الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْتِدَاءً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَوْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ ابْنُ كَثِيرٍ لَمَا ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ إِذْ نَقَلَهُ مُوجَزًا مُجْمَلًا عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ رَجَّحَ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَيَانُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا جَمِيعُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ مُفَسِّرِي عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَلَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إِذَا قِيلَ إِنَّ (المص) اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كِتَابٌ) وَإِلَّا فَهَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ كِتَابٌ كَقَوْلِهِ: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ)
(2:
1، 2) وَتَنْكِيرُ (كِتَابٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الْمُشَارُ إِلَى بَعْضِهِ الْمُنَزَّلُ بِالْفِعْلِ، وَجُمْلَةُ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صِفَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ بَدْءُ نُزُولِهِ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ:(أُنْزِلَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنْزَلَ اللهُ أَوْ أَنْزَلْنَاهُ إِيجَازًا مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمُنْزِلَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الضَّمِيرِ أَوِ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) حَرَجُ الصَّدْرِ ضِيقُهُ وَغَمُّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعُ
الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَجِدُ السَّالِكُ فِيهِ سَبِيلًا وَاضِحًا يَنْفُذُ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَرَجَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدِ تَفْسِيرُهُ بِالشَّكِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الشَّكَّ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ حَرَجِ الصَّدْرِ وَضِيقِ الْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ (الْآيَةِ 125) وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قِيلَ: هِيَ نَهْيٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ. وَقِيلَ: حُكْمٌ مِنْهُ نَحْوَ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(94: 1) اهـ. وَالنَّهْيُ أَوِ الدُّعَاءُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِ مَانِعٌ كَعِنَايَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ شَأْنٍ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)(73: 5) ثُمَّ نَزَلَ فِي تَفْسِيرِهِ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(59: 21) وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ الْوَحْيُ وَهُوَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَكَانَ يَكَادُ يَهِيمُ بِشِدَّةِ وَقْعِهِ وَعِظَمِ تَأْثِيرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَأَيُّ قَلْبٍ يَحْتَمِلُ وَصَدْرٍ يَتَّسِعُ لِكَلَامِ اللهِ الْعَظِيمِ، يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ شَرْحَهُ وَإِعَانَتَهُ عَلَى
حَمْلِهِ، وَهُوَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ:(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) فَهَذَا وَجْهُ مَظِنَّةِ وُقُوعِ الْحَرَجِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْهُ بِشَرْحِهِ لِصَدْرِهِ، وَيَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ تَكْوِينِيًّا.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُلِّفَ بِهِ هِدَايَةَ الثِّقْلَيْنِ وَإِصْلَاحَ أَهْلِ الْخَافِقَيْنِ، وَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِضِيقِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ:(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)(15: 97) وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَهَا: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(16: 127) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(11: 12) وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَمْرٍ طَبْعِيٍّ كَهَذَا الِاجْتِهَادِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ بِوَعْدِ
اللهِ وَالتَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَ مِنْ رُسُلِهِ عليهم السلام.
فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْوَجِيهَانِ، مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. يُنَافِيَانِ مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَرَجِ بِالشَّكِّ، وَيُغْنِيَانِ عَمَّا تَمَحَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِهِ بِالتَّأْوِيلِ الشَّبِيهِ بِالْمَحَكِّ، وَمَا أَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ بِصَحِيحٍ حَتَّى بَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كُلُّ مَا صَحَّ مِنْهُ مَقْبُولٌ، إِلَّا إِذَا صَحَّ رَفْعُهُ إِلَى الْمَعْصُومِ، صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ:(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)(10: 94) فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ الْمَأْلُوفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَحَالِّ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ:(فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)(10: 106) وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِهَا: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)(43: 81) وَفِي ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنَ الصَّدْرِ، وَانْشِرَاحِهِ لِلنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)(61: 8) أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكِ حَرَجٌ مِنْهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ بِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَكَ النَّاسُ. وَالْإِنْذَارُ التَّعْلِيمُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْمُنْذَرِ وَالْعِقَابِ الَّذِي
يُنْذَرُهُ، أَيْ يُخَوَّفُ مِنْ وُقُوعِهِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:(إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)(78: 40) وَقَوْلُهُ: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَالْمَفْعُولَانِ يُذْكَرَانِ كِلَاهُمَا تَارَةً وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَقَدْ حُذِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ، أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ إِذْ تُبَلِّغُهُمْ دِينَ اللهِ وَكُلَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ يَعْصِي رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِيجَازٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ:(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(6: 92) وَقَدْ صَرَّحَ بِجَعْلِ الْإِنْذَارِ عَامًّا لِأُمَّةِ الْبَعْثَةِ كَافَّةً بُقُولِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوَنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(25: 1) وَكَثِيرًا مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ حَتْمًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)(35: 18)
وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)(36: 11) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ)(6: 51) الْآيَةَ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا)(79: 42، 43) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(6: 68) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ 51)(: 55) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(29: 51) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)(21: 84) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(38: 43) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(50: 8) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ
الْعَامِّ وَالذِّكْرَى الْخَاصَّةِ، أَوْ هُوَ ذِكْرَى - أَوْ حَالُ كَوْنِهِ ذِكْرَى - لِمَنْ آمَنُوا وَلِمَنْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِلْإِنْذَارِ الْعَامِّ، الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي يَكْثُرُ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، الَّذِي هُوَ خَالِقُكُمْ وَمُرَبِّيكُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ وَفَرْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ، وَالتَّحْلِيلِ لِمَا يَنْفَعُكُمْ، وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يَضُرُّكُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكُمْ مِنْكُمْ (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) تَتَّخِذُونَهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَكُمْ، بِمَا يُزَيِّنُ لَكُمْ ضَلَالَ تَقَالِيدِكُمْ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِكُمْ، فَتُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ، وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ
مِنْكُمْ، مِنْ وَضْعِ أَحْكَامٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، أَوْ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَإِنَّمَا عَلَى الْعَالِمِ بِدِينِ اللهِ تَبْلِيغُهُ وَبَيَانُهُ لِلْمُتَعَلِّمِ لَا بَيَانَ آرَائِهِ وَظُنُونِهِ فِيهِ - وَلَا أَوْلِيَاءَ تَتَّخِذُونَهُمْ لِأَجْلِ إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذُنُوبِكُمْ، وَجَلْبِ النَّفْعِ لَكُمْ أَوْ رَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِصَلَاحِهِمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللهَ رَبُّكُمْ هُوَ الْوَلِيُّ، أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ تَذَكُّرًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فَلَا يُجْهَلَ وَيُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى، مِمَّا يَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَيَحْظَرُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ، أَوْ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ فَتَرْجِعُونَ عَنْ تَقَالِيدِكُمْ وَأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصُ عَنْ عَاصِمٍ " تَذَكَّرُونَ " بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا (تَتَذَكَّرُونَ) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ " يَتَذَكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُخْرَى فِيهَا.
قَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ لُغَةً وَأَنْوَاعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا أَقْرَبُهَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)(6: 129) وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَصْرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)(6: 14) وَزِدْنَا هَذَا بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(6: 51)
وَكَذَا تَفْسِيرُ: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)(6: 70) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ أُخْرَى مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا وَأَعَمِّهَا بَيَانًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)(2: 257) الْآيَةَ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِوِلَايَةِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،
وَوِلَايَةِ الطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ.
وَنَكْتَفِي هُنَا بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَلِّي الْأَمْرِ - مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَإِلَهِهِمُ الْحَقِّ، وَهِيَ قِسْمَانِ:(أَحَدُهُمَا) شَرْعُ الدِّينِ، عَقَائِدُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. (وَثَانِيهِمَا) الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ فِي أُمُورِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي مَكَّنَ اللهُ مِنْهَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَالْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ، وَتَسْخِيرِ الْقُلُوبِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ حَصْرِ الْوِلَايَةِ فِي اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِهِ تَوَلِّي أُمُورِ الْعِبَادِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُهُمْ وَشَرْعُ الدِّينِ لَهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى، هُوَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي طَاعَةِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا أَحَلُّوا لَهُمْ وَزَادُوا عَلَى الْوَحْيِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)(9: 31) وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا طَاعَةً دِينِيَّةً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُنْزِلْهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ طَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا الْأُمَرَاءِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَدَيُّنًا، وَمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَإِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى فَهْمِهِ وَمَا عَسَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ الْعَمَلِ عَلَى النَّصِّ، وَحِكْمَةُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ كَبَيَانِ سِمْتِ الْقِبْلَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهُمْ لَا يُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ لِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُتْبَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِنَصِّهِ أَوْ فَحَوَاهُ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ وَتَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي تَنْفِيذِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيمَا نَاطَهُ بِهِمْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْضِيَتِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَنَبْذِ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(4: 59) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5: 101) الْآيَةَ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ
فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(16: 44) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عز وجل " وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَدْ أَذِنَ لَنَا أَلَّا نَأْخُذَ بِظَنِّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَالَ:" أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِظَنِّ غَيْرِهِ؟ وَمِنْهُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
