الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا 16 وَأَوْصَى
الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا 17 وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " اهـ. وَقَدْ أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَمُتْ يَوْمَ أَكَلَهَا وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمَا، أَيْ بِفِعْلِهِمَا مَا يُعَاقَبَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْحِرْمَانِ مِنْ ذَلِكَ الرَّغَدِ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي الْمَعِيشَةِ.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسْوَسَةُ الْخَطِرَةُ الرَّدِيئَةُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ وَهُوَ صَوْتُ الْحُلِيِّ، وَالْهَمْسُ الْخَفِيُّ قَالَ:(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ)
(20:
120) وَقَالَ: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ)(114: 4) وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَسْوَاسٌ اهـ. فَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَرْوَاحِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَكَلَّمَهُمَا وَأَقْسَمَ لَهُمَا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَمَنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ تَمْثِيلًا لِبَيَانِ حَالِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي تُنْقَلُ فِيهَا يُفَسِّرُ الْوَسْوَسَةَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الطُّفُولَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ هَمًّا وَلَا نَصَبًا إِلَى طَوْرِ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ يَكُونُ كَثِيرَ التَّعَرُّضِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِهَا. وَقَدْ عَلَّلْتُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ بِأَنَّ غَايَتَهَا أَوْ غَرَضَهُ مِنْهَا أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا يُقَالُ: وَارَى الشَّيْءَ إِذَا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، وُورِيَ الشَّيْءُ غُطِّيَ وَسُتِرَ، وَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَمْرٍ شَائِنٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ. وَالسَّوْءَةُ السَّوْآءُ الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَسَوْءَةٌ لَكَ، وَوَقَعَتْ فِي السَّوْءَةِ السَّوْآءِ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ:
لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ
…
يَا لِقَوْمِي لِلسَّوْءَةِ السَّوْآءِ
ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ بَدَتْ سَوْءَتُهُ وَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا اهـ. وَإِذَا أُضِيفَتِ السَّوْءَةُ إِلَى الْإِنْسَانِ أُرِيدَ بِهَا عَوْرَتُهُ الْفَاحِشَةُ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُهُ ظُهُورُهَا بِمُقْتَضَى الْحَيَاءِ الْفِطْرِيِّ مَا لَمْ يُفْسِدْهُ بِتَعَوُّدِ إِظْهَارِهَا مَعَ آخَرِينَ فَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمْ، وَجُمِعَتْ هُنَا عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِضَافَةِ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِهِ إِذْ يَسْتَثْقِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْمَعُونَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(66: 4) . وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْإِخْفَاءِ أَوِ الْمُوَارَاةِ لِسَوْآتِهِمَا عَنْهُمَا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)(20: 121) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أَيْ وَقَالَ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ لَهُمَا: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا مِنْهَا إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اتِّقَاءِ
أَنْ تَكُونَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا مَلَكَيْنِ، أَيْ كَالْمَلَكَيْنِ فِيمَا أُوتِيَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْخَصَائِصِ كَالْقُوَّةِ وَطُولِ الْبَقَاءِ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بِفَوَاعِلِ الْكَوْنِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْمُتْعِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّامِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الزَّجَّاجُ بِمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ:(قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)(20: 120) وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ - أَوِ اتِّقَاءِ أَنْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْهَمَهُمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُعْطِي الْآكِلَ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَرَائِزَهُمْ وَيَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي الْحَيَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ مِنَ الْعَالِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ دُونَ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُسَخَّرِينَ لِتَدْبِيرِ أُمُورِهَا الَّذِينَ كَانَ مَعْنَى سُجُودِهِمْ لَهُ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِنَوْعِهِ جَمِيعَ قُوَى الْأَرْضِ وَعَوَالِمِهَا - وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى عَدَمِ سُجُودِ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ:(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)(38: 75) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالِينَ خَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ.
