مَشْرِقَهَا. اهـ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْعِلْمِ الْمَعْقُولِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَأَقْوَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) اهـ. وَمِثْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ صَحِيحِهِ وَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مُطَوَّلًا فِيهِ ذِكْرُ آيَاتٍ أُخْرَى لِقِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رَفَعَهُ " ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ. طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ " وَهُوَ مُشْكَلٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْوَارِدَةِ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَإِيمَانِ النَّاسِ بِهِ، وَالْمُشْكَلَاتُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّ أَسْبَابِهَا فِيمَا صَحَّتْ أَسَانِيدُهُ وَاضْطَرَبَتِ الْمُتُونُ وَتَعَارَضَتْ أَوْ

ص: 185

أُشْكِلَتْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ الرُّوَاةِ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ، فَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ رَآهَا أَوْ رُوِيَتْ لَهُ بِالتَّوَاتُرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكْسَيَانِ النُّورَ بَعْدَ كُسُوفٍ وَظُلْمَةٍ وَيَعُودَانِ إِلَى الطُّلُوعِ مِنَ الْمَشْرِقِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا " يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ " وَلَكِنَّ رَفْعَهُ

لَا يَصِحُّ وَيُعَارِضُهُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا رَوَاهُ مَرْفُوعًا " الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ إِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهَا بَعْضًا " قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقَالَ: " فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ ".

هَذَا وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالسَّمَاعِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ رَوَى بَعْضَهَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ فَتَكُونَ مُرْسَلَةً. وَلَكِنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ تُثْبِتُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْجُمْلَةِ فَنَنْظِمُهَا فِي سِلْكِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَيُحْمَلُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالرِّوَايَةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 186

وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ جِدَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يَسْتَدِلُّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ بِدُونِ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَلَا مَجَالَ فِي الْآيَةِ لِلْجَدَلِ عِنْدَ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا لَا يَعْدُو مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهُوَ أَنَّ مُشَاهَدَةَ بَعْضِ آيَاتِ الرَّبِّ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ كَمُشَاهَدَةِ الْآخِرَةِ قُبَيْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ مِنْهُمْ: لَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَنْفَعُ الْعَاصِيَ التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّاعَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ بِالشَّرْعِ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ - يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ الشُّمُولِيِّ، فَيَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَتْرُكَ الْمُؤْمِنُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَرْتَكِبَ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُ وَلَكِنَّهُ يُؤَاخِذُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)(4: 17) وَكَمَا قَالَ: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3: 135) وَقَدْ يُؤْمِنُ وَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ عَاقِلٌ يَخْتَلِفُ فِي نَجَاةِ مِثْلِ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَلَّا يُبَالِيَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الذَّعَنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْفَرَائِضَ وَيَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ بِغَيْرِ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ، بِلَا خَوْفٍ وَلَا حَيَاءٍ مِنَ اللهِ وَلَا اهْتِمَامٍ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللهِ فِيهِ. وَلَيْسَ لِاسْتِحْلَالِ مَا ذُكِرَ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا، وَالْمُسْتَحِلُّ لِمِثْلِ هَذَا كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ.

قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام: (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)

أَيِ انْتَظِرُوا أَيُّهَا الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ مَا تَتَوَقَّعُونَ إِتْيَانَهُ وَوُقُوعَهُ بِنَا وَاكْتِفَاءَ أَمْرِ الْإِسْلَامِ بِهِ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وَعْدَ رَبِّنَا لَنَا وَوَعِيدَهُ لَكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(10: 102) أَوِ انْتَظِرُوا مَا لَيْسَ أَمَامَكُمْ سَوَاءٌ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ وَلَا تُفَكِّرُونَ فِيهِ وَهُوَ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ إِنَّا مُنْتَظِرُوهَا عَلَى عِلْمٍ وَإِيمَانٍ - وَهِيَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْأَفْرَادِ، أَوْ إِتْيَانُ الرَّبِّ تَعَالَى - أَيْ أَمْرُهُ - بِمَا وَعَدَنَا مِنَ النَّصْرِ، وَأَوْعَدَكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْخُسْرِ، أَوْ إِتْيَانُهُ تَعَالَى لِحِسَابِ الْخَلْقِ، أَوْ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَصْدِيقِ رَسُولِهِ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. . . وَهَذَا الْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(11: 121، 122)

ص: 187

وَالْآيَةُ الْمُفَسَّرَةُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(32: 29، 30) .

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)

قَدْ كَانَتْ خَاتِمَةُ مَا وَصَّى اللهُ تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ آنِفًا الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنَ السُّبُلِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَصَايَا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ الْمُشَابِهَةَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَوَصَايَاهُ، بِمَا عُلِمَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ أَكْمَلُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَكْمُلُ بِخَوَاتِيمِهَا. وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالْمُقَارِنَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْقُرْآنِ، مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتِعْدَادًا لِلْهِدَايَةِ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَسَى أَنْ يَثُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ إِلَى رَشَادِهِمْ، وَيُفَكِّرَ الْمُعَانِدُونَ فِي عَاقِبَةِ عِنَادِهِمْ، وَتَلَا ذَلِكَ تَذْكِيرُهُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ بِمَا يُنْتَظَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِكُلٍّ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ، وَلَمَّا تَمَّتْ بِذَلِكَ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، ذَكَّرَ - تَعَالَى جَدُّهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا هِيَ عُرْضَةٌ لَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ إِضَاعَةِ الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، بِمِثْلِ مَا أَضَاعَهُ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ بِالْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَحْزَابًا وَشِيَعًا، تَتَعَصَّبُ كُلٌّ مِنْهَا لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِمَامٍ فَيَضِيعُ الْعِلْمُ وَتَنْفَصِمُ عُرْوَةُ الْوَحْدَةِ

لِلْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ فَتُصْبِحُ أُمَمًا مُتَعَادِيَةً لَيْسَ لَهَا مَرْجِعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَجْمَعُ كَلِمَتَهَا فَيَحِلُّ بِهَا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي تَفَرَّقَتْ قَبْلَهَا، فَقَالَ عز وجل:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) مِنَ التَّفْرِيقِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَجَعْلُهُ فِرَقًا وَأَبْعَاضًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَارَقُوا) مِنَ الْمُفَارَقَةِ لِلشَّيْءِ وَهُوَ تَرْكُهُ وَالِانْفِصَالُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رُوِيَتْ عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ تَفْرِيقَ الدِّينِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَتَهُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ. فَمِنَ التَّفْرِيقِ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ، وَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْجَمِيعِ مُفَارَقَةً لِلدَّيْنِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (2: 85) الْآيَةَ وَمِثْلُهُ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ. عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تُقِيمُ الدِّينَ لِأَصْلِ الدِّينِ بِجُحُودِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ أَوْ تَأْوِيلِ هِدَايَتِهِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ.

ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ

ص: 188

وَمُوسَى وَعِيسَى فَجَعَلُوهُ أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، وَكُلٌّ مِنْهَا مَذَاهِبُ لَهَا شِيَعٌ مُخْتَلِفَةٌ يَتَعَادُونَ وَيَتَقَاتَلُونَ فِيهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي مَزَّقَتْ وَحْدَةَ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَحْدَثَتْ مِنَ النِّحَلِ وَالْمَذَاهِبِ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَامَ حُجَجَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَبْطَلَ شُبَهَاتِ الشِّرْكِ ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَشَرْعَهُمْ. وَأَمَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ كَمَا تَفَرَّقَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَقَدْ فَصَّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ:(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(3: 105) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَهُوَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمُ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ أَحَقُّ بِبَرَاءَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّحْذِيرِ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا

دِينَهُمْ) الْآيَةَ. قَالَ هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. بَلْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً إِلَّا أَصْحَابَ الْبِدَعِ وَأَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. أَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ " وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا بِدْعَتَهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فَرَجَعُوا وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ. اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ - وَثُمَّ آثَارٌرُوِيَتْ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ بِأَنَّهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوِ الْخَوَارِجُ مُطْلَقًا، وَمُرَادُ قَائِلِيهَا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ لَا أَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ وَحْدَهُمْ. وَجَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ لِلْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ الشَّاطِبِيِّ مَا نَصُّهُ:

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهَا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ، (قَالَ الشَّاطِبِيُّ) يُرِيدُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ

ص: 189

الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ. فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه يَوْمًا يَخْطُبُنَا فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جُعِلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ إِحْدَى حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دَيْنَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهُ يَعْنِي بُقُولِهِ " أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّ سَلَمَةَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ حَاجَّةً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ.

قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتُخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا اهـ. مَا أَوْرَدَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي (ج1) وَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي بَحْثِ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ (ج3) فَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الدِّينِ فِيهَا يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَالَ، فَمَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِهَا تَدُلُّ عَلَى شُمُولِهَا لِلتَّفَرُّقِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَحُكُومَتِهِ وَتَوَلِّي أَهْلِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، فَعَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ، كَعَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالتُّرْكِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْمَلَاوِيِّ إِلَخْ بِحَيْثُ يُعَادِي الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوْرَةِ عَلَى عُثْمَانَ - وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَقْتَلِهِ - كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ ذِرَاعَ امْرَأَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْ بَيْنِ الْحَائِطِ وَالسِّتْرِ وَهِيَ تُنَادِي: أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا شِيَعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَاحِدَةٌ.

هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ (فَرَّقُوا) وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَفَرُّقٍ فِي الدِّينِ مُفَارَقَةٌ لَهُ وَرِدَّةٌ عَنْهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ (فَارَقُوا) ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْمُفَارَقَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ الرُّومِ:(وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(30: 31، 32) وَفِيهَا الْقِرَاءَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

ص: 190

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَرِيئًا مِنْهُمْ تَحْذِيرُ أُمَّتِهِ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَرِيءٌ مِنْهُمْ بِالْأَوْلَى لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ كَحُكْمِ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تبارك وتعالى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَضِمْنَ لَهُمْ جَنَّتَهُ وَرِضْوَانَهُ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،

أَوْ إِلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَةِ الْمُهْتَدِينَ بِهِمَا مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّقِينَ لِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ:

(إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ إِنَّهُ عز وجل هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى وَحْدَهُ أَمْرَ جَزَائِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِمْ وَالتَّفْرِيقِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَفَشَلِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَتَسَلُّطِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَلُبْسِهِمْ شِيَعًا يُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، بِمَا تُثِيرُهُ عَدَاوَةُ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْحُرُوبِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا)(2: 253) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(5: 14) وَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)(6: 65) إِلَخْ وَبَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَبْعَثُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ بِتَفْرِيقِ الدِّينِ، أَوْ مُفَارَقَتِهِ اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.

تَطْبِيقٌ أَوْ طِبَاقٌ فِي أَسْبَابِ افْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ:

(1)

السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ.

(2)

عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ.

(3)

عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.

(4)

الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ.

وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ.

ص: 191

فَالْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ، وَآرَاءُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَشُئُونِ الْمَعِيشَةِ وَأَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ. وَالدِّينُ فِي عَقَائِدِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ مُوحًى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْمَدَنِيَّةِ جَمْعُ قُلُوبِ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ بِأَقْوَى الرَّوَابِطِ وَأَوْثَقِ الْعُرَى الثَّابِتَةِ. وَالرَّأْيُ يُفَرِّقُهَا ; إِذْ قَلَّمَا يَتَّفِقُ شَخْصَانِ مُسْتَقِلَّانِ فِيهِ، فَأَنَّى تَتَّفِقُ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ وَاجْتِمَاعُ الْكَثِيرِينَ بِالتَّقْلِيدِ يَسْتَلْزِمُ تَفَرُّقًا

شَرًّا مِنَ التَّفَرُّقِ فِي الرَّأْيِ عَنْ دَلِيلٍ ; لِأَنَّهُ تَفَرُّقُ جَهْلٍ لَا مَطْمَعَ فِي تَلَافِي ضَرَرِهِ إِلَّا بِزَوَالِهِ.

تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي تَفَرُّقِ الْمَذَاهِبِ وَخَصُّوهُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُونَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالتَّحْقِيقُ الْعُمُومُ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَأَنَّهُمْ تَعَادَوْا فِي الدِّينِ تَعَادِيًا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِهِ وَضَعْفِ أَهْلِهِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُمْ دُونَ ضَرَرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ مُتَعَصِّبِيهِمْ أَدْخَلُوا خِلَافَ الْأُصُولِ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّزَوُّجَ بِالشَّافِعِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ ; لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي إِيمَانِهَا. وَعَلَّلَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بِقِيَاسِهَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَمُرَادُهُمْ بِشَكِّ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ جَمِيعِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ فِي إِيمَانِهِمْ ; قَوْلُهُمُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ! وَلَوْ سَلَكَ الْخَلَفُ فِي الدِّينِ مَسْلَكَ السَّلَفِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِمَا بِكُلِّ عَالِمٍ ثِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ لِعَالِمٍ مُعَيَّنٍ، لَمَا وَقَعُوا فِي هَذَا الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْجَهْلِ بِهِمَا وَهَجْرِهِمَا، وَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ يُزِيلُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَلَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا.

وَقَدْ بَدَأَ أَصْحَابُ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ الْكَلَامِيَّةِ بِحْثَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا فَقَالَ: " إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ لِصَاحِبِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ بِصَاحِبِهِ) لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ " أَيِ الْكَلَبُ وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الدَّاءُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْكِلَابِ وَلِمَنْ عَضَّهُ الْمُصَابُ بِهِ مِنْهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ

ص: 192

عَمْرٍو وَأَوَّلُهُ " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ. . وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً " قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ

بْنِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَعَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ بِلَفْظِ " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " وَقَفَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِمَا رُوِيَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّاطِبِيُّ الْوَجْهَ الْخَامِسَ مِمَّا وَرَدَ فِي النَّقْلِ مِنْ ذَمِّ الْبِدَعِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ; إِذِ الْبِدَعُ كُلُّهَا كَذَلِكَ. كَمَا وَعَدَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا، فَذَكَرَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَعِدَّةَ آثَارٍ بِمَعْنَاهُ وَرَجَّحَ شُمُولَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ آثَارِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِنْحَاءَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ ; فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَكَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ اهـ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الرَّأْيَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ دُونَ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَاءِ ; فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ فِي هَذَا كَمَا بَيَّنَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ (الِاعْتِصَامِ) أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَقَدْ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةً بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ. (أَقُولُ) : وَهَذَا مَذْهَبُنَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَقَدْ حَقَّقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنَ الِاعْتِصَامِ (ج3) أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (11: 118، 119) وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لَهُمْ فَيَكُونُونَ شِيَعًا وَأَحْزَابًا يَتَفَرَّقُونَ وَيَتَعَادَوْنَ فِي ذَلِكَ فَهُمْ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ،

ص: 193

وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ كَعُذْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَعَمِلُوا بِمَا ظَهَرَ

لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُونُوا يُجِيزُونَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ فَصَارَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْحُكْمِ. فَهَلْ يُجِيزُونَ لِشِيعَةٍ أَوْ حِزْبٍ أَنْ يَتَعَصَّبَ وَيُعَادِيَ وَيُخَاصِمَ وَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا لِظُنُونِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجِعُونَ عَنْهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهَا؟ ! .

وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ حَدِيثَ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ رِوَايَةً رَآهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ جَعَلَ فِيهَا الْفِرَقَ 82 - إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ غَلَطًا مِنَ النُّسَّاخِ - وَقَالَ: كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَسَأَلُوهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ: " الْجَمَاعَةُ ". ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ الِافْتِرَاقِ وَأَسْبَابِهِ وَاسْتِشْكَالِ كُفْرِ هَذِهِ الْفِرَقِ مَا عَدَا وَاحِدَةً مِنْهَا. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ كُلَّ مُبْتَدِعٍ بَلْ يَقُولُونَ بِإِيمَانِ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا الْفِرَقَ، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالًا فِي الْحَدِيثِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلَا سِيَّمَا آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)(153) الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ رَجَّحَ مَا كُنَّا نَرَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي النَّارِ مَا عَدَا الْجَمَاعَةَ الْمُلْتَزِمَةَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كُلَّهَا خَالِدَةٌ خُلُودَ الْكُفَّارِ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، وَمِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ، وَلَا يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ خُلُودَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْجَاحِدِينَ لِبَعْضِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ عَقَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلَ فِي أَبْحَاثٍ مُهِمَّةٍ كَبَحْثِ عَدِّ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ وَعَدَمِهِ، وَمَا قِيلَ فِي عَدَدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْسُنُ بِطَالِبِ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَالْمُشْكِلَاتِ فِي الْحَدِيثِ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ (مُحَمَّدِ بْنِ أَسْعَدَ الصَّدِيقِيِّ) لِلْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ، وَعَدَّ مَا أَطَالَ بِهِ إِيجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ. قَالَ فِي أَوَّلِهِ:

لَا بُدَّ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مُوجَزٍ فَاسْمَعْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَفَادَنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ فِرَقٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا الَّتِي عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ. وَكَوْنُ الْأُمَّةِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا افْتِرَاقٌ عَلَى فِرَقٍ شَتَّى تَبْلُغُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا تَبْلُغُهُ ثَابِتٌ قَدْ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَكَوْنُ النَّاجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةً أَيْضًا حَقٌّ لَا كَلَامَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هُوَ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَهُوَ رَدٌّ، وَأَمَّا تَعْيِينُ أَيِّ

فِرْقَةٍ هِيَ النَّاجِيَةَ أَيِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى مَا (كَانَ) النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يُذْعِنُ لِنَبِيِّنَا بِالرِّسَالَةِ تَجْعَلُ نَفْسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّ مِيرْبَاقِرَ الدَّامَادْ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرْقِ الْمَذْكُورَةِ

ص: 194

فِي الْحَدِيثِ هِيَ فِرَقُ الشِّيعَةِ وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ الْإِمَامِيَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ فَجَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَكُلٌّ يَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً:

ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَمْثِلَةً مِمَّا يَقُولُهُ فَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمِينَ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَأَشْهَرُ فِرَقِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ غَيْرَهُمْ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِجَهْلِ أَكْثَرِهِمْ بِالنُّقُولِ. وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَ. ثُمَّ قَالَ:

" فَكُلٌّ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَتَى رَأَتْ مِنَ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَتْ أَخَذَتْ فِي تَأْوِيلِهِ

وَإِرْجَاعِهِ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا، فَكُلٌّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ وَكُلٌّ مُطْمَئِنٌّ بِمَا لَدَيْهِ وَيُنَادِي نِدَاءَ الْمُحَقِّقِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. فَإِنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَدْ جَاءَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ الْآنَ مِنْ غَيْرِ النَّاجِيَةِ، أَوْ أَنَّ الْفِرَقَ الْمُرَادَةَ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَبْلُغِ الْآنَ الْعَدَدَ. أَوْ أَنَّ النَّاجِيَةَ إِلَى الْآنَ مَا وُجِدَتْ وَسَتُوجَدُ. أَوْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِرَقِ نَاجِيَةٌ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ مُطَابِقٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا عَنْهُمْ كَالْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ عَنْهُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْفِرَقِ سَتُوجَدُ مِنْ بَعْدُ أَوْ وُجِدَ مِنْهَا بَعْضٌ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ عُلِمَ كَمَنْ يَدَّعِي أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ كَفِرْقَةِ النُّصَيْرِيَّةِ. وَمُوجَبُ هَذَا التَّرَدُّدِ أَنَّهُ مَا مِنْ فِرْقَةٍ إِلَّا وَيَجِدُهَا النَّاظِرُ فِيهَا مُعَضَّدَةً بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَالنُّصُوصُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ مِنَ الْأَطْرَافِ. وَمِمَّا يَسُرُّنِي مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ.

ص: 195

وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْأُسْتَاذِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ تَأْلِيفِهِ لِهَذِهِ الْحَاشِيَةِ أَيَّامَ اشْتِغَالِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فِي الْأَزْهَرِ مُمْتَازًا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَعَدَمِ التَّقْلِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّعَصُّبِ، مَعَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْقُصُهُ سَعَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِذًا لَجَزَمَ بِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاءُ الْأَثَرِ، الْمُهْتَدُونَ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ وَلَا تَزَالُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ. سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَرَّ وَمَنْ نَفَعَ وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُؤَوِّلُونَ شَيْئًا مِنْهُمَا لِيُوَافِقَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ يُؤَيِّدَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ قَدْ وَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَقِّ فَصَارَ مِنْهُمْ وَإِذًا لَمَا سَرَّهُ حَدِيثُ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ رِوَايَةٌ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَوَغَّلَ فِي مَذَاهِبِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ جَمِيعًا فَهَدَاهُ اللهُ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وَالرُّجُوعُ عَمَّا خَالَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ تَدْرِيجًا. وَإِنَّنَا نَرَاهُ هُنَا قَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَحْقِيقِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ إِشْكَالَاتٍ. (خَامِسُهَا)

إِجْمَاعُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَكَوْنِهِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ الَّتِي تَوَاضَعَ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ، وَعَدَّ هَذَا تَعَصُّبًا مِنْ أَتْبَاعِ كُلِّ رَئِيسٍ وَأَخْذًا بِأَسْبَابِ الْعَنَتِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:

" الْحَقُّ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاظِرُ الْمُتَدَيِّنُ إِلَى إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ عَلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، ثُمَّ مِنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ يَأْخُذُ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ بِدُونِ فَحْصٍ فِيمَا تَكِنُّهُ الْأَلْفَاظُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ طَرِيقَ التَّحْقِيقِ فِي تَأْسِيسِ جَمِيعِ عَقَائِدِهِ بِالْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ، كَانَ مَا أَدَّتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ، لَكِنْ بِغَايَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِذَا فَاءَ مِنْ فِكْرِهِ إِلَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَوَجَدَهُ يُظَاهِرُهُ مُلَائِمًا لِمَا حَقَّقَهُ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَطْرُقْ عَنِ التَّأْوِيلِ وَيَقُولُ:(آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(3: 7) فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ وَنَبِيِّهِ إِلَّا اللهُ وَنَبِيُّهُ، فَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ يَكُونُ نَسْجُهُ فَيَبُوءُ مِنَ اللهِ بِرِضْوَانٍ حَيْثُ أَسَّسَ عَقَائِدَهُ عَلَى السَّدِيدِ مِنَ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتَقْبَلَ الْأَخْبَارَ الْإِلَهِيَّةَ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَنَاوَلَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ التَّأْوِيلَ لِغَرَضٍ كَدَفْعِ مُعَانِدٍ، أَوْ إِقْنَاعِ جَاحِدٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا سَلِمَ بُرْهَانُهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّشْوِيشِ وَهَذَا هُوَ دَأْبُ مَشَايِخِنَا كَالشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ، لَا يَأْخُذُونَ قَوْلًا حَتَّى يُسَدِّدُوهُ بِبَرَاهِينِهِمُ الْقَوِيَّةِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَا يُعْنَى بِاسْمِ السُّنِّيِّ

ص: 196

وَالصُّوفِيِّ وَالْحَكِيمِ، وَكُلُّ مُتَحَزِّبٍ مُجَادِلٍ فَإِنَّمَا يَبْغِي الْعَنَتَ وَتَشْتِيتَ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ مُقَصِّرٍ فَعَلَيْهِ الْعَارُ وَالشَّنَارُ، فَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ، وَاحْذَرْ فَقَدْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَلَا بُدَّ فِي كَمَالِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ تَكْمِيلُ قُوَّةِ النَّظَرِ وَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْهِمَّةِ وَالسَّدَادِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا يَأْخُذُ وَيُعْطِي، فَهُوَ فِي النَّارِ أَوْ يَطْهُرُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ، وَسَالِكُ هَذَا الطَّرِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سُلُوكُهُ مِنْ قِبَلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ أُولِي الْفَضْلِ مِنَ الرَّاشِدِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَلِكَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ الْمُتَوَسِّطُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَكَ

بِنَفْسِهِ مَدَارِجَ الْأَنْوَارِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَسْرَارِ حَتَّى جَلَسَ فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَهُوَ الصُّوفِيُّ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى وَالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا مَرَاتِبُ لَا تُحْصَى وَمَرَاقٍ لَا تُسْتَقْصَى، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا النُّورِ فَلَهُ النَّجَاةُ وَالْحُبُورُ كَانَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَلْنُمْسِكِ الْقَلَمَ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِيجَازُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَاسْلُكْ بِنَفْسِكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَانْظُرْ فِيمَا يَكُونُ لَكَ بِعَيْنِ الرَّشَادِ " اهـ.

بَدْءُ تَفَرُّقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ:

كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَوَّلُ خِلَافٍ نَجَمَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافَ عَلَى الْإِمَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُ زُعَمَاءِ الْأَنْصَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ رضي الله عنهما مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَكَانَ بَعْضُ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عليهم السلام يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَخَافَ عُمَرُ الْفَارُوقُ رضي الله عنه بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بُعْدِ الرَّأْيِ وَالْحَزْمِ أَنْ يَحْدُثَ صَدْعٌ فِي بِنْيَةِ الْأُمَّةِ قَبْلَ دَفْنِ رَسُولِهَا، فَبَادَرَ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رضي الله عنه الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْكِرُ مَكَانَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَبَقًا وَعِلْمًا وَفَهْمَا وَنَصْرًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَبِعَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَلَا ذَلِكَ عَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ تَأَخَّرَ فَتَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْأَمْرِ لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ التَّفَرُّقِ الَّذِي بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِاتِّفَاقَ هُوَ سِيَاجُ الدِّينِ وَحِفَاظُهُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ بَايَعُوا عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ تَنَازَلَ الْحَسَنُ عليه السلام لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى غَيْرِهَا.

ص: 197

وَأَمَّا مُقَاوَمَةُ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ لِلْأُمَوِيِّينَ فَلِظُلْمِهِمْ وَجَعْلِهِمُ الْخِلَافَةَ مَغْنَمًا لَهُمْ وَإِرْثًا فِيهِمْ، وَمَغْرَمًا وَعَذَابًا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَهَدَمُوا بِذَلِكَ قَاعِدَةَ الْقُرْآنِ فِي الشُّورَى وَجَعَلُوا إِمَامَةَ الدِّينِ وَخِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُلْكًا عَضُوضًا - كَمَا أَنْبَأَتْ أَحَادِيثُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِمَامُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ إِذْ سُئِلَ عَنْ سَبَبِ مُوَالَاتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ جَدَّهُ الْأَعْلَى عَلِيًّا الْمُرْتَضَى أَوْلَى مِنْهُمَا بِالْخِلَافَةِ وَخُرُوجِهِ عَلَى هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ ; إِذْ قَالَ لِسَائِلِهِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَّاهُمَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، فَأَقَامَا الْحَقَّ

وَالْعَدْلَ فَتَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ الْأَعْلَى لِأَنَّهُمَا قَامَا بِمَا كَانَ هُوَ يَقُومُ بِهِ وَكَانَ هُوَ قَاضِيهُمَا وَمُسْتَشَارُهُمَا - فَهُوَ (أَيْ زَيْدٌ) يَتَوَلَّاهُمَا كَمَا تَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ وَهِشَامٌ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَالْإِمَامُ زَيْدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْفِدَائِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ الظُّلْمَ بِالثَّوْرَاتِ عَلَى الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ، إِلَى أَنْ يَثُلُّوا عُرُوشَهُمْ. وَيُرِيحُوا الْأُمَمَ مِنْ جَوْرِهِمْ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ فِي مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلَكِنَّهُمْ أَيَّدُوا الظَّالِمِينَ وَأَطَاعُوهُمْ بِشُبْهَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ حَتَّى ضَاعَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُهُ وَتَضَعْضَعَ كُلُّ مُلْكٍ لِأَهْلِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا تَحْكِيمَهَا وَتَطْبِيقَهَا.

وَقَدْ رَفَضَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ الْإِمَامَ زَيْدًا إِذْ أَبَى قَبُولَ مَا اشْتَرَطُوهُ عَلَيْهِ لِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِذَلِكَ سُمُّوا الرَّافِضَةَ، وَلِمَاذَا اشْتَرَطُوا الْبَرَاءَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دُونَ عُثْمَانَ بَلْ دُونَ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ؟ ! إِنَّ أَكْثَرَ الشِّيعَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا وَلَوْ فَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوهُ وَعَرَفُوا بِمَعْرِفَتِهِ كَيْفَ جَرَفَهُمْ تَيَّارُ دَسَائِسِ الْمَجُوسِ أَصْحَابِ الْجَمْعِيَّاتِ السِّرِّيَّةِ الْعَامِلَةِ لِلِانْتِقَامِ لِلْمَجُوسِيَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَطْفَأَ نَارَهَا وَثَلَّ عَرْشَ مُلْكِهَا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، اللَّذَيْنِ كَانَا يُفَضِّلَانِ آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى آلِهِمَا، فَتِلْكَ الْجَمْعِيَّاتُ الْمَجُوسِيَّةُ بَثَّتْ دَسَائِسَهَا فِي الشِّيعَةِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِزَالَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِ الَّذِي بُنِيَ عَلَى أَسَاسِهِ مَجْدُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

لَمْ تُوجَدْ فِي الدُّنْيَا جَمْعِيَّاتٌ أَدَقُّ نِظَامًا وَأَنْفَذُ سِهَامًا مِنْ جَمْعِيَّاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَإٍ الْيَهُودِيُّ وَمَجُوسُ فَارِسَ لِإِفْسَادِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَإِزَالَةِ مُلْكِ دُعَاتِهِ الْعَرَبِ فَقَدْ رَاجَتْ دَسَائِسُهَا فِي شِيعَةِ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمُلْكِ الْإِسْلَامِ، بَلْ رَاجَ بَعْضُهَا فِي سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ فَبَيْنَمَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّسَائِسُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا فِي الْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ كَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي أُمَّةِ الْفُرْسِ النَّبِيلَةِ، وَكُتُبُ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ تُدَوَّنُ فِي مُدُنِهَا بِأَقْلَامِ أَبْنَاءِ فَارِسَ وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مِنَ الْعَرَبِ، وَتُنْشَرُ فِي مَشَارِقِ

ص: 198

الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا تُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ وَلُغَتَهُ، وَقَدْ صَارَ لِأُولَئِكَ الْبَاطِنِيَّةِ دَوْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي مِصْرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ دَوْلَتُهُمْ فِي مِصْرَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا أَنْ تُعِيدَ

الْمَجُوسِيَّةَ وَتَجْعَلَ لَهَا مُلْكًا ; لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا ظَاهِرٌ هُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الشِّيعَةِ الَّذِي كَانَ مَذْهَبًا سِيَاسِيًّا فَصَارَ مَذْهَبًا دِينِيًّا، وَلَهَا بَاطِنٌ سِرِّيٌّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا رُؤَسَاءُ الدُّعَاةِ - وَلَمَّا كَانَ الْمُنْتَحِلُونَ لَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ جَاهِلِينَ بِأَصْلِهَا وَبِمَا وُضِعَتْ لَهُ - غَلَبَتِ الصِّبْغَةُ الدِّينِيَّةُ فِيهَا عَلَى الصِّبْغَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَكَانَ عَاقِبَةُ دَعَوْتِهَا أَنْ مَرَقَ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَاتَّخَذُوا التَّعَالِيمَ الْبَاطِنِيَّةَ دِينًا يَدِينُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ وَيَعْبُدُونَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَتَأَوَّلُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأَوُّلًا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى تِلْكَ التَّعَالِيمِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ ثُمَّ الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِهِمْ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ جَدِّهِمْ وَإِزَالَةُ مُلْكِهِ مِنْ آلِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ تَجَدَّدَ لَهَا دِينٌ جَدِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ آلِ الْبَيْتِ وَهُوَ الْبَهَاءُ الْإِيرَانِيُّ وَالِدُ " عَبَّاس عَبْد الْبَهَاءِ " - وَبَقِيَ سَائِرُ الشِّيعَةِ مُسْلِمِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِأَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ رُسُلِ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزَالُ يَغْلُو فِي آلِ الْبَيْتِ غُلُوًّا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، وَيَطْعَنُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ بِذَلِكَ لِآلِ الْبَيْتِ، غَافِلًا عَنْ كَوْنِ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ كَانُوا أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ تَقِيَّةً مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ فَلِمَاذَا لَا يَكُفُّونَ هُمْ عَنِ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّعْنِ فِيهِمَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ؟ .

أَضْعَفُوا الْإِسْلَامَ بِهَذَا التَّفَرُّقِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بَرِيئًا مِنْ أَهْلِهِ، وَكُلُّ شِيعَةٍ وَفِرْقَةٍ تَظُنُّ أَنَّهَا بِهَذَا التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ تَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَتُؤَيِّدُهُ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ ضَعُفَ مُلْكُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، وَكَادَتِ الْإِفْرِنْجُ تَسْتَعْبِدُ الدُّوَلَ وَالْإِمَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ سُنِّيًّا وَمَا يُسَمَّى شِيعِيًّا إِمَامِيًّا وَمَا يُدْعَى شِيعِيًّا زَيْدِيًّا، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ عَرَفَ جُمْهُورُهُمْ بِهَذَا الْخَطَرِ حَقِّيَّةَ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ كَانَ مِنْ فَسَادِ السِّيَاسَةِ، وَسَتَجْمَعُهُمُ السِّيَاسَةُ كَمَا فَرَّقَتْهُمُ السِّيَاسَةُ، إِلَّا مَنِ ارْتَدُّوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْقَوْمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.

ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ وَالدِّينِ وَدَسَائِسُ الْأَجَانِبِ فِي الْمُسْلِمِينَ:

ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ نَفْسُهَا وَلَا سِيَّمَا فِي الْفُرُوعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَعُدْ مِنْ وَسَائِلِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَلَا عَرْضِ الْجَاهِ بِالْمَنَاصِبِ وَالْجُلُوسِ عَلَى مِنَصَّاتِ الْحُكْمِ - وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ لِذَلِكَ - وَيَضْعُفُ الدِّينُ نَفْسُهُ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِحَقِيقَتِهِ صَارَ

عَامًّا، وَصِنْفُ الْعُلَمَاءِ أَعْمَاهُمُ

ص: 199

التَّقْلِيدُ عَنِ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالسَّيْرِ بِالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ عَلَى مَا تَجَدَّدَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَمَا اسْتُهْدِفَتْ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْمَفَاسِدِ، حَتَّى اقْتَنَعَ حُكَّامُهَا الْجَاهِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ بِأَنَّ شَرِيعَتَهَا لَمْ تَعُدْ كَافِيَةً لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، فَصَارُوا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِيمَا اشْتَرَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِعَادَاتِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا فِي هَذَا التَّقْلِيدِ مِنَ الْمَفَاسِدِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، بَلْ حَسِبُوا بِجَهْلِهِمْ وَبِإِغْوَاءِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ بِهَذَا يَتَّفِصُّونَ مِنْ عِقَالِ الشَّرْعِ وَسَيْطَرَةِ رِجَالِهِ الْجَامِدِينَ، فَيَكُونُ أَمْرُ حُكُومَتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يَشَاءُونَ، وَيَكُونُونَ كَالدُّوَلِ الْأُورُوبِّيَّةِ فِي عِزَّتِهَا وَثَرْوَتِهَا، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ هَذَا الْإِغْوَاءِ أَنْ سَلَبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُغْوُونَ مُلْكَهُمْ وَجَعَلُوهُمْ أَسْلِحَةً وَآلَاتٍ بِأَيْدِيهِمْ، يُذِلُّونَ بِهِمْ أُمَمَهُمْ وَشُعُوبَهُمْ، وَيَضْرِبُونَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَقْضُوا عَلَى اسْتِقْلَالِ مَمْلَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهَا. أَوْ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا، وِفَاقًا لِمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ " وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ (سُلْطَتَهُمْ وَمُلْكَهُمْ) وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا " وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخِ اسْتِعْمَارِ الْأَجَانِبِ لِلْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ يَرَى مِصْدَاقَ هَذَا فِي غَرْبِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَشَرْقِهَا.

وَقَدِ اجْتَهَدَ أُولَئِكَ الطَّامِعُونَ الْمُغْوُونَ بِإِفْسَادِ أَفْكَارِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقُلُوبِهَا، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي دَسِّ الدَّسَائِسَ لِإِفْسَادِ سَلَاطِينِهَا وَأُمَرَائِهَا، لِئَلَّا تَرْجِعَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فَتَجْتَمِعَ كَلِمَتُهَا وَتَصْلُحَ حُكُومَتُهَا، فَتَكُونَ أُمَمًا عَزِيزَةً يَتَعَذَّرُ اسْتِعْبَادُهَا. فَبَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ الدِّينِ لِتَشْكِيكِهَا فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتِمَالَتِهَا إِلَى دِينِهِمُ الَّذِي قَلَّ مَنْ بَقِيَ لَهُ ثِقَةٌ بِهِ مِنْ سَاسَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَكِّكُهَا فِي أَصْلِ الدِّينِ، أَيْ وُجُودِ الْإِلَهِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ. كَمَا بَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ السِّيَاسَةِ يُرَغِّبُونَهَا فِي قَطْعِ الرَّابِطَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَاسْتِبْدَالِ الرَّابِطَةِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ الْوَطَنِيَّةِ بِهَا. فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْفُرْسِ، ثُمَّ بَيْنَ التُّرْكِ وَبَيْنَ الْأَلْبَانِ وَالْعَرَبِ. بَلْ صَارَ أَهْلُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضُمُّهُ رَابِطَةُ الدِّينِ وَرَابِطَةُ اللُّغَةِ وَرَابِطَةُ الْعَادَاتِ وَغَيْرُهَا يَتَعَادَى بِاسْمِ الْوَطَنِيَّةِ، فَيَعُدُّ الْمِصْرِيُّ

أَخَاهُ السُّورِيَّ وَالْحِجَازِيَّ دَخِيلًا فِي بِلَادِهِ.

فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّفَرُّقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّفْرِيقِ لِلدِّينِ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ مِنَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ شَرُّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِهِدَايَتِهِ فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا. غَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ بِفَسَادِ أُمَرَائِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَغَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمْ وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ، وَمَا ظَلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ أَنْ

ص: 200

أَنْذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَكَانُوا مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(18: 104)

بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي كِتَابِهِ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ - وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُتَفَرِّقَةِ - وَأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ هَجَرُوا الْكِتَابَ حَتَّى إِنَّ رِجَالَ الدِّينِ مِنْهُمْ تَرَكُوا إِرْشَادَ الْحُكَّامِ وَالْأُمَّةِ بِهِ، بَلِ اسْتَغْنَوْا عَنْ هِدَايَتِهِ بِتَقْلِيدِ شُيُوخِهِمْ. وَأَيَّدُوا الْحُكَّامَ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَجْلِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ فَضَلَاتِ الرِّزْقِ وَمَظَاهِرِ الْجَاهِ.

الْإِصْلَاحُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْوَحْدَةِ:

وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَحْرِمِ الْأُمَّةَ مِنْ نَذِيرٍ يُجَدِّدُ هِدَايَةَ الرُّسُلِ، فَقَدْ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ حَكِيمًا مِنْ سُلَالَةِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي ذَلِكَ مُرِيدٌ لَهُ تَخَرَّجَ بِهِ فَكَانَ أَفْصَحَ لِسَانًا وَأَوْضَحَ بَيَانًا. وَقَدِ اسْتَفَادَتِ الْأُمَّةُ مِنْ إِصْلَاحِ هَذَيْنِ الْحَكِيمَيْنِ وَمَنْ جَرَى عَلَى أَثَرِهِمَا مَا بَعَثَ فِيهَا الِاسْتِعْدَادَ لِلْوَحْدَةِ وَالدَّعَايَةِ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ لَا تَتَرَبَّى بِالْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا أَعَدَّتِ الْأَنْفُسَ لَهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ. وَلَا سِيَّمَا أَنْفُسِ أَهْلِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْمَغْرُورِينَ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْمُلْكِ وَبَقَايَا مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَتْ مَغْرُورَةً بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُتَّكِلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَقْوَى دُوَلِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ كَشَعْبِهَا عَمَّا عَرَاهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُعَادُونَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَكَانَ السَّيِّدُ الْأَفْغَانِيُّ - وَهُوَ الْمُوقِظُ الْأَوَّلُ - يَقُولُ: إِنَّ انْكِسَارَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ الرُّوسِيَّةِ الْأَخِيرَةِ فِي عَهْدِهِ هُوَ الَّذِي أَعَدَّ الْمُسْلِمِينَ لِإِدْرَاكِ الْخَطَرِ الَّذِي يَحِيقُ بِهِمْ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ. وَقَالَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ رِجَالِهَا: إِنَّ انْتِصَارَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَلَى الدَّوْلَةِ أَخَّرَ مَا نَرْجُو مِنَ الْإِصْلَاحِ سِنِينَ كَثِيرَةً. وَنَقُولُ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ لَهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ ظَلُّوا سَادِرِينَ فِي غُرُورِهِمْ جَامِحِينَ فِي غَيِّهِمْ. إِلَى أَنِ انْكَسَرَتْ هَذَا

الِانْكِسَارَ الْفَظِيعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَاحْتَلَّ الْأَجَانِبُ الْمُنْتَصِرُونَ عَلَيْهَا عَاصِمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ غُرُورِهَا (حَتَّى كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَكْبَرُ عَقَبَاتِ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِهَا وَاقْتَرَحْنَا عَلَيْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً اسْتِبْدَالَ عَاصِمَةٍ آسْيَوِيَّةٍ بِهَا) وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَيْهَا الْقَضَاءَ الْأَخِيرَ الْمُبْرَمَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمْضَى مَنْ أَنَابَتْ عَنْهَا فِي مُؤْتَمَرِ الصُّلْحِ تِلْكَ الْمُعَاهَدَاتِ النَّاطِقَةَ بِانْتِزَاعِ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَرْمَنِيَّةً وَيُونَانِيَّةً مِنْ سَلْطَنَتِهَا، وَجَعْلِ بَقِيَّةِ بِلَادِهَا وَهِيَ الْوِلَايَاتُ التُّرْكِيَّةُ مَعَ الْعَاصِمَةِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الدُّوَلِ الْقَاهِرَةِ فِي مَالِيَّتِهَا وَإِدَارَتِهَا.

ص: 201

آيَاتُ اللهِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالرَّجَاءُ بَعْدَ الْيَأْسِ:

لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا مُتَّكَأٌ وَلَا مَلْجَأٌ يَأْوِي إِلَيْهِ الْغُرُورُ، وَلَا مَنْفَذٌ يَتَسَرَّبُ مِنْهُ الْأَمَلُ، عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمَعْهُودُ فِي عُرْفِ الدُّوَلِ. هُنَالِكَ يَئِسَ الضُّعَفَاءُ، وَاسْتَسْلَمُوا لِلْأَعْدَاءِ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُرِيَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ آيَاتِ عِنَايَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ الْيَائِسِينَ مِنْ رُوحِهِ وَضَلَالِ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ. فَأُلْهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ مِنْ قُوَّادِ الدَّوْلَةِ فِي الْأَنَاضُولِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَقِرَ الْمَوْتَ. وَأَنَّ كُلَّ مِيتَةٍ يَمُوتُهَا الْإِنْسَانُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الِاسْتِحْذَاءِ، وَالْمَهَانَةِ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلْأَعْدَاءِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ الْمُعْتَصِمَةَ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ، عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُعْتَدِيَةِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ، فَأَلَّفُوا جَمْعِيَّةً وَطَنِيَّةً وَضَعُوا لَهَا مِيثَاقًا تَوَاثَقُوا عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِهِ إِلَى أَنْ يُطَهِّرُوا جَمِيعَ الْبِلَادِ التُّرْكِيَّةِ مِنَ الِاحْتِلَالِ الْأَجْنَبِيِّ فَتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً خَالِصَةً لِأَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَتْ جُيُوشُ الِاحْتِلَالِ فِي بِلَادِهِمْ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَالطَّلْيَانِ وَالْيُونَانِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذِهِ الدُّوَلِ الظَّافِرَةِ بِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ جُنْدِ الْأَنَاضُولِ وَحْدَهُ قَدْ أَنْهَكَتْهُ الْحَرْبُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ بِلَادِ الرُّومَلِلِّي تُرْكِيَا عَلَى رَأْيِهِمْ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِالْآسِتَانَةِ الَّتِي نُزِعَ سِلَاحُهَا وَاحْتَلَّتْهَا هَذِهِ الدُّوَلُ بَرًّا وَبَحْرًا. وَقَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ أَنْ كَانَ الْفَلْجُ وَالظَّفَرُ لِهَذِهِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ بَقَايَا الْجَيْشِ الْعُثْمَانِيِّ الْكَبِيرِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعُثْمَانِيَّةِ، الَّذِي فَشَلَ مَعَ أَعْظَمِ جَيْشٍ وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَسِلَاحًا وَنِظَامًا وَهُوَ فِي أَوْجِ انْتِصَارِهِ - أَعْنِي الْجَيْشَ الْأَلْمَانِيَّ -.

ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَيْشَ الْعُثْمَانِيَّ الْكَبِيرَ كَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ غُلَاةُ الْعَصَبِيَّةِ الطُّورَانِيَّةِ مِنَ الِاتِّحَادِيِّينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَا لُقِّنُوا مِنْ دَسَائِسَ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ، وَخِدَاعِ

الْمَاسُونِيَّةِ، وَالْجَاهِلِينَ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ، وَحَقِيقَتِهِ. فَبَثُّوا دَعْوَةَ الْكُفْرِ وَأَبَاحُوا كَبَائِرَ الْفِسْقِ. وَفَرَّقُوا الْكَلِمَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ. وَفَتَكُوا بِالْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَ أَنْ جَنَّدُوا مِنْهَا زُهَاءَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ جُنْدٍ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِمْ. فَقَتَلُوا وَصَلَبُوا شَبَابَهَا وَكُهُولَهَا النَّابِغِينَ. وَنَفَوُا الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ وَالشُّيُوخَ الْعَاجِزِينَ. فَمَهَّدُوا السَّبِيلَ لِثَوْرَةِ الْحِجَازِ. وَخَسِرُوا مَا لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ الْقُصْوَى إِلَى الِاتِّحَادِ، فَأَنَّى يَنْتَصِرُونَ أَوْ يَنْتَصِرُ بِهِمْ مَنْ يُحَالِفُونَ؟ .

وَأَمَّا جَيْشُ الْأَنَاضُولِ الَّذِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى قِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ زَعِيمُهُ الْأَكْبَرُ (مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا) أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لِأَحَدٍ مِنْ زُعَمَاءِ أُولَئِكَ الْغُلَاةِ بِدُخُولِ الْأَنَاضُولِ فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ لِئَلَّا يُفْسِدُوا عَلَى الْبِلَادِ أَمْرَهَا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ مِنَ الْوُجْهَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَرَفُوا قِيمَةَ الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَطَفِقُوا يَسْعَوْنَ إِلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبِلْشِفِيِّينَ الرُّوسِيِّينَ، لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى

ص: 202

مُقَاوَمَةِ الْمُسْتَعْمِرِينَ، وَجَعْلِ شُعُوبِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَقَدْ قَوِيَتْ آمَالُ هَذِهِ الشُّعُوبِ فِي الِاسْتِقْلَالِ، وَطَفِقُوا يَعْقِدُونَ الْمُعَاهَدَاتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُكُومَةِ مُصْطَفَى كَمَال، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ الشَّرْقِيَّةِ، غَيْرُ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ أَوْلَاهَا بِطَلَبِ الْوَحْدَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنْ خَدَعَهُ زُعَمَاؤُهُ. وَأَضَلَّهُ سَادَتُهُ وَكُبَرَاؤُهُ. عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ. وَشَرُّهُمْ مَنْ غَشَّ قَوْمَهُ وَصَرَفَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ. بِتَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَاعَدَةِ وَالِانْتِدَابِ عَلَى الِاسْتِعْمَارِ الْمُرَادِفِ لِلِاسْتِعْبَادِ. وَزَعْمِ أَنَّ السُّلْطَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَأَنَّ مُنَاصَبَتَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَوَلَاءَهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَسَيَعْلَمُ الْمَفْتُونُونَ بِغِشِّهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْوَمُ قِيلًا، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَصِيرًا، وَيَقُولُونَ:(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)(33: 67، 68) .

وَمِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَلْقَى الْفَشَلَ السِّيَاسِيَّ بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُحْتَلَّةِ لِبِلَادِ الْأَنَاضُولِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَالرُّومَلِلِّي فَسَالَمَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الطَّلْيَانُ، ثُمَّ صَالَحَ الْكَمَالِيَّيْنِ فِيهَا الْفِرِنْسِيسُ، وَخَذَلَ اللهُ تَعَالَى الْيُونَانَ الْمُجَاهِرَةَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُنْفَرِدَةَ بِالْحَرْبِ، اعْتِمَادًا عَلَى مُسَاعَدَةِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَحَوَّلْ عَنْ سِيَاسَتِهَا الْقَدِيمَةِ فِي ضَرْبِ الْأُمَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَخُلِقَ لِهَذِهِ

الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَشَاكِلِ السِّيَاسِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَشْتَهِي مِنَ الْإِجْهَازِ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، وَالْجَرْيِ عَلَى قَاعِدَةِ مَا أَخَذَ الصَّلِيبُ مِنَ الْهِلَالِ لَا يَعُودُ إِلَى الْهِلَالِ حَتَّى عَجَزَتْ - عَلَى دَهَائِهَا وَحَزْمِهَا وَعُلُوِّ نُفُوذِهَا السِّيَاسِيِّ وَالْمَالِيِّ وَالْحَرْبِيِّ فِي أُورُبَّةَ كُلِّهَا - عَنْ حَلِّ أَيَّةِ مُشْكِلَةٍ مِنْهَا:

وَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثٌ

فَأَرَتْنَا قُدْرَةُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا مُنْتَهَى الْعَجْزِ عَنْ بُلُوغِ مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ وَالْأَيْدِ، فَقَدْ ثَارَتْ عَلَيْهَا أَرْلَنْدَةُ وَمِصْرُ وَفِلَسْطِينُ وَالْعِرَاقُ وَالْهِنْدُ ثَوْرَاتٍ مُخْتَلِفَةَ الْمَظَاهِرِ مُتَّفِقَةَ الْمَقَاصِدِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَضْعَفُهَا فِي الظَّاهِرِ أَقْوَاهَا فِي الْبَاطِنِ كَثَوْرَةِ الْهِنْدِ السَّلْبِيَّةِ بِالْمُقَاطَعَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، فَقَدْ دَعَا الزَّعِيمُ الْهِنْدِيُّ الْأَكْبَرُ (غَانْدِهِي) قَوْمَهُ إِلَى عِقَابِ حُكُومَتِهِمُ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْمُسْتَعْمِرَةِ عَلَى اسْتِبْدَادِهَا بِأُمُورِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهَا بِوُجْدَانِهِمْ وَشُعُورِهِمْ بِمُقَاطَعَةِ تِجَارَتِهَا وَتَرْكِ لُبْسِ مَنْسُوجَاتِهَا، فَرَدَّدَ صَدَى دَعْوَتِهِ جَمِيعُ الزُّعَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْهِنْدُوسِ عَلَى سَوَاءٍ، وَطَفِقُوا يَحْرِقُونَ مَا عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ هَذَا اللِّبَاسِ بَعْدَ نَزْعِهِ فِي الْمُحَافِلِ الْعَامَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَقِبَ الْخُطَبِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا،

ص: 203

وَلَوْ حَذَا الْمِصْرِيُّونَ حَذْوَهُمْ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْجَدِيدِ وَلَوْ مَعَ اسْتِبْقَاءِ التَّلِيدِ لَكَانَ ذَلِكَ أَقَرَبَ وَسِيلَةٍ إِلَى نَيْلِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْحُرِّيَّةِ مِنْ خُطَبِ الزَّعِيمِ سَعْدٍ بَاشَا الْبَلِيغَةِ وَمُفَاوَضَاتِ الْوَزِيرِ عَدْلِي بَاشَا الرَّسْمِيَّةِ.

وَمِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَحُجَجَهِ أَيْضًا أَنْ سَخَّرَ الدَّوْلَةَ الرُّوسِيَّةَ الْجَدِيدَةَ لِمُظَاهَرَةِ التُّرْكِ وَشَدِّ أَزْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ عَلَى عَهْدِ الْقَيَاصِرَةِ هِيَ الْخَطَرَ الْأَكْبَرَ عَلَى السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِظُهُورِهَا عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ حُرُوبٍ، بَلِ انْبَرَتْ حُكُومَةُ (السُّوفْيَاتِ) الرُّوسِيَّةُ الْجَدِيدَةُ لِبَثِّ الدَّعْوَةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ وَسَائِرِ شُعُوبِ الشَّرْقِ الْمُسْتَعْبَدَةِ لِلْأَجَانِبِ بِأَنْ يَهُبُّوا لِطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الثَّوْرَةِ فِي الْهِنْدِ - وَجَعَلَ الْإِمَارَةَ الْأَفْغَانِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَقْهُورَةً مَحْصُورَةً بَيْنَ الْبِرِيطَانِيِّينَ فِي الْهِنْدِ وَبَيْنَ الرُّوسِ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً ذَاتَ سُفَرَاءَ لَدَى الدُّوَلِ الْأُورُبِّيَّةِ وَغَيْرِهَا - وَنَجَّى الدَّوْلَةَ الْإِيرَانِيَّةَ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي عَقَدَتْهَا مَعَ

انْكِلْتِرَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ قَاضِيَةً عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِسُوءِ اخْتِيَارِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنْ رِجَالِهَا. بَلْ فَعَلَتْ دَوْلَةُ السُّوفْيَاتِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، عَقَدَتْ مُعَاهَدَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الثَّلَاثِ: التُّرْكِ، وَالْفُرْسِ، وَالْأَفْغَانِ. اعْتَرَفَتْ فِيهَا بِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُنَّ، وَأَرْجَعَتْ إِلَيْهِنَّ مَا كَانَتْ دَوْلَةُ الْقَيَاصِرَةِ قَبْلَهَا قَدْ سَلَبَتْهُنَّ، وَأَسْقَطَتْ لِلْمَدِينَاتِ مِنْهُنَّ لِلرُّوسِيَّةِ مَا كَانَ لَهَا مِنَ الدَّيْنِ عَلَيْهِنَّ، وَسَمَحَتْ لِلدَّوْلَةِ الْإِيرَانِيَّةِ بِمَا لَهَا فِي بِلَادِهَا مِنْ سِكَكِ الْحَدِيدِ؛ فَلِذَا كَانَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ مَعَ الشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ كُلِّهَا رَاضِيًا عَنْ حُكُومَةِ الرُّوسِ الْجَدِيدَةِ شَاكِرًا لَهَا مُثْنِيًا عَلَيْهَا، لَا يُثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ مَا أَصَابَ الْبِلَادَ الرُّوسِيَّةَ نَفْسَهَا مِنَ الْمَصَائِبِ بِتَنْفِيذِ نَظَرِيَّاتِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ فِيهَا، وَلَا مَا بَثَّتْهُ الدَّوْلَةُ الْبِرِيطَانِيَّةُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ذَمِّ هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا، بَلْ كَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَطْفِ عَلَيْهَا وَالشُّكْرِ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَبْعَدَ الشُّعُوبِ عَنِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَذَاهِبِهَا.

فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الشُّعُوبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ رَبِّهَا، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي التَّعَاوُنِ الْمُمْكِنِ عَلَى دَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا وَطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْمُطْلَقِ لِكُلٍّ مِنْهَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَحَالِفَةً مُتَكَافِلَةً فِي سِيَاسَتِهَا، فَهِيَ بَالِغَةٌ بِتَوْفِيقِ اللهِ مُنْتَهَى مَا تُؤَمِّلُ وَتَرْجُو، وَإِنَّمَا الْخِزْيُ وَالسُّوءُ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِإِغْوَاءِ عَدُوِّ اللهِ الْيَائِسِينَ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) (18: 57) .

ص: 204

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَعَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ. جَاءَتْ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ وَأُصُولَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَتْ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينَ، وَفَنَّدَتْ مَا يُورِدُهُ الْكَفَّارُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَمَا بَيَّنَتْ بِالْبَرَاهِينِ فَسَادَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَأُصُولِ الْكُفْرِ وَأَبْطَلَتْ شُبُهَاتِ أَهْلِهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ أُصُولَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الرَّذَائِلِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي

يَنْهَى عَنْهَا، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْجَزَاءَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخِرَةِ، بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى فَوَائِدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا ذُيِّلَتْ بِهِ آيَاتُ الْوَصَايَا. وَمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَامًّا كَعُمُومِهَا، وَلَا مُبَيِّنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كَبَيَانِهَا.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَلَبِّسًا بِالصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ طَابِعُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَلَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا مِنَ الْعَطَايَا، فَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِهِ أَنْ تَكُونَ حَالَةً حَسَنَةً بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى آثَارِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ، فَهُوَ يُعْطِيهِ ذَلِكَ مُضَاعَفًا عَشَرَةَ أَضْعَافٍ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعَبِيدِهِ الْمُكَلَّفِينَ. (وَقَدْ قَرَأَ يَعْقُوبُ " عَشْرٌ " بِالتَّنْوِينِ وَ " أَمْثَالُهَا " بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَشْرَ لَا تَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ، فَقَدْ وَعَدَ بِالْمُضَاعَفَةِ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ التَّغَابُنِ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (64: 17) وَبِالْمُضَاعَفَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَثْرَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)(2: 245) الْآيَةَ. ثُمَّ بِالْمُضَاعَفَةِ سَبْعُمِائَةَ ضِعْفٍ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا أَيْضًا: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(2: 261) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ نَفْسَهَا. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهَا أَوْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُضَاعَفَةَ كُلَّهَا خَاصَّةٌ

ص: 205

بِالْإِنْفَاقِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ عَامَّةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَتَنَاوَلُ مَا زَادَ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَا نَقَصَ عَنْهُ، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَفَاوُتِ الْمُنْفِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَالِاحْتِسَابِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ وَفِيمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَمَلِ كَالْإِخْفَاءِ سِتْرًا عَلَى الْمُعْطِي وَتَبَاعُدًا مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالْإِبْدَاءِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْقُدْوَةِ، وَتَحَرِّي الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، وَفِي الْأَحْوَالِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ كَالرِّيَاءِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَالْعِشْرَةُ مَبْذُولَةٌ

لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالْحَسَنَةِ، وَالْمُضَاعَفَةُ فَوْقَهَا تَخْتَلِفُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُحْسِنِينَ، فَقَدْ بَذَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ عُمَرُ رضي الله عنه نِصْفَ مَا يَمْلِكُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ عَطَاءَيْهِمَا. وَالدِّرْهَمُ مِنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ أَعْظَمُ مِنْ دِينَارِ الْغَنِيِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَمَنْ يَبْذُلُ الدِّرْهَمَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ نَفْسُهُ حَزِينَةً عَلَى فَقْدِهِ لَيْسَ كَمَنْ يَبْذُلُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مَسْرُورَةً بِالتَّوْفِيقِ لِإِيثَارِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِهِ عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (57: 10) وَتَفْصِيلُ التَّفَاوُتِ فِيمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مَا يُرْشِدُ إِلَى غَيْرِهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ أَمْثَالٍ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ لِيَتَّفِقَ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا.

(وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) أَيْ وَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّفَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ الْكُفْرُ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَلَا يُجْزَى إِلَّا عُقُوبَةَ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا. بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي تَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا وَتَقْدِيرِهِ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا بِالْعَدْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: الصِّفَةُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَمْ نَقُلِ الْفِعْلَةُ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَعْرَاضٌ تَزُولُ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَصْفًا لَهَا لَا يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)(139) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي أَهْلِ السَّيِّئَاتِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْهُمْ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ الشِّدَّةِ فِي وَصْفِ عَذَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِالْجَزَاءِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَهٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ

ص: 206

بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا " إِلَخْ. وَالَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّهَا فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ النَّقْصُ مِنَ الشَّيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كِلْتَا

الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (18: 33) ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ تَعَدٍّ وَإِيذَاءٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ لَا مِنَ اللهِ عز وجل لِمَا ذُكِرَ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ إِذْ لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَسْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُمَكِّنُهُ مِنَ الظُّلْمِ كَمَا يَفْعَلُ الْأَقْوِيَاءُ الْأَشْرَارُ فِي الدُّنْيَا بِالضُّعَفَاءِ. وَفِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالظُّلْمِ وَعَدَمِهِ جِدَالٌ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، يَتَأَوَّلُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآيَاتِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَقِّ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيُرَاجَعُ فِيهِ وَفِي مَعْنَى مُضَاعَفَةِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)(4: 40) فَإِنَّهُ يُجَلِّي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَا فِي خِلَافِ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الضَّعْفِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الظُّلْمِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى عَقْلًا وَاسْتِحَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إِنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ.

رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ - ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى كَتَبَهَا اللهُ لَهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ. وَأَخَذُوا هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ:" يَقُولُ اللهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " وَهَذَا يُفَسِّرُ كِتَابَةَ تَرْكِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأَمْرٍ سَلْبِيٍّ مَحْضٍ بَلْ لِعَمَلٍ نَفْسِيٍّ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ عَمَلِ السَّيِّئَةِ مِنْ أَجْلِ ابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَاتِّقَاءِ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ - فَقُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: " فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " وَرَوَى

مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ

ص: 207

ثُمَّ أَتْبَعُهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةَ أَيَّامٍ بِسِتِّينَ يَوْمًا.

وَمِنَ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الثَّوَابَ كُلَّهُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّفَضُّلَ الْمَنْفَعَةُ غَيْرُ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ التَّفَضُّلِ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْعَكْسُ أَوِ الْمُسَاوَاةُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ فَيَكُونُ عَبَثًا وَقَبِيحًا، مِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ الْأَمْثَالِ فِي جَزَاءِ الْحَسَنَةِ تَفَضُّلًا وَالثَّوَابُ غَيْرُهَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ هُوَ الثَّوَابَ وَالتِّسْعَةُ تَفَضُّلًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ أَعْظَمَ وَأَعْلَى شَأْنًا مِنَ التِّسْعَةِ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ التَّفَضُّلُ مَا زَادَ وَفَضَلَ عَلَى أَصْلِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَأَيُّ مَانِعٍ أَنْ يَزِيدَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ حِينَئِذٍ عَبَثًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَوْ كَانَ التَّفَضُّلُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ فَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ شَرْعِيَّةً وَأَجَابَ عَنْهَا أَجْوِبَةً ضَعِيفَةً قَالَ: (الْأَوَّلُ) كُفْرُ سَاعَةٍ كَيْفَ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ عَلَى نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ. (جَوَابُهُ) أَنَّهُ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَزْمُ مُؤَبَّدًا عُوقِبَ عِقَابَ الْأَبَدِ، خِلَافَ الْمُسْلِمِ الْمُذْنِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى عَزْمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى بِنَصِّهِ.

وَنَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) إِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَعْزِمُ أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْعَزْمُ الْمَذْكُورُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ عَرَضَتْ لَهُ عَقِيدَةٌ أَوْ فَعْلَةٌ مِمَّا عَدُّوهُ كُفْرًا سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ وَمَاتَ عَلَيْهَا، وَالْكَفْرُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جُحُودِ الْعِنَادِ وَرُبَّمَا كَانَ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ نَاجُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. (ثَانِيًا) أَنَّ كَوْنَ الْعِقَابِ الْأَبَدِيِّ عَلَى الْعَزْمِ الْمَذْكُورِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ، وَالْعَقْلُ لَا يُوجِبُهُ بَلْ لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ حُكْمًا مَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا يَرِدُ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ هُنَا تَبَعًا لِمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا مِنْ كَوْنِ الْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ تَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ. (ثَالِثُهَا) قَدْ تَنَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِمِثْلِ مَا نَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ

(خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(128) وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَفْيُ كَوْنِ الْعَذَابِ أَبَدِيًّا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَثَانِيهُمَا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ.

ص: 208

ثُمَّ قَالَ: (الثَّانِي) إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ، تَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (جَوَابُهُ) أَنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ وَحُكْمِهِ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ الْعِتْقَ كَفَّارَةً لِذُنُوبٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِنَّمَا لِعِنَايَتِهِ بِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْهَا لَهُ جَزَاءٌ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِهِ، يُشِيرُ إِلَيْهِ تَفَاوُتُ الْكَفَّارَةِ بِالصِّيَامِ.

ثُمَّ قَالَ: (الثَّالِثُ) إِذَا أَحْدَثَ فِي رَأْسِ إِنْسَانٍ مُوضِحَتَيْنِ وَجَبَ فِيهِ أَرْشَانِ فَإِنْ رُفِعَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا صَارَ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوَضِحَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَاهُنَا ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ وَقَلَّ الْعِقَابُ فَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (وَجَوَابُهُ) أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِصَاصِ فِي شَجَّةِ الرَّأْسِ الْمُوضِحَةِ (وَهِيَ مَا كَشَفَ الْعَظْمَ) وَالْمُوضِحَتَيْنِ لَيْسَ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ نَصُّ الشَّرْعِ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَتَعَبَّدْنَا بِهِ تَعَبُّدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَرْشُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِذَا شَجَّ رَجُلٌ رَجُلًا مُوَضِحَتَيْنِ ثُمَّ أَزَالَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَالْمُوضِحَةِ الْوَاحِدَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَبَدَّلُ فَيَصِيرُ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ، وَإِنْ قَالَهُ مَعَهُ مِائَةُ فَقِيهٍ مِثْلُهُ.

ثُمَّ قَالَ: (الرَّابِعُ) إِنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ إِذَا قَتَلَهُ وَفَوَّتَ كُلَّ الْأَعْضَاءِ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَوْلَ مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ (وَجَوَابُهُ) أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ اهـ.

وَنَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ هُوَ وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ كَمَا زَعَمَ بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ إِذَا كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيٌّ لِدَمٍ وَيَرْضَى بِالدِّيَةِ. وَفَسَادُ قَتْلِ الْخَطَأِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ دُونَ فَسَادِ قَطْعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ أَوْ قَلْعِ الْعَيْنِ تَعَمُّدًا ; عَلَى أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِعُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا يُرَاعَى فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ مَا لَا مَحَلَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِشَرْطِهِ يُرَاعَى فِيهِ رَدْعُ الْمُجْرِمِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يُزِيلُ أَمْنَ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَيَسْلُبُ رَاحَتَهُمْ وَيُكَلِّفُهُمْ بَذْلَ مَالٍ كَثِيرٍ وَعَنَاءٍ عَظِيمٍ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ - وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي سَارِقُ الدِّينَارِ أَوْ رُبْعِ الدِّينَارِ وَسَارِقُ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحَسْبُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ هُنَا.

ص: 209

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

قَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْجَامِعَةِ فَكَانَتْ خَيْرَ الْخَوَاتِيمِ فِي بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. ذَلِكَ بِأَنَّنَا بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا أَجْمَعُ السُّورِ لِأُصُولِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهَا وَدَفْعِ الشُّبَهَ عَنْهَا، وَلِإِبْطَالِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهِ. وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ السُّورَةِ فِي أُسْلُوبِهَا وَمَعَانِيهَا ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا امْتَازَتْ بِهِ السُّورَةُ كَثْرَةُ بَدْءِ الْآيَاتِ فِيهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةِ (قُلْ) لِأَنَّهَا لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، كَمَا كَثُرَ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مَبْدُوءَةً بِكَلِمَةِ (وَقَالُوا) مَعَ التَّعْقِيبِ عَلَيْهَا بِكَشْفِ الشُّبْهَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ - تَرَى بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ فِي آخِرِ الْعُشْرِ الْأَوَّلِ وَأَوَّلِ الْعُشْرِ الثَّانِي مِنْهَا - فَجَاءَتْ هَذِهِ الْخَاتِمَةُ بِالْأَمْرِ الْأَخِيرِ لَهُ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ الْقَوْلَ الْجَامِعَ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا فُصِّلَ فِي السُّورَةِ هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَدِينُهُ الْقَيِّمُ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، دُونَ مَا يَدَّعِيهِ الْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْمُحَرِّفُونَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَصِمٌ بِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِيمَانًا وَتَسْلِيمًا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْلَصُ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَخْشَعُ الْعَابِدِينَ، بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَجْدِيدِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ بَعْدَ

تَحْرِيفِهِ وَانْحِرَافِ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَأَنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُخَالِفُنَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مَبْنِيٌّ

ص: 210

عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(12: 106) وَأَنَّ الْجَزَاءَ عِنْدَ اللهِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ أَوْ مُؤَاخَذَتِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. وَأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى سُنَنًا فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ وَاخْتِبَارِهِمْ بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِقَابَ الْمُسِيئِينَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَهْدِمُ أَسَاسَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْوُسَطَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِمْ.

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتِمُ لِلنَّبِيِّنَ لِقَوْمِكَ وَسَائِرِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَهُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ: إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي وَأَوْصَلَنِي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ بِفَضْلِهِ وَاخْتِصَاصِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَذَا غَيْرُهَا إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَتَأْخِيرٍ ; لِأَنَّهُ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)(48: 2) وَهُوَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى طَلَبِهِ مِنْهُ تَعَالَى فِي مُنَاجَاتِكُمْ إِيَّاهُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(1: 6)(دِينًا قِيَمًا) أَيْ إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يَصْلُحُ وَيَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ: فَقَوْلُهُ: (دِينًا) بَدَلٌ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَ (قِيَمًا) صِفَةٌ لَهُ. قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَكَانَ قِيَاسُهُ " قِوَمًا " كَعِوَضٍ وَلَكِنَّهُ أُعِلَّ تَبَعًا لِفِعْلِهِ " قَامَ " كَالْقِيَامِ وَأَصْلُهُ الْقَوَامُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَأَوَاخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الشَّيْءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ (سَيِّدٍ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُسْتَقِيمِ بِزِنَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ بِصِيغَتِهِ وَكَثْرَةِ مَادَّتِهِ وَقِيلَ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ، فَكَانَ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَيِّمًا، أَوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَهْلًا. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)(5: 97) مَا يُفِيدُ الْقَارِئَ تَفْصِيلًا فِيمَا فَسَّرْنَا بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أَيْ أَعْنِي - أَوِ الْزَمُوا - مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ جَمِيعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْعِوَجِ وَالضَّلَالِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ تُنَافِي الشِّرْكَ، فَفِيهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 135) وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

(3: 67 و95) وَسُورَةِ النَّحْلِ (16: 120 و123) وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 79) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَجَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (4: 125) وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ حَنِيفًا هُنَا حَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَقِيلَ: مِنْ إِبْرَاهِيمَ.

ص: 211

هَذَا الدِّينُ دِينُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَقَرَّرَهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَعَلَى آلِهِ هُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ الْعَرَبُ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَّلٌّ يَدَّعِي الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنَ الْعَرَبِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ، مُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ وُصِلَ وَصْفُهُ بِالْحَنِيفِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَكَذَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِادِّعَاءِ اتِّبَاعِهِ وَاتِّبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ الشِّرْكِيَّةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ يَسْرِي إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاحْتِرَاسَ فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (3: 67)

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي إِرْشَادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)(22: 30، 31) وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ يُونُسَ: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(10: 105) وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(30: 30 - 32) فَهَذَا بِمَعْنَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَسِيَاقِهِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.

وَأَمَّا أَمَرُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَا هَدَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَيِّمِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (16: 120 - 123) فَحِكْمَةُ كُلٍّ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ اسْتِمَالَةُ الْعَرَبِ ثُمَّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِبَيَانِ أَنَّ أَسَاسَهُ وَقَوَاعِدَ عَقَائِدِهِ وَدَعَائِمَ فَضَائِلِهِ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى هُدَاهُ وَجَلَالَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(5: 48) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ

ص: 212

بِطُولِهَا لِمُنَاسِبَةِ آخِرِهَا لِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ السُّورِ الطُّوَالِ وَالْمَائِدَةُ آخَرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا. وَإِذْ عَلِمْنَا حِكْمَةَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا مَجَالَ بَعْدُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ، وَلَا أَنَّ مِلَّتَهُ أَكْمَلُ، إِذْ لَيْسَ هَذَا بِمُنَافٍ وَلَا بِمُعَارِضٍ لِنَصِّ آيَةِ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْعَالَمِينَ، عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.

(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هَذَا بَيَانٌ إِجْمَالِيٌّ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْعَمَلِ، بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ جِنْسُهَا الشَّامِلُ لِلْمَفْرُوضِ وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالنُّسُكُ فِي الْأَصْلِ الْعِبَادَةُ أَوْ غَايَتُهَا وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ وَعِبَادَةِ الذَّبَائِحِ وَالْقَرَابِينِ فِيهِ أَوْ مُطْلَقًا. وَفُسِّرَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) (2: 128) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)(2: 200) فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِبَادَاتُ الْحَجِّ كُلُّهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَخْصِيصِ النُّسُكِ بِبَعْضِ الذَّبَائِحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(2: 196) فَالنُّسُكُ فِي هَذِهِ الْفِدْيَةِ ذَبْحُ شَاةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)(22: 34) قَدْ عَيَّنَ التَّعْلِيلَ وَالسِّيَاقَ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالنُّسُكِ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ الْقَرَابِينُ أَوَتُنْحَرُ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَبَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي ذَلِكَ خَاصَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا:(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ)(22: 67) فَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ

مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الدِّينِ أَوِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَا قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمَأْثُورِ بِالذَّبْحِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعِيدِ. وَحَقَّقَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَشَاعِرِ الْحَجِّ وَمَعَاهِدِهِ وَعَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَ فِيهَا لِلْأَصْنَامِ كَالنُّصُبِ.

وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِي تَفْسِيرِ: (نُسُكِي) هُنَا فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ذَبِيحَتِي، وَعَنْ قَتَادَةَ: حَجَّتِي وَمَذْبَحِي. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ضَحِيَّتِي، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ذَبِيحَتِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: يَعْنِي الْحَجَّ. وَلَا يُنَافِي تَنَافِي تَفْسِيرِهِ بِالذَّبِيحَةِ الدِّينِيَّةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ فِدْيَةً أَوْ أُضْحِيَّةً فِي الْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التَّضْحِيَةِ: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي - إِلَى قَوْلِهِ - أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " الْحَدِيثُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

ص: 213

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: " يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِهِ وَقَوْلِي: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ".

وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِلنُّسُكِ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَذَبْحِ النُّسُكِ كَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(108: 2) وَإِذَا فُسِّرَ النُّسُكُ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا يَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ سَبَبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ هُوَ كَوْنَهَا أَعْظَمَ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الشِّرْكُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَرُوحُهَا الدُّعَاءُ وَالتَّعْظِيمُ، وَتُوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الشِّرْكُ مِمَّنْ يُغَالُونَ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ أَوْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ وَالذَّبَائِحُ فَالشِّرْكُ فِيهِمَا أَظْهَرُ، وَقَلَّمَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي الصِّيَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ خَفِيٌّ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا صِيَامًا أَضَافُوهُ إِلَى بَعْضِ مُقَدَّسِيهِمْ كَصَوْمِ السَّيِّدَةِ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا صَدَقَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِي اتِّبَاعِهِمْ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَإِنَّهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ.

وَقَدْ كَانَتِ الذَّبَائِحُ عِنْدَ الْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُقَرِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَيُهِلُّونَ بِهَا لَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخَرَجُوا بِقَرَابِينِهِمْ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ مِنْ كَفَّارَةٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَصَارُوا يُهِلُّونَ بِهَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُنْذِرُونَهَا لِأُولَئِكَ الْقِدِّيسِينَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ عِبَادَةِ الشِّرْكِ، فَمَنْ فَعَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَهَا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ " الْآيَةِ: 145 " وَسُورَتَيِ الْبَقَرَةِ " الْآيَةِ: 173 " وَالْمَائِدَةِ " الْآيَةِ: 3 ". وَمَا تَأْوِيلُ بَعْضِ الْمُعَمَّمِينَ لَهُمْ إِلَّا كَتَأْوِيلِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ.

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

وَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا تَمْتَازُ عَلَى الْعَادَاتِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى الْمَعْبُودِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَطَلَبًا لِمَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوِ الذَّابِحُ بِذَلِكَ وَيَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَهُ فَهُوَ مَعْبُودٌ لَهُ، سَوَاءٌ عَبَّرَ فَاعِلُهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، فَإِنْ تَوَجَّهَ أَحَدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ خَلْقُهُ كَانَ مُشْرِكًا، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

إِنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لَا يَكُونَانِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ إِلَّا خَالِصَيْنِ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُعَدُّ

ص: 214

مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ. وَأَمَّا الْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ فَهُمَا مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَزَعَمَ الرَّازِيُّ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِمَا مَعَ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لِلَّهِ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا تَأْثِيرٌ. وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ السُّخْفِ بِعَصَبِيَّةِ الْمَذْهَبِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُنَافَاةِ قَوْلِهِ:(وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) لَهُ، وَعَنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ وَالْمُشْرِكُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فِي بَيَانِ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ. وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَوْتِهِ - وَكَذَا مَنْ تَأَسَّى بِهِ - لِلَّهِ وَحْدَهُ هُوَ أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَحَصَرَ نِيَّتَهُ وَعَزْمَهُ فِي حَبْسِ حَيَاتِهِ لِطَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ تَعَالَى، وَبَذْلِهَا فِي سَبِيلِهِ لِيَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَعِيشُ عَلَيْهِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كُلُّهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. زَادَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَوْ طَاعَاتِ الْحَيَاةِ وَالْخَيْرَاتِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْمَمَاتِ كَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ أَوِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ أَنْفُسِهِمَا اهـ. وَيُزَادُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْمَوْتِ كُلُّ مَا يَبْتَدِئُ ثَوَابُهُ

بِهِ كَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْمَوْتِ وَمَا يَسْتَمِرُّ بَعْدَهُ - وَإِنْ وُجِدَ قَبْلَهُ - كَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فِي عَهْدِ الْحَيَاةِ، وَالتَّصَانِيفِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ. وَبِهَذَا تَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ غَرَضُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ مِنْ حَيَاتِهِ وَذَخِيرَتُهُ لِمَمَاتِهِ، يَجْعَلُهَا خَالِصَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ " اللهُ " وَ " رَبُّ الْعَالَمِينَ " لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يُطْلِقُونَهُمَا عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ وَلَا مَعْبُودَاتِ غَيْرِهِمُ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي أَشْرَكُوهَا مَعَ الْخَالِقِ سبحانه وتعالى:، وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ (مَحْيَايْ) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ وَلَا يَزَالُ جَارِيًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِرَاقِيِّينَ حَتَّى فِي الشِّعْرِ.

فَتَذَكَّرْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ أَنَّ الَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِلَّهِ وَمَمَاتُهُ لِلَّهِ، يَتَحَرَّى الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَطْلُبُ الْكَمَالَ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، لِيَكُونَ قُدْوَةً فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلًا لِرِضْوَانِ رَبِّهِ الْأَكْبَرِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ يَتَحَرَّى أَنْ يَمُوتَ مِيتَةً مُرْضِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحْرِصُ عَلَى الْحَيَاةِ لِذَاتِهَا، وَلَا يَخَافُ الْمَوْتَ فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي أَهْلِ الْجَوْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَهَذَا مُقْتَضَى الدِّينِ يَقُومُ بِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ، وَلَا يُفَكِّرُ فِيهِ مَنْ يَكْتَفُونَ بِجَعْلِهِ مِنْ قَبِيلِ الرَّوَابِطِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَأَيْنَ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ إِذَا أَقَامُوهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ؟ أُولَئِكَ الْمَادِّيُّونَ الَّذِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعُ بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالتَّعَدِّيَاتُ الْوَحْشِيَّةُ. يَعْدُو الْأَقْوِيَاءُ مِنْهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ لِاسْتِعْبَادِهِمْ، وَتَسْخِيرِهِمْ لِشَهَوَاتِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الدِّينِ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ

ص: 215

قَدْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ، وَفُتِنُوا بِزِينَةِ أَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَقُوَّتِهِمْ. وَلَمْ يُجَارُوهُمْ فِي فُنُونِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَلَوِ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَعَادُوا إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ لَنَالُوا سِيَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ قَدْ أَيْقَظَهُمْ مِنْ رُقَادِهِمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ أَجْدَادِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.

(لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ فَيَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِكَةٌ مَا فِي عِبَادَتِهِ، بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَعَهُ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَتِهِ، أَوْ تُذْبَحَ لَهُ النِّسَائِكُ لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ (مَنْ ذَا

الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255)(وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(21: 28) وَبِذَلِكَ التَّجْرِيدِ فِي الْتَوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، أَمَرَنِي رَبِّي، وَلَا يُعْبَدُ الرَّبُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَ، دُونَ أَهْوَاءِ الْأَنْفُسِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعُقُولِ وَتَقَالِيدِ الْبَشَرِ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَالرُّتْبَةِ، وَأَوَّلُهُمْ فِي الزَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْمُذْعِنِينَ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَنَهْيِهِ، بِحَسَبَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى الَّتِي فَضَّلَهُ بِهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَقَّنَهُ رَبُّهُ الْإِسْلَامَ، فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّامِلَةِ دَعْوَتُهَا لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَالْمَوْصُوفَةِ بَعْدَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ عُمُومُ بَعْثَتِهِ وَخَيْرِيَّةُ أُمَّتِهِ أَوَّلِيَّتَهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلِيَّتُهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ أَيْضًا، فَيَكُونُ أَوَّلًا فِي كُلٍّ مِنْ مَزَايَاهُ الْخَاصَّةِ وَرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْأَوَّلِ مِمَّا فَتَحَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْآنَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.

وَلَمَّا بَيَّنَ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى بُرْهَانِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، بِمَا أَمَرَهُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللهِ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ بِالْحَقِّ، أَطْلُبُ رَبًّا آخَرَ أُشْرِكُهُ فِي عِبَادَتِي لَهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَبْحِ النِّسَائِكِ أَوْ نَذْرِهَا لَهُ، لِيَنْفَعَنِي أَوْ يَمْنَعَ الضُّرَّ عَنِّي، أَوْ لِيُقَرِّبَنِي إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعَ لِي عِنْدَهُ كَمَا تَفْعَلُونَ بِآلِهَتِكُمْ! وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عُبِدَ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَخَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْمَسِيحِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ الْمُذَكِّرَةِ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَصَانِعِيهَا (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (37: 96) ، فَإِذَا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ الْمُقَدِّرَ، وَهُوَ السَّيِّدَ الْمَالِكَ الْمُدَبِّرَ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَفَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَكَيْفَ أُسَفِّهُ نَفْسِي وَأَكْفُرُ رَبِّي بِجَعْلِ الْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ مِثْلِي رِبًّا لِي؟ ! وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ

ص: 216

مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِخَلْقِ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ دُونَ هُوتِهِ إِذِ اللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللهُ سبحانه وتعالى عَنِ الْحُلُولِ فِي الْأَجْسَادِ، وَالتَّحَوُّلِ فِي صُوَرِ الْعِبَادِ.

(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَمُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ

مِثْلُهَا، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ:(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(53: 36 - 39) وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ لِلْبَشَرِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، لِأَنَّهَا هَادِمَةٌ لِأَسَاسِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهَادِيَةٌ لِلْبَشَرِ إِلَى مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ (وَهُوَ عَمَلُهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَسَاسَ الْوَثَنِيَّةِ طَلَبُ رَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ بِقُوَّةٍ مِنْ وَرَاءِ الْغَيْبِ، هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ وَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ - الْمُمْتَازَةِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا - بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ لِيُعْطِيَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ بِدُونِ كَسْبٍ وَلَا سَعْيٍ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِيَحْمِلُوا عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ حَتَّى لَا يُعَاقِبَهُمْ تَعَالَى بِهَا، أَوْ يَحْمِلُوا الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى رَفْعِهَا عَنْهُمْ وَتَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى إِعْطَائِهِمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ سُنَّتِهِ وَتَبْدِيلِهَا فِي أَمْثَالِهِمْ، أَوْ تَحْوِيلِهَا عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ قَالَ فِي كِتَابِهِ:(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا)(35: 43) .

فَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ عَامِلَةٍ مُكَلَّفَةٍ إِثْمًا إِلَّا كَانَ عَلَيْهَا جَزَاؤُهُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا تَحْمِلُ نَفْسٌ فَوْقَ حِمْلِهَا حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ إِنَّمَا تَحْمِلُ وِزْرَهَا وَحْدَهَا (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (2: 286) دُونَ مَا كَسَبَ أَوِ اكْتَسَبَ غَيْرُهَا. وَالْوِزْرُ فِي اللُّغَةِ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَوَزَرَهُ يَزِرُهُ - حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى: لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ غَيْرِهِ، فَالدِّينُ قَدْ عَلَّمَنَا أَنْ نَجْرِيَ عَلَى مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ مِنْ أَنَّ سَعَادَةَ النَّاسِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ عَمَلَ كُلِّ نَفْسٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا التَّأْثِيرَ الْحَسَنَ الَّذِي يُزَكِّيهَا إِنْ كَانَ صَالِحًا، أَوِ التَّأْثِيرَ السَّيِّئَ الَّذِي يُدَسِّيهَا وَيُفْسِدُهَا إِنْ كَانَ فَاسِدًا، وَأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّأْثِيرِ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِي عَمَلٍ أَوْ مُعَلِّمًا لَهُ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِ مَنْ أَرْشَدَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ زِيَادَةً عَلَى انْتِفَاعِهِ بِأَصْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَمَنْ كَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي عَمَلٍ أَوْ دَالًّا عَلَيْهِ وَمُغْرِيًا بِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ أَفْسَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنْ عَمَلِ الْهَادِينَ وَالْمُضِلِّينَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا بِقَوْلِهِ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي

ص: 217

الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ

عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَجَلِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ " مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ. . . وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ. . . " وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُضِلِّينَ مِنَ النَّاسِ: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(16: 25) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)(29: 13) .

وَلَكِنْ أُشْكِلَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ وَلَيْسَ فِي سَائِرِهَا، ذِكْرُ " بِبَعْضِ " وَالْمُرَادُ مِنَ النِّيَاحَةِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْبُكَاءِ الْمُجَرَّدِ، وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ إِذَا أَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ وَكَانَ مِمَّنْ يَرْضَى بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِنُوَاحِ الْحَيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَشْعُرَ بِبُكَائِهِ فَيُؤْلِمَهُ ذَلِكَ، لَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَذِّبُهُ بِهِ وَيُؤَاخِذُهُ عَلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتْ أُمُّ عَمْرِو بِنْتِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ فَحَضَرَتُ الْجِنَازَةَ فَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ بُكَاءً فَقَالَ: أَلَا تَنْهَى هَؤُلَاءِ عَنِ الْبُكَاءِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ " فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّكَ لَتُخْبِرُنِي عَنْ غَيْرِ كَاذِبٍ وَلَا مُتَّهَمٍ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَكْفِيكُمْ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) اهـ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ كُلَّ مَا يُرْوَى لَهَا مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَتَحْمِلُ رِوَايَةَ الصَّادِقِ عَلَى خَطَأِ السَّمْعِ أَوْ سُوءِ الْفَهْمِ - وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ قَصَّرُوا فِي إِعْلَالِ الْأَحَادِيثِ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرِّوَايَةِ الْآحَادِيَّةِ لِلْقَطْعِيِّ كَالْقُرْآنِ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ.

وَمِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَهُ: دُعَاءُ أَوْلَادِهِ لَهُ، أَوْ حَجُّهُمْ وَتَصَدُّقُهُمْ عَنْهُ، وَقَضَاؤُهُمْ لِصَوْمِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَلْحَقَ اللهُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ. وَمَنْ قَالَ بِانْتِفَاعِ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ وَلَدَهُ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلَا الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ صَحَّ فِيهِ الْإِذْنُ

بِالصَّدَقَةِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَبِالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْمُنْذَرَيْنِ مِنْهُمَا أَوِ الْمَفْرُوضَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَلْيَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَقَدْ شَبَّهَ صَلَّى الله عَلَيْهِ

ص: 218

وَسُلَّمَ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ الْوَاجِبَيْنِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْعِبَادَةِ عَنْهُمَا، وَأَنَّ دَيْنَ اللهِ أَحَقُّ بِأَنْ يُقْضَى. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي السَّائِلِ، فَقِيلَ: رَجُلٌ. وَقِيلَ: امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَبٌ. وَقِيلَ: أُخْتٌ. وَقِيلَ: أُمٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي الْمَسْئُولِ فِيهِ هَلْ هُوَ الصِّيَامُ أَوِ الْحَجُّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَذَكَرَ الرَّاوِي وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ لِذَلِكَ ; وَلِهَذَا الْخِلَافِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلِيِّ فِيهِ، فَقِيلَ: كُلُّ قَرِيبٍ. وَقِيلَ الْوَارِثُ. وَقِيلَ: الْعَصَبَةُ. وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ الْوَلَدُ لِيَنْطَبِقَ عَلَى الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى. وَمِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.

وَمَذْهَبُ أَشْهَرِ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُصَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْهَادَوِيَّةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ الْعِتْرَةِ. وَحَصَرَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ الْجَوَازَ بِالنَّذْرِ عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَصُومُ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَدَهُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهَا مِنْ ذِكْرِ الْأُخْتِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلطَّرِيقِ الصَّحِيحِ وَلِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَوْقُوفُ أَوْ فَتْوَاهُ الَّتِي رَوَاهَا النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ " لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُمْ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " وَمِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَانِعَةً مِنَ الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ الصَّحَابِيَّ لَا يُخَالِفُ رِوَايَتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَدَيْهِ مَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا كَكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً، وَمَذْهَبُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْحُجَّةَ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ لَا بِرَأْيِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الْعَمَلَ بِالرِّوَايَةِ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ تَأَوُّلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ تَرْكِهِ عَمْدًا. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَرِوَايَتِهِمَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْ فَتْوَاهُمَا بِأَلَّا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ هُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ بِالنَّصِّ مِنْ صِيَامِ الْوَلَدِ أَوْ حَجِّهِ أَوْ صَدَقَتِهِ عَنْ وَالِدَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا ثَابِتًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِنَذْرٍ، أَوْ إِرَادَةِ وَصِيَّةٍ كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي وَقَائِعِ فَتْوَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ. فَلَا مَحَلَّ إِذًا لِتَخْرِيجِ

الْحَنَفِيَّةِ وَلَا الْجُمْهُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكِتَابُ اللهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.

وَأَمَّا قِيَاسُ عَمَلِ غَيْرِ الْوَلَدِ عَلَى عَمَلِهِ فَبَاطِلٌ، لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ عَلَى كَوْنِهِ قِيَاسًا مَعَ الْفَارِقِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ عَوَّدُونَا اسْتِدْرَاكَ مِثْلِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، كَشَيْخَيِ الْإِسْلَامِ وَالشَّوْكَانِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّينَ.

فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا

ص: 219

إِلَى الْأَمْوَاتِ وَاسْتِئْجَارِ الْقُرَّاءِ وَحَبْسِ الْأَوْقَاتِ عَلَى ذَلِكَ بِدَعٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَمِثْلُهَا مَا يُسَمُّونَهُ إِسْقَاطَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي الدِّينِ لَمَا جَهِلَهَا السَّلَفُ، وَلَوْ عَلِمُوهَا لَمَا أَهْمَلُوا الْعَمَلَ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا لَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَوُقُوعُهُ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ فَتْحِ اللهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ مِنْ حِكَمِ الدِّينَ وَأَسْرَارِهِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ - كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبَدَهُ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ - بَلْ هُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يَهْتَمُّ النَّاسُ بِأَمْرِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَوْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الِاسْتِفَاضَةِ.

(ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ ثُمَّ إِنَّ رُجُوعَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى رَبِّكُمْ وَحْدَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِهِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ أَدْيَانِكُمْ، إِذْ كَانَ بَعْضُكُمْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ، وَبَعْضُكُمْ قَدِ اتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا مِنْ خَلْقِهِ، وَيَتَوَلَّى هُوَ جَزَاءَكُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَدِيمَتَيْنِ، وَيَضِلُّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي سِيَاقِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَذَكَرْنَا نَصَّهُ آنِفًا - وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّةِ عِيسَى:(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(3: 55) وَمِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ بَعْدَ ذِكْرِ طَعْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ: (2: 113) وَلَهُ نَظَائِرُ بَعْضُهَا فِي الْإِنْبَاءِ بِالِاخْتِلَافِ أَوِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْإِنْبَاءِ بِالْعَمَلِ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةُ 22 و108) وَكُلُّهُ إِنْذَارٌ بِالْجَزَاءِ وَبَيَانٌ أَنَّهُ بِيَدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ الَّتِي نُعَبِّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ أَحَدًا كَانَ قَبْلَهُ فِي مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ مُلْكٍ - وَفِي الْخِطَابِ وَجْهَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لِلْبَشَرِ جُمْلَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَهُ فِي الْأَرْضِ بِالتَّبَعِ لِأَبِيهِمْ آدَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ جَعَلَ سُنَنَهُ فِيهِمْ أَنْ تَذْهَبَ أُمَّةٌ وَتَخْلُفَهَا أُخْرَى. (ثَانِيهُمَا) أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ لِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْمُلْكِ وَاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ:(ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(10: 14) وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَالَ تَعَالَى:(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)(24: 55) وَهَذَا اسْتِخْلَافٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ عَامٌّ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أُمَمٍ

ص: 220

سَبَقَتْ وَلَكُمْ فِي سِيرَتِهَا عِبَرٌ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْعَقْلِ وَالْجَهْلِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، لِيَخْتَبِرَكُمْ فِيمَا أَعْطَاكُمْ، أَيْ يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ فِي ذَلِكَ فَيَبْنِي الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ، بِمَعْنَى أَنَّ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي تَفَاوُتِ النَّاسِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ الْوَهْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا اسْتِعْدَادُ كُلٍّ مِنْهُمْ وَدَرَجَةُ وُقُوفِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ عِنْدَ وَصَايَا الدِّينِ وَحُدُودِ الشَّرْعِ وَوِجْدَانِ الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقَلْبِ، وَالْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، وَسَعَادَةُ النَّاسِ أَفْرَادًا وَأُسَرًا وَأُمَمًا، وَشَقَاوَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَابِعَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي مَوَاهِبِهِمْ وَمَزَايَاهُمْ وَمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَطْلُبُهُ النَّاسُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنِعَمِهَا أَوْ رَفْعِ نِقَمِهَا، أَوْ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا وَهُوَ مَنُوطٌ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي ابْتَلَاهُمْ بِهَا بِحَسَبِ مَا قَرَّرَهُ شَرْعُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ الْمُجَرَّدِ، وَمَضَتْ بِهِ سُنَنُهُ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَبِقَدْرِ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ وَسُنَنِ الْكَوْنِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ يَكُونُ حَظُّهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ.

فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مُقَرِّرَةٌ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَهَادِمَةٌ لِقَوَاعِدَ الشِّرْكِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّكَالِ النَّاسِ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَا اتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ مِنَ الْوُسَطَاءِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنْ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضَرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ ; وَلِهَذَا تَرَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ أَوْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَشْقَى النَّاسِ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ نَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَتَرَى خُصُومَهُمْ دَائِمًا ظَافِرِينَ

بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا شَرًّا مِنْهُمْ فِيمَا عَدَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الشِّرْكِ، فَرُبَّمَا تَرَى قَوْمًا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، يَعْتَمِدُونَ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ مِنْ شِفَاءِ مَرَضٍ وَسَعَةِ رِزْقٍ وَنَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى التَّوَسُّلِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَبْحِ النُّذُورِ لَهُمْ وَدُعَائِهِمْ وَالطَّوَافِ بِقُبُورِهِمْ وَالتَّمَسُّحِ بِهَا، وَتَجِدُ آخَرِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ اعْتِقَادِهِمْ وَعَمَلِهِمْ هَذَا وَهُمْ أَحْسَنُ مِنْهُمْ صِحَّةً، وَأَوْسَعُ رِزْقًا وَأَعَزُّ مُلْكًا، وَإِذَا قَاتَلُوهُمْ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسُودُونَهُمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ سُنَنَ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَأَنَّ الرَّغَائِبَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْأَعْمَالِ مَعَ مُرَاعَاةِ تِلْكَ السُّنَنِ، سَوَاءٌ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبَّ الْخَلْقِ هُوَ الْخَالِقُ وَالْوَاضِعُ لِنِظَامِ خَلْقِهِ بِتِلْكَ السُّنَنِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَنِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ أَمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.

وَلَوِ اسْتَوَى شَعْبَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْجَرْيِ عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ الرَّبَّانِيَّةِ لِلِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا بِاللهِ مُسْتَمْسِكًا بِوَصَايَاهُ وَهِدَايَةِ دِينِهِ، وَالْآخَرُ كَافِرًا بِهِ غَيْرُ مُهْتَدٍ بِوَصَايَاهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُهْتَدِيَ يَكُونُ أَعَزَّ وَأَسْعَدَ فِي دُنْيَاهُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ النَّاجِيَ مِنَ الْعَذَابِ، الْفَائِزَ

ص: 221

بِالثَّوَابِ، وَمَنْ جَهِلَ مِصْدَاقَ ذَلِكَ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا، فَأَمَامَهُ تَارِيخُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْهَلُونَ تَارِيخَهُمْ كَمَا يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَمَائِمِ الدِّينِيَّةِ مِنْهُمْ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِالْإِجْمَالِ بَعَدَ شَرْحِ السُّورَةِ لَهُ بِالتَّفْصِيلِ، وَرُبَّمَا يُعِدُّ بَعْضُهُمُ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا، وَيَعْتَمِدُونَ فِي هَذَا عَلَى قُوَّةِ أَنْصَارِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ، وَعَنْ كَوْنِهِمْ صَارُوا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَحُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَعْدَاؤُهُ يَحْتَجُّونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمُ الْمُسَمَّى - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ - الْإِسْلَامَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ بَلْ ضِدَّهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ الْجَاهِلُونَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ فُرَادَى وَثُبَاتٍ - كَالتَّلَامِيذِ - بِمَا يَظْهَرُ لِلَّذِينِ يَقْتَبِسُونَ عُلُومَ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ وَعِلْمَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ لَهَا بِدَعُهُمْ وَتَقَالِيدُهُمُ الْخُرَافِيَّةُ. وَأَمَّا دِينُ اللهِ فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمُرْشِدُ الْأَعْظَمُ لَهَا وَلَوْ فَهِمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ لَكَانُوا أَسْبَقَ إِلَيْهَا.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَهْلَ مَرَاكِشَ: أَنْشَأْنَا مُنْذُ أَنْشَأْنَا الْمَنَارَ نُذَكِّرُهُمْ بِآيَاتِ اللهِ

وَسُنَنِهِ وَأَنْذَرْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ وَالزَّوَالِ بِفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ إِذَا لَمْ يُوَجِّهُوا كُلَّ هِمَّتِهِمْ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْعَصْرِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فَكَانَ يَبْلُغُنَا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ حُلُولِ النَّوَائِبِ بِهِمْ وَتَعْدِي الْأَجَانِبِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَبْرِ (مَوْلَايَ إِدْرِيسَ) فِي فَاسَ رَاجِينَ أَنْ يَكْشِفَ بِاسْتِنْجَادِهِمْ إِيَّاهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ أَنْذَرْنَاهُمْ بَطْشَةَ اللهِ بِتَرْكِ هَدْيِ كِتَابِهِ وَتَنَكُّبِّ سُنَنِهِ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَاتَّكَلُوا عَلَى مَيِّتٍ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ وَلَا لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ وَلَا ضَرَرٍ، وَكَمْ سَبَقَ هَذِهِ الْعِبْرَةَ مِنْ عِبَرٍ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) .

نَزَلَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ نِعَمَ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مِمَّا يَفْتِنُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ - أَيْ يُرَبِّيهِمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ - لِيُظْهِرَ أَيُّهَمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الدَّارَيْنِ. قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(7: 168) وَقَالَ فِي خِطَابِ كُلِّ الْبَشَرِ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)(21: 35) وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(11: 7، 67: 2) وَقَالَ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(18: 7) وَقَالَ فِي ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)(25: 20) وَقَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(3: 186)

ص: 222

وَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(2: 155) وَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)(47: 31) وَقَالَ: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(29: 1 - 3) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(27: 40) وَثَمَّ آيَاتٌ أُخْرَى.

أَرْشَدَنَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ سُنَنِهِ فِي جَعْلِنَا خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وَرَفْعِ بَعْضِنَا دَرَجَاتٍ عَلَى بَعْضٍ، بِأَن

ْ

نَصْبِرَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَنَشْكُرَ فِي السَّرَّاءِ، وَالشُّكْرُ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ النِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مَا يُرْضِي الْمُنْعِمَ تَعَالَى وَتَظْهَرُ بِهِ حِكْمَتُهُ، وَتَعُمُّ رَحْمَتُهُ، كَإِنْفَاقِ فَضْلِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ لِتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ. وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ أَوْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ أَوْ حِكْمِيَّةٍ شُكْرٌ خَاصٌّ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ فَإِنَّهُ يُسِيءُ التَّصَرُّفَ فِي الْحَالَتَيْنِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ النَّاسَ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ وَالْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِمَّا يَهْدِي إِلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَلَكِنْ لَا تَكْمُلُ الْهِدَايَةُ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ شُرِعَ لِمُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ عَلَى حِفْظِ مَوَاهِبِ اللهِ تَعَالَى فِي الْفِطْرَةِ وَمَنْعِ الْهَوَى مِنْ إِفْسَادِهَا، وَصَدِّهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَمَالِهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِالصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ عَوْنٌ عَلَى الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ، وَمَنْجَاةٌ مِنْ جَمِيعِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ سَبَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَلَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا يَجِبُ لَكَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ مُلْكًا وَأَعْدَلَهُمْ حُكْمًا. وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا، وَأَشَدَّهُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَهُمْ ثَرْوَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ بِهِ سَلَفُهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرُهُمُ اللهُ بِأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ أَضَلَّهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْمَيِّتِينَ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ:(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(20: 123، 124)(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)(72: 16، 17) وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَنَعِيمُهَا أَدْوَمُ وَأَعْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ حَالِ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ حُظُوظَ الدُّنْيَا وَحْدَهَا، وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَيَسْعَى لَهَا سَعْيَهَا:(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)(17: 21) وَإِنَّمَا جَعَلَ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لِئَلَّا تَعْظُمَ الْفِتْنَةُ بِجَعْلِ نَعِيمِهَا كُلِّهِ أَوْ مُعْظَمِهِ لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فَيَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لِضَعْفِهِمْ كُفَّارًا، قَالَ

ص: 223

تَعَالَى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)

إِلَى قَوْلِهِ: (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(43: 32 - 35) .

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى سَرِيعُ الْعِقَابِ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ بِنِعَمِهِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ وَتَنَكَّبَّ سُنَنَهُ، وَسُرْعَةُ الْعِقَابِ تَصْدُقُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ الْعَامَّ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ مِنْ سُوءِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا مَا حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُوُنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ مَا حُرِّمَتْ إِلَّا لِضَرَرِهَا، وَهُوَ وَاقِعٌ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ وَأَكْثَرِيٌّ فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَلَكِنَّهُ يَطَّرِدُ فِي الْآخِرَةِ بِتَدْنِيسِهَا النَّفْسَ وَتَدْسِيَتِهَا كَمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا، وَقَدْ يَسْتَبْطِئُ النَّاسُ الْعِقَابَ قَبْلَ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ مَا فِي الْغَيْبِ مَجْهُولٌ لَدَيْهِمْ فَيَسْتَبْعِدُونَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ مَشْهُودٌ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (70: 6، 7) .

وَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَى سُرْعَةِ عِقَابِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ غَفُورٌ لِلتَّوَّابِينَ الْأَوَّابِينَ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، بَلْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَجَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا وَقَدْ يَغْفِرُهَا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (42: 30) وَقَدْ أَكَّدَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ هُنَا بِمَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِهِ الْعِقَابَ وَهُوَ اللَّامُ فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا وَيُكَفِّرَ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا. وَيَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَيَجْعَلَ لَنَا نَصِيبًا عَظِيمًا مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَيَكُونَ مِنْهُ تَوْفِيقُنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ هِدَايَةِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَنَكُونَ هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ تَمَّ تَفْسِيرُ رُبْعِهِ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

اسْتِدْرَاكٌ عَلَى تَفْسِيرِ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْحَرِيصُ عَلَى دِينِهِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا سُمُّوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُمْ سَارُوا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(16: 44) وَتَلَقَّاهَا عَنْهُ بِالْعَمَلِ جَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَصَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله فِي حَصْرِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ الدِّينِيِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ فِي شُذُوذِ أَفْرَادٍ عَمَّا ثَبَتَ عَمَلُ الْجُمْهُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَعَمَلُ الْجُمْهُورِ هُوَ السُّنَّةُ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ. وَالْأَقْوَالُ

وَحْدَهَا لَا يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ بَيَانًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَالْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيٌّ الْمُرْتَضِي كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى

ص: 224

وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ لِمُحَاجَّةِ الْخَوَارِجِ: احْمِلْهُمْ عَلَى السُّنَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ ذُو وُجُوهٍ. فَمُرَادٌ بِالسُّنَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَاهَا الْمُوَافِقِ لِلُّغَةِ لَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِلْمُحَدِّثِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ الَّذِي يَشْمَلُ الْأَخْبَارَ الْقَوْلِيَّةَ وَغَيْرَهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ ذَاتُ وُجُوهٍ أَيْضًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ وُجُوهُهَا الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَكْثَرَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا دُونَهُ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَزَ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ الْعَمَلِيَّةِ وَوَكَّلَ بَيَانَهَا لِعَمَلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْعَمَلِ فَقَالَ:" صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".

أَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِتَذْكِيرِكَ بِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِمَا لَعَلَّكَ اطَّلَعْتَ أَوْ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُصَنَّفِينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(53: 38، 39) فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَارَةً بِالتَّأْوِيلَاتِ السَّخِيفَةِ. وَتَارَةً بِدَعْوَى النَّسْخِ الْبَاطِلَةِ، وَتَارَةً بِدَعْوَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى لَا مِنْ شَرْعِنَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهِمَا بِالْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ كَوْنِ مَضْمُونِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَمُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا كَآيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا تَتِمَّةً لِتَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ سُورَةِ فَاطِرٍ:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(35: 18) وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُعَلِّقَةِ لِلْفَلَاحِ وَالْخُسْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ هَكَذَا بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ الَّذِي تُعَدُّ دَلَالَتُهُ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ أَرْكَانِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْجَزَاءِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ أَيْضًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مُفَصَّلًا وَأَشَرْنَا فِيهِ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ

تَصْحِيحَ كُلِّ مَا فَشَا مِنَ الْبِدَعِ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ وَالْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ ضَلَالَةَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ مِنْهُمْ فَلَا هَمَّ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا أَخْذُ مَا يَرَوْنَهُ مُؤَيِّدًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَتَرْكُ مَا سِوَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَوْ دَعْوَى النَّسْخِ أَوِ احْتِمَالِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْعُمْيَانُ هُمُ الَّذِينَ جَوَّزُوا وَحْدَهُمْ لِلنَّاسِ إِهْدَاءَ عِبَادَاتِهِمْ لِلْمَوْتَى

ص: 225

وَلَكِنْ تَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ; إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى وَالْإِذْنِ لِلْأَوْلَادِ بِأَنْ يَقْضُوا مَا عَلَى وَالِدَيْهِمْ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ - تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِعِبَادَاتِ الْأَحْيَاءِ مُطْلَقًا، غَافِلِينَ عَنْ حَصْرِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فِي الْأَوْلَادِ الَّذِينَ خَصَّ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا. وَحَدِيثُ " صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " يَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَلِيِّ مِنْهُ الْوَلَدُ لِيُوَافِقَهَا مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا كُلِّهَا وَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّرِيحَةِ الْقَطْعِيَّةِ لِأَجْلِ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ الرَّاوِيَةَ لَهُ كَانَتْ تُصَرِّحُ بِعَدَمِ جَوَازِ صِيَامِ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِجَمْعِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْآيَاتِ وَلِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ. وَهُوَ هُنَا مُؤَيِّدٌ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا لَا حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الْجَمْعِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِطْلَاقِ الْجَوَازِ مِنَ الْأَقْوَالِ.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَحْيَائِهِمْ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَا يَنْتَقِلُ ثَوَابُهَا مِنَ الدَّاعِي إِلَى الْمَدْعُوِّ لَهُ وَلَمْ يُرْوَ فِي إِهْدَاءِ ثَوَابِ الدُّعَاءِ شَيْءٌ بَلْ ثَوَابُهُ لِلدَّاعِي وَحْدَهُ سَوَاءٌ اسْتَجَابَهُ اللهُ أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ الْمَدْعُوُّ لَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ، وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِمَا يَنْقُضُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، وَلَا بِمَا يُبْطِلُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ فَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِي صِفَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَنَكْتَفِي مِنَ الْعِلْمِ بِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَحَابِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكَافُلِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ لِلْأَوْلَادِ، وَوَلَدُ الْمَرْءِ مِنْ عَمَلِهِ فَانْتِفَاعُهُ بِعَمَلِهِ يَدْخُلُ فِي الْقَاعِدَةِ لَا أَنَّهُ يُعَارِضُهَا. وَلَوْ كَانَ الْإِذْنُ عَامًّا لَكَثُرَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ بِهِ، وَرُوِيَ مُسْتَفِيضًا أَوْ مُتَوَاتِرًا عَنْهُمْ لِتَوَافُرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; فَإِنَّ مِنْ دَأْبِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمُ

الرَّاسِخَةِ الِاهْتِمَامَ بِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ مَوْتَاهُمْ. وَقَدْ نَقَلَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعِينَ كُلَّ مَا رَأَوْهُ وَعَلِمُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

كَتَبْتُ هَذَا لِأَنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَطَبْعِهِ رَاجَعْتُ مَا كَتَبَهُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ أَطْنَبَ فِيهَا وَأَطَالَ كَعَادَتِهِ بِمَا لَمْ يُطِلْ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا قَارَبَ، وَأَوْرَدَ كُلَّ مَا قِيلَ وَمَا تَصَوَّرَ أَنْ يُقَالَ فِي إِثْبَاتِ وُصُولِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ مُطْلَقًا، وَنَفْيِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِمَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ دُونَ غَيْرِهَا كَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَكَذَا مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ - وَذَكَرَ حُجَجَ كُلِّ فَرِيقٍ وَرَدَّ الْمُخَالِفِينَ عَلَيْهَا، وَأَكْثَرُهَا نَظَرِيَّاتٌ بَاطِلَةٌ وَلَكِنَّهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ وَدِقَّةِ فَهْمِهِ قَدْ غَفَلَ عَنْ كَوْنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَهَا

ص: 226

حُجَّةَ الْمُثْبِتِينَ الْوَحِيدَةَ عَلَى انْتِفَاعِ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ يُهْدَى إِلَيْهِمْ ثَوَابُهُ مِنْ عَمَلِ أَحْيَائِهِمْ قَدْ وَرَدَتْ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ وَرُخِّصَ لِلْأَوْلَادِ وَحْدَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِهَا عَنْ وَالِدَيْهِمْ وَهُوَ لَمْ يَنْسَ مِنْ حُجَجِ الْمَانِعِينَ لِوُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا عَدَمَ نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ وَلَكِنَّهُ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ أَتْبَاعِ السَّلَفِ قَدْ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِجَوَابٍ ضَعِيفٍ جِدًّا فَقَالَ: " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي السَّلَفِ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَلَا أَرْشَدَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ. فَلَوْ كَانَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ لِأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ وَلَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ ".

" فَالْجَوَابُ أَنَّ مُورِدَ هَذَا السُّؤَالِ إِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، قِيلَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي مَنَعَتْ وَصُولَ ثَوَابِ الْقُرْآنِ وَاقْتَضَتْ وَصُولَ ثَوَابِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُصُولِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ ".

" وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي السَّلَفِ، فَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَوْقَافٌ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ وَيُهْدِي إِلَى الْمَوْتَى، وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا كَانُوا يَقْصِدُونَ الْقَبْرَ لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا كَانَ أَحَدُهُمْ يُشْهِدُ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ وَلَا ثَوَابَ

هَذِهِ الصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ، ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: لَوْ كُلِّفْتَ أَنْ تَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ هَذَا الصَّوْمِ لِفُلَانٍ - لَعَجَزْتَ فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى كِتْمَانِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُشْهِدُوا عَلَى اللهِ بِإِيصَالِ ثَوَابِهَا إِلَى أَمْوَاتِهِمْ ".

" فَإِنْ قِيلَ: فَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ دُونَ الْقِرَاءَةِ قِيلَ هُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ بَلْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَهُمْ، فَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ فَأَذِنَ لَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ وَإِمْسَاكٍ وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ؟ وَالْقَائِلُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ; فَإِنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَمَا يُدْرِيهِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُشْهِدُونَ مَنْ حَضَرَهُمْ عَلَيْهِ؟ بَلْ يَكْفِي اطِّلَاعُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ لَا سِيَّمَا وَالتَّلَفُّظُ بِنِيَّةِ الْإِهْدَاءِ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا تَقَدَّمَ ".

" وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّوَابَ مِلْكٌ لِلْعَامِلِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِهِ وَأَهْدَاهُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْصَلَهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَمَا الَّذِي خَصَّ مِنْ هَذَا ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَحَجَرَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُوصِلَهُ إِلَى أَخِيهِ؟

ص: 227

وَهَذَا عَمَلُ النَّاسِ حَتَّى الْمُنْكِرِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ " اهـ.

أَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ: عَفَا اللهُ عَنْ شَيْخِنَا وَأُسْتَاذِنَا الْمُحَقِّقِ، فَلَوْلَا الْغَفْلَةُ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْوَاضِحَةِ لَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الَّتِي نَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِبَعْضِ مَا كَانَ يَرُدُّهَا هُوَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَغْفَلُ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ لِمُورِدِ السُّؤَالِ إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ: مَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي مَنَعَتْ وَصُولَ ثَوَابِ الْقُرْآنِ إِلَخْ فَنُجِيبُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَتِنَا بِأَنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ نُصُوصُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي أَنَّ عَمَلَ كُلِّ عَامِلٍ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالسَّائِلُ إِنَّمَا يَعْتَرِفُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَضَاءِ صِيَامٍ وَحَجٍّ ثَبَتَا عَلَى أَحَدِ وَالِدَيْهِ، وَكَذَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّنْ لَمْ يُوصِ بِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ هَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَنْ وَالِدَيْهِمْ؟ فَأَذِنَ لَهُمْ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَ اللهِ عَنْهُمْ كَمَا يَقْضُونَ دُيُونَ النَّاسِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُمْ - فَهَذِهِ حُقُوقٌ ثَبَتَتْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، أَوْ صَدَقَةٌ كَانَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْ أَحَدِهِمُ الْوَصِيَّةَ بِهَا فَقَامَ مَقَامَهُمْ أَوْلَادُهُمْ فِيهَا أَوْ تَبَرَّعُوا عَنْهُمْ، فَهِيَ لَيْسَتْ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ

كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلَا مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ كَالْمَالِ الَّذِي كَانَ مِلْكَ الْمَيِّتِ وَانْتَقَلَ إِلَى وَلَدِهِ، أَوْ مِنْ كَسْبِ الْوَلَدِ الَّذِي عُدَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ كَسْبِ الْوَالِدِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ أَلْحَقَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(52: 21) وَبِهَذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَارِضَةٍ لِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَلَوْ عَارَضَتْهَا لَكَانَتْ هِيَ الْمَرْجُوحَةَ السَّاقِطَةَ بِهَا، فَبَطَلَ قَوْلُهُ: وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ - إِذِ الْعَمَلُ مُخْتَلِفٌ وَالْعَامِلُ الْمَأْذُونُ لَهُ بِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَمَاثُلَ.

وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ عَدَمَ نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَنِ السَّلَفِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ - فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الْمَشْرُوعَةِ إِلَّا وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ فِيهِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، حَتَّى الصَّدَقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِتَفْضِيلِ إِخْفَائِهَا عَلَى الْإِبْدَاءِ تَكْرِيمًا لِلْفُقَرَاءِ وَسَتْرًا عَلَيْهِمْ، وَلِمَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ الْمُبَطِلَةِ لَهَا. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَوْتَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ حَتَّى إِنَّ الْمُرَاءَاةَ بِهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَقَعُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ لِغَيْرِهِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعِبَادِ الْمُمْتَازِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمَهُ خَوْفَ الرِّيَاءِ. ثُمَّ أَيْنَ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِرْشَادِ وَالْقُدْوَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِمَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي عَمَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ خَيْرِ الْعُصُورِ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْأَمْرَ بِالْبِرِّ كَمَا قِيلَ جَدَلًا إِنَّهُمْ أَخْفَوْا هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ وَحْدَهُ؟ كَلَّا، إِنَّهُمْ كَانُوا هُدَاةً بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَأْثِيرُ الْأَعْمَالِ فِي الْهِدَايَةِ أَقْوَى.

وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ تَخْصِيصَ الْإِذْنِ فِي الْأَحَادِيثِ بِالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ دُونَ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ

ص: 228

إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ - فَجَوَابُهُ: أَنَّ عَدَمَ ابْتِدَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَسُؤَالُ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ نُصُوصِ الدِّينِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَوْهُ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَفْتُوهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي مَنْعِهِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ وَوُصُولِ ثَوَابِ الذِّكْرِ، فَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ مَنْ يَصُومُ عَنْ مَيِّتٍ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّيَامِ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ مِنَ الْوَلَدِ نِيَابَةً عَنِ الْوَالِدِ،

وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَمِلَهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ إِلَخْ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ مَا ذَكَرَ لِلسَّلَفِ أَجْدَرُ بِقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ، وَحَسْبُ النَّافِي نَفْيُهُ لِلنَّقْلِ عَنْهُمْ فِي أَمْرٍ تَدُلُّ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ الْعَقْلُ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَتِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَتَوَاتَرَ عَنْهُمْ أَوِ اسْتَفَاضَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّوَابَ مِلْكٌ لِلْعَامِلِ إِلَخْ. فَلَمْ نَكُنْ نَنْتَظِرُهُ مِنْ أُسْتَاذِنَا وَمُرْشِدِنَا إِلَى اتِّبَاعِ النَّقْلِ فِي أُمُورِ الدِّينِ دُونَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ النَّظَرِيَّةَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ ; فَإِنَّ الثَّوَابَ أَمْرٌ مَجْهُولٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَأُمُورِ الْآخِرَةِ كُلِّهَا، فَإِنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا. وَمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ بِشُرُوطِهَا لَا يَعْرِفُونَ كُنْهَهُ وَلَا مُسْتَحِقَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ ; وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْآيَاتِ وَلَا الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ ثَوَابَ عَمَلِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَمْلِكُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أَوِ الْقَمْحَ وَالتَّمْرَ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، بَلْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي إِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ لَهُ بِتَزْكِيَتِهَا وَجَعْلِهَا أَهْلًا لِجِوَارِهِ وَرِضْوَانِهِ كَمَا قَالَ:(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)(20: 75، 76)(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)(87: 14) إِلَخْ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)(91: 9)(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(9: 103) وَقَالَ: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)(6: 139)

ص: 229

فَذَكَرَ الْوَصْفَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى الصِّفَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالصِّدْقُ وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الصَّرِيحَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَةُ الْحِكْمَةِ وَسَائِرُ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِلْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِمِلْكِ نَفْسٍ لِنَفْسٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، تُؤَيِّدُ كُلُّهَا آيَةَ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَآيَاتِ النَّجْمِ وَغَيْرَهَا، وَتُبْطِلُ دَعْوَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِثَوَابِ عِبَادَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ كَالْمَالِ يُوهَبُ لَكَانَ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَبِيعُونَ ثَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ وَلِحِكْمَةِ

دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَعَمَلُ الْخَلَفِ وَحْدَهُ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ كَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِعَمَلِ أَوْلَادِهِ يُنَافِي الْقَاعِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتَهَا فِي الْجَزَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تَطْبَعُهُ فِي النَّفْسِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ لَا يُزَكِّيهَا عَمَلُ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ - قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَمْرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَصْلِ، لَا بَلْ أَلْحَقُ بِهِ شَيْئًا يَنْقُضُهُ وَلَا يَذْهَبُ بِحِكْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُ بَعْضِ الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ جَعْلُهُ مِنْهُ بِالتَّبَعِ وَالسَّبَبِيَّةِ، كَمَا أَدْخَلَ فِي عُمُومِهِ انْتِفَاعَ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ بِعَمَلِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ أَوِ اقْتَدَى بِعَمَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ شَيْءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ يُحْتَجُّ بِهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ فَكُلُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ وَالِدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لَيْسَ أَعْيَانًا مَمْلُوكَةً لِلْعَامِلِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَوْعَانِ (أَحَدُهُمَا) مَا يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مُبَاشَرَةً وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. (وَثَانِيهُمَا) مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى فِيهَا نَفْعُ الْعَامِلِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ وَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ الَّذِي يَدْعُو لَهُ، أَوْ يَقْضِي دَيْنَ اللهِ أَوِ النَّاسِ أَوْ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَكُونُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْعَامِلِ فِي السَّبَبِيَّةِ لَهَا عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لِلسَّبَبِ، كَتَأْلِيفِ الْكِتَابِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَاعِفَةُ اللهِ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ.

ص: 230

خِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ:

الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الـ16 وَهِيَ: هَلْ تَنْتَفِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى بِشَيْءٍ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ أَمْ لَا؟ وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهَا تَنْتَفِعُ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ فِي أَمْرَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ. (قَالَ)

وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ عَلَى نِزَاعٍ: مَا الَّذِي يَصِلُ مِنْ ثَوَابِهِ! هَلْ هُوَ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ أَمْ ثَوَابُ الْعَمَلِ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَصِلُ ثَوَابُ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّمَا يَصِلُ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وُصُولُهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ الشَّيْءَ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ نِصْفَهُ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ. قَالَ: أَرْجُو. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله لَمْ يَجْزِمْ بِالْجَوَابِ، وَأَنَّ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ انْتِفَاعُ الْوَالِدَيْنِ بِعَمَلِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ فِي رَجَائِهِ خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ - ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِلُ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ، لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ؟ .

(أَقُولُ) : رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ كِتَابَ الْفُرُوعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فَرَأَيْتُ فِيهِ خِلَافًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَحْسَنُهُ وَأَوْلَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ فِي بَحْثِ إِهْدَاءِ الثَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَهُ كَلَامًا فِي عَدَمِ جَوَازِ الْإِيثَارِ بِالْفَضَائِلِ وَالدِّينِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ بَعْضِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَتَقْدِيمِ وَالِدِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ - وَكَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيثَارِ بِمَا أَحْرَزَهُ وَمَا لَمْ يُحْرِزْهُ، ثُمَّ قَالَ:" وَقَالَ شَيْخُنَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إِهْدَاءُ ذَلِكَ إِلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا يَدْعُونَ لَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْهُمْ ; وَلِهَذَا لَمْ يَرَهُ شَيْخُنَا كَمَنْ لَهُ أَجْرُ الْعَالِمِ كَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمِ الْخَيْرِ بِخِلَافِ الْوَالِدِ لِأَنَّ لَهُ أَجْرًا لَا كَأَجْرِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْعَامِلَ يُثَابُ عَلَى إِهْدَائِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُهُ أَيْضًا، فَإِنْ جَازَ إِهْدَاؤُهُ فَهَلُمَّ جَرًّا، وَيَتَسَلْسَلُ ثَوَابُ الْعَامِلِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ، وَإِنْ قِيلَ يَحْصُلُ ثَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى لِلْعَامِلِ ثَوَابٌ فَلَمْ يُشَرِّعِ اللهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْفَعَ غَيْرَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا مَنفَعَةَ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ فَيَتَضَرَّرَ (كَذَا) وَلَا يَلْزَمُ دُعَاؤُهُ لَهُ وَنَحْوُهُ ; لِأَنَّهُ مُكَافَأَةٌ لَهُ كَمُكَافَأَتِهِ لِغَيْرِهِ، يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمُكَافَأَةِ وَلِلْمَدْعُوِّ لَهُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَضَرَّرْ وَلَمْ يَتَسَلْسَلْ وَلَا يَقْصِدُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ اللهِ " اهـ.

وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَقْدَمَ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ وَشُيُوخِ الْجُنَيْدِ، ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ عَنْ تَارِيخِ الْحَاكِمِ

ص: 231

مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ وَقَدْ

بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا انْفَرَدَ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يُعِدُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ أَوْ عَمَلَهُ حُجَّةً أَوْ يَتَّخِذُهُ قُدْوَةً فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ بَعْدَ تَابِعِ التَّابِعِينَ - فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ السُّنَّةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مُحَرِّرُ مَذَاهِبِ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَاخِرِ تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ، فَذَكَرَ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَفْعِ الدُّعَاءِ وَخِلَافَهُمْ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَاخْتِيَارَ الْوُصُولِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ " إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ " إِلَخْ. وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ بَلْ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا عَلِمْتَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُهُ أَوْ مِثْلَ ثَوَابِ مَا قَرَأْتُهُ زِيَادَةً فِي شَرَفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ مَعَ كَمَالِهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْقُرَّاءِ لَا أَعْرِفُ لَهُمْ سَلَفًا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ كَمَا تَخَيَّلَهُ السَّائِلُ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ: اللهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا إِلَخْ. فَلَعَلَّ الْمُخْتَرِعَ الْمَذْكُورَ قَاسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ مَعْنَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ أَنْ تُتَقَبَّلَ قِرَاءَتُهُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَإِذَا أُثِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَانَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ نَظِيرُ أَجْرِهِ وَلِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي شَرَفِهِ وَإِنْ كَانَ شَرَفُهُ مُسْتَقِرًّا حَاصِلًا اهـ.

وَنَقُولُ: حَسْبُنَا مِنَ الْحَافِظِ - أَثَابَهُ اللهُ - أَنَّ هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِمَامُ النَّقْلِ وَحَافِظُ السُّنَّةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ فَهُوَ قِيَاسٌ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ بِكَثْرَةِ مَنْ يَحُجُّهُ وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ، وَزِيَادَةُ ثَوَابِ الْمُعَلِّمِ الْمُرْشِدِ بِعَمَلِ مَنْ أَخَذَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ لَا يُسَمَّى شَرَفًا فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالسُّبْكِيِّ وَالْبَارِزِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَابْنِ عَقِيلٍ تَبَعًا لِعَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَكَانَ فِي طَبَقَةِ الْجُنَيْدِ وَلِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِهْدَاءُ ثَوَابِ الْقُرْآنِ لَهُ عليه الصلاة والسلام الَّذِي هُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمُجِيزِينَ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ قَاضِي شِهْبَةَ: يُمْنَعُ، وَابْنُ الْعَطَّارِ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: لَا يُرْوَى عَنِ السَّلَفِ وَنَحْنُ

بِهِمْ نَقْتَدِي. ثُمَّ قَالَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا كَانَ يُهْدَى إِلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمَّا طَلَبَ الدُّعَاءَ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَحَثَّ الْأُمَّةَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّبَعْتَ، وَإِنْ فَعَلْتَ فَقَدْ قِيلَ بِهِ اهـ.