قَالَ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَاعْتَبِرُوا) كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءَ بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدْ نَقَلْنَا فِي بَحْثِ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّازِيَّ قَدْ رَدَّ فِي مَحْصُولِهِ كَوْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(59: 2) دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالًا آخَرَ بِالْآيَةِ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مُنَاقَشَةَ الْقِيَاسِيِّينَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَشْوِيَّةَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ
بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ اهـ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ هَدَى إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَمُخَاطَبَتِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ تُنْكِرُ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْبَصِيرَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَعْلَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَحَلًّا لِنَظَرِيَّاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، وَمَوْقُوفًا إِثْبَاتُهَا عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ جَدَلِيَّةٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ أَصْحَابُهَا مِنْهَا غَيْرَ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنْ حَقِّ الْيَقِينِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا عَقْلِيًّا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِتَلَقِّي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مِنْهُ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيُنْذِرَ بِهِ كُلَّ النَّاسِ، وَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا يَتَوَلَّوْنَهُ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى - الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقَوَاعِدِ لِأُصُولِ الدِّينِ - بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهَا وَلِمَا يَتْلُوهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَبَدَأَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)" كَمْ " خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ الْكَثْرَةَ وَالْقَرْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْيَةُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا (أَيْ مَعًا) وَيُسْتَعْمَلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ تَعَالَى:(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)(12: 82) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْقَرْيَةُ هَاهُنَا الْقَوْمُ أَنْفُسُهُمْ. اهـ. أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالتَّقْدِيرِ يَرَوْنَ أَنَّهُ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ تَهْلَكُ كَمَا يَهْلَكُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْمُضَافَ فِي قَوْلِهِ:(فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) فَيَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلَهَا بَأْسُنَا - بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْبَيَاتِ وَالْقَيْلُولَةِ، وَالْمَدِينَةُ لَا تَبِيتُ وَلَا تَقِيلُ، وَالْبَيَاتُ: الْإِغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَالْإِيقَاعُ بِهِ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ اسْمٌ لِلتَّبْيِيتِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُدَبِّرُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَنْوِيهِ لَيْلًا، وَمِنْهُ تَبْيِتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ. وَقِيلَ: يَأْتِي مَصْدَرًا لِبَاتَ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَقِيلُونَ، أَيْ يَنَامُونَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَسْتَرِيحُونَ وَإِنْ لَمْ يَنَامُوا، يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً.
وَالْمَعْنَى: وَكَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا لِعِصْيَانِ رُسُلِهَا فِيمَا جَاءُوهَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا، فَكَانَ هَلَاكُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، بِأَنْ جَاءَ بَعْضَهُمْ بَأْسُنَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَيِّتِينَ أَوْ بَائِتِينَ لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ، وَجَاءَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ قَائِلُونَ آمِنُونَ نَهَارًا كَقَوْمِ شُعَيْبٍ. وَالْوَقْتَانِ وَقْتَا دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَ صَفْوَ اللَّيَالِي وَلَا مُوَاتَاةَ الْأَيَّامِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِالرَّخَاءِ فَيُعِدَّهُ آيَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ، وَقَدْ يُعْذَرُ بِالْغَفْلَةِ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا عُذْرَ وَلَا عَذِيرَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُرُورِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَعِزَّةِ عَصَبِيَّتِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آيَةُ رِضَى اللهِ عَنْهُمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (34: 35) وَلَيْسَ أَمْرُهُمْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّتِي عَرَفَتْ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ سُنَنَ اللهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ تَغْتَرُّ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَلَا تَرْجِعُ عَنْ غَيِّهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْعَذَابُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ عَطْفَ " جَاءَهَا " عَلَى " أَهْلَكْنَا " بِالْفَاءِ يُفِيدُ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ وَقَعَ عَقِبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا تَفْصِيلِيًّا لِنَوْعَيْنِ مِنْهُ، أَحَدُهُمَا لَيْلِيُّ وَالْآخَرُ نَهَارِيٌّ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِهْلَاكِ إِرَادَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ)(5: 6) إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا وَاوُ الْحَالِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَصْلُ: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِنُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِفْرَادِ، لَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا)(4: 43) حَيْثُ انْفَرَدْنَا بِبَيَانِ فَرْقٍ وَجِيهٍ بَيْنَ الْحَالَيْنِ هُنَالِكَ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَيَنْطَبِقُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ
الْإِمَامُ عَبَدُ الْقَاهِرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَاصٌّ بِمَا كَانَتِ الْحَالُ فِيهِ وَصْفًا لِفَاعِلِ الْعَامِلِ فِيهَا كَآيَةِ النِّسَاءِ وَمِثْلِ قَوْلِكَ: نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ وَأَنَا صَائِمٌ، وَهِيَ هُنَا وَصْفٌ لِمَفْعُولِهِ فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِالْإِعْرَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ هَلْ هِيَ لَامُ الْعَطْفِ أَوْ غَيْرُهَا، وَمَتَى تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هِيَ وَالضَّمِيرُ مَعًا وَمَتَى يَجِبُ أَحَدُهُمَا، وَهِيَ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ نَعْدُوهَا لِأَنَّهَا قَلَّمَا تُفِيدُ فِي الْمَعَانِي وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فَائِدَةً تُذْكَرُ.