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ادَّعَى اللَّعِينُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلَّ الظَّنَّةِ فِي نُصْحِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. أَكَّدَ دَعْوَاهُ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ وَأَغْلَظِهَا، وَهِيَ الْقَسَمُ وَإِنَّ وَاللَّامُ وَتَقْدِيمُ (لَكُمَا) عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الدَّالُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَأَقْسَمَ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ كَقَاسَمَهُ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا قِسْمًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّيغَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ وَرَدَتْ لِلْمُفْرَدِ كَثِيرًا وَهَذَا مِنْهَا فَمَعْنَاهُ: وَحَلَفَ لَهُمَا، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ
…
مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا وَوَجَّهُوهُ بِوُجُوهٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا أَقْسَمَا لَهُ أَنَّهُمَا يَقْبَلَانِ نَصِيحَتَهُ إِذَا أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِحٌ: وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمَا طَلَبَا مِنْهُ
الْقَسَمَ فَجَعَلَ طَلَبَهُمَا الْقَسَمَ كَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِثْلُ هَذَا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُقْسِمَ لَهُمَا وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسِمَا لَهُ وَبَنَى قَسَمَهُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَأْلُوفِ.
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) دَلَّى الشَّيْءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلَى الْأَسْفَلِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا لِأَنَّ فِي الصِّيغَةِ مَعْنَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ - أَيْ فَمَا زَالَ يَخْدَعُهُمَا بِالتَّرْغِيبِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ بِذَلِكَ لَهُمَا بِهِ حَتَّى أَسْقَطَهُمَا وَحَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَطَاعَةِ الْفَاطِرِ بِمَا غَرَّهُمَا بِهِ، وَالْغُرُورُ الْخِدَاعُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمْ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّجْرِبَةِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(6: 112) وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ بِخِدَاعِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقِيلَ: دَلَّاهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسِينَ بِغُرُورٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اغْتَرَّا وَانْخَدَعَا بِقَسَمِهِ وَصَدَّقَا قَوْلَهُ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا صَدَّقَاهُ وَاسْتَكْبَرَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّ تَصْدِيقَهُ كُفْرٌ، وَرَجَّحَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ بِتَزْيِينِ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبَّ التَّجْرِبَةِ وَاسْتِكْشَافَ الْمَجْهُولِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَمْنُوعِ، فَجَاءَ الْوَسْوَاسُ نَافِخًا فِي نَارِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ مُذَكِّيًا لَهَا، مُثِيرًا لِلنَّفْسِ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ النَّهْيِ، حَتَّى نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ:(وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)(20: 115) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ.
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ
الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ.
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ
الرَّغْدُ إِلَى حَيْثُ الشَّقَاءُ فِي الْمَعِيشَةِ وَالتَّعَبُ فِي جِهَادِ الْحَيَاةِ! وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ طه: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدْوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)(20: 117) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا سَوَاءً مَا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ.
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَذَكَّرَا نَهْيَ الرَّبِّ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ وَعِصْيَانِنَا لَكَ كَمَا أَنْذَرْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْنَا ضَعْفَنَا وَعَجَزْنَا عَنِ الْتِزَامِ عَزَائِمِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا نَظْلِمُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِهِدَايَتِكَ لَنَا وَتَوْفِيقِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ، وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَبِقَبُولِنَا إِذَا نَحْنُ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَبِإِعْطَائِكَ إِيَّانَا مِنْ فَضْلِكَ، فَوْقَ مَا نَسْتَحِقُّ بِعَدْلِكَ، فَوَحَقِّكَ لَنَكُونَنَّ إِذًا مِنَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِتَزْكِيَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَتَّبِعُ سَبِيلَكَ، دُونَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ كَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الَّذِي أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَاحْتَجَّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَرَّ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ مَعْنَى كَلِمَاتِ آدَمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّهِ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(2: 37) قَالَهَا خَاشِعًا مُتَضَرِّعًا وَتَبِعَتْهُ زَوْجُهُ بِهَا، فَحَذْفُهُمَا لِمَفْعُولِ (تَغْفِرْ) - إِذْ لَمْ يَقُولَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا هَذَا أَوْ ظُلْمَنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلَّقَا النَّجَاةَ مِنَ الْخُسْرَانِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَشْمَلُ هَذَا الذَّنْبَ وَغَيْرَهُ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ بَيَانِ حَالِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُبَيَّنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي حَمْلِ الْإِنْسَانِ لِلْأَمَانَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ بِذَلِكَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ:(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(70: 19 - 22) إِلَخْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ قَدْ عُوقِبَا عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالتَّشْهِيرِ الدَّائِمِ بِإِعْلَامِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّتَهُمَا بِهِ، وَهَاكَ مَا أَجَابَهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى بِهِ، إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ السُّؤَالِ عَنْهُ:
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام، وَلِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالْمَلَامُ، أَيِ اهْبِطُوا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَكَانَةِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ - بَعْضُكُمْ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، عَدُوٌّ لِبَعْضٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ عَدُوًّا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَفِعًا إِلَى إِغْوَائِهِ وَإِيذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ عَدُوًّا بِأَلَّا يَغْفَلَ عَنْ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَلَا يَأْمَنَ وَسْوَسَتَهُ وَإِغْوَاءَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخَذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(35: 6) وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا
بِالذَّاتِ وَلِذُرِّيَّتِهِمَا بِالتَّبَعِ وَفِيهِ خِطَابُ الْمَعْدُومِ - وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُمَا فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا)(20: 123) إِلَخْ. وَفِي هَذِهِ التَّثْنِيَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِآدَمَ وَحَوَّاءَ. وَالثَّانِي أَنَّهَا لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَحَوَّاءُ تَبَعٌ لِآدَمَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمُخَاطَبِينَ عَدُوًّا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ، لَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ الَّتِي خُلِقَتْ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، فَعَجَبًا لِمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا! وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقَيِ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ عِقَابٌ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَأْوِيلٌ لِكَوْنِهَا ظُلْمًا مِنْهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعِقَابِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي طَبِيعَةِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْعَمَلِ السَّيِّئِ، مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى
الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ غَفَرَهُ تَعَالَى لَهُمَا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَجَعَلَتْهَا مَحَلًّا لِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه:(وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)(20: 121، 122) .
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ اسْتِقْرَارٌ أَوْ مَكَانٌ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمَتَاعٌ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعِيشَتِكُمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ زَمَنٍ مُقَدَّرٍ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ أَعْمَارُكُمْ وَتَقُومُ بِهِ قِيَامَتُكُمْ، وَالْمُسْتَقَرُّ يُطْلَقُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ، وَالْمَتَاعُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ هُنَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ:(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) فَهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُنَا فِيمَا خَاطَبَ بِهِ آخِرَنَا عَلَى لِسَانِ آخَرِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِهِمْ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَهُ لِأَوَّلِنَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ الْمُجْمَلَ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتَأْنَفَهُ كَسَابِقِهِ وَهُوَ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتُمْ مِنْهَا تَحْيَوْنَ مُدَّةَ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لِكُلٍّ مِنْكُمْ وَلِمَجْمُوعِ نَوْعِكُمْ - أَوْ نَوْعَيْكُمْ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَمَا يُرِيدُ الْخَالِقُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ:(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)(20: 55) وَهِيَ تُشْبِهُ النَّشْأَةَ الْأُولَى إِذْ قَالَ: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(7: 29) وَقَالَ مُذَكِّرًا بِهَا: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)(56: 60 - 62) .
مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا
إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ:(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(20: 123 - 126) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.
هَذَا مُلَخَّصُ مَضْمُونِ الْقِصَّةِ أَوْ مُلَخَّصُ بَقِيَّتِهَا، وَأَمَّا مُلَخَّصُ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا بِغَرَائِزِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْكَمَالِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا دُونَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ إِلَى النَّقَائِصِ، وَأَنَّ أَنْفَعَ مَا يُعِينُنَا عَلَى تَرْبِيَّتِهَا عَهْدُ اللهِ إِلَيْنَا بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَ مَعَهُ الشَّيْطَانَ وَلَا غَيْرَهُ، وَأَنْ نَذْكُرَهُ وَلَا نَنْسَاهُ فَنَنْسَى أَنْفُسَنَا، وَنَغْفُلُ عَنْ تَزْكِيَتِهَا، وَصَقْلِهَا بِصِقَالِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ مَا يُلَوِّثُهَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُتْرَكْ صَارَ صَدَأً وَطَبْعًا مُفْسِدًا لَهَا، وَمَا أَفْسَدَ أَنْفُسَ الْبَشَرِ وَدَسَّاهَا إِلَّا غَفْلَةُ عُقُولِهِمْ
وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا. وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ.
الْإِشْكَالَاتُ فِي الْقِصَّةِ:
قَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الْإِشْكَالَاتِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّمَحُّلَاتِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ؟ وَكَيْفَ أَقْسَمَ لَهُ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يُخَالِفُ خَبَرَ اللهِ؟ وَكَيْفَ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ خَالِدًا فَطَمِعَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَكَيْفَ أَطَاعَهُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرُ وُجُوبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ - إِلَخْ. مَا هُنَالِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ كَانَتْ صُورِيَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْكَشْفِ أَوْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّكْوِينِ لَا لِلتَّكْلِيفِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَمَا جَلَّيْنَاهُ فِيهِ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا عِنْدَ بَدْءِ خَلْقِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا مَوْضِعَ لِلرِّسَالَةِ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّسُلِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعِصْمَةُ
الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضِ. وَلَا يَظْهَرُ دَلِيلُ الْعِصْمَةِ وَلَا حِكْمَتُهَا فِيهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ يَخَافُ مِنْ سُوءِ الْأُسْوَةِ عَلَيْهِ.
هَذَا مَا أَلْهَمَهُ تَعَالَى مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ
مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخْرَى فِي الْقِصَّةِ وَمَا يُنَاسِبُهَا. وَلَمْ نُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآرَاءِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ وَلَا قَوْلِ رَسُولِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَوْ جُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا، وَقَدْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنَقْلِهَا، كَقِصَّةِ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ فِيهَا وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَوَّاءَ مِنَ الْحِوَارِ.
كَلِمَةٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَغَيْرِهَا
وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيَعْلَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِنْدَنَا وَمَا عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يُرَاجِعَ هُنَا سَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ الَّذِي نَشَرْنَاهُ مِنْهَا - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ أَحْيَلُ حَيَوَانِ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِحَوَّاءَ إِنَّهَا هِيَ وَزَوْجَهَا لَا يَمُوتَانِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَالَ لَهُمَا الرَّبُّ، بَلْ يَصِيرَانِ كَآلِهَةٍ يَعْرِفَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَنَّ حَوَّاءَ رَأَتْ أَنَّ الشَّجَرَةَ طَيِّبَةُ الْأَكْلِ بَهْجَةُ الْمَنْظَرِ مُنْيَةٌ لِلنَّفْسِ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا وَأَطْعَمَتْ زَوْجَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ فَخَاطَا لِأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ وَرَقِ التِّينِ " فَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ فِي الْجَنَّةِ " فَاخْتَبَآ مِنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الشَّجَرِ. فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ، فَاعْتَذَرَ بِتَوَارِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَسَأَلَهُ مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عُرْيَانٌ وَهَلْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَطْعَمَتْهُ. وَسَأَلَ الرَّبُّ الْمَرْأَةَ فَاعْتَذَرَتْ بِإِغْوَاءِ الْحَيَّةِ لَهَا " 14 فَقَالَ الرَّبُّ الْإِلَهُ لِلْحَيَّةِ: إِذْ صَنَعْتِ هَذَا فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَجَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ، عَلَى صَدْرِكِ تَمْشِينَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِكِ 15 وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَرْصُدِينَ عَقِبَهُ " وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إِنَّهُ يَكْثُرُ مَشَقَّاتُ حَمْلِهَا وَآلَامُ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا تَنْقَادُ إِلَى بَعْلِهَا وَهُوَ يَسُودُهَا. وَقَالَ لِآدَمَ إِنَّ الْأَرْضَ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بِمَشَقَّةٍ يَأْكُلُ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَيَعْرَقُ وَجْهُهُ يَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى يَعُودَ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ " 22 هُوَ ذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ فَيَحْيَا إِلَى الدَّهْرِ 3 فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَحْرُثَ الْأَرْضَ الَّتِي
أُخِذَ مِنْهَا " اهـ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا تَرَى وَلَيْسَ فِيمَا وَرَدَ فِي
الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُشْكِلٌ فِيهَا. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصَارَى مِنْهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي الْحَيَّةِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى إِغْوَاءِ حَوَّاءَ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَغُرَنَّكَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَكْثَرُهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِلْكَيْدِ لَهُ، وَكَذَا الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. كَانَ الرُّوَاةُ يَنْقُلُونَ عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ مَا مَصْدَرُهُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَيَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. فَيَعُدُّونَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْقُلُونَ رِوَايَاتِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ. فَصَارَ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ الْمُخَالِفِ مِنَ الْمُوَافِقِ إِلَّا عَلَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ. وَكُلَّمَا قَلَّ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا. وَزَادُوا وَنَقَصُوا. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَلَا نُصَدِّقُ رِوَايَاتِهِمْ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا حَرَّفُوهُ أَوْ زَادُوهُ، وَلَا نُكَذِّبُهَا لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا أُوتُوهُ فَحَفِظُوهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا صَحَّ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ زَنَادِقَتِهِمْ، وَيَقِلُّ فِي صَحِيحِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَإِنْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الَّذِي تُرْوَى أَكْثَرُ أَحَادِيثِهِ عَنْعَنَةً وَأَقَلُّهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كِتَابٌ فِي فَنِّ التَّفْسِيرِ نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ بَحْثًا طَوِيلًا فِي الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَالَ إِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَمِنْهُ فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ - وَهُوَ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ - وَقَدْ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: -
" فَمَا كَانَ مِنْهُ مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُبِلَ، وَمَا لَا بِأَنْ نُقِلَ
عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (أَيْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُمَا مِنْ خِيَارِهِمْ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمُعْظَمُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ نُقِلَتْ عَنْهُمَا) وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ
عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَأَمَّا الْقَسَمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ " اهـ
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
بَعْدَ أَنَّ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ قِصَّةَ نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى وَمَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهَا هَذِهِ النَّصَائِحَ الْهَادِيَةَ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ طُرُقِ تَرْبِيَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ تَنَاسُبِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ السِّيَاقِ - فَقَالَ:
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الرِّيشُ: لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ، وَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ كَالطَّيْرِ فِي كَثْرَةِ أَنْوَاعِ رِيشِهَا وَبَهْجَةِ مَنَاظِرِهَا وَتَعَدُّدِ أَلْوَانِهَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَالزِّينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ (وَرِيَاشًا) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قِيلَ: الرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ، فَهُوَ كَشِعْبٍ
وَشِعَابٍ وَذِئْبٍ وَذِئَابٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الرِّيشُ وَالرِّيَاشُ بِمَعْنَى كَاللِّبْسِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ الرِّيَاشُ مُخْتَصٌّ بِالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيشُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ رَاشَهُ اللهُ يَرِيشُهُ رِيَاشًا وَرِيشًا. كَمَا يُقَالُ لَبِسَهُ يَلْبَسُهُ لِبَاسًا وَلِبْسًا (بِكَسْرِ اللَّامِ)(ثُمَّ قَالَ) وَالرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ الْمَتَاعِ مِمَّا يُلْبَسُ أَوْ يُحْشَى مِنْ فِرَاشٍ أَوْ دِثَارٍ وَالرِّيشُ إِنَّمَا هُوَ الْمَتَاعُ وَالْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ. وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي الثِّيَابِ وَالْكُسْوَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَالِ، يَقُولُونَ: أَعْطَاهُ سَرْجًا بِرِيشِهِ - أَيْ بِكُسْوَتِهِ وَجَهَازِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَحَسَنُ رِيشِ الثِّيَابِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرِّيَاشُ فِي الْخِصْبِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرِّيشَ الْمَالُ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ الْمَعَاشُ أَوِ الْجَمَالُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مَعًا، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِلِبَاسِ السَّتْرِ الَّذِي يُوَارِي الْعَوْرَاتِ وَلِبَاسِ التَّقْوَى.
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْبَعِيدُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ عَرَبُهُمْ وَعَجَمُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالشِّرْعَةِ الْقَوِيمَةِ، تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، بِمَا يَقْرَعُ الْآذَانَ، فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ أَنْ أَنْبَأَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ عُرْيِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ - بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَدْنَى الَّذِي يَسْتُرُ السَّوْءَةَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ إِلَى أَنْوَاعِ الْحُلَلِ الَّتِي تُشْبِهُ رِيشَ الطَّيْرِ فِي وِقَايَةِ الْبَدَنِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ وَالْجِمَالِ اللَّائِقَةِ بِجَمِيعِ ذُكْرَانِ الْبَشَرِ وَإِنَاثِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْنَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ عُلُوِّ سَمَائِنَا بِتَدْبِيرِنَا لِأُمُورِكُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِنَا،
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَهُوَ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلُّهُ الَّذِي يُعَدُّ فَاقِدُهُ ذَلِيلًا مَهِينًا - وَرِيشًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَسَاجِدِكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ وَمَجَامِعِكُمْ، وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَا يَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَالِامْتِنَانُ بِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْأُسْلُوبِ، أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ بِطْرِيقِ الْمَنْطُوقِ عَلَى مَا اخْتَرْنَا آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِبَنِي آدَمَ مَادَّتَهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَرِيشِ الطَّيْرِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَّمَهُمْ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَسَائِلَ صُنْعِ اللِّبَاسِ مِنْهَا كَالزِّرَاعَةِ وَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَإِنَّ مِنَنَهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافُ مِنَنِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ شُعُوبِ بَنِي آدَمَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُمْ لَهُ أَعْظَمَ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِتْقَانِ صِنَاعَاتِ اللِّبَاسِ أَنَّ عَاهِلَ أَلْمَانِيَّةَ الْأَخِيرَ (قَيْصَرَهَا) دَخَلَ مَرَّةً أَحَدَ مَعَامِلِ الثِّيَابِ لِيُشَاهِدَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ
الْإِتْقَانِ فَجَزُّوا أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ صُوفَ بَعْضِ أَكْبَاشِ الْغَنَمِ - وَلَمَّا انْتَهَى مِنَ التِّجْوَالِ فِي الْمَعْمَلِ وَمُشَاهَدَةِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ فِيهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ قَدَّمُوا لَهُ مِعْطَفًا لِيَلْبَسَهُ تِذْكَارًا لِهَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ صُنِعَ مِنَ الصُّوفِ الَّذِي جَزُّوهُ أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ - فَهُمْ قَدْ نَظَّفُوهُ فِي الْآلَاتِ الْمُنَظِّفَةِ فَغَزَلُوهُ بِآلَاتِ الْغَزْلِ فَنَسَجُوهُ بِآلَاتِ النَّسْجِ فَفَصَلُوهُ فَخَاطُوهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ فَانْتَقَلَ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ مِنْ ظَهْرِ الْخَرُوفِ إِلَى ظَهْرِ الْإِمْبِرَاطُورِ.
وَامْتِنَانُهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ بِلِبَاسِ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْكَهْفِ:(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(18: 7) وَإِنْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِحْسَانَ الْعَمَلِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ بِالزُّهْدِ فِيهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَيُنَاقِضُ غَرَائِزَهَا، بَلْ هُوَ مُهَذِّبٌ وَمُكَمِّلٌ لَهَا. وَحُبُّ الزِّينَةِ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الدَّافِعَةِ لَهُمْ إِلَى إِظْهَارِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلِيقَةِ وَأَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ فِي تَفْسِيرِ:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)(7: 32) فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى كَوْنِهَا ابْتِلَاءً أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ بِهَا طَالِبَهَا مَا يَقْصِدُ مِنْهَا؟ وَوَاجِدَهَا أَيَشْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَمَاذَا يَقْصِدُ وَيَنْوِي بِتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْهَا. وَفَاقِدُهَا أَيَصْبِرُ عَلَى
فَقْدِهَا أَمْ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ وَحَاسِدًا لِأَهْلِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) فَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ اللِّبَاسُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَجَازِيُّ. فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَيَّنَ التَّقْوَى - أَيِ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى - وَذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَقَالَ: يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ تَفْسِيرُهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ وَعَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ الْحَيَاءُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ. وَمُرَادُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ طِيبِ السَّرِيرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَهُ. وَرَوَوْا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ عَمَلًا سِرًّا إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهُ عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي أَنَّهُ قَالَ وَرِيَاشًا وَلَمْ يَقُلْ وَرِيشًا، وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ بِمَا يَلْبَسُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَا: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَلْبَسُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا. هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُلَخَّصَةٌ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَفِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهم السلام أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَرْبِ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى
بِهَا الْعَدُوُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(16: 81) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)(21: 80) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ التَّقْوَى هُنَا فِيمَا يَعُمُّ هَذَا وَذَاكَ. أَيْ تَقْوَى اللهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَتَقْوَى فَتْكِ الْعَدُوِّ بِلَبْسِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَنَحْوِهِمَا، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَارَضُ مَدْلُولَاتُهَا فِي الِاشْتِرَاكِ وَفِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ فِي لِبَاسِ التَّقْوَى أَنَّهُ لِبَاسُ النُّسُكِ وَالتَّوَاضُعِ كَدُرُوعِ الصُّوفِ وَمُرَقَّعَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا بَعْضُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرٌّ لَا خَيْرٌ لِأَنَّهَا لِبَاسُ شَهْوَةٍ وَشُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ. وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرِّيشُ.
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ بِإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ إِحْسَانِهِ إِلَى بَنِي آدَمَ وَكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُعِدَّهُمْ وَتُؤَهِّلَهُمْ لِتَذَكُّرِ فَضْلِهِ وَمِنَنِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهَا، وَاتِّقَاءِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ بِإِبْدَاءِ الْعَوْرَاتِ تَارَةً وَبِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ عُرَاةً وَمَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الضَّمِيرِ فِي الرَّبْطِ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا لِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا بِتَكْرَارِ الْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْلِ (ذَلِكَ) صِفَةَ لِبَاسٍ وَمِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لَهُ.
(يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ. وَتَكْرَارُ النِّدَاءِ فِي مَقَامِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ التَّنْبِيهِ وَالتَّأْثِيرِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْعُرُ بِهِ فِي قَلْبِهِ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ قِصَّةُ الْجِنِّ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِذْ جَاءَ فِيهَا الْوَعْظُ وَالْإِنْذَارُ بِتَكْرَارِ النِّدَاءِ: يَا قَوْمَنَا. . . . يَا قَوْمَنَا. . . . وَوَعْظُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: يَا قَوْمِ. . . . . يَا قَوْمِ. . . . . وَقَدْ فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْجَدِّ الَّذِي صَارَ رَئِيسَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي انْحَصَرَ نَسَبُهَا فِيهِ كَقُرَيْشٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، وَعُثْمَانَ مُؤَسِّسِ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ عَلِيٍّ الْكَبِيرِ مُؤَسِّسِ دَوْلَةِ مِصْرَ الْجَدِيدَةِ. أَوِ الَّذِي لَهُ صِفَةٌ مُمْتَازَةٌ يَقْتَضِي الْمَقَامُ تَذْكِيرَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِهَا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِيهَا أَوْ لِلتَّعْرِيضِ
بِتَجَرُّدِهِ مِنْهَا مَثَلًا. كَأَنْ تَقُولَ لِبَعْضِ أَحْفَادِ الْخِدِيوِي تَوْفِيقٍ يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ هَذَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي مَقَامِ السَّخَاءِ وَسَعَةِ الْعَطَاءِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. وَلَوْ قُلْتَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا ابْنَ تَوْفِيقٍ كَانَ خَطَأً؛ فَإِنَّ تَوْفِيقًا لَمْ يَشْتَهِرْ بِصِفَةِ السَّخَاءِ وَكَثْرَةِ الْهِبَاتِ. وَتَسْمِيَةُ النَّاسِ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَجْدَادِ وَلَيْسَ هُوَ الْأَبُ. فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا
عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ.
وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا.
(يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا اللِّبَاسُ حِسِّيًّا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنَوِيًّا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ الظُّفْرُ، وَأَنَّهُ نُزِعَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ تَذْكِرَةً وَزِينَةً، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ السَّوْءَتَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا
هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ.
وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ
الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ (وَأَصْلُ الْقَبِيلِ: الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ) وَ (حَيْثُ) ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ.
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ
الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ.
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ:(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)(15: 39 - 42) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عليهما السلام، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)(23) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ:(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(200، 201) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.
قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ. كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عليهم السلام وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ
تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، لَمَا خَانُوا اللهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (8: 27، 28) .
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي10 أَغُسْطُسَ سَنَةَ 1903) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج 3 م 23 مِنَ الْمَنَارِ) .
وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ،
وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)(72: 1) وَلَكِنْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رضي الله عنه فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
لَهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ الدَّجَّالِ الْمُفْتَرِي الْمُحْتَالِ حَتَّى أَقْنَعْنَهَا بِكَذِبِهِ بَعْدَ أَنْ خَسِرَتْ كُلَّ مَا كَانَتْ تَرْبَحُهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي سَبِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(2: 275) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ
حَوْلَهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: جَاءَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَشِيدٌ. . . . وَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ وَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِهِ وَقُلْتُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ هَذَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا أَذْكُرُهُ وَشَفَاهُ تَعَالَى وَأَذْهَبَ عَنْهُ الرَّوْعَ ثَانِيَةً بِنَحْوِ مِمَّا أَذْهَبَهُ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّنِي
لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،