ص: 232

كَلَامُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ. وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ: الْأَحْوَطُ التَّرْكُ. مِنْ كَنْزِ الرَّاغِبِينَ لِلْبُرْهَانِ التَّاجِيِّ مُلَخَّصًا، فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَحَيَّا اللهُ مُرَجِّحِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ الْأَحْوَطَ فَقَطْ بَلِ الْمُتَعَيَّنُ الَّذِي يَرُدُّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ وَيَضْرِبُ بِأَقْيِسَةِ الْمُخَالِفِينَ عُرْضَ الْحَائِطِ، لَا لِمُخَالَفَتِهَا هَدْيَ سَلَفِ الْأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِظُهُورِ بُطْلَانِهَا وَمُصَادَمَتِهَا لِلنُّصُوصِ أَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ إِهْدَاءِ الْعِبَادَاتِ أَوْ ثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى إِهْدَاءِ مَتَاعِ الدُّنْيَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلنَّصِّ، وَحَسْبُنَا اتِّبَاعُ السَّلَفِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ:

فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ

وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ

ثُمَّ أَقُولُ: وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ فِقْهِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ فَاغْتَرَّ بِالْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّهُ اهْتَدَى إِلَى الصَّوَابِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى أَحَادِيثِ الْمُنْتَقَى فِي بَابِ مَا يُهْدَى مِنَ الْقُرَبِ إِلَى الْمَوْتَى، وَكُلُّهَا وَارِدَةٌ فِي تَصَدُّقِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ وَالْحَجِّ قَالَ:

" وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إِلَيْهِمَا ثَوَابُهَا فَيُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 39) وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَّا لُحُوقُ الصَّدَقَةِ مِنَ الْوَلَدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ فَالظَّاهِرُ الْعُمُومَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ، فَيُوقَفُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا " ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

هَذَا وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِأَحَادِيثَ اغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِكُلِّ مَا يُعْمَلُ لِأَجْلِهِمْ أَوْ يُهْدَى إِلَيْهِمْ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِمْ.

(1)

حَدِيثُ وَضْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ أُوِحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ أَصْحَابَهُمَا يُعَذَّبَانِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِعَمَلِ الْأَحْيَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلًا وَلَا اسْتِئْنَاسًا فَإِنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(2)

حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ " مَنْ شُبْرُمَةُ؟ " قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ " حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ " حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ " قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ. وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: رَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ وَقْفَهُ وَقَالَ أَحْمَدُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ. وَأَقُولُ:

ص: 233

إِنَّ فِي سَنَدِهِ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ وَلَمْ يُنْسَبْ عَزْرَةُ إِلَى وَالِدٍ وَلَا بَلَدٍ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّ عَزْرَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. فَتَرَجَّحَ بِهَذَا أَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ تَمِيمٍ، لِأَنَّ قَتَادَةَ قَدِ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي التَّهْذِيبِ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَةِ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ فَوَقَعَ عِنْدَهُمَا عَزْرَةُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَوَى قَتَادَةُ أَيْضًا عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ هَذَا - فَقَتَادَةُ قَدْ رَوَى عَنْ ثَلَاثَةٍ كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ عَزْرَةُ، فَقَوْلُ النَّسَائِيِّ فِي التَّمْيِيزِ " عَزْرَةُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ " لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي عَزْرَةَ بْنِ تَمِيمٍ كَمَا سَاقَهُ فِيهِ الْمُؤَلِّفُ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ. (قُلْتُ) وَعَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ اهـ.

وَنَقُولُ: قَدْ تَفَطَّنَّا لِمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فَوَجَدْنَا لِجَرْحِ النَّسَائِيِّ لَهُ مَخْرَجًا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ وُثِّقَا. وَالنِّسَائِيُّ مِمَّنْ وَثَّقُوا الْأَوَّلَ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَهُمَا، فَهُوَ إِمَّا ابْنُ تَمِيمٍ وَإِمَّا ابْنُ يَحْيَى الْمَجْهُولُ - فَكَيْفَ نَأْخُذُ بِحَدِيثٍ مَوْقُوفٍ انْفَرَدَ بِهِ مِثْلُ هَذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ مُخَالِفَةٍ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ.

(3)

حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ " اقْرَءُوا " يس " عَلَى مَوْتَاكُمْ " قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ " يس قَلْبُ الْقُرْآنِ لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ " قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالِاضْطِرَابِ وَبِالْوَقْفِ وَبِجَهَالَةِ حَالِ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِيهِ فِي السَّنَدِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ مَجْهُولُ الْمَتْنِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لِلْحَدِيثِ لِأَبِي دَاوُدَ وَالْأَخِيرَ لِأَحْمَدَ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ لَفْظَ ابْنِ مَاجَهْ " اقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " يَعْنِي " يس "، وَالنَّسَائِيُّ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي سُنَنِهِ بَلْ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ حِبَّانَ يَتَسَاهَلُ فِي التَّصْحِيحِ فَيُتَثَبَّتُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ لِلنُّقَّادِ فِي مُعَارَضَتِهِ فِيهِ فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ بِمُعَارَضَتِهِ وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهِ مُخَالِفًا لِلْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَشْمَلُهَا النُّصُوصُ الْعَامَّةُ وَبَيْنَ مَا تَدُلُّ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، بَلْ عَلَى حَظْرِهِ وَكَوْنِهِ بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ قِرَاءَةَ سُورَةِ يس عَلَى الْقُبُورِ قَدْ عَمَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَصَارَ كَالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّبَعَةِ لِمَا لِلْأَنْفُسِ مِنَ الْهَوَى فِي ذَلِكَ.

ص: 234

ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ، أَيِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رُوَاةُ الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حِكْمَتَهُ سَمَاعُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى لِيَكُونَ آخِرَ مَا تَشْتَغِلُ بِهِ نَفْسُ الْمَيِّتِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (بَابِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَيِّتِ) وَابْنُ مَاجَهْ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِذَا احْتَضَرَ) وَقَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ عِبَارَةِ " عَلَى مَوْتَاكُمْ " أَيِ الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضِرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " لِكُلِّ شَيْءٍ قَلَبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس " إِيذَانٌ بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُزَادُ بِهِ قُوَّةُ قَلْبِهِ وَيَشْتَدُّ تَصْدِيقُهُ بِالْأُصُولِ. فَهُوَ إِذًا عَمَلُهُ وَمَهَمُّهُ، قَالَهُ الْقَارِئُ اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرُّوحِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَعُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ بِمَا أَرْبَى بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ نَفَعَنَا اللهُ بِعُلُومِهِ " وَفِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزْنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمُحْتَضِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ". (الثَّانِي) انْتِفَاعُ الْمُحْتَضِرِ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَغِبْطَةِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(36: 26، 27) فَيَسْتَبْشِرُ الرُّوحُ بِذَلِكَ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ فَيُحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَلَهَا خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شَيْخِنَا أَبِي الْوَقْتِ عَبْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِنَا بِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَضَحِكَ وَقَالَ:(يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وَقَضَى.

(الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّاسِ وَعَادَتُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يَقْرَءُونَ " يس " عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ.

(الرَّابِعُ) أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " قِرَاءَتَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ لَمَا أَخَلُّوا بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ.

(الْخَامِسُ) أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِاسْتِمَاعِهَا وَحُضُورِ قَلْبِهِ وَذِهْنِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا فِي آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا

ص: 235

هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ إِمَّا بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالِاسْتِمَاعِ وَهُوَ عَمَلٌ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِنَ الْمَيِّتِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا التَّحْقِيقُ كَافٍ فِي بَابِهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عِنْدَ دَفْنِهِ - وَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْصَى بِهِ - فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى تَلْقِينِ التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالتَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ مُبَشِّرٌ الْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ اللَّجْلَاجِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحَدٌ غَيْرُ مُبَشِّرٍ هَذَا، وَغَايَةُ مَا قَالُوا فِيهِ إِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ غَيْرُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا يُخَصَّصُ عُمُومُهُ بِوُرُودِ الْقِرَاءَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ عِنْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشُّذُوذِ.

وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ يُعْلَمُ سَبَبُ اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِ الْفُرُوعِ:(فَصْلٌ) لَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَفِي الْمَقْبَرَةِ نُصَّ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقِيلَ: تُبَاحُ. وَقِيلَ: تُسْتَحَبُّ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ. نُصَّ عَلَيْهِ كَالسَّلَامِ

وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ وَقْتَ دَفْنِهِ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ اخْتَارَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ وَأَبُو حَفْصٍ (وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ) قَالَ شَيْخُنَا: نَقَلَهَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ (أَيْ أَصْحَابُ أَحْمَدَ) . . . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَبُو حَفْصٍ يُغَلِّبُ الْحَظْرَ (أَيْ كَوْنُهَا حَرَامًا) ثُمَّ هَاهُنَا ذَكَرَ وَصِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، الَّتِي هِيَ سَبَبُ رُجُوعِ أَحْمَدَ عَنْ حَظْرِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ فِي نَذْرِ الْقِرَاءَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَقَوْلُ الْمَرُّوذِيِّ بِنَاءً عَلَى الْحَظْرِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَقْرَأُ - ثُمَّ قَالَ: وَعَنْهُ (أَيِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ عليه السلام وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَسَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ (أَيِ ابْنُهُ) يَحْمِلُ مُصْحَفًا إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَقْرَأُ فِيهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ وَلَا رُخَّصَ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا كَاعْتِيَادِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوِ الذِّكْرِ أَوِ الصِّيَامِ، قَالَ: وَاتِّخَاذُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَهَا وَلَوْ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا بِدَعَةٌ، وَلَوْ نَفَعَ الْمَيِّتَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ " اهـ. وَلِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْوَقْتِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ كَبُطْلَانِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِنْ تَشْيِيدِهَا وَالْبِنَاءِ وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي صَارَتْ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فِي عِدَادِ السُّنَنِ، بَلْ يَهْتَمُّونَ لَهُمَا مَا لَا يَهْتَمُّونَ لِلْفَرَائِضِ لِلْأَهْوَاءِ الْمَوْرُوثَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ قِرَاءَةِ سُورَةِ " يس " عَلَى الْمَوْتَى غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أُرِيدَ

ص: 236

بِهِ مَنْ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ قَطُّ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ وَعَمَّ الْبَدْوَ وَالْحَضَرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْمَوْتَى لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَكِنَّهُ صَارَ بِسُكُوتِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْعُلَمَاءِ وَبِإِقْرَارِهِمْ لَهُ ثُمَّ بِمُجَارَاةِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوِ الْفَرَائِضِ الْمُحَتَّمَةِ.

وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)(82: 19)(وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)(31: 33) وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَ أَقْرَبَ أَهْلِ عَشِيرَتِهِ إِلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ أَنِ " اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ

مِنَ اللهِ شَيْئًا " فَقَالَ ذَلِكَ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَلِابْنَتِهِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ. وَأَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالثَّوَابُ مَا يَثُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ - إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فَلَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ.

وَوَرَدَ مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَفِي غَيْرِهَا فَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ ثَوَابُهَا لِفَاعِلِهَا سَوَاءٌ اسْتُجِيبَ أَمْ لَا، وَيَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا اسْتِجَابَةُ كُلِّ دُعَاءٍ لِتَنَاقُضِ الْأَدْعِيَةِ وَلِاقْتِضَاءِ الِاسْتِجَابَةِ أَلَّا يُعَاقَبَ فَاسِقٌ وَلَا مُجْرِمٌ إِلَّا إِذَا اتَّفَقَ وُجُودُ أَحَدٍ لَا يَدْعُو لَهُ أَحَدٌ بِرَحْمَةٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ عَدَمِ صِدْقِهَا.

وَوَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ جَوَازُ صَدَقَةِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ وَدُعَائِهِمْ لَهُمَا وَقَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ مَعَ النُّصُوصِ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَنْتَفِعَانِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمَا لِأَنَّ الشَّارِعَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمَا فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا مَا يَنُوبُونَ عَنْهُمَا فِيهِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِ اللهِ تَعَالَى كَدُيُونِ النَّاسِ، وَيَنَالُهُمَا مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُمَا خَيْرٌ، لَيْسَ هُوَ ثَوَابَ الدُّعَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مَدَارُ الْجَزَاءِ وَالنَّجَاةِ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا عَلَى عَمَلِ أَوْلَادِهِ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ.

فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَ الْهُدَى، وَيَتَّقِيَ جَعْلَ الدِّينَ تَابِعًا لِلْهَوَى، فَلْيَقِفْ عِنْدَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَيَتَّبِعْ فِيهَا سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَعْرِضْ عَنْ أَقْيِسَةِ بَعْضِ الْخَلَفِ الْمُرَوِّجَةِ لِلْبِدَعِ. وَإِذَا زَيَّنَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ يُمَكِنُكَ أَنْ تَكُونَ أَهْدَى وَأَكْمَلَ عَمَلًا بِالدِّينِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَالصَّحِيحَةِ الَّتِي يَضْعُفُ الْخِلَافُ فِيهَا،

ص: 237

وَانْظُرْ أَيْنَ مَكَانُكَ مِنْهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ وَلَوْ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ أَنَّكَ بَلَغْتَ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَوَنَصِيفَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْذَرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ إِلَّا جَهُولٌ مَفْتُونٌ، أَوْ مَنْ بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْبِدَعِ، مُقَصِّرُونَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّنَنِ، وَمِنْهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَإِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا الْتَزَمُوا فِي الْمَقَابِرِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ، وَيَجْتَمِعُ لَدَيْهَا النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَطْفَالُ، وَلَا سِيَّمَا فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَتُذْبَحُ عِنْدَهَا الذَّبَائِحُ، وَتُطْبَخُ أَنْوَاعُ الْمَآكِلِ، فَيَأْكُلُونَ ثُمَّ يَشْرَبُونَ، وَيَبُولُونَ وَيَغُوطُونَ، وَيَلْغُونَ وَيَصْخَبُونَ وَيَقْرَأُ لَهُمُ الْقُرْآنَ، مَنْ يَسْتَأْجِرُونَ

لِذَلِكَ مِنَ الْعُمْيَانِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَإِذَا كَانَ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُبَاحَاتِ يُعَدُّ هُنَالِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؟ .

وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي حَظْرِ هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتِ فِي الْمَقَابِرِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ) لَكَفَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَآيَاتِ الْيَقِينِ تُوقَفُ لَهَا الْأَوْقَافُ الَّتِي يُسَجِّلُهَا وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا قُضَاةُ الشَّرْعِ الْجَاهِلُونَ، وَيَأْكُلُ مِنْهَا أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يَتْرُكُونَ بَعْضَ السُّنَنِ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَظُنَّ الْعَوَامُّ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْتِزَامِهَا تَأَسِّيًا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْفَرَائِضِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَصَّرُوا فِي الْفَرَائِضِ، وَتَرَكُوا السُّنَنَ وَالشَّعَائِرَ، وَوَاظَبُوا عَلَى هَذِهِ الْبِدَعِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتْرُكُونِ لِأَجْلِهَا الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ

لَوْ سُمِّيَتْ سُوَرُ الْقُرْآنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جُلِّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ سُورَةٍ أَوْ عَلَى أَهَمِّهِ لَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ سُورَةَ التَّوْحِيدِ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ عِلْمِ الْعَقَائِدِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَسَاسُهَا وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ مَعَ دَلَائِلِهَا، وَمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَلِرَدِّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ هَدْمِ هَيَاكِلِ الشِّرْكِ وَتَقْوِيضِ أَرْكَانِهِ، وَلِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَتَفْنِيدِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِآيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ، وَمُبَيِّنَةٍ لِوَظَائِفِ الرَّسُولِ وَدَعْوَتِهِ وَهَدْيِهِ

ص: 238

فِي النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَلِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَلِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِأُصُولِ الدِّينِ وَوَصَايَاهُ الْجَامِعَةِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ - وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى طُولِهَا قِصَّةٌ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ مِنَ الطُّولِ، وَيُونُسَ وَهُودٍ مَنَّ الْمِئِينَ، وَالطَّوَاسِينَ مِنَ الْمَثَانِي، بَلْ جَمِيعُ آيَاتِهَا فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْجَزَاءِ وَأُصُولِ الْبِرِّ وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ

وَالْكَافِرِينَ، وَآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ عليهم السلام مُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَذُكِرَ فِيهَا مُوسَى وَالتَّوْرَاةُ لِلشَّبَهِ بَيْنَ رِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ وَبَيْنَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ عليهما السلام كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ وَصَايَا الْقُرْآنِ الْعَشْرُ وَوَصَايَا التَّوْرَاةِ الْعَشْرُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ حَالِ الرُّسُلِ عَامَّةً مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَتَسْلِيَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَإِنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَالِ نُذَكِّرُ الْقُرَّاءَ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الَّتِي يَغْفَلُ الْكَثِيرُونَ عَنْ جُمْلَتِهَا وَفَوَائِدِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا.

أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ:

أَمَّا مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ فَقَدْ فُصِّلَتْ أَبْلَغَ تَفْصِيلٍ بِأَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعَالِيَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، كَبَيَانَ صِفَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَفْعَالِهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ. وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَمَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ فِي الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الدَّارَيْنِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَنَاهِيكَ بِإِيرَادِ الْحَقِيقَةِ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، أَوْ وُرُودِهَا جَوَابًا بَعْدَ سُؤَالٍ، أَوْ تَجَلِّيهَا فِي وُرُودِ الْوَقَائِعِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَعْلَى الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلُهَا جَمْعًا بَيْنَ إِقْنَاعِ الْعُقُولِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيَقْتَرِنُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ، بِحُبِّ التَّعْظِيمِ وَخُشُوعِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَذْكُرُ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، فَيَكُونُ مَثَلُهَا فِيهِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الطِّينِ الْآسِنِ تُلْقَى فِي غَدِيرٍ صَافٍ. يَتَدَفَّقُ مِنْ صَخْرٍ. عَلَى حَصْبَاءَ كَالدُّرِّ. لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتَضَاءَلَ وَتَخْفَى. وَلَا تُكَدِّرَ لَهُ صَفْوًا. حَتَّى إِنَّهُ لَيُسْتَغْنَى، بِمُجَرَّدِ بَيَانِهَا، عَنْ وَصْفِ قُبْحِهَا وَالْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَكَيْفَ وَهِيَ تُقْرَنُ غَالِبًا بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لِمَا غَشِيَهَا مِنَ التَّلْبِيسِ. أَوْ يُقَفَّى عَلَيْهَا بِالْبُرْهَانِ الدَّامِغِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ. وَلَا تَغْفَلُ عَنْ أُسْلُوبِ إِحَالَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا أُوْدِعَ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ. وَتَذْكِيرِهِمْ بِمُعَارَضَتِهِ لِمَا أَلِفُوا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَفَسَادِ نَظَرِهِمْ. وَلَا عَنْ أُسْلُوبِ إِنْذَارِ سُوءِ الْمَغَبَّةِ فِي الْعَاجِلَةِ. وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ.

أَضَلَّتِ الْفَلْسَفَةُ الْيُونَانِيَّةُ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْعُلْيَا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا اقْتَدَوْا بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ طَفِقُوا يُلَقِّنُونَ النَّشْءَ الْإِسْلَامِيَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَسْرُودَةً سَرْدًا

مَعْدُودَةً عَدًّا.

ص: 239

مُعَرَّفَةً بِحُدُودٍ نَاقِصَةٍ، أَوْ رُسُومٍ دَارِسَةٍ مَقْرُونَةٍ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ وَتَشْكِيكَاتٍ جَدَلِيَّةٍ. لَا تُثْمِرُ إِيمَانَ الْإِذْعَانِ، وَلَا خَشْيَةَ الدَّيَّانِ، وَلَا حُبَّ الرَّحْمَنِ، بَلْ تُثِيرُ رَوَاكِدَ الشُّبُهَاتِ. وَتَتَعَارَضُ فِي إِثْبَاتِهَا دَلَائِلُ النَّظَرِيَّاتِ.

تَأَمَّلْ كَيْفَ بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. ثُمَّ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَقَضَاءِ الْآجَالِ، وَكَيْفَ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ ذِكْرُ شِرْكِ الْكَافِرِينَ بِرَبِّهِمْ بِجَعْلِ بَعْضِ خَلْقِهِ عَدْلًا لَهُ. مَعَ أَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ لَا يُعَادِلُهُ أَحَدٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَعُطِفَ عَلَى الثَّانِي التَّنْبِيهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. تَذْكِيرًا لِلْمُسْتَعِدِّ لِلْفَهْمِ بِالْمَانِعِ لِيُجْتَنَبَ، وَالْمُقْتَضِي لِيُتَّبَعَ، وَإِيذَانًا لِلْعَاقِلِ بِأَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.

وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ لُبَابُ الدِّينِ وَرُوحُهُ نَوْعَيْنِ - تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ - بَيَّنَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ قَلِيلًا فِي النَّاسِ وَالشَّرَكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ دُونَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْكَثِيرَ الْفَاشِيَ، وَعَلَيْهِ سَوَادُ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ الْأَعْظَمِ، بُنِيَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ ذَاكَ، كَمَا بُنِيَتْ حُجَجُ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُعْتَرَفِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ، رَاجِعْ فِي فِهْرَسَيِ الْجُزْءَيْنِ السَّابِعِ وَالثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ بَحْثَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ بِحَثَ نَجَاةِ النَّاسِ وَسَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.

وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا التَّذْكِيرِ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودِينَ. وَاتِّخَاذَ الْكَوَاكِبِ أَرْبَابًا أَيْ مُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَالِقِينَ، وَهُوَ بَحْثٌ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ فِي قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ تَعَدَّدَتْ فِيهَا الْحُجَجُ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا، فَكَانَ أَجْدَرَ بِأَنْ يُوعَى فَيُحْفَظَ، وَيُعْقَلَ فَيُقْبَلَ. وَقَدْ أَسْهَبْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ فَاسْتَغْرَقَ خَمْسِينَ صَفْحَةً أَوْ أَكْثَرَ ص435 - 486 ج 7 ط الْهَيْئَةِ.

وَمِنْ أَبْلَغِ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ تَقْرِيرِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ضَلَالِهِمْ عَنْهَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ)(39) فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِهَا (فِي ص336 - 339 مِنْ

ج7 تَفْسِيرٌ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ)(71) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ص 435 - 442 ط الْهَيْئَةِ مِنْهُ أَيْضًا) .

ص: 240

وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى شَوَاهِدِ بَيَانِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِكَثْرَتِهَا مَعَ ظُهُورِهَا لِكُلِّ قَارِئٍ بِصِيغَتِهَا.

وَلَعَلَّ أَرَقَّ أَسَالِيبِ الْإِقْنَاعِ، وَأَبْلَغَ وَسَائِلِ الْإِذْعَانِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ، إِحَالَةُ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَنَاشِئِ عُرُوضِ الشُّبَهَاتِ لِأَذْهَانِهِمْ، وَإِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمُحَاسَبَةِ عُقُولِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى تَعَارُضِ الْأَفْكَارِ وَتَنَاقُضِ الْأَقْوَالِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمُخَالَفَةِ التَّقَالِيدِ وَالْمُسَلَّمَاتِ، لِلْغَرَائِزِ وَالْمَلَكَاتِ. وَيَتْلُو هَذَا الْأُسْلُوبَ إِحَالَتُهُمْ عَلَى مِثَالِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ، وَالِاعْتِبَارِ بِسِيَرِ الْغَابِرِينَ. فَآيَاتُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ أَقْوَى مِنْ آيَاتِهِ فِي غَيْرِهَا (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51: 20، 21) . تَأَمَّلْ وَصْفَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ التَّاسِعَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ لِمَّا جَاءَهُمْ، وَالْحَزْمِ بِأَنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْحِسَّ وَيَشْتَبِهُونَ فِي اللَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ مُحِيطِ اللَّبْسِ، وَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ:(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)(109) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(111) ثُمَّ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لِاعْتِذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِ، جَاهِلِينَ لِهِدَايَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ لِذَكَاءِ عُقُولِهِمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 154 - 157.

ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الْمُعْرِضِينَ بَعْدَ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جُحُودِهِمْ (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ)(35) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (39) تَرَ كَيْفَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلَ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْعِلْمِ، وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِهِمْ، سَائِلًا إِيَّاهُمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ وَيُخْبِرُوا كَيْفَ حَالُهَا إِذَا أَتَاهَا عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْهَا السَّاعَةُ؟ أَغَيْرَ اللهِ يَدْعُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُمْ بِمَا يَعْلَمُونَهُ حَقَّ الْعِلْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشِّدَّةِ

الْقُصْوَى يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْوُجْدَانِيُّ الَّذِي فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ الْوَهْمِيَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ص317 - 345 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .

وَلَا تَغْفَلْ عِنْدَ مُرَاجَعَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ عَمَّا يُمَازِجُهَا أَوْ يُقَارِنُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأُسْلُوبِ الْآخَرِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَقِيَامِ حُجَجِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِذَا أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ وَضْعِ كِتَابٍ فِي فِقْهِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ مُرَتَّبٍ عَلَى أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ

ص: 241

وَالْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ فَهُنَاكَ نَسْتَوْفِي بَيَانَ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ.

وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أُسْلُوبِ إِنْذَارِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةُ الْأَسَالِيبِ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ.

الْأَسَالِيبُ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ

وَأَمَّا مَسَائِلُ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالرُّسُلُ، فَنَسْتَغْنِي عَنِ التَّذْكِيرِ بِأَسَالِيبِ الْإِثْبَاتِ وَطُرُقِ الْإِقْنَاعِ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا فِيهِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى مُكَابَرَةِ الْمُعَانِدِينَ لِلْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، تَشْتَرِكُ فِيهِ حُجَجُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ حُجَجِ التَّوْحِيدِ وَسَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ هُنَا. وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ تَذْكِيرُ الْقَارِئِ ابْتِغَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي نَفْسِهِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُعَرِّفُهُ مَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَوَظَائِفَهُمْ، وَمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لِإِثْبَاتِ دَعْوَتِهِمْ، وَشُبُهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَانَ بُطْلَانِهَا.

قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا مُقَدِّرًا وَرَبًّا مُدَبِّرًا، وَأَنَّ هَذَا الرَّبَّ الْخَالِقَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُشْكَرَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُفْرَ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ لِلتَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ سَوَاءٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِوُجُودِ اللهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَمْ لَا وَهْمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِ الْوَحْيِ وَشُبُهَاتٌ أُخْرَى عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَوَظَائِفَ الرُّسُلِ عليهم السلام. وَكَشَفَتْ مَا أَوْرَدُوا مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ. فَنَحْنُ نُلَخِّصُ أَوَّلًا

مَا جَاءَ فِي مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعِهَا وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِيمَا أَثْبَتَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا فَنَقُولُ:

مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرَّسُولِ

إِنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا غَيْرَ مُكْتَسَبٍ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى مَا تَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَتَهَذَّبُ بِهِ أَخْلَاقُهُمْ، وَتَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْوَازِعُ لَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ وَالتَّسْلِيمُ الْإِذْعَانِيُّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا الْقَهْرُ وَالسَّيْطَرَةُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّعَادَةِ وَيَحْيَوْنَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ الْعُلْيَا فِي الْآخِرَةِ.

وَصَفَ اللهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَبِأَنَّهُ بَصَائِرُ

ص: 242

لِلنَّاسِ، وَبِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَبِأَنَّهُ صِدْقٌ وَعَدْلٌ، وَبِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَدِينٌ قَيِّمٌ. وَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ نَفْسَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى:(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)(5) وَقَالَ: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)(66) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)(114) وَقَالَ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)(57) وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَلَا إِبْطَالُهُ - فَبِهَذَا الْوَصْفِ يُنَبِّهُ الْعُقَلَاءَ إِلَى أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ حَقِّيَّتِهِ بِفِكْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لِيَصِلُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَهِيَ غَايَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُنْصِفُ الْبَرِيءُ مِنَ الْأَهْوَاءِ فِي نَظَرِهِ، وَمِنْ قُيُودِ التَّقْلِيدِ فِي طَلَبِهِ لِلْحَقِّ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ فُصِّلَتْ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) كَذَلِكَ كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ.

وَقَالَ: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(104) وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ كَالْبَصَرِ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّ فَتُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَعَلَى الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَفِي مَعْنَاهُ وَصْفُ الْوَحْيِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ:(هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(7: 203) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (45: 20) وَأَمَرَ رَسُولَهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ يُوسُفَ بِأَنْ يَقُولَ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(12: 108) وَيُؤَيِّدُ هَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ

مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْعَقْلِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُبْتَدَعَةِ قَدْ بَعُدُوا عَنِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَاعْتَمَدُوا فِي الدَّعْوَةِ وَتَلْقِينِ الدِّينِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى.

وَوَصَفَ الْقُرْآنَ فِي آيَةِ 155 بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ، أَيْ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ 157:(فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا)(161) وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الدِّينُ مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَالْقَيِّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى لَا يَفُوتَ صَاحِبَهُ. وَقَالَ:(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)(195) أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ. فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ صِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَعَطْفِ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَدِيعِ الصُّنْعِ الْبَالِغِ مُنْتَهَى الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الَّذِي يُدْرَكُ جَمَالُهُ وَكَمَالُهُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُ بِهِ كَوْنَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا وَعَدْلًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْوَقَائِعُ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ لِإِدْرَاكِ حَقِّيَّةِ مَوْضُوعِهَا وَخَيْرِيَّتِهِ كَانُوا

ص: 243

أَكْمَلَ النَّاسِ عَقْلًا وَنَظَرًا وَفَهْمًا وَفَضْلًا كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. عَلَى أَنَّهُ أَرْشَدَ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ حَقِّيَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَحُسْنُهُ وَنَفْعُهُ فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يُتْرَكَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ لِأَجْلِ مُشَارَكَتِهِ لَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، أَوِ اسْتِبْعَادِ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ.

الرَّسُولُ وَوَظَائِفُهُ

أُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)(57) وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْعِلْمُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مُبَيِّنًا لَهُ بِهِ الْحَقَّ مُؤَيَّدًا بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:(أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(12: 108) فَلَيْسَ فِي دِينِهِ تَحَكُّمٌ وَلَا إِكْرَاهٌ ; إِذْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(66) أَيْ لَيْسَ أَمْرُ هِدَايَتِكُمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِكُمْ مَوْكُولًا إِلَيَّ مِنَ اللهِ بِحَيْثُ أَكُونُ مُسَيْطِرًا عَلَيْكُمْ وَمُلْزِمًا إِيَّاكُمْ كَشَأْنِ الْوَكِيلِ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ. وَبَيَّنَ فِي الْآيَاتِ 104 - 107 أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم

بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، فَمَنْ أَبْصَرَ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ فَهُوَ الَّذِي سَيَسْعَدُ بِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا الْوِزْرُ إِذْ هُوَ الَّذِي يَشْقَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ:(وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أَيْ بِمُوكَّلٍ بِإِحْصَائِهَا وَحِفْظِهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى جَدُّهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصْرِيفِهِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِهِ الدَّلَائِلَ وَتَبْيِينِهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِلَى أَنْ قَالَ:(وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ فِي ص 547 - 552 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .

وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالُهَا تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ الَّتِي حُصِرَتْ فِيهَا وَظِيفَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فِي التَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ الْمُنْقَسِمِ إِلَى التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ

وَمُنْذِرِينَ) (48) وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَصْرِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْجَاهِلُ أَوْ خَالِي الذِّهْنِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْهَادِمَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفَّارِ فِي الرُّسُلِ وَخَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمُ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُمْ وُكَلَاءُ اللهِ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدِهِمُ الْهُدَى وَالْحِرْمَانُ مِنْهُ وَالْإِسْعَادُ وَالْإِشْقَاءُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُهَا فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِخَاتَمِهِمْ، وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا ذُكِرَ الْحَصْرُ فِيهَا بِصِيغَةِ " إِنَّمَا " وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَهِيَ الصِّيغَةُ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالشَّيْءِ لِنُكْتَةٍ مِنَ النُّكَتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ)(145) الْآيَةَ.

وَكَمَا غَلَا الضَّالُّونَ فِي الرُّسُلِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ بِجَعْلِهِمْ وُكَلَاءَ اللهِ سبحانه وتعالى فِي الْهِدَايَةِ وَالْجَزَاءِ كَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِقَابِ، غَلَوْا فِيهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَأَنَّهُمْ

ص: 244

يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الْأَرْضِ، فَيُوَسِّعُونَ عَلَى النَّاسِ الرِّزْقَ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ بِقُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ فِيهِمْ مُخَالِفَةٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاسِ، أَوْ بِحَمْلِ الْخَالِقِ سبحانه وتعالى عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْلَاهُمْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَنَّهُمْ فِي تَفَوُّقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوْ أَعْظَمَ تَأْثِيرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ فَسَادَ هَذَا الْغُلُوِّ وَبُطْلَانَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَهُمْ بِالْوَحْيِ وَعَصَمَهُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي تَبْلِيغِ مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَمِمَّا يَحُولُ دُونَ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِثْرِ قَوْلِهِ:(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(48) : (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)(50) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ف ص352 - 360 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) فَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ بُطْلَانَ مَا سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَإِلْحَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، حَتَّى صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمَّى الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ آلِهَةً.

شُبَهَاتُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ

هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يُقَابِلُهُ غُلُوُّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَتِهِمْ وَاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ الْغُلَاةُ أَفْرَطُوا فِي تَصْوِيرِ خُصُوصِيَّتِهِمْ، وَزَادُوا فِيهَا بِأَوْهَامِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فَرَّطُوا فِيهَا، فَلَمْ يَرَوْا لَهُمْ مَزِيَّةً يَمْتَازُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِهَا، أُولَئِكَ زَادُوا فِي بَيَانِ " حَقِيقَتِهِمْ فَضْلًا فَصَلَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا بَشَرِيَّتَهُمْ مَانِعَةً مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ النَّاسِ، إِذْ رَأَوْهُمْ بَشَرًا وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَزْعُمُ الْغُلَاةُ - قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ:(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)(91) أَيْ إِنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ بِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِ الْبَشَرِ، لِاقْتِضَاءِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَائِرِ الْبَشَرِ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ، كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِيهِمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَوَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ، وَاقْتِضَاءَ حِكْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 509 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةُ كَوْنِهِمْ بَشَرًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى رِسَالَةِ الرُّسُلِ كَالْأَعْرَافِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَيس وَالتَّغَابُنِ، وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ السُّورِ بِلَفْظِ رَجُلٍ

ص: 245

بَدَلَ بِشَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)(10: 1، 2) إِلَخْ. وَهَذَا فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمِثْلُهُ عَنْ أَوَّلِ مَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ

الْأَعْرَافِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ)(7: 63) وَيَلِيهِ حِكَايَةُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ (آيَةُ 67) .

وَلَمَّا اسْتَبْعَدَ هَؤُلَاءِ الْوَحْيَ لِرَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)(23: 33، 34) زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ أَنْ يُؤَيَّدَ بِمَلَكٍ يَكُونُ مَعَهُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)(25: 7) وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ جُمْهُورِ الْبَشَرِ لِرُؤْيَتِهِمْ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعِدُّ اللهُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ مِنْ كَمَلَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ إِذَا أُنْزِلَ الْمَلَكُ عَنْ جَعْلِهِ رَجُلًا، أَيْ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَتَبْقَى شُبْهَتُهُمْ فِي مَوْضِعِهَا.

هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَمْ تُدَعَّمْ بِحُجَّةٍ وَلَمْ تُؤَيَّدْ بِبُرْهَانٍ، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ بِالْبَدَاهَةِ لِأَنَّهَا تَقْيِيدٌ لِمَشِيئَةِ الْمُرْسِلِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) وَقَدْ كَانَ أُولَئِكَ الْمُشْتَبِهُونَ مُؤْمِنِينَ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ. بَلْ كَوْنُ الرَّسُولِ إِلَى الْبَشَرِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَفْهَمُونَ أَقْوَالَهُ وَيَتَأَسَّوْنَ بِأَفْعَالِهِ هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ وَطَبِيعَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّ الْأَوْهَامَ الْجَهْلِيَّةَ تَقْلِبُ الْحَقَائِقَ وَتَعْكِسُ الْقَضَايَا حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْقَرَوِيِّينَ فِي زَمَانِنَا جَاءَ إِحْدَى الْمُدُنِ مَرَّةً فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ لِلِاحْتِفَالِ بِوَالٍ جَدِيدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ السَّلْطَنَةِ، فَرَغِبَ أَنْ يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْوَالِيَ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ أَمَامَهُ وَقِيلَ لَهُ هَذَا هُوَ اسْتَغْرَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا، وَقَالَ كَلِمَةً صَارَتْ مَثَلًا وَهِيَ: حَسِبْنَا الْوَالِيَ وَالِيًا فَإِذَا هُوَ إِنْسَانٌ أَوْ رَجُلٌ مِثْلُنَا.

وَأَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ بَاشَا الدَّامَادُ أَنَّ بَعْضَ فَلَّاحِي الْأَنَاضُولِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ خَلْقَ السُّلْطَانِ مُخَالِفٌ لِخَلْقِ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنَّ لِحْيَتَهُ خَضْرَاءُ اللَّوْنِ، وَلِهَذَا الضَّعْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ يَلْبَسُ بَعْضُ رِجَالِ الْأَدْيَانِ أَزْيَاءَ خَاصَّةً مُؤَثِّرَةً، وَيُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لِأَجْلِ اسْتِجْلَابِ الْمَهَابَةِ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)(6: 9) كَاشِفٌ لِهَذِهِ الْغُمَّةِ مِنَ الْوَهْمِ، وَهَادٍ إِلَى مَا يُوَافِقُ سُنَنَ الْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَاطِعٌ عَلَى الدَّجَّالِينَ طَرِيقَ الْجِبْتِ وَالْخُرَافَاتِ

ص: 246

الَّتِي يَخْدَعُونَ بِهَا أُولِي الْأَوْهَامِ

وَالْخَيَالَاتِ، فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيسِينَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَالْوُزَرَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْحُجَّابِ وَالْأَعْوَانِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، يُقَرِّبُونَ مِنْهُ وَيُبْعِدُونَ عَنْهُ مَنْ شَاءُوا وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ كَمَا يَشَاءُونَ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي الْآيَاتِ 7 و8 و9 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَرَدَّهَا أَكْمَلَ رَدٍّ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهِنَّ (ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ (111) أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَآتَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ مُقَابِلًا لَهُمْ، أَوْ حَشَرَهُ وَجَمَعَهُ لَهُمْ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ; لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ لَا مُرِيدُو حَقٍّ وَطُلَّابُ دَلِيلٍ يَعْرِفُونَهُ بِهِ. فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.

تَعْجِيزُهُمُ الرَّسُولَ بِطَلَبِ الْآيَاتِ كَانَ الْجَاهِلُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِالْآيَاتِ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَكَانَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى يَحْتَجُّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِشَهَادَةِ اللهِ لَهُ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، وَبِالْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِأَقْوَى طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَآيَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِهِ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 19 فِي ص282 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 25 ص 289 ج 7 ط. الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 37 ص 323 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ، وَفِيهِ بَيَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَدَلَّ عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أُوتِيهَا مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رِسَالَتِهِمْ، وَالْآيَةِ 50 (ص 351 - 356 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَكَذَا الْآيَةِ 5 مِنَ السُّورَةِ ص 252 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) .

نَعَمْ إِنَّ آيَةَ الْقُرْآنِ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُ الدَّلَالَاتِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ وَمُرْشِدَةٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ فِي الْآيَاتِ وَلَا يَحْفِلُونَ بِأَمْرِ الِاسْتِدْلَالِ، بَلْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقُ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ لِلرَّسُولِ وَالْعَدَاوَةُ لَهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هُدًى وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَفَرِيقُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ أَلْفَوْا مَا وَرِثُوا عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُزَيِّفًا لَهُ وَمُضَلِّلًا لِأَهْلِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ

تَعَالَى بَعْدَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَمْدِهِ وَوَصْفِهِ بِمَا يُثْبِتُ

ص: 247

اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ، وَمُقَارَنَةِ ذَلِكَ بِمَا اتَّخَذَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ مِنْ نِدٍّ وَعِدْلٍ:(وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)(4) وَأَنَّى يَفْقَهُ الشَّيْءَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَنْظُرُ فِيهِ؟ .

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْزَنُ لِإِعْرَاضِهِمْ وَيَوَدُّ لَوْ يُؤْتِيهِ اللهُ تَعَالَى آيَةً مِمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَإِنْزَالِ الْمَلَكِ أَوْ إِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ أَوْ إِعْطَائِهِ جَنَّةً فِيهَا يُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، فَهَوَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِكُلِّ آيَةٍ يُؤْتَوْنَهَا كَمَا كَذَّبَ أَمْثَالُهُمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبَيَّنَ لَهُ سُنَّتَهُ فِي عَذَابِ الْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ إِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَفِي خِذْلَانِهِمْ وَنَصْرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا صَبَرُوا عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَيَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا تَحَمَّلُوا مِنْ أَذَاهُمْ. وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَهُ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 7 - 9 ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ لح و25 و26 (ص 289 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لح و23 - 37 فِي ص 309 - 320 مِنْهُ) وَآيَةِ 50 (ص 351 مِنْهُ) و57 و58 (فِي ص 377 مِنْهُ) و65 - 67 (ص 408 - 419 مِنْهُ و109 و110 ص 553) إِلَى آخِرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ و111 فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ و124 - 126 (ص32 وَمَا بَعْدَهَا مِنْهُ) .

طَعْنُهُمْ فِي الْقُرْآنِ

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْقُرْآنِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَمَا فِي الْآيَةِ 25 (ص289 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " دَرَسْتَ " كَمَا فِي الْآيَةِ 105 (ص 548 مِنْهُ) فَهُوَ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ تَعْلِيلًا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَمْلَاهُ الْخَاطِرُ، وَتَبَادَرَ إِلَى فِكْرِ الْمُكَابِرِ، لَا عَنْ مَعْرِفَةٍ وَاطِّلَاعٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ - فَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَسْتَكْبِرُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَةِ مِنْ كَاتِبٍ أَوْ شَاعِرٍ مَا يَكْتُبُ أَوْ يَنْظِمُ فَيَنْسِبُهُ إِلَى أَحَدِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِذَلِكَ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّاعِرِ صِلَةٌ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. كَمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُحَرِّرُ الْمَنَارَ كُلَّهُ أَوِ التَّفْسِيرَ وَالْفَتَاوَى وَالْمَقَالَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةَ مِنْهُ. وَلَمْ يَجِدِ الْجَاحِدُونَ شُبْهَةً عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ وَقَدْ عَاشَ طُولَ عُمُرِهِ مَعَهُمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَهُمْ أَحَدٌ يَعْلَمُ أَخْبَارَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى أَلْجَأَتِ الْمُكَابَرَةُ بَعْضَهُمْ إِلَى عَزْوِ هَذَا التَّعْلِيمِ إِلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ جَاءَ مَكَّةَ يَشْتَغِلُ فِيهَا بِصُنْعِ السُّيُوفِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَ صِنَاعَتَهُ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ:

(لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(16: 103) فَإِنَّ ذَلِكَ الرُّومِيَّ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَهَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ بِبَيَانِهِ فِيهَا حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَتَتِمَّةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا تَرَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ افْتَتَحْنَا بِهِمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

ص: 248

فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ لَيْسُوا أَرْبَابًا وَلَا شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْعِبَادِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَلَا فِي تَصَرُّفِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ. فَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا إِيمَانًا وَلَا رَشَدًا، بَلْ هُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَسَائِرِ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَاخْتَصَّهُمْ بِعِلْمٍ أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَعِدُّ مِنْهُمْ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقَّ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُعَانِدِينَ:(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(8: 42) . وَقَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَا يُؤَيِّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَلَا مِنْ مَقْدُورِهِمْ لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِمْ كَسُنَّتِهِ فِي سَائِرِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِلْمِهِمْ كَذَلِكَ. فَلَا الْوَحْيُ الَّذِي اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاسْتِنْتَاجِ عُقُولِهِمْ، وَلَا الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ. تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ:(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(35) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 318 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) .

وَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ وَلَا عِلْمُ الْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَلَكًا، وَحَصَرَ خُصُوصِيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ وَحْيِ رَبِّهِ فِي الْآيَةِ (50) الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَأَمْرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِالْإِنْذَارِ، ثُمَّ تَدَبَّرْ بَعْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَمَا أَمَرَهُ فِي شَأْنِ مُعَامَلَةِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَاتِ (51 - 55) وَقَارِنْ فِيهَا بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 35:(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ 52: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) تَعْلَمِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمَقَامِ عُبُودِيَّةِ النُّبُوَّةِ، وَيُقَابِلُ هَذَا النَّهْيَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ:(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا)(70) إِلَخْ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ.

الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ

ذُكِرَتْ آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَارَةً خَبَرًا مُجَرَّدًا مُؤَكَّدًا كَقَوْلِهِ: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ)(129 وَقَوْلِهِ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(134) أَوْ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ فِي السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ)(36) وَكَفَى بِالِاسْتِنَادِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّوْكِيدِ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ)(164) . وَالْأُسْلُوبُ الْغَالِبُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِيرَادُهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ

ص: 249

عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَبْلَغُ الْآيَاتِ فِيهِ التَّذْكِيرُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ:(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)(22) إِلَى آخِرِ آيَةِ (24) وَقَوْلِهِ: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(27) إِلَى آخِرِ آيَةِ (32) وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَنْهُمْ وَحَصْرِهِمُ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ مَصِيرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي يُنْكِرُونَهَا لِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخَتَمَ السِّيَاقَ بِحَصْرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ وَتَفْضِيلِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ:(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)(70) الْآيَةَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا جَاءَ فِي أُسْلُوبِ حَشْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ يَوْمَئِذٍ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَسُؤَالِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ يَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ)(128 - 130) وَقَدْ جَمَعَ فِي الْآيَاتِ) (133 - 135) بَيْنَ الْوَعِيدِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا.

إِذَا اسْتَقْصَى الْقَارِئُ آيَاتِ الْبَعْثِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَرَاهَا تُخْبِرُ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مُقَرَّرٍ، هُوَ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ كَأَنَّهُ مُسَلَّمٌ ; لِإِنْذَارِ مَا يَقَعُ فِي يَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ عَسَى أَنْ يُتَّقَى، وَالْبِشَارَةِ بِمَا أُعِدَّ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّعِيمِ عَسَى أَنْ يُسْعَى لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى. وَيَظُنُّ الَّذِينَ اعْتَادُوا تَلَقِّيَ الْعَقَائِدِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِيَّاتِ الْجَدَلِيَّةِ، أَنَّ هَذِهِ دَعَاوَى غَيْرُ بُرْهَانِيَّةٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَسَالِيبُ خَطَابِيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَخْبَارٌ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى رِسَالَتِهِ. وَلَمْ يَأْتِ مُنْكِرُوهَا بِدَلِيلٍ عَلَى إِنْكَارِهَا وَلَا شُبْهَةٍ. فَيُحْتَاجَ إِلَى إِبْطَالِهَا بِالْحُجَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الْإِنْكَارِ اسْتِغْرَابَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وَلَمْ

يُؤْلَفْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَغَفْلَةٌ مِنْ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَدَأَ هَذَا الْخَلْقَ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي ثُبُوتِهَا كَالْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ مَعَ التَّذْكِيرِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَحِكْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ كَالْآيَاتِ الثَّلَاثِ 133 - 135، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُنَا بِأُسْلُوبِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنِ الْمُنْكِرِينَ شَيْئًا مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَمَا ثَمَّ احْتِجَاجٌ، وَلَا مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ سَرْدِ الْآيَاتِ بِالْأَسَالِيبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا التَّأْثِيرَ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ أَنْ تَتَأَثَّرَ أَنْفُسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ بِمَا يَتَكَرَّرُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنْ كَلَامِ الصَّادِقِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ تَعَجُّبِهِمْ مِنْ خَبَرِ الْبَعْثِ وَتَفْنِيدُ ذَلِكَ بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَدَحْضِ

ص: 250

الشُّبْهَةِ. وَمِنْهَا سُورَةُ (يس) وَقَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَخُتِمَتْ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَفَاتِحِ الْغَيْبِ لِلرَّازِيِّ. وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فَوَاتِحِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا (الصَّافَّاتِ) وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ (ق) وَمِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي أَثْنَائِهَا:(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(50: 15) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَنْبَغِي بَيَانُهُ، وَذَكَرْنَا فِيهِ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. فَلِلْقَارِئِ أَنْ يُرَاجِعَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ.

عَالَمُ الْغَيْبِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَمِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُؤْمِنُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ بِالْمَلَائِكَةِ وَقَدْ عَبَدُوهُمْ، وَبِوُجُودِ الْجِنِّ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ لَهُمْ أَحْيَانًا بِصُوَرِ الْغِيلَانِ وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَعَزْفَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشِّعْرَ فِي هَوَاجِسِ الشُّعَرَاءِ. وَيَسْتَغْنَى الْقَارِئُ عَنْ ذِكْرِ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ بِمُرَاجَعَةِ كَلِمَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْغِيلَانِ وَالرُّوحِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي فِهْرِسِ هَذَا الْجُزْءِ وَمَا قَبْلَهُ وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَبِمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ اللهِ اللَّطِيفِ، وَمِنْهَا تَعْلَمُ أَنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ يَعُدْ يُسْتَغْرَبُ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ

عَالَمِ الْغَيْبِ وَلَا سِيَّمَا عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ وَعِلْمُ الْكَهْرُبَاءِ لَكِنْ مِنْ عَجَائِبِ تَفَاوُتِ أَفْهَامِ الْبَشَرِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ يُنْكِرُونَ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَأْلَفُوا، وَلَا يَرَوْنَ الْمَعْرُوفَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ قَدِ اكْتَشَفَهُ " الْهِرُّ " فُلَانٌ وَ " الْمِسْتَرُ " عِلَّانٌ مَثَلًا قَبِلُوهُ مُذْعِنِينَ. وَقَالُوا إِنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَهَذَا شَرُّ التَّقْلِيدِ.

الْأُصُولُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ فِي السُّورَةِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ

أَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِلْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنِ الرَّذَائِلِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ 159 - 153 وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ فِي الْآيَةِ 120 وَهَاؤُمُ انْظُرُوا أَهَمَّ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.

(الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّ دِينَ اللهِ تَوْحِيدٌ وَاتِّفَاقٌ، فَتَفْرِيقُهُ بِالْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَجَعْلِ أَهْلِهِ شِيَعًا مُتَعَادِيَةً، مُفَارِقَةٌ لَهُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ هَدْيِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، يُوجِبُ بَرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاعِلِي ذَلِكَ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(159) وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ قَاعِدَةُ سِيَاسَةِ الدِّينِ وَحَيَاةِ أَهْلِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ يُضَاهِي التَّشْدِيدَ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ الْقَاعِدَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ.

ص: 251

(الْأَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ سَعَادَةَ النَّاسِ وَشَقَاوَتَهُمْ مَنُوطَتَانِ بِأَعْمَالِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يَكُونُ بِحَسْبِ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسْتَفَادُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالنَّصِّ أَوِ الْفَحْوَى. وَمِنْ أَصْرَحِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)(139) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ وَاسْتَعِنْ عَلَى مُرَاجَعَةِ سَائِرِ الْآيَاتِ بِالْأَرْقَامِ الَّتِي بِجَانِبِ كَلِمَةِ " الْجَزَاءِ " مِنْ فِهْرِسِ الْجُزْأَيْنِ 7 و8 وَمِنْ أَهَمِّهَا مَا فِي ص 272 ج 7 ط الْهَيْئَةِ وَتَفْسِيرُ (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)(164) فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَعَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَعَظُمَتْ نَعْمَاؤُهُ. وَيَا خَسَارَةَ مَنْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ الْمُضَاعَفَةَ. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (رَاجِعِ الْآيَةَ 160) .

(تَنْبِيهٌ) مَسْأَلَةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِجَعْلِ الْحَسَنَاتِ مُضَاعَفَةً دُونَ السَّيِّئَاتِ

الَّتِي جَزَاؤُهَا بِمِثْلِهَا إِنْ لَمْ يَنَلْ صَاحِبَهَا شَيْءٌ مِنْ عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَمَسْأَلَةُ سَعَةِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَسَبْقِهَا لِلْغَضَبِ - كُلُّ ذَلِكَ قَدْ عُدَّ مُشْكِلًا مَعَ تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ خُلُودًا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(128) فَرَاجِعْ (فِي صَ 58 وَمَا بَعْدَهَا جُ 8 طَ الْهَيْئَةِ) وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.

(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) جَزَاءُ سَيِّئَاتِ كُلٍّ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَحَسَنَاتُهُ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وِزْرَ غَيْرِهِ وَلَا يَنْجُو بِحَسَنَاتِ غَيْرِهِ (رَاجِعِ الْآيَةَ 164 وَتَفْسِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِيهَا وَالِاسْتِدْرَاكَ عَلَيْهِ وَيَأْتِي بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ رَقَمْ 165) .

(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْجَزَاءُ يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ جَمِيعًا؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِتَرْكِ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ. بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ إِصْلَاحُ الْبَاطِنِ.

(الْأَصْلُ السَّادِسُ) النَّاسُ عَامِلُونَ بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَكِنَّهُمْ خَاضِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَلَا إِجْبَارَ وَلَا اضْطِرَارَ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَمَلِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَبَيْنَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُعَدُّونَ بِهِ مُشَارِكِينَ لَهُ تَعَالَى فِي إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ كَامِلَةٌ، وَإِرَادَةُ الْعِبَادِ وَقُدْرَتُهُمْ مِنْ عَطَاءِ اللهِ، وَخَلْقُهُ حَسَبُ مَشِيئَتِهِ، فَهُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ نَوْعًا مِنَ الْخَلْقِ وَيَجْعَلَهُ ذَا قُدْرَةٍ مَحْدُودَةٍ وَمَشِيئَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَعْمَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. وَمَعْنَى خَلْقِهِ تَعَالَى الْأَشْيَاءَ بِقَدَرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ خَلَقَهَا بِنِظَامٍ جَعَلَ فِيهَا الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ مُنْكِرُو الْقَدَرِ. وَالْأُنُفُ - بِضَمَّتَيْنِ - الْأَمْرُ الَّذِي يَكُونُ بَادِئَ الرَّأْيِ عَنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا نِظَامٍ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَلَيْسَ فِي الْقَدَرِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى الْعَمَلِ أَلْبَتَّةَ. رَاجِعْ فِي فِهْرِسَيِ الْجُزْأَيْنِ

ص: 252

و8 وَكَذَا غَيْرُهُمَا كَلِمَاتٌ: مَشِيئَةٌ، وَالْجَبْرُ وَالْقَدَرُ، وَسُنَّةُ اللهِ أَوْ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَائِنَاتِ مِثَالُ ذَلِكَ صَ 252 و336 و414 و557 مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ طَ الْهَيْئَةِ وص3 و8 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَتَفْسِيرُ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) الْآيَةَ 125 ص 36 مِنْهُ وَآيَةِ (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)(129) مِنْهُ وَتَفْسِيرُ 148 و149 (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ فِي فَقْدِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِمَشِيئَةِ الْإِضْلَالِ وَبِالْأَكِنَّةِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَيُوصَفُ

أَصْحَابُهُ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ - لَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ اللهَ بِقُدْرَتِهِ طَبَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْكُفْرِ ابْتِدَاءً وَخَلْقًا أُنُفًا، حَتَّى صَارَ تَكْلِيفُهُمُ الْإِيمَانَ عَبَثًا، وَمِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي نِظَامِ الْمِقْدَارِ، وَارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ أَيْضًا، فَهِيَ إِذَا أَثَّرَ كَسْبُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَكَثِيرًا مَا نُذَكِّرُ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ لِإِيضَاحِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ فَأَوْقَعُوا النَّاسَ فِي الْحَيْرَةِ، بَلْ أَفْسَدُوا أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كَسْبِهَا وَمِلْكِهَا وَأَخْلَاقِهَا - رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ 7 - 9 ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ وَآيَةِ 20 ص 286 وَآيَةِ 25 ص 289 و35 ص 318 و46 ص 349 كُلُّهَا مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَتَفْسِيرَ 110 - 112 مِنْ آخِرِ السَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ وَأَوَّلِ الثَّامِنِ و122 و123 ص 25 و124 - 126 ص 32 و144 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

وَكَذَلِكَ سُنَنُ اللهِ فِي افْتِتَانِ بَعْضِ النَّاسِ - وَكَذَا الْجِنُّ - بِبَعْضٍ فِي الْآيَةِ 53 (ص 370) وَفِي لُبْسِهِمْ شِيَعًا وَإِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ فِي الْآيَةِ 65 ص 408 وَتَوْلِيَةِ بَعْضِ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي الْآيَةِ 129 وَفِي تَزَيُّنِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ فِي الْآيَةِ 108 (ص 553 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَآيَةِ 122 (ص25) وَآيَةِ 137 وَفِي مَكْرِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْمَدَائِنِ فِي الْآيَةِ 123 (ص 28 مِنْهُ) كُلُّ هَذِهِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي مَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا عَلَّمَهَا اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَشَرِ، وَتَأْثِيرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، حَتَّى لَا يَحْزَنُوا وَلَا يَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا يَقْتَضِي سَلْبَ الِاخْتِبَارِ، وَلَا وُقُوعَهَا بِالْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ.

(الْأَصْلُ السَّابِعُ) مَا وَرَدَ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَسَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا، وَإِهْلَاكِهَا بِمُعَانِدَةِ الرُّسُلِ وَبِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَرْبِيَتِهَا بِالشَّدَائِدِ وَكَذَا بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ (رَاجِعْ ص 255 وَص 279 وَمَا بَعْدَهَا و307 و345 و414 مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ طَ الْهَيْئَةِ) . وَمَا يَجِيءُ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ بِهَذَا الصَّدَدِ.

(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَسَائِلَ عَقَائِدِ الدِّينِ عِلْمٌ صَحِيحٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ ثَمَّ كَانَ

ص: 253

بَصَائِرَ لِلنَّاسِ، وَأُيِّدَ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَحْثِ الرِّسَالَةِ. وَالْيَقِينُ جَزْمٌ تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ لَا يُزَلْزِلُهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ.

(الْأَصْلُ التَّاسِعُ) التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُنَافِي أَصْلَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ. فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي الدِّينِ هُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي دِينِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ أَوْ مُعَلِّمِهِ وَلَيْسَ عَلَى عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ فِيهِ، فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي أَتْبَاعِ الرَّسُولِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ اللهُ عز وجل:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(12 - 108) فَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ مِنْ كَوْنِ هَذَا الدِّينِ عِلْمًا مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَبَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ النَّعْيِ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَيْبِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ، وَوَصْفِهِمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ، وَبِكَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ - فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلتَّقْلِيدِ. وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى مَا يَدْعُونَ وَبِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَكَذَلِكَ. وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ آيَاتِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ 144:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وَالْعِبْرَةُ فِيهِ أَنَّهُ جَاءَ فِي خَاتِمَةِ تَقْرِيعِهِمْ عَلَى مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ كُلُّ تِلْكَ الْآيَاتِ هَادِمَةً لِلتَّقْلِيدِ، وَيُؤَيِّدُهَا آيَةُ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ بَعْدَهَا. وَقَدْ نَقَلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا كَلَامًا حَسَنًا فِي جَهْلِ الْمُقَلِّدِينَ وَإِيثَارِهِمْ كَلَامَ شُيُوخِهِمْ عَلَى كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِخَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي ص274 ج 7 ط الْهَيْئَةِ.

(الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ التَّعَبُدِيَّانِ وَسَائِرَ شَرَائِعِ الْعِبَادَةِ وَشَعَائِرِهَا مِنْ حَقِّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ وَضَعَ لَهُمْ حُكْمًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى شَرْعِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللهِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأَضَلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 136 - 140.

(الْأَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا يَطْعَمُونَهُ إِلَّا الْأَرْبَعَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ (145) وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَرَاجِعْ تَحَقُّقَ الْحَقِّ فِي تَفْسِيرِهَا.

(الْأَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ) أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ بَاغِيًا أَيْ مُرِيدًا لَهَا، وَلَا عَادِيًا أَيْ مُتَجَاوِزًا حَدَّ الضَّرُورَةِ إِلَى التَّمَتُّعِ بِهَا. وَإِذَا كَانَ

الِاضْطِرَارُ عِلَّةَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِشَرْطِهَا فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَضْطَرُّ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ، كَالِاضْطِرَارِ إِلَى الْخَمْرِ أَحْيَانًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَيْسَ مِنْهُ الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ.

ص: 254

(الْأَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ) السِّيَاحَةُ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) 11 أَنَّهُ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى وُجُوبِ السِّيَاحَةِ وَإِنْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَصْدِ الْمَنْصُوصِ فِي الْآيَاتِ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْأَصْلِ التَّالِي لِهَذَا. نَعَمْ إِنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مِصْدَاقِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا النَّاطِقَةِ بِمَا حَلَّ مِنْ عِقَابِ اللهِ بِالسَّاخِرِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ الْخَاصِّ لِنُزُولِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ كَآيَةِ الْأَنْعَامِ وَمِثْلِهَا فِي النَّحْلِ وَالنَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَيُوسُفَ وَفَاطِرٍ وَغَافِرٍ. وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 137) وَمِثْلُهَا آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ (30: 42) وَمِنْهُ مَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّائِحِينَ وَالسَّائِحَاتِ فِي سُورَتَيِ التَّوْبَةِ وَالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ فِيهِمَا بِالصِّيَامِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَكَذَا تَخْصِيصُ سَهْمٍ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَهُمُ الرُّحَّالُونَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ بِالْأَسْفَارِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَمَعَاهِدِ كَسْبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّ السَّبِيلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَانْظُرْ أَحْكَامَ السَّفَرِ وَفَوَائِدَهُ فِي الْأَصْلِ التَّالِي.

(الْأَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ) النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَعَوَاقِبِ الْأَقْوَامِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ فِي أَثْنَاءِ السَّيْرِ فِي أَرْضِهَا وَرُؤْيَةِ آثَارِهَا وَسَمَاعِ أَخْبَارِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْنَا بِهَا آنِفًا عَلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهِيَ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(11) . وَهَذَا النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهِ شَرْعًا، وَكَوْنِهِ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ وَمَقْصُودًا مِنَ السِّيَاحَةِ وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِبَاحَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ لِلسَّفَرِ فَوَائِدَ أُخْرَى عَلَّلَ بِهَا الْأَمْرَ بِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إِذَا كَانَ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ فَوَائِدِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ لِطَلَبِ التَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ

الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ فَالسَّفَرُ لِطَلَبِهِ إِذَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهُ بِدُونِهِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. وَالسَّفَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمِنْهُ الْفُنُونُ وَالصِّنَاعَاتُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حِفْظُ الْبِلَادِ وَشُئُونُ الْمَعَاشِ وَالصِّحَّةِ. . . تَأْثَمُ الْأُمَّةُ كُلُّهَا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمْ كِفَايَةُ الْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ. وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا إِذَا قُصِدَ بِهِ عَمَلٌ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، كَالَّذِينَ يُسَافِرُونَ إِلَى أُورُبَّةَ لِأَجْلِ الْفِسْقِ.

وَأَجْمَعُ الْآيَاتِ لِتَكْمِيلِ النَّفْسِ بِالسَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ الدِّرَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالنَّظَرِ وَالِاكْتِشَافِ

ص: 255

وَالِاعْتِبَارِ، وَطَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَالِاخْتِبَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(22: 46) .

وَقَدْ نَبَّهَتْ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ الَّتِي تُسْتَفَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ وَاخْتِبَارِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَهِيَ:(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا)(3: 137) الْآيَةَ. وَنَبَّهَتْ آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ إِلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ الْبَحْثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدْءِ الْخَلْقِ مِنَ الْآثَارِ؛ لِيَكُونَ مِنْ فَوَائِدِهِ قِيَاسُ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(29: 20) الْآيَةَ. وَنَبَّهَتِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ آيَتَيْ سُورَةِ الرُّومِ إِلَى النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَآثَارِهَا الْخَاصَّةِ بِالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَمَوَارِدِ الثَّرْوَةِ الزِّرَاعِيَّةِ وَسَائِرِ شُئُونِ الْعُمْرَانِ، وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ وَأَسْبَابُهُ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْقُوَّةَ وَالثَّرْوَةَ لَا تَحُولُ دُونَ هَلَاكِ الْأُمَّةِ إِذَا اسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ بَالظُّلْمِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (30: 9) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهَا آيَةُ فَاطِرٍ (35: 44) وَهِيَ خَاصَّةٌ بِمَسْأَلَةِ الْقُوَّةِ، وَلَكِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، فَهِيَ تُرْشِدُ بِمَوْقِعِهَا إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ. وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَا سُورَةِ غَافِرٍ (40: 21 و82) فَهُمَا تُرْشِدَانِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِقُوَّةِ الْأُمَمِ وَآثَارِهَا فِي الْأَرْضِ، فَتُزِيدُ عَلَى مَا قَبْلَهَا الْإِرْشَادَ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ صِنَاعَاتِ الْأَوَّلِينَ وَطُرُقِ كَسْبِهِمْ، وَالِاعْتِبَارِ بِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ وَاقِيَةً لَهُمْ مَعَ قُوَّتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ أُصُولِ عُلُومِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ اخْتِصَارًا، وَهُوَ كَافٍ لِتَذْكِيرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَرْشَدَ الْبَشَرَ إِلَى جَمِيعِ وَسَائِلِ سَعَادَةِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ فِي أَمْرَيِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

(الْأَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ) جَعَلَ اللهُ الظُّلْمَ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ وَإِبَادَةِ الْأَقْوَامِ فَقَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(45) وَقَالَ: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)(47) وَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(82) وَقَالَ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(135) وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ قَدْ بُيِّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الظُّلْمُ الْعَامُّ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الشَّاهِدِ الْأَخِيرِ فِي الْآيَةِ 135) .

(الْأَصْلُ السَّادِسَ عَشَرَ) التَّرْغِيبُ فِي عُلُومِ الْكَائِنَاتِ وَالْإِرْشَادُ إِلَى الْبَحْثِ فِيهَا لِمَعْرِفَةِ

ص: 256

سُنَنِ اللهِ وَحِكَمِهِ، وَآيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ فِيهَا الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِأَجْلِ الِاسْتِفَادَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأُمَّةُ فِي مَعَاشِهَا وَسِيَادَتِهَا، وَتَشْكُرُ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنْ هِدَايَةِ السُّورَةِ أَصْلًا وَاحِدًا وَهُوَ أَصُولٌ تَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُصُولِ التَّذْكِيرُ وَالْإِشَارَةُ، وَيُمْكِنُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ إِرْشَادَ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ - مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ - وَالْفَلَكِيَّةِ وَالْجَوِّيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ.

وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا الْآيَاتُ الْخَمْسُ الْمُتَّصِلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)(95) إِلَى قَوْلِهِ: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(99) لَكَفَى، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص524 - 537 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهَا فِي النَّبَاتِ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ 141) الْآيَاتِ. وَمِثْلُهَا فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً آيَةُ 38 الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.

(الْأَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ) الْعِنَايَةُ بِحِفْظِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِمَا سَخَّرَهُ اللهُ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ، وَبِغَيْرِهِ. يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(38) فَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حَظْرَ قَتْلِ الْكِلَابِ فَقَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا " الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ إِحْدَى الصَّحَابِيَّاتِ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمِ

تَعْذِيبِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى أَبْلَغُ مِنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي مَحَلِّهَا وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ (ص 326 - 336 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .

(الْأَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ) إِثْبَاتُ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنْهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِاتِّقَائِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَكُفْرِ النِّعَمِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ. وَالْآيَةُ 32 نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا فَرَاجِعْهُ فِي (ص 303 - 309 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .

وَالْمُرَادُ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ تَحْذِيرُ الْعَاقِلِ مِنْ جَعْلِ التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا كُلَّ هَمِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ أَوْ أَكْبَرَ هَمِّهِ فِيهَا، وَإِنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمُبَاحِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا لِلَّهِ وَمَا لِعِبَادِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ، عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ هَمِّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَأَجَلَهُ قَصِيرٌ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِالْمُنَغِّصَاتِ، وَعُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ، وَالَّذِي لَا هَمَّ لَهُ فَوْقَهُ يُسْرِفُ فِيهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ بِصَارِفَةٍ لَهُمْ عَنْ

ص: 257

افْتِرَاسِ أَقْوِيَائِهِمْ لِضُعَفَائِهِمْ، فَضْلًا عَنِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ هُمْ دُونَهُمْ فِي حَضَارَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، وَقَدِ انْتَهَوْا فِي الْخُبْثِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْفَتْكِ إِلَى غَايَةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا تَارِيخُ الْبَشَرِ فِي أَشَدِّ الْمُتَوَحِّشِينَ جَهْلًا.

(الْأَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ) أَنَّ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْمُحَتَّمَةِ أَنْ يَتَحَامَى الْمُسْلِمُونَ سَبَّ مَا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ حَجَرًا كَانَ أَوْ شَجَرًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ إِنْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسُبَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ اللهَ تَعَالَى عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَيُثِيرُ الْعَدَاوَةَ وَيُورِثُ الْأَحْقَادَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَثِّفُ الْحِجَابَ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى قُبْحِ السَّبِّ فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالْمُسْلِمِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ " الْمُسْلِمُ لَيْسَ بِسَبَّابٍ وَلَا لَعَّانٍ " وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْأُخْرَى فِي الْمُعَامَلَاتِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(108) الْآيَةَ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 553 - 558 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنْ آخَرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَفِيهِ بَحْثُ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ.

(الْأَصْلُ الْعِشْرُونَ) ابْتِلَاءُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعْلِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ

الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَزَايَا الْوَهْبِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ مِمَّا يُخْتَبَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ فِي التَّنَافُسِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَا يُفَضَّلُ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طُرُقَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ؛ وَلِذَلِكَ يَنْتَهِي الِاخْتِبَارُ تَارَةً بِارْتِقَاءِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَنَافِسِينَ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ. وَتَارَةً يَنْتَهِي بِالرَّزَايَا وَالنَّكَالِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَارَةً يَنْتَهِي بِارْتِفَاعِ فَرِيقٍ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَوِيِّ الْآخَرِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرْكَاتِ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ فِي مُنَافَسَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ وَمُنَافَسَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 165) فَعَسَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَتُوبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ عَلَيْهِمْ، فَيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَيُعِيدَ إِلَيْهِمْ مَا سَلَبَهُمْ مِنَ الْآلَاءِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

(الْأَصْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ) التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ مَعَ مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَرَحْمَةَ الرَّبِّ الْغَفُورِ، بِإِيجَابِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَوَعْدِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا بِتَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ وَلَا إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا مُحَابَاةِ شَافِعٍ، وَالْآيَةُ 54 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَصٌّ فِي هَذَا الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ إِذْ قَالَ:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ص: 258

وَأَمَّا إِيجَابُهَا بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّ مَبْدَأَ التَّوْبَةِ شُعُورٌ بِالْأَلَمِ وَالِامْتِعَاضُ مِنَ الذَّنْبِ، وَالْحَيَاءُ مِنَ اللهِ وَالْخَوْفُ مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْمِ النَّفْسِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ تَوْبِيخَ الضَّمِيرِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ بِسُنَّةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ تَرْكَهُ وَالْإِتْيَانَ بِعَمَلٍ يُضَادُّهُ وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَقَدْ عَرَّفَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ: بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الْمَعْصِيَةِ وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِسُخْطِ اللهِ وَعَذَابِهِ يُوجِبُ الْحَالَ وَهُوَ أَلَمُ النَّفْسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَهَذَا الْحَالُ يُوجِبُ الْعَمَلَ الشَّامِلَ لِتَرْكِ الذَّنْبِ وَتَكْفِيرِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُضَادًّا لَهُ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (ص 375 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) ثُمَّ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ الَّتِي يَحِيلُ عَلَيْهَا فِي تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ.

وَقَدْ أَخَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ لِتَذْكِيرِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي

جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْكِتَابَ إِمَامَهَا، بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ التَّوْبَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ مَا هَدَاهَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِ اللهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَنْكِبُ مَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ.

هَذَا مَا تَيَسَّرَ التَّذْكِيرُ بِهِ مِنْ أُصُولِ عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَدْرِ مَا تَذَكَّرْنَاهُ وَقْتَ كِتَابَتِهِ. وَالْفِكْرُ فِي بِلْبَالٍ وَالْقَلْبُ فِي آلَامٍ، وَالزَّمَنُ غَيْرُ مُسَاعِدٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ الِاسْتِقْصَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ فِي اسْتِطَاعَةِ إِنْسَانٍ، فَهِيَ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَهَبُ اللهُ مِنْهَا الْأَوَاخِرَ مَا لَمْ يَهَبِ الْأَوَائِلَ، وَيَمْنَحُ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ مَالَا يَمْنَحُ الْأَقْوِيَاءَ. وَقَدْ أَدْمَجْنَا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى أَرْكَانِ الْعَقَائِدِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا أُصُولًا كَثِيرَةً لَوْ بُسِطَتْ لَطَالَ الْكَلَامُ كَأَنْوَاعِ شَهَادَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِصِدْقِهِ. وَمُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ 114، 115، وَأَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَتَغْرِيرُهُمْ وَالِانْخِدَاعُ بِهَا فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُمَا وَهُنَّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَلْمَمْنَا بِبَعْضِهِ وَبِهَذَا نَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَنَا الصَّوَابَ. وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَيُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَيُؤْتِيَنَا فِيهِ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ آمِينَ.

ص: 259

سُورَةُ الْأَعْرَافِ

(وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ فِي الْعَدَدِ وَسَادِسَةُ السَّبْعِ الطُّوَلِ وَآيَاتُهَا 205 آيَاتٍ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ و206 عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ)

الْأَعْرَافُ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَثْنَى قَتَادَةُ آيَةَ (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)(163) رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ حِبَّانَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ هُنَا إِلَى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)(172) مَدَنِيٌّ. اهـ وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِالْمَعْنَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَكِّيًّا وَبَعْضُهَا مَدَنِيًّا وَبِهَذَا النَّظَرِ نَقُولُ: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قِصَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ وَهِيَ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُغَيَّا فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ عَامٍّ. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ.

مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:

سُورَةُ الْأَعْرَافِ أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَوْ كَانَ تَرْتِيبُ السَّبْعِ الطُّوَلِ

مُرَاعًى فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَطْوَلِ فَالْأَطْوَلِ مُطْلَقًا لَقُدِّمَتِ الْأَعْرَافُ عَلَى الْأَنْعَامِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَهَا - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِثْلَهَا - فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا أَجْمَعُ لِمَا تَشْتَرِكُ السُّورَتَانِ فِيهِ وَهُوَ أَصُولُ الْعَقَائِدِ وَكُلِّيَّاتِ الدِّينِ الَّتِي أَجْمَلْنَا جُلَّ أُصُولِهَا فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِهَا، وَكَوْنِ مَا أُطِيلُ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ كَالشَّرْحِ لِمَا أُوجِزَ بِهِ فِيهَا أَوِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا عُمُومُ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِصَصُ الرُّسُلِ قَبْلَهُ وَأَحْوَالُ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا التَّنَاسُبِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ الْأُولَى (رَاجِعْ ص240 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَزِيدُهُ تَفْصِيلًا فِيمَا نَذْكُرُهُ فِي خَاتِمَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَاتِمَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى. وَأَمَّا سَبَبُ تَأْخِيرِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي تَلْقِينِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ اسْتِعْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهِيَ أَجْمَعُ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ وَلِرَدِّ شُبُهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا يُرَاعَى مِنَ التَّرْتِيبِ فِي دَعْوَتِهِمْ وَمَا يُرَاعَى فِي تِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقُرْآنِ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَا نَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ لَمَّا كَانَتْ لِبَيَانِ الْخَلْقِ وَفِيهَا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ 6: 2) وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ

ص: 260

الْقُرُونِ: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ 6: 6) وَأُشِيرَ إِلَى ذِكْرِ الْمُرْسَلِينَ وَتَعْدَادِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ وَكَانَ مَا ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ - جِيءَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى شَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ، فَبُسِطَ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ، وَفُصِّلَتْ قِصَصُ الْمُرْسَلِينَ وَأُمَمِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ أَكْمَلَ تَفْصِيلٍ. وَيَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ)(6: 165) وَلِهَذَا صَدَّرَ السُّورَةَ بِخَلْقِ آدَمَ الَّذِي جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ: (جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)(69) وَفِي قِصَّةِ ثَمُودَ: (جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ)(74) وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(6: 54) وَهُوَ كَلَامٌ مُوجَزٌ وَبَسَطَهُ سُبْحَانَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)(156) وَأَمَّا وَجْهُ ارْتِبَاطِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)(6: 153)(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)(6: 155) وَافْتَتَحَ هَذِهِ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَأَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(6: 159)(ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(6: 164) قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ فِي مُفْتَتَحِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ

أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) (6) إِلَخْ. وَذَلِكَ مِنْ شَرْحِ التَّنْبِئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ:(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ)(6: 160) الْآيَةَ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمِيزَانِ افْتَتَحَ هَذِهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)(8) ثُمَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ مَنْ خَفَّتَ وَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمُ اهـ. وَنَكْتَفِي بِهَذَا مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلَهُ هُنَا وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّهْلِ بَسْطُهُ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَنَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مُسْتَعِينِينَ بِإِلْهَامِهِ وَتَفْهِيمِهِ عز وجل.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)

ص: 261