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ، وَالِادِّعَاءُ نَفْسُهُ، وَالدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ، وَالْقَوْلُ مُطْلَقًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: وَدَعْوَى فُلَانِ كَذَا - أَيْ قَوْلُهُ اهـ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ - وَعَلَى مَا قَبْلُهُ: (فَمَا) كَانَتْ غَايَةَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الدِّينِ وَزَعْمِهِمْ فِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ - أَوْ كَانُوا يَدَّعُونَهُ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِرَادَةِ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ - إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْمَادَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)(3: 147) فَكَيْفَ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَمَا هُنَا.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا يَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَعْتَرِفُ بِظُلْمِهِ وَجُرْمِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَمَا كُلُّ مُعَاقَبٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَجْهَلُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ عِقَابِهَا أَثَرًا لَازِمًا لَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا تَطَّرِدُ فِي الْأَفْرَادِ كَاطِّرَادِهَا فِي الْأُمَمِ، وَلَا تَكُونُ دَائِمًا مُتَّصِلَةً بِاقْتِرَافِ الذَّنْبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَشْعُرُ فَاعِلُهَا بِأَنَّهَا أَثَرٌ لَهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ السُّكَارَى مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْقُبُ الشُّرْبَ مِنْ
صُدَاعٍ وَغَثَيَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ احْتِمَالُهُ وَتَرْجِيحُ لَذَّةِ النَّشْوَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُوَلِّدُهُ السُّكْرُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَالْجِهَازِ التَّنَاسُلِيِّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ النَّسْلِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَانْقِطَاعِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ) فَهِيَ تَحْصُلُ بِبُطْءٍ، وَقَلَّمَا يَعْلَمُ غَيْرُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا مِنْ تَأْثِيرِ السُّكْرِ. ثُمَّ قَلَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِ تَأْثِيرِهَا هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ تَحْمِلَ السَّكُورَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ دَاءَ الْخُمَارِ يُزْمِنُ وَحُبَّ السُّكْرِ يُضْعِفُ الْإِرَادَةَ، وَمَضَارُّ الزِّنَا الْجَسَدِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَفَاسِدُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّهِ الْجَسَدِيَّةِ، فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَفْطِنُ لَهَا. وَيَا لَيْتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ
بِضَرَرِ ذَنْبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ وَيَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَكْتَفِي بِالِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِذَنْبِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ لَا فِي دُنْيَاهُ، وَلَا فِي دِينِهِ، وَإِذَا كَانَ الرَّاسِخُ فِي الْفِسْقِ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ وَعَلِمَ بِهِ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ ضَرَرٌ أَوْ أَصَابَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي بِهِ؟ إِنَّمَا تَسْهُلُ التَّوْبَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهِيَ لِأُولِي الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ تَقْهَرُ إِرَادَتُهُمْ شَهَوَاتِهِمْ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ.
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْأُمَمِ فَعِقَابُهَا فِي الدُّنْيَا مُطَّرِدٌ، وَلَكِنَّ لَهَا آجَالًا وَمَوَاقِيتَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَفْرَادِ بَلْ أَشَدُّ، فَإِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَاخْتِلَالُ النِّظَامِ وَنَشَأَ التَّرَفُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ تَمْرَضُ أَخْلَاقُهَا فَتَسُوءُ أَعْمَالُهَا وَتَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَيَفْسُدُ أَمْرُهَا وَتَضْعُفُ مَنْعَتُهَا، وَيَتَمَزَّقُ نَسِيجُ وَحْدَتِهَا، حَتَّى تُحْسَبَ جَمِيعًا وَهِيَ شَتَّى - فَيُغْرِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ بِهَا، فَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ بِلَادِهَا، وَتَجْعَلُ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتِ أَمْزِجَتِهَا وَقُوَاهَا، وَقَلَّمَا تَشْعُرُ أُمَّةٌ بِعَاقِبَةِ ذُنُوبِهَا قَبْلَ وُقُوعِ عُقُوبَتِهَا، وَلَا يَنْفَعُهَا بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَارِفُونَ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعُمُّهَا الْجَهْلُ حَتَّى لَا تَشْعُرَ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِيهَا، فَتَرْضَى بِاسْتِذْلَالِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا رَضِيَتْ مِنْ قَبْلُ بِمَا كَانَ سَبَبًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
مَنْ سَاسَهُ الظُّلْمُ بِسَوْطِ بَأْسِهِ
…
هَانَ عَلَيْهِ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ أَتَى
وَمَنْ يَهُنْ هَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ
…
وَعِرْضُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَى
وَقَدْ تَنْقَرِضُ بِمَا يَعْقُبُهُ الْفِسْقُ وَالذُّلُّ مِنْ قِلَّةِ النَّسْلِ وَلَا سِيَّمَا فُشُوُّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ، أَوْ تَبْقَى مِنْهَا بَقِيَّةٌ مُدْغَمَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَثَرَ لَهَا تُعَدُّ بِهِ أُمَّةٌ. وَقَدْ تَتَوَالَى عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ حَتَّى تَضِيقَ بِهَا ذَرْعًا، فَتَبْحَثُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا تَجِدُهَا بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ إِلَّا فِي أَنْفُسِهَا، وَتَعْلَمُ صِدْقَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(42: 30) ثُمَّ تَبْحَثُ عَنِ الْعِلَاجِ فَتَجِدُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(11:13) وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّغْيِيرُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ فَتَصْلُحُ الْأُمُورُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ عَمُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذْ تَوَسَّلَ بِهِ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ بِتَقْدِيمِهِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِهِمْ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ إِنَّمَا يَرْتَفِعُ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُ بِهِمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُفْسِدُونَ. وَمَتَى عَلِمَتِ الْأُمَّةُ دَاءَهَا وَعِلَاجَهُ فَلَا تَعْدِمُ الْوَسَائِلَ لَهُ.
فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ أَيْنَ مَكَانُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِعُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى عِلَاجِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوشُهَا، وَخَوَتْ صُرُوحُ عَظَمَتِهَا عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَانَتْ أَجْدَرَ الشُّعُوبِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَاتِّقَائِهَا، وَأَسْبَابِ حِفْظِ الدُّوَلِ وَبَقَائِهَا، فَقَدْ أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ أَيْنَ هِيَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَرَكَ تَذْكِيرَهَا بِهِ الْعُلَمَاءُ، فَهَجَرَهُ الدَّهْمَاءُ، وَجَهِلَ أَحْكَامَهُ وَحِكَمَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، ثُمَّ نَبَتَتْ فِيهَا نَابِتَةٌ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أَقْنَعَهُمْ أَسَاتِذَتُهُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ لَا سَبَبَ لِهُبُوطِهَا وَسُقُوطِهَا إِلَّا اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، فَأَضَلُّوهُمُ السَّبِيلَ، وَلَفَتُوهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ، فَذَنْبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، وَذَنْبُ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَهُ، هَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةٌ لِلْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ الْخَادِعِينَ، وَأُولَئِكَ مُقَلِّدَةٌ لِشُيُوخِ الْحَشْوِيَّةِ الْجَامِدِينَ، فَمَتَى تَنْتَشِرُ دَعْوَةُ الْمُصْلِحِينَ أُولِي الِاسْتِقْلَالِ، فَتُجْمَعُ الْكِمْلَةُ بِمَا أُوتِيَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالِاعْتِدَالِ، عَلَى قَوْلِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ:(إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) .
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ
وَلَا سِيَّمَا خَبَرُ الْمَشْهُورِ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ كَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِالْأَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي بَلَغَتْهَا دَعْوَةُ الرُّسُلِ، يَسْأَلُ تَعَالَى كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِ وَعَنْ تَبْلِيغِهِ لِآيَاتِهِ، وَبِمَاذَا أَجَابُوهُمْ وَمَا عَمِلُوا مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَنِ التَّبْلِيغِ مِنْهُمْ وَالْإِجَابَةِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ.
بُيِّنَ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)(61: 130) وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)(28: 65) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرِوُنَ)(13:29) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)(16: 56) وَهُوَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الدِّينِ كَجَعْلِهِمْ لِمَعْبُودَاتِهِمْ نَصِيبًا مِمَّا رُزِقُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِهَا بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يُنْذِرُهُ الْقُبُورِيُّونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَأَعَمُّ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّحْلِ أَيْضًا:(وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(16: 93) وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّأْكