المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ - تفسير المنار - جـ ٨

[محمد رشيد رضا]

الفصل: : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ

: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(80: 38 - 41) وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَذِكْرُهُ عَبَثٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ التَّنْزِيلُ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ مَعْرِفَةُ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ هُنَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ:(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (7:‌

‌ 48)

فَهَذِهِ سِيمَا خَاصَّةٌ لِأَنَّهَا لِأَفْرَادٍ مَخْصُوصِينَ، وَتِلْكَ سِيمَا عَامَّةٌ لِأَنَّهَا لِفَرِيقَيْنِ أَفْرَادُهُمَا غَيْرُ مَحْصُورِينَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ عَدَّهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: (الْأُولَى) أَنَّهُمْ بَعْضُ أَشْرَافِ الْخَلْقِ الْمُمْتَازِينَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ وَلَا مِنَ الْأَشْرَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ، بَلْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ خَرَجُوا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ إِذْنِ آبَائِهِمْ وَاسْتُشْهِدُوا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعْصِيَةُ آبَائِهِمْ - وَهَذَا خَاصٌّ يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَالثَّالِثَةُ) أَنَّهُمْ

أَصْحَابُ صِفَةٍ خَاصَّةٍ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ بَلْ مَنْزِلَةٍ بَيْنَهُمَا هِيَ الْأَعْرَافُ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَقْوَالٌ:(1) أَهْلُ الْفَتْرَةِ: (2) مُؤْمِنُو الْجِنِّ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ فِي أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ، وَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ:(3) أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ سِنِّ التَّكْلِيفِ:(4) أَوْلَادُ الزِّنَا: (5) أَهْلُ الْعَجَبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا وَجْهَ لَهُمَا الْبَتَّةَ. (6) آخِرُ مَنْ يَفْصِلُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَهُمْ عُتَقَاؤُهُ مِنَ النَّارِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ " أَقْوَامٌ كَانُوا قَدِ امْتَحَشُوا فِي النَّارِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، فَيُخْرِجُهُمُ اللهُ مِنْهَا وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ فِيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ " وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَلَهُمْ أَقْوَالٌ: (1) أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ اهـ. وَإِنَّمَا عَدُّهُ غَرِيبًا عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِتَسْمِيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا وَهُمْ

ص: 384

لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ.

(2)

أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّهُمْ شُهَدَاؤُهُ عَلَى الْأُمَمِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ.

(3)

أَنَّهُمْ عُدُولُ الْأُمَمِ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، فَكَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَشْهَدُ عَلَى أُمَّتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شُهَدَاءُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَهُ - ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْأُمَمِ شُهَدَاءَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام قَالَ اللهُ تَعَالَى:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(4: 41) وَقَالَ فِي خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(2: 143) وَقَالَ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ

وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (39: 69) إِلَخْ. وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِفَضَائِلِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَالْتِزَامِهِمْ لِلْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَوْلَاهُمْ لَفُقِدَتِ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ.

(4)

أَنَّهُمُ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ ذُو الْجَنَاحَيْنِ رضي الله عنهم يَجْلِسُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الصِّرَاطِ يُعْرَفُونَ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ أَنَّ الضَّحَّاكَ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ نَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ، وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ، أَيْ فَيُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمْ أَوْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ عَلَى الصِّرَاطِ لِمَنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ، وَمَنْ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا خَاصَّةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالنَّوَاصِبِ وَأَيْنَ الْأَعْرَافُ مِنَ الصِّرَاطِ؟ هَذَا بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ جِدًّا.

(5)

قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا تُعْقَلُ حِكْمَتُهُ إِذَا رُدَّ إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ فِيهِ غَرَابَةً.

وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ - بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الرِّجَالِ وَحْدَهُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَالتَّغْلِيبُ لَا يَظْهَرُ هُنَا، كَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ خِلَافًا لِأَبِي مِجْلَزٍ إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يَقْبَلُهُ كَأَنْ يَقُولَ:" عِبَادٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ " وَيُنَافِي كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، كَمَا يُنَافِي كَوْنَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

ص: 385

(وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ نَادَوْهُمْ بِقَوْلِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا السَّلَامَ يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ بِالنَّجَاةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ فَإِنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ بِالسِّيمَا إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ كُلٍّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ تَحِيَّةٌ مَحْضَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)

(56: 25، 26)

وَلَا يَمْنَعُ هَذَا الْوَجْهُ وَلَا ذَاكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ وَرَدَ التَّنْزِيلُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِتَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ:(وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنَعِمَ عُقْبَى الدَّارِ)(13: 23، 24)

وَقَوْلُهُ: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَيْ نَادَوْهُمْ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا مَعَهُمْ وَهُمْ طَامِعُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِمَا بَدَا لَهُمْ مِنْ يُسْرِ الْحِسَابِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي الْمَوْقِفِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، لَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَدْخُلُوهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَوْ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ ادْخُلُوا النَّارَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلَوْ نَادَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ انْتَهَى بِالْمَعْنَى لَا أَذْكُرُ أَيَّ الْمَكَانَيْنِ قَدَّمَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ.

(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَفَادَ هَذَا التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ أَنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِالْقَصْدِ وَالرَّغْبَةِ وَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ رُؤْيَةَ أَصْحَابِ النَّارِ. فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَهُمْ، أَيْ حُوِّلَتْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَلْقَاهُمْ وَتُبْصِرُهُمْ فِيهَا - وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ تَوَخٍّ وَلَا رَغْبَةٍ، بَلْ بِصَارِفٍ يَصْرِفُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ بِمُقْتَضَى سُرْعَةِ تَحَوُّلِهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ - قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ حَيْثُ هُمْ وَلَا حَيْثُ يَكُونُونَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ لَا يَظْهَرُ صُدُورُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِعْظَامُ حَالِ الظَّالِمِينَ وَاسْتِفْظَاعُ مَآلِهِمْ، لَا حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ، وَيُجَابُ بِهَذَا الْأَخِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْأَنْبِيَاءُ هُمْ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ.

وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ أَلْيَقُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَكَانُوا مَوْقُوفِينَ

ص: 386

مَجْهُولًا مَصِيرُهُمْ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمُ النَّارَ وَقَعَدَتْ بِهِمْ

سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ فَقَالَ لَهُمْ: فَاذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ يُحَاسِبُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ:(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) الْآيَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ وَيَرْجَحُ. قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ عُرِضَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إِلَى يَسَارِهِمْ رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ فَقَالُوا:(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ (قَالَ) : فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أَمَةٍ نُورًا، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (66: 8) وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ النُّورَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا (قَالَ سَعِيدٌ) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً. ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَحْدَانُهُ أَعْشَارَهُ اهـ.

فَهَذَا أَوْضَحُ بَيَانٍ مُفَصَّلٍ لِلْقَوْلِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ، وَلِلْأَثَرَيْنِ الْمَوْقُوفَيْنِ فِيهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْقِفِ وَقِيلَ أَنْ يَجْعَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ السُّورَ الَّذِي فُسِّرَتِ الْأَعْرَافُ بِهِ أَوْ بِأَعْيَالِهِ يُضْرَبُ بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنَ الْمَوْقِفِ يَسِيرُونَ بِنُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ كَلِمَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُمْ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَنِدَاءَهُمْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْعُنْوَانُ قَبْلَ وُجُودِهِمْ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى التَّأْوِيلِ بِجَعْلِهِ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ:(أَعْصِرُ خَمْرًا)

(12: 36) وَيُجَابُ عَنْ تَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُخَاطِبُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ دُونَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ.

ص: 387

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

هَذَا النِّدَاءُ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّينَ أَوْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِهِ عَمَّنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِهِ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) كَرَّرَ ذِكْرَهُمْ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ بِهِ فَلَمْ يَقُلْ:(وَنَادَوْا) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَكَوْنِ هَذَا النِّدَاءِ خَاصًّا فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ مُسْتَقِلًّا دُونَ مَا قَبْلَهُ الْمُوَجَّهِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي جُمْلَتِهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِغِنَاهُمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُحْتَقَرِينَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمْ، أَوْ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ عُصْبَةٍ تَمْنَعُهُمْ وَتَذُودُ عَنْهُمْ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ قَوِيًّا فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ هُنَالِكَ آخِرَةٌ (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمَعَذَّبِينَ) (34: 34، 35) وَمِنْهُمْ طُغَاةُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْإِسْلَامَ فِي مَكَّةَ وَاضْطَهَدُوا أَهْلَهُ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَا أَهْلِ النَّارِ الْعَامَّةِ كَسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمُ الْخَاصَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِسِيمَا الْمُسْتَكْبِرِينَ إِذْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ رَذِيلَةٌ خَاصَّةٌ صِفَةٌ وَعَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ " فَيَعْرِفُهُ فَيَشْفَعُ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ ثُمَّ يَمْسَخُهُ اللهُ ذِيخًا مُنْتِنًا لِيَزُولَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خِزْيُهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مَسْخَهُ ضَبْعًا مُنَاسِبٌ لِحَمَاقَتِهِ وَنَتْنِ الشِّرْكِ [رَاجِعْ ص449 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. أَيْ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ لِلْمَالِ وَكَذَا لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاسْتِكْبَارُكُمْ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَا أَفَادَكُمْ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ؟ .

(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ

ص: 388

كَانُوا يَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَآلِ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُتَهَكِّمِينَ بِخِزْيِهِمْ وَفَوْزِ مَنْ كَانُوا يَحْتَقِرُونَهُمْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنَالُهُمْ بِرَحْمَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ

مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاكُمْ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أَيْ قِيلَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ عز وجل: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ مِمَّا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ مِنْ جَرَّاءِ شَيْءٍ يُنَغِّصُ عَلَيْكُمْ حَاضِرَكُمْ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَلَكِنَّهُ قَلَّ فِي كَلَامِ الْمُوَلِّدِينَ، حَتَّى لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي كَلَامِ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْمُنْشِئِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِهَؤُلَاءِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَخْ. وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ؛ إِذْ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ أَنْ يُخَاطِبُوا مَنْ هُمْ فَوْقَهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا بَعْدَهُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَلِيقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمُتَبَادَرُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ فِي النَّارِ قَدْ أَقْسَمُوا بِاللهِ لَا يَنَالُ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مِنَ اللهِ رَحْمَةٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ فَكَانُوا آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيمَا سَمِعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا ضَعِيفٌ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصِّحَاحِ فِي آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا وَتَقَدَّمَ آنِفًا.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: أَنَّ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ - إِنْ صَحَّ وُجُودُ الْأَعْرَافِ حِينَئِذٍ - بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ - لَوْلَا مَا يُنَافِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ - يُرَجِّحُ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ هُنَالِكَ تَمْيِيزٌ وَتَفْضِيلٌ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ وَإِنْ أَوَّلَهُ، أَوْ مُسَلَّمٌ بِكَوْنِهِمْ فِي صُورَتِهِمْ. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يُرَجِّحَانِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ بِمَعُونَةِ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، يُوقَفُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ يَظْهَرُ فِيهَا عَدْلُ اللهِ تَعَالَى بِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ بِأَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَهُمْ، وَلَا بِأَصْحَابِ السَّيِّئَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ النَّارِ مَعَهُمْ وَلَوْ بَقَوْا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لَكَانَ عَدْلًا وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَدْلِ بِالْفَضْلِ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ إِخْرَاجِ مَنْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقِسْمَةِ الثُّنَائِيَّةِ (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)

(42: 7) .

وَكُلٌّ مِنْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا التَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَهُ مُرَجِّحَاتٌ

ص: 389

وَمُعَارَضَاتٌ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ نِدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ:(أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا)(44) الْآيَةَ. وَنِدَاءِ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ الَّذِي يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:

(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الْآخِرَةِ تَقْتَضِي إِمْكَانَ إِفَاضَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ مِنَ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَهُ الْمَعْقُولَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ. وَإِفَاضَةُ الْمَاءِ صَبُّهُ وَمَادَّةُ الْفَيْضِ فِيهَا مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَمَا رَزَقَهُمُ اللهُ يَشْمَلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَ الْمَاءِ مِنْ أَشْرِبَةٍ وَ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ:(أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) لِلتَّخْيِيرِ فَهِيَ لَا تَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَيُقَدِّرُ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مُنَاسِبًا لِلرِّزْقِ عَلَى حَدِّ " عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا " وَالصَّوَابُ أَنَّ الْفَيْضَ وَالْإِفَاضَةَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ فَيُقَالُ فَاضَ الرِّزْقُ وَالْخَيْرُ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ أَعْطَاهُ غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ - أَيْ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا اسْتَعَارَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَجْدُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَتَمَتَّعُونَ بِهَا مِنْ شَرَابٍ وَطَعَامٍ، وَقَدَّمُوا طَلَبَ الْمَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي " سُمُومٍ وَحَمِيمٍ " يَكُونُ شُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ أَشَدَّ مِنْ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ الطَّيِّبِ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ

فَيَقُولُ: يَا أَخِي أَغِثْنِي فَإِنِّي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الطَّلَبِ قَالَ: يَسْتَسْقُونَهُمْ وَيَسْتَطْعِمُونَهُمْ - وَفِي قَوْلِهِ: (حَرَّمَهُمَا) قَالَ: طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا. وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ وَالْبَيْهَقِيُّ

ص: 390

فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه شَرِبَ مَاءً بَارِدًا فَبَكَى فَسُئِلَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ ذَكَرْتُ آيَةً فِي كِتَابِ اللهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)(34: 54) فَعَرَفْتُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَشْتَهُونَ إِلَّا الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عز وجل:(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَا حَصْرَ فِيهَا. وَفِي الشُّعَبِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ سَقْيُ الْمَاءِ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) " وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ " سَقْيُ الْمَاءِ ".

(قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الْحَرَامُ فِي اللُّغَةِ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الْمَنْعُ قِسْمَانِ: تَحْرِيمٌ بِالْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ كَتَحْرِيمِ اللهِ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ وَأَرْضِ الْحَرَمِ أَنْ يُؤْخَذَ صَيْدُهَا أَوْ يُقْطَعَ شَجَرُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا (أَيْ يُنْزَعَ حَشِيشُهَا الرَّطْبُ) . وَتَحْرِيمٌ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَهْرِ كَتَحْرِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا عَلَى الْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النارُ)(5: 72) أَيْ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ مَاءَ الْجَنَّةِ وَرِزْقَهَا عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا، فَلَا يُمْكِنُ إِفَاضَةُ شَيْءٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ لَهُمْ مَاءَهَا الْحَمِيمَ وَطَعَامَهَا مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ.

وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ هَذَا الْحِرْمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ أَعْمَالًا لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ فَتَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ، بَلْ هِيَ إِمَّا لَهْوٌ وَهُوَ مَا يُشْغِلُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْجِدِّ وَالْأَعْمَالِ الْمُفِيدَةِ بِالتَّلَذُّذِ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ، وَإِمَّا لَعِبٌ وَهُوَ مَا لَا تُقْصَدُ مِنْهُ فَائِدَةٌ صَحِيحَةٌ كَأَعْمَالِ الْأَطْفَالِ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَكَانَ كُلُّ هَمِّهِمُ التَّمَتُّعَ بِشَهَوَاتِهَا وَلِذَّاتِهَا - حَرَامًا كَانَتْ أَوْ حَلَالًا - لِأَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا،

وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا لَهَا سَعْيَهَا بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَتُرَقِّيهَا فَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا. بَلْ كَانَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ لَا مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا لِذَلِكَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِالتَّمَتُّعِ بِنِعَمِ اللهِ فِيهَا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.

وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(6: 29) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(32) وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ

ص: 391

فِيهَا وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَتَقْدِيمِ اللهْوِ عَلَى اللَّعِبِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَلْيُرَاجَعْ أَيْضًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)(6: 70) وَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ فِي تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا.

(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) هَذَا مِنْ قَوْلِ اللهِ عز وجل مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مَحْدُودٌ بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مِقْدَارٌ، وَالْمُرَادُ: نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمَنْسِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِدُهُ أَحَدُكُمَا كَمَا جَعَلُوا هَذَا الْيَوْمَ مَنْسِيًّا أَوْ كَالْمَنْسِيِّ بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّزَوُّدِ لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ:(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)(2: 198) أَيْ لِهِدَايَتِهِ لَكُمْ - لَا لِلتَّشْبِيهِ - عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ.

(وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) بَلْ يَتَعَيَّنُ فِيهِ التَّعْلِيلُ، فَنِسْيَانُ اللهِ لَهُمُ الْمُرَادُ بِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ - مَعْلُولٌ بِنِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يَوْمِ الْجَزَاءِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ لَهُ وَبِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ بِدِينِهِ وَرَفْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَيَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا.

(

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)

مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ إِنْذَارٌ عَامٌّ وَمَوْضُوعُهُ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَى بَادِيَ بَدْءٍ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَلِهَذَا جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضَمَائِرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ وَيَكُونُ الْكِتَابُ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا لِلْجِنْسِ، وَأَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَوْقِعُهَا مِمَّا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ حُجَّةِ اللهِ عَلَى

ص: 392

عَلَى الْبَشَرِ كَافَّةً، وَإِزَاحَةُ عِلَلِ الْكُفَّارِ وَإِبْطَالُ مَعَاذِيرِهِمْ إِنْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ الْجَزَاءِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا الثَّانِي. قَالَ عز وجل:

(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أَيْ وَلَقَدْ جِئْنَا هَؤُلَاءِ النَّاسَ بِكِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، كَامِلِ التِّبْيَانِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. فَصَّلْنَا آيَاتِهِ تَفْصِيلًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَسَعَادَتِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، حَالَ كَوْنِهِ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مَنَارَ هِدَايَةٍ عَامَّةٍ وَسَبَبَ رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الْعِلْمِيِّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِرَحْمَتِهِ.

التَّفْصِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْحَقَائِقِ وَالْمَسَائِلِ الْمُرَادِ بَيَانُهَا مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِمَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ، وَاخْتِلَاطَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي الْأَفْهَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ذِكْرَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَلَا التَّطْوِيلَ بِبَيَانِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ، فَفِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِنَا: أَسْهَبَ حَيْثُ يَنْبَغِي الْإِسْهَابُ، وَأَوْجَزَ حَيْثُ يَكْفِي الْإِيجَازُ.

مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ أَنَّ الْبَشَرَ قَدْ فُتِنُوا بِالشِّرْكِ، وَلَبِسَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْأَمْرُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَةِ الرَّبِّ خَالِقِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِ هُوَ الْوَاجِبُ لَهُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ، دُونَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ، الْمُقَرَّبِينَ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِمْ إِلَيْهِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ مَا يَعْجِزُ الْمَرْءُ عَنْ نَيْلِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَمَحْضُهَا، وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعْبُودًا وَإِلَهًا. وَشُبْهَتُهُمْ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مَعَ اللهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا يُرْضِيهِ. وَأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْهُ، مَأْخَذُ هَذَا مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الرَّعَايَا الضُّعَفَاءُ الْمُسْتَذِلُّونَ بِوُزَرَائِهِمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِحَوَاشِيهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ قَرَّرَ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ هَذَا الشِّرْكِ وَأَطْنَبَ فِي تَفْصِيلِهِ كُلَّ الْإِطْنَابِ.

وَمِثَالُهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا مِمَّا يَكْفِي فِيهِ الْقُدْوَةُ وَالتَّأَسِّي بِالرَّسُولِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ بَيَانُ التَّنْزِيلِ، فَلِهَذَا لَمْ يُبَيِّنْهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُؤَدَّى بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِإِقَامَتِهَا أَيِ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَقْوَمِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَبَيْنَ حِكْمَتِهَا وَفَائِدَتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقَامَةِ لَهَا وَالْحِكْمَةِ فِي وُجُوبِهَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ.

وَمِثَالُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالِارْتِقَاءُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا فِيهِ التَّقْلِيدَ وَالْأَخْذَ بِأَقْوَالِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَرُؤَسَاءِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَلِهَذَا

ص: 393

كَرَّرَ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَضَلَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الظَّانِّينَ وَالْمُرْتَابِينَ، وَكَرَّرَ الْحَثَّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْبُرْهَانِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَنْ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَبِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْبُوعَ الْهُدَى وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْمَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَا شَقَاءَ الطَّاعِنِينَ فِي هِدَايَتِهِ.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أَيْ لَيْسَ أَمَامَهُمْ شَيْءٌ يَنْتَظِرُونَهُ فِي أَمْرِهِ إِلَّا وُقُوعَ تَأْوِيلِهِ. وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ الَّذِي يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ. فَالنَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ كَتَأْوِيلِ

الرُّؤْيَا هُوَ عَاقِبَتُهُمَا. وَالْمَآلُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) قَالَ: عَاقِبَتَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَوَاقِبَهُ، مِثْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا وُعِدَ فِيهِ مِنْ مَوْعِدٍ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْ تَأْوِيلِهِ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ فَيَتِمُّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَئِذٍ إِلَخْ فَجَمَعَ كَلَامُهُ كُلَّ مَا لَهُ مَآلٌ يُنْتَظَرُ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ الصَّادِقَةِ الَّتِي وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهَا كُلًّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرٍ وَثَوَابٍ، وَالْكَافِرِينَ مِنْ خِذْلَانٍ وَعِقَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.

(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وَنِهَايَتُهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَزُولُ كُلُّ شُبْهَةٍ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ فِي الدُّنْيَا أَيْ تَرَكُوهُ كَالْمَنْسِيِّ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ:(قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ فَتَمَارَيْنَا بِهِ وَأَعْرَضْنَا عَنْهُ، حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أَيْ يَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّمَنِّي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِهِ فَيَقَعُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ. وَبَعْدَ الْيَأْسِ فِيهَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، حَيْثُ يَقُولُونَ فِيهَا كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ:(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(26: 100 - 102) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءَ)(6: 94) الْآيَةَ - وَإِنَّمَا يَتَمَنَّوْنَ الشُّفَعَاءَ أَوْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُمْ أَوَّلًا لِأَنَّ قَاعِدَةَ الشِّرْكِ الْأَسَاسِيَّةَ أَنَّ النَّجَاةَ عِنْدَ اللهِ وَكُلَّ مَا يَطْلُبُ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَعْلَمُونَ هُنَالِكَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَعْمَلُوا فِيهَا غَيْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِمُ الْأُولَى، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِمَرْضَاتِهِ تَعَالَى بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ عليهم السلام. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (آيَتَيْ 27، 28) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَمَنِّيهِمْ

ص: 394

لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ

لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِحَالِهِمْ وَغَايَةِ تَمَنِّيهِمْ يَقُولُ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَدْسِيسهَا وَتَدْنِيسِهَا بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَمِ تَزْكِيَتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَيَوْمَئِذٍ يَضِلُّ وَيَغِيبُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ خَبَرِ الشُّفَعَاءِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ:(هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(10: 18) فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ عِوَضٍ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي (س6: 12، 20) وَتَفْسِيرُ: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فِي (6: 24) وَنَحْوِهَا: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(6: 94) .

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْمَعَادِ، سَبَبَ هَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَعِبَادَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ، دُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ أَوِ ابْتَدَعَهُ لَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِخَمْسِ آيَاتٍ جَامِعَةٍ لِجُمْلَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدِّينِ بِإِيجَازٍ بَلِيغٍ ابْتَدَأَهَا بِآيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ الْهَادِيَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ بُرْهَانًا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، فَقَالَ عز وجل:

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ وَالْمُدَبِّرُ وَالْمُرَبِّي، وَالْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ، أَيِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ وَمُسَاعَدَةِ الْأَسْبَابِ لَهُ، فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ

ص: 395

بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ

الَّتِي يُرْجَى أَنْ تُرْضِيَهُ، وَبِالنَّذْرِ لَهُ وَالذَّبْحِ بِاسْمِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ، سَوَاءً كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ خَاصًّا بِهِ أَوْ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْبُودٍ آخَرَ هُوَ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ. وَأَمَّا اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ (اللهُ) فَهُوَ اسْمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي يَنْفِي الْمُوَحِّدُونَ الْحُنَفَاءُ رُبُوبِيَّةَ غَيْرِهِ وَأُلُوهِيَّةَ سِوَاهُ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ أَكْبَرُ الْأَرْبَابِ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَأَعْظَمُ الْآلِهَةِ أَوْ مَرْجِعُهُمُ الَّذِي يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَمْثَالُهُمْ يَنْفُونَ وُجُودَ رَبٍّ سِوَاهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ.

وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ يُطْلَقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْعَالَمِ الْعِلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ - وَإِنْ كَانَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فِيهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ - وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ خَالِقَ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَاحِدٌ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَرْبَابًا كَانُوا يُقَيِّدُونَ رُبُوبِيَّتَهُمْ بِأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرُهَا، وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (473، 474 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَيَخُصُّونَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ بَاسِمٍ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا الثَّنَوِيَّةَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَبَّيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ أَحَدُهُمَا: خَالِقُ النُّورِ وَفَاعِلُ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي: خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَمَصْدَرُ الشَّرِّ.

فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمَا وَحْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ تُطْلَقُ السَّمَاوَاتُ عَلَى مَا دُونَ الْعَرْشِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وُصِفَتْ بِالسَّبْعِ.

وَأَمَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ فَهِيَ مِنْ أَيَّامِ اللهِ الَّتِي يَتَحَدَّدُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ يَكُونُ فِيهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ كَامْتِيَازِ أَيَّامِنَا بِمَا يَحُدُّهَا مِنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ، وَأَيَّامِ الْعَرَبِ بِمَا كَانَ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْخِصَامِ، وَأَيَّامِ اللهِ الَّتِي أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِهَا هِيَ أَزْمِنَةُ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:(وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(22: 47) وَوَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(70: 4) وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ مِنْ أَيَّامِ أَرْضِنَا، الَّتِي يُحَدُّ لَيْلُ الْيَوْمِ وَنَهَارُهُ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مِنَ السَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ خَلْقِهَا فِي أَيَّامٍ مِنْهَا. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى خَلْقَهَا وَخَلْقَ السَّمَاءِ

فِي سُورَةِ (حم السَّجْدَةِ - فُصِّلَتْ) بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَالَ: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونِ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(41: 9 - 12)

ص: 396

وَوَصَفَ أَصْلَ تَكْوِينِهِمَا وَحَالَ مَادَّتِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)(21: 30) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ:

(1)

أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَانَتْ دُخَانًا أَيْ مِثْلَ الدُّخَانِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَ الْجَلَالُ الدُّخَانَ بِالْبُخَارِ الْمُرْتَفِعِ، وَذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ ظَلْمَانِيٌّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَادَّتَهَا أَوِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا.

(2)

أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ وَاحِدَةٌ ثُمَّ فَتَقَ اللهُ رَتْقَهَا أَيْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فَخَلَقَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْعُلَا.

(3)

أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَكُونُ الْيَابِسَةُ وَالْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِيهِمَا وَمَصَادِرُ الْقُوتِ وَهِيَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.

(4)

أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ خُلِقَتْ مِنَ الْمَاءِ.

فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ كَالدُّخَانِ حِينَ فُتِقَتْ مِنْ رَتْقِ الْمَادَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ مُبَاشَرَةً أَوْ غَيْرَ مُبَاشَرَةٍ وَأَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِي هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَائِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بُخَارِيَّةً أَوْ دُخَانِيَّةً، وَإِنَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَكَوَّنَتْ فِيهِ الْيَابِسَةُ وَنَتَأَتْ مِنْهَا الرَّوَاسِي فَتَمَاسَكَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ أَجْنَاسُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهِيَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ. فَهَذِهِ أَزْمِنَةٌ لِأَطْوَارٍ مِنَ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُتَدَاخِلَةً. وَأَمَّا السَّمَاءُ الْعَامَّةُ وَهِيَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ

الْأَرْضِ فَقَدَ سَوَّى أَجْرَامَهَا مِنْ مَادَّتِهَا الدُّخَانِيَّةِ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ زَمَنَيْنِ كَالزَّمَنَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَ فِيهِمَا جِرْمُ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي مَوْضِعِهِ.

هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ يَتَّفِقُ مَعَ الْمُخْتَارِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامُ السَّمَاوِيَّةُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ كَالدُّخَانِ، وَيُسَمُّونَهَا السَّدِيمَ، وَكَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً رَتْقًا ثُمَّ انْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُصَوِّرُونَ ذَلِكَ تَصْوِيرًا مُسْتَنْبَطًا مِمَّا عَرَفُوا مِنْ سُنَنِ الْخَلْقِ، إِذَا صَحَّ كَانَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ السَّدِيمِيَّةَ كَانَتْ مُؤَلَّفَةً مِنْ أَجْزَاءٍ دَقِيقَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ، وَأَنَّهَا قَدْ تَجَمَّعَ بَعْضُهَا وَانْجَذَبَ إِلَى بَعْضٍ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ مِنْهَا كُرَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ نَفْسِهَا، وَأَنَّ شِدَّةَ الْحَرَكَةِ

ص: 397

أَحْدَثَتْ فِيهَا اشْتِعَالًا فَكَانَتْ ضِيَاءً - أَيْ نُورًا ذَا حَرَارَةٍ، وَهَذِهِ الْكُرَةُ الْأُولَى مِنْ عَالَمِنَا هِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الشَّمْسَ.

وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْكَوَاكِبَ الدَّرَارِيَّ التَّابِعَةَ لِهَذِهِ الشَّمْسِ فِيمَا نُشَاهِدُ مِنْ نِظَامِ عَالَمِنَا هَذَا قَدِ انْفَتَقَتْ مِنْ رَتْقِهَا، وَانْفَصَلَتْ مِنْ جِرْمِهَا، وَصَارَتْ تَدُورُ عَلَى مَحَاوِرِهَا مِثْلِهَا. وَمِنْهَا أَرْضُنَا هَذِهِ، فَقَدْ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً مِثْلَهَا. ثُمَّ انْتَقَلَتْ مِنْ طَوْرِ الْغَازَاتِ الْمُشْتَعِلَةِ إِلَى طَوْرِ الْمَائِيَّةِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ بِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْعُنْصُرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا بُخَارُ الْمَاءِ فَكَانَا يَرْتَفِعَانِ مِنْهَا فِي الْجَوِّ فَيَبْرُدَانِ فَيُكَوِّنَانِ بُخَارًا فَمَاءً يَنْجَذِبُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَبَخَّرُ مِنْهَا حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهَا طَوْرُ الْمَائِيَّةِ. ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الْيَابِسَةُ فِي هَذَا الْمَاءِ بِتَجْمِيعِ مَوَادِّهَا طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهَا الْمَعَادِنُ وَالْأَحْيَاءُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّبَاتِيَّةُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ أَجْزَاءِ الْمَادَّةِ وَتَجَمُّعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنِسَبٍ وَمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَحْثِ وَالْحَفْرِ أَنَّ بَعْضَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ خَالِيَةٌ مِنْ آثَارِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ جَمِيعًا فَعُلِمَ أَنَّ تَكَوُّنَهَا كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا فِيهَا.

فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فَصَّلُوهَا بِهِ مِمَّا رَأَوْهُ أَقْرَبَ النَّظَرِيَّاتِ إِلَى سُنَنِ الْكَوْنِ وَصِفَةِ عَنَاصِرِهِ الْبَسِيطَةِ وَحَرَكَتِهَا، وَتَكُونُ الْمَعَادِنُ مِنْهَا، وَالْمَادَّةُ الزُّلَالِيَّةُ ذَاتُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا كَانَتْ أَصْلَ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ كَالتَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَلُّدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (بُرُتُوبِلَاسْمَا) وَصِفَةِ تَكَوُّنِ الْخَلَايَا الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا الْأَجْسَامُ الْعُضْوِيَّةُ - كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِخَلْقِ الْعَوَالِمِ أَطْوَارًا بِسُنَنٍ ثَابِتَةٍ وَتَقْدِيرٍ مُنَظَّمٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ

شَيْءٌ جُزَافًا، وَقَدْ أَرْشَدَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَامَّةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ مَا قَالُوهُ مِنْ فُرُوعِهَا وَمَسَائِلِهَا - بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)(54: 49) وَقَوْلِهِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(25: 2) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)(71: 13 - 17) فَمِنْ دَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِعِبَارَةٍ لَا يَتَحَيَّرُونَ فِي فَهْمِهَا وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا مُجْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ فَهْمُ مَا وَرَاءَهَا مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرَقِّي الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ.

وَقَدْ سَبَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا يَظَنُّ الْآنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِفْرِنْجِ قَدِ انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَسَائِلِ نِظَامِ الْخَلْقِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُورَةَ كَانَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ مَغْمُورَةً فِي الْبِحَارِ فَحَصَلَ فِيهَا طِينٌ لَزِجٌ فَتَحَجَّرَ بَعْدَ الِانْكِشَافِ، وَحَصَلَ الشُّهُوقُ بِحَفْرِ السُّيُولِ وَالرِّيَاحِ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ فِيهَا الْجِبَالُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الظَّنَّ أَنَّا نَجِدُ

ص: 398

فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ إِذَا كَسَرْنَاهَا أَجْزَاءَ الْمَائِيَّةِ كَالْأَصْدَافِ وَالْحِيتَانِ اهـ.

يَظُنُّ بَعْضُ قَصِيرِي النَّظَرِ وَضَعِيفِي الْفِكْرِ أَنَّ الْخَلْقَ الْأُنُفَ - (بِضَمَّتَيْنِ) : الْجُزَافُ - الَّذِي لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَدْرِيجَ نِظَامٍ - أَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَعَلَى عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الظَّنَّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا عُلِمَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ الْبَاحِثِينَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَسُنَنِهِ بِالْخَالِقِ عز وجل وَإِنْ كَانَ كُفْرُهُمْ ذُهُولًا وَاشْتِغَالًا عَنِ الصَّانِعِ بِدِقَّةِ الصَّنْعَةِ، وَتَجْوِيزًا لِحُصُولِ النِّظَامِ فِيهَا بِنَفْسِهِ مُصَادَفَةً وَاتِّفَاقًا، وَالصَّوَابُ الْمَعْقُولُ: أَنَّ النِّظَامَ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ. فَإِنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْعَالَمِ أَظْهَرُ الْبَرَاهِينِ عَلَى وَحْدَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَمَا لَا نِظَامَ فِيهِ هُوَ الَّذِي قَدْ يَخْطُرُ فِي بَالِ رَائِيهِ أَنَّ وُجُودَهُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ مِنْ قَذَفَاتِ الضَّرُورَةِ الْعَمْيَاءِ أَوْ بِفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَأَيُّ عَاقِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْمَةٍ مِنَ الْحَصَى يَرَاهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَبَيْنَ قَصْرٍ مَشِيدٍ، فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مُتْرَفُو الْأَغْنِيَاءِ مِنْ حُجُرَاتٍ وَمَرَافِقَ، أَفَيُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ النِّظَامُ الْعَامُّ فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ

وَوَحْدَةُ السُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا بِالْمُصَادَفَةِ؟ أَوْ أَثَرِ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؟ ! كَلَّا.

(فَإِنْ قِيلَ) : قَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ هِيَ مِنْ أَيَّامِ دُنْيَانَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا، وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَقَالَ: " خَلَقَ اللهُ عز وجل التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ جُزَافًا وَدُفْعَةً وَاحِدَةً لِكُلِّ نَوْعٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِنَا الْقَصِيرَةِ.

(فَالْجَوَابُ) : أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَهُوَ أَقْوَاهَا مَرْدُودٌ بِمُخَالَفَةِ مَتْنِهِ لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَأَمَّا سَنَدُهُ فَلَا يَغُرَّنَّكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَهُ بِهِ، فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ كَغَيْرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ الْمَصِّيصِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهُوَ قَدْ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ حَدَّثَ بَعْدَ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ، كَمَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِيرَادِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَفِيهِ اسْتِيعَابُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَاللهُ تَعَالَى قَالَ: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وَلِهَذَا تَكَلَّمَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ لَيْسَ مَرْفُوعًا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَيْ فَيَكُونُ رَفْعُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ مِنْ خَلْطِ حَجَّاجِ بْنِ الْأَعْوَرِ. وَقَدْ هَدَانَا اللهُ مِنْ قَبْلُ إِلَى حَمْلِ بَعْضِ مُشْكِلَاتِ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُعَنْعَنَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي أَدْخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُخْتَرَعَةِ وَخَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَذِبُهُ

ص: 399

وَدَجَلُهُ لِتَعَبُّدِهِ، وَقَدْ قَوِيَتْ حُجَّتُنَا عَلَى ذَلِكَ بِطَعْنِ أَكْبَرِ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَزَى إِلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ. عَلَى أَنَّ رُوَاةَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَخْرَجُوا عَنْ كَعْبٍ خِلَافَ هَذَا كَرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَدَأَ اللهُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبَعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَجَعَلَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ. وَثَمَّةَ آثَارٌ أُخْرَى عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَقْدِيرِ الْيَوْمِ مِنْهَا بِأَلْفِ سَنَةٍ. مِنْهَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَهَذَا دَلِيلٌ

عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْا تِلْكَ الْأَيَّامَ بِأَسْمَاءِ أَيَّامِنَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْنُونَ أَنَّهَا مِنْهَا، عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ الْأُولَى مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ الْأُولَى.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ آدَمَ خُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا رَوَاهُ عَنْ كَعْبٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ قَدْ كَانَ بَعْدَ أَنْ تَمَّ خَلْقُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ أَيَّامُهَا كَمَا نَعْلَمُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ كَمَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ " فُصِّلَتْ ".

وَسَرْدُ الْآيَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ يُخَالِفُ بِتَفْصِيلِهِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً تَتَعَاصَى عَلَى التَّأْوِيلِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ خَدَمُوا الدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ عَلَى كَثْرَةِ مَسَائِلِهَا مَطْعَنًا فِي كَوْنِ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَحْيًا كَسَائِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَجَزَمُوا بِتَفْسِيرِ الْيَوْمِ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ وَإِنْ وَرَدَ فِي وَصْفِ كُلٍّ مِنْهَا:" وَكَانَ مَسَاءَ وَكَانَ صَبَاحَ " وَهَاكَ أَمْثَلُ حَلٍّ لِلْإِشْكَالِ عِنْدَهُمْ: قَالَ الدُّكْتُورُ بوست فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بَعْدَ تَلْخِيصِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ إِنَّ قِصَّةَ الْخَلِيقَةِ فِي هَذَيْنِ الْإِصْحَاحَيْنِ لَا تُطَابِقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْجِيُولُوجْيَا (أَيْ عِلْمَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ) وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَجَبْنَا:

(أَوَّلًا) : إِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْخَلِيقَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا عِلْمِيًّا.

(ثَانِيًا) : إِنَّهُ يُطَابِقُ قَوَاعِدَ الْعِلْمِ الرَّئِيسِيَّةَ مُطَابَقَةً غَرِيبَةً لَا يَسَعُنَا الْبَحْثُ عَنْهَا هُنَا مَلِيًّا، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَادَّةَ قَبْلَ النُّورِ وَلَازِمَةٌ لِظُهُورِ النُّورِ، وَأَنَّ النُّورَ الْمُنْتَشِرَ قَدْ سَبَقَ جَمْعَ الْمَادَّةِ عَلَى هَيْئَةِ شُمُوسٍ وَسَيَّارَاتٍ، وَأَنَّ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْوَاقِفِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ قَبْلَ فَصْلِ الْأَبْخِرَةِ عَنْ سَطْحِهَا وَتَكْوِينِ الْجِلْدِ، وَأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَقَتِ الْحَيَاةَ النَّبَاتِيَّةَ وَالْحَيَوَانِيَّةَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ آخِرُ الْخَلِيقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَبْحَاثًا لَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا هُنَا، وَلَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ لِلْخَلِيقَةِ لَمَا رَضِيَ مِنَّا بوست بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَى التَّوْرَاةِ. وَمِنَ

الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ

ص: 400

مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ صِفَةِ الْخَلْقِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَالِفَ الْوَاقِعَ إِذَا كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ: وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَجْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا.

(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ سبحانه وتعالى قَدِ اسْتَوَى بَعْدَ تَكْوِينِ هَذَا الْمُلْكِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيُصَرِّفُ نِظَامَهُ حَسَبَ تَقْدِيرِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(10: 3) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(13: 2، 3) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.

الْعَرْشُ فِي الْأَصْلِ الشَّيْءُ الْمُسَقَّفُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَبَيَّنَّا اشْتِقَاقَهُ فِي تَفْسِيرِ الْجَنَّاتِ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى هَوْدَجٍ لِلْمَرْأَةِ يُشْبِهُ عَرِيشَ الْكَرْمِ، وَعَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ وَكُرْسِيِّهِ الرَّسْمِيِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ.

وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ التَّسَاوِي وَاسْتِقَامَةُ الشَّيْءِ وَاعْتِدَالُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ: اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى السَّرِيرِ وَالْفِرَاشِ، وَانْتَهَى شَبَابُهُ وَاسْتَوَى، وَاسْتَوَى عَلَى الْبَلَدِ اهـ، وَقَالَ فِي مَادَّة عَ رَشَ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ إِذَا مَلَكَ، وَثَلَّ عَرْشُهُ إِذَا هَلَكَ اهـ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَاسْتَوَى عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ - كِنَايَةً عَنِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: مَبْسُوطُ الْيَدِ وَمَقْبُوضُ الْيَدِ، كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ اهـ.

لَمْ يَشْتَبِهْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي مَعْنَى اسْتِوَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى عِلْمِهِمْ بِتَنَزُّهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، إِذْ كَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ وَانْفِرَادِهِ هُوَ بِتَدْبِيرِهِ. وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ وَصِفَتِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ، بَلْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عَرْشٍ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا خَلَقَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَنَّ لَهُ حَمَلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ كَمَا تَدُلُّ اللُّغَةُ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ:

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)(11: 7) وَلَكِنَّ عَقِيدَةَ التَّنْزِيهِ الْقَطْعِيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ كَانَتْ مَانِعَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ شُبْهَةَ تَشْبِيهٍ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ. كَيْفَ وَأَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الضَّعِيفَةِ لَفْظِيَّةً

ص: 401

أَوْ مَعْنَوِيَّةً تَمْنَعُ فِي لُغَتِهِمْ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْبَشَرِيِّ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَا يُعْقَلُ؟ فَكَيْفَ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْبَشَرِ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا وَكِنَائِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي كُلِّ مَا أَسْنَدَهُ الرَّبُّ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي وَرَدَتِ اللُّغَةُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَلْقِ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ تَشْبِيهِ الرَّبِّ بِخَلْقِهِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، لَا بِمَعْنَى الِانْفِعَالِ الْحَادِثِ الَّذِي نَجِدُهُ لِلْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا مَا نَعْهَدُهُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ مُلُوكِنَا. وَحَسْبُنَا أَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ وَصْفِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أَثَرَهُمَا فِي خَلْقِهِ، وَأَنْ نَطْلُبَ رَحْمَتَهُ وَنَعْمَلَ مَا يُكْسِبُنَا مَحَبَّتَهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَثُوبَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْتَفِيدُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى عَرْشِهِ كَوْنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ قَرَنَهُ فِي آخِرِ آيَةِ يُونُسَ بِقَوْلِهِ:(مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(10: 3) وَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)(32: 4) وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا صَدَّرْنَا بِهِ تَفْسِيرَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهَا كَأَمْثَالِهَا تُقَرِّرُ وَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ لِوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى مَعَهُ بِمَعْنَى مَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنَ الشَّفَاعَةِ.

أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ فِي الْجُمْلَةِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ. فَإِنْ صَحَّ كَانَ سَبَبُهُ شُبْهَةً بَلَغَتْهَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، إِذْ حَدَثَ مِنْ بَعْضِهِمُ الِاشْتِبَاهُ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ، كَمَا كَثُرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يَفْهَمُ اللُّغَةَ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَمْ يَتَلَقَّ الدِّينَ عَنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ. فَكَانَ الْمُشْتَبِهُ يَسْأَلُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فَيُجِيبُونَ بِمَا تَلَقَّوْا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ إِمْرَارِ النُّصُوصِ وَقَبُولِهَا كَمَا وَرَدَتْ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَاسْتِنْكَارِ السُّؤَالِ فِي صِفَاتِهِ عَنِ الْكَيْفِ.

وَأَخْرَجَ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَبِيعَةَ شَيْخَ

الْإِمَامِ مَالِكٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ، وَأَخْرَجَا أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ هَذَا السُّؤَالَ أَيْضًا فَوَجَدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ، وَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ لِلسَّائِلِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ:" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ لَهُ كَيْفَ:" وَكَيْفَ " عَنْهُ

ص: 402

مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. اهـ. كَأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُشَكِّكٌ غَيْرُ مُسْتَفْتٍ لِيَعْلَمَ.

وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٍ كَثِيرَةً وَقَالَ: وَإِنَّمَا يَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ - وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (42: 11) بَلِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَالَ: مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَنَفَى عَنِ اللهِ النَّقَائِصَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى اهـ.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلتَّدْبِيرِ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (يُغَشِّي) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنَ الْإِغْشَاءِ يُقَالُ غَشِيَ (كَرَضِيَ) فُلَانٌ أَصْحَابَهُ إِذَا أَتَاهُمْ، وَغَشِيَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ لَحِقَهُ وَغَطَّاهُ.

وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ غِشْيَانُ الْمَوْجِ وَالْيَمِّ وَالدُّخَانِ وَالْعَذَابِ لِلنَّاسِ وَغِشْيَانُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ. وَأَغْشَاهُ وَغَشَّاهُ إِيَّاهُ بِالتَّشْدِيدِ جَعَلَهُ يَغْشَاهُ أَيْ يَلْحَقُهُ وَيغْلِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ. وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ. وَمِنْهُ إِغْشَاءُ اللَّيْلِ النَّهَارَ وَتَغْشِيَتُهُ وَغِشْيَانُهُ إِيَّاهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّيْلُ إِذَا يَغْشَى)(92: 1) أَيْ يُغْشِي النَّهَارَ، وَقَالَ: (وَاللَّيْلُ إِذَا

يَغْشَاهَا) (91: 4) وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ أَيْ يَتْبَعُ ضَوْءُهَا وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ الَّذِي هُوَ الظُّلْمَةُ يَغْشَى النَّهَارَ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ يَتْبَعُهُ وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَيَسْتُرُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ حَثِيثُ السَّيْرِ، وَمَضَى حَثِيثًا - كَمَا فِي الْأَسَاسِ وَغَيْرِهِ - أَيْ مُسْرِعًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْقُبُهُ سَرِيعًا كَالطَّالِبِ لَهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ - كَمَا قَالُوا - وَهَذَا الطَّلَبُ السَّرِيعُ يَظْهَرُ أَكْمَلَ الظُّهُورِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِهَا تَحْتَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ نِصْفُهَا مُضِيئًا بِنُورِهَا دَائِمًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُظْلِمًا دَائِمًا. وَمَسْأَلَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي كُلِّ قُطْرٍ، وَمُخَاطَبَةُ أَهْلِهِ بِالتِّلِغْرَافِ بِأَنْ تَسْأَلَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ وَقْتَهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ مَثَلًا فَيُجِيبُوكَ، بَلِ الْبَرْقِيَّاتُ تَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ مُدُنَ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مُبَيِّنَةً ذَلِكَ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَعْقُولِ،

ص: 403

وَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِنْ مُقَابِلِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَحَكَوُا الْقَوْلَ بِدَوَرَانِهَا عَلَى مَرْكَزِهَا وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ نَظَرِيَّاتٍ تُشَكِّكُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا وَلَا تَنْقُضُهُ - كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِمَا - وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)(39: 5) أَدَلُّ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَا عَلَى دَوَرَانِهَا، فَإِنَّ التَّكْوِيرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللَّفُّ عَلَى الْمُسْتَدِيرِ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَوَرَانِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا الْوَاسِعِ حَوْلَ الْأَرْضِ وَإِمَّا بِاسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَلَى رُجْحَانِهِ.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) الْأَمْرُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُقَابِلُ لِلنَّهْيِ تَوَسُّعًا فِيهِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُذَلَّلَاتٍ خَاضِعَاتٍ لِتَصَرُّفِهِ مُنْقَادَاتٍ لِمَشِيئَتِهِ فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ مُبْتَدَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمُسَخَّرَاتٍ خَبَرُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ التَّسْخِيرِ بِأَمْرِهِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ غَيْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِي مَوْضِعِهِ.

(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)" أَلَا " أَدَاةٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْقَوْلُ الَّذِي يُهْتَمُّ بِشَأْنِهِ، لِأَجْلِ تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَضْمُونِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى تَأَمُّلِهِ، وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ، وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ بِقَدَرٍ؛ أَيْ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ الْخَلْقَ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ لِذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَهُ فِيهَا الْأَمْرُ وَهُوَ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْوِينُ وَالتَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ فَهُوَ الْمَالِكُ، وَالْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا بَعْضَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِتَدْبِيرِهِ تَعَالَى لِلْأَمْرِ عَقِبَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَمِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ مَا سَخَّرَ اللهُ لَهُ الْمَلَائِكَةَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ:(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)(79: 5) مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَسُنَنِهِ، وَمِنْهُ الْوَحْيُ يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ. وَيَشْمَلُهُمَا قَوْلُهُ:(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مَثَلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)(65: 12) وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْخَلْقُ مَا دُونَ الْعَرْشِ وَالْأَمْرُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا فِي الْآيَةِ.

وَلِلصُّوفِيَّةِ أَنَّ عَالَمِ الْخَلْقِ مَا أَوْجَدَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ مَثَلًا، وَالْأَمْرُ مَا أَوْجَدَهُ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ:" كُنْ " كَالرُّوحِ وَأَصْلِ الْمَادَّةِ وَالْعُنْصُرِ الْأَوَّلِ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي عَالَمَ الشَّهَادَةِ وَالْحِسِّ بِعَالَمِ الْخَلْقِ وَعَالَمِ الْمُلْكِ وَيُسَمِّي عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الْأَمْرِ وَالْمَلَكُوتِ

ص: 404

(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ)(3: 59) أَيْ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَجِسْمُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وَرَوْحُهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى.

(تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ تَعَاظَمَتْ وَتَزَايَدَتْ بَرَكَاتُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِمْ. وَالْحَقِيقِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِمْ. فَتَبَارَكَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الثَّابِتُ، فَهِيَ هُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ الشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ عَلَى عِبَادِهِ دُونَ مَا عَبَدُوهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَادَّةِ الْبَرَكَةِ فِي تَفْسِيرِ (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (6: 92) فَيُرَاجَعُ:

(تَنْبِيهٌ) عَنَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِتَكَلُّفِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ عَلَى الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ، فَزَعَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ هِيَ الْأَفْلَاكُ الْمَرْكُوزُ فِيهَا زُحَلُ وَالْمُشْتَرَى

وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالزَّهْرَةُ وَعُطَارِدُ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي رَكَزَتْ فِيهِ جَمِيعُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ، وَأَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ الَّذِي وَصَفُوهُ بِالْأَطْلَسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النُّجُومِ، وَتِلْكَ نَظَرِيَّاتٌ قَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَقَطَ كُلُّ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا مِنْ تَكَلُّفٍ وَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِرَدِّهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ حَمْلِ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي زَمَنِنَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَرْشَدَ الْبَشَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ وَتَرَكَ ذَلِكَ لِبَحْثِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ. وَهِدَايَةُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَسِيلَةً لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَوِ اهْتَدَى دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ بِهِدَايَتِهِ هَذِهِ لَمَا جَعَلُوا الْعِلْمَ وَسِيلَةً لِلْقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ وَقَهْرِ الْقَوِيِّ بِهِ لِلضَّعِيفِ.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنْ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

بَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ تَعَالَى لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَكَّرَهُمْ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهَا مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ إِفْرَادُهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ رُوحُهَا وَمُخُّهَا الدُّعَاءُ فَقَالَ:

ص: 405

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) التَّضَرُّعُ تَفَعُّلٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ مَعْنَاهُ تَكَلُّفُهَا أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا أَوْ إِظْهَارُهَا وَاخْتَارَهُ الرَّاغِبُ، وَهِيَ مَصْدَرُ ضَرَعَ كَخَشَعَ إِذَا ضَعُفَ وَذَلَّ، وَتَلَوَّى وَتَمَلْمَلَ، وَمَأْخَذُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَعَ إِلَيْهِمْ إِذَا تَنَاوَلَ ضَرْعَ أُمِّهِ، وَإِنَّ حَاجَةَ الصَّغِيرِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ إِلَى الرِّضَاعِ مِنْ أَمِّهِ لَمِنْ أَشَدِّ مَظَاهِرِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ بِشُعُورِ الْوِجْدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اسْتِعْمَالُ التَّضَرُّعِ فِي التَّنْزِيلِ بِمَوَاطِنِ الشِّدَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ 42، 43، 63 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ "(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)(76) وَذَلِكَ أَنَّ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الشِّدَّةِ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَلَهُ مَظْهَرَانِ: التَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ،

وَالْخُفْيَةُ وَالْإِسْرَارُ. أَيِ ادْعُوا رَبَّكُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِكُمْ مُتَضَرِّعِينَ مُبْتَهِلِينَ إِلَيْهِ تَارَةً، وَمُسِرِّينَ مُسْتَخْفِينَ تَارَةً أُخْرَى، أَوْ دُعَاءُ تَضَرُّعٍ وَتَذَلُّلٍ وَابْتِهَالٍ، وَدُعَاءُ مُنَاجَاةٍ وَإِسْرَارٍ وَوَقَارٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الدُّعَاءَيْنِ وَقْتٌ، وَدَاعِيَةٌ مِنَ النَّفْسِ، فَالتَّضَرُّعُ بِالْجَهْرِ الْمُعْتَدِلِ تَحْسُنُ فِي حَالِ الْخَلْوَةِ وَالْأَمْنِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَ وَمِنْ سَمَاعِهِمْ لِصَوْتِهِ، فَلَا جَهْرُهُ يُؤْذِيهِمْ وَلَا الْفِكْرُ فِيهِمْ يَشْغَلُهُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، أَوْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دُعَاءَهُ بِحُبِّ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَالْإِسْرَارُ يَحْسُنُ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاعِرِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا وَرَدَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ مِنَ الْجَمِيعِ، كَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ وَتَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَتْرًا وَلِبَاسَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لِلْمُجْتَهِدِ فِي خَلْوَتِهِ يَطْرُدُ الْوَسْوَاسَ، وَيُقَاوِمُ فُتُورَ النُّعَاسِ، وَيُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَبُكَاءِ الْخُشُوعِ لِلرَّحْمَنِ.

هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَنَا. وَمِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَنْ جَعَلَ التَّضَرُّعَ وَالْخُفْيَةَ مُتَّفِقَيْنِ غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ، بِتَفْسِيرِ التَّضَرُّعِ بِالتَّخَشُّعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسَ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِيهِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ إِذَا لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إِلَى رَفْعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَفَضَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَإِذَا دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى الرَّفْعِ رَفَعَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ اهـ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْجَهْرِ وَنَاهِيكَ بِكَوْنِهِ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْجَهْرَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَرْضَى لِلرَّبِّ وَأَرْجَى لِلْقَبُولِ، وَقَالَ تَعَالَى:(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)(17: 110) .

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقِهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ

ص: 406

الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّارُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ

فَيَكُونَ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)(19: 3) اهـ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءِ وَالصِّيَاحِ فِي الدُّعَاءِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ.

(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَالِاعْتِدَاءُ تَجَاوُزُ الْحُدُودِ فِيهَا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، إِلَّا مَا كَانَ انْتِصَافًا مِنْ مُعْتَدٍّ ظَالِمٍ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَالِاعْتِدَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِحَسْبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا مَنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مُعْتَدِيًا (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (2: 229) .

وَشَرُّ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَلَوْ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَنِيفَ مَنْ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلَا يَدْعُو مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ:(فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا)(72: 18) أَيْ لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا وَلِيًّا. وَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ فِيمَا يَعْجِزُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ بِغَيْرِ التَّدَاوِي وَتَسْخِيرِ قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ - فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى نَحْوِ " الْحَجُّ عَرَفَةُ " وَفِي مَعْنَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ يُقَوِّيهِ تَفْسِيرُهُ لِلصَّحِيحِ، وَقَدْ يُفَسِّرُونَهُ بِالْعِبَادَةِ فِي جُمْلَتِهَا دُونَ أَفْرَادِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)(17: 56، 57) جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيمَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَأَمَّهُ وَعُزَيْرًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، أَيْ كُلُّهُمْ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الضُّرِّ أَوْ تَحْوِيلِهِ عَنْكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ هُمْ عَبِيدُ اللهِ يَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالزُّلْفَى - أَيُّهُمْ أَقْرَبُ - أَيْ أَقْرَبُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ

ص: 407

يَعْبُدُ اللهَ وَيَدْعُوهُ طَلَبًا لِلْوَسِيلَةِ عِنْدَهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَكَيْفَ يَدْعُونَ مَعَهُ أَوْ مَنْ دُونَهُ؟ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ " قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ " الْقُرْبُ مِنَ اللهِ عز وجل " ثُمَّ قَرَأَ: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ) وَابْتِغَاءُ ذَلِكَ يَكُونُ بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْآيَاتُ الْمُنْكِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ وَكَوْنَهُ عِبَادَةً لَهُمْ وَشِرْكًا مِنَ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الْمُضِلِّينَ لِلْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا بَأْسَ بِدُعَائِكُمْ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا تَوَسُّلٌ بِهِمْ إِلَى اللهِ لِيُقَرِّبُوكُمْ مِنْهُ بِشَفَاعَتِهِمْ لَكُمْ عِنْدَهُ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ.

وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي اللُّغَةِ وَجَهْلٌ بِهَا، فَأَهْلُ اللُّغَةِ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عِبَادَةً، وَالْوَسِيلَةُ فِي الدِّينِ هِيَ غَايَةٌ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْقُرْبُ مِنْهُ تَعَالَى، وَالتَّوَسُّلُ طَلَبُ ذَلِكَ، فَهُوَ التَّقَرُّبُ مِنْهُ بِمَا يَرْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ عِبَادَتِكَ لَهُ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِكَ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 39) وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِدُعَائِهِمْ أَنْ يُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَأَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ اللهُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ دُونَ الْأَمْوَاتِ، وَيُسَمَّى فِي اللُّغَةِ تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَعَهُ، وَمِنْهُ تَوَسُّلُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ بِالْعَبَّاسِ، بَدَلًا مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمَا يُشْرَعُ بَعْدَهَا مِنَ الدُّعَاءِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللهِ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُعَابُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعَابُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَنْتُمْ تُحَمِّلُونَ الْآيَاتِ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ! ! وَهَذَا الْقَوْلُ جَهْلٌ فَاضِحٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا ذَمَّ الشِّرْكَ إِلَّا لِذَاتِهِ، وَمَا ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ

إِلَّا لِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِهِ، وَإِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا كَانُوا إِلَّا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّرْكِ أَحْبَطَ إِيمَانَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَحْبَطُ إِيمَانُ مَنْ أَشْرَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْرِكْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعِبَادِ وَحْدَهُ، فَهَذَا الْإِيمَانُ عَامٌّ قَلَّ مَنْ أَشْرَكَ فِيهِ، فَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّوَجُّهِ فِيهَا لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ الْمُسَخَّرِينَ بِأَمْرِهِ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (98: 5) .

وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِاللَّفْظِ كَالتَّكَلُّفِ وَالسَّجْعِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ طَلَبُ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ

ص: 408

مِنْ وَسَائِلِ الْمَعَاصِي وَمَقَاصِدِهَا كَضَرَرِ الْعِبَادِ، وَأَسْبَابِ الْفَسَادِ، وَطَلَبِ الْمُحَالِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ كَطَلَبِ إِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَتَبْدِيلِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا، وَمِنْهُ طَلَبُ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، مَعَ تَرْكِ وَسَائِلِهِ كَأَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَالنِّظَامِ، وَالْغِنَى بِدُونِ كَسْبٍ، وَالْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ:(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا)(35: 43) .

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قَالَ: فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَا يَسْأَلُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا - وَنَحْوًا مِنْ هَذَا - وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ خَيْرًا كَثِيرًا وَتَعَوَّذْتَ بِهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ - وَفِي لَفْظٍ - يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أَيْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَمَلٍ ضَائِرٍ وَلَا بِحُكْمٍ جَائِرٍ، مِمَّا يُنَافِي صَلَاحَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَعُقُولِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ مِنْ زِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَطُرُقِ مُوَاصَلَةٍ وَوَسَائِلِ تَعَاوُنٍ - لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ تَعَالَى لَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِغْلَالِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ، وَامْتِنَانِهِ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ

جَمِيعًا) (2: 29) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(45: 13) وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ فِيهَا، فَالْإِصْلَاحُ الْأَعْظَمُ إِنَّمَا هُوَ إِصْلَاحُهُ تَعَالَى لِحَالِ الْبَشَرِ، بِهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِكْمَالِ ذَلِكَ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِينَ، فَأَصْلَحَ بِهِ عَقَائِدَ الْبَشَرِ بِبِنَائِهَا عَلَى الْبُرْهَانِ، وَأَصْلَحَ بِهِ أَخْلَاقَهُمْ وَآدَابَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَصْلَحَ سِيَاسَتَهُمْ وَنَوَّعَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِشَرْعِ حُكُومَةِ الشُّورَى الْمُقَيَّدَةِ بِأُصُولِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَالْبَشَرُ سَادَةُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْهَا كَالْقَلْبِ مِنَ الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَا صَلَحُوا صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَشَدُّ الْفَسَادِ الْكِبْرُ وَالْعُتُوُّ، الدَّاعِيَانِ إِلَى الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ كَيْفَ أَصْلَحُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَجَزُوا عَنْ إِصْلَاحِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، بِمُعَادَاتِهِمْ أَكْمَلَ الْأَدْيَانِ، فَحَوَّلَتْ دُوَلُهُمْ كُلَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، إِلَى إِفْسَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَتَعَادَى شُعُوبُهُ بِالتَّنَازُعِ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِبَاحَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَبَذْلِ ثَرْوَةِ الْعَامِلِينَ مِنْ شُعُوبِهِمْ، فِي سَبِيلِ التَّنْكِيلِ بِالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

ص: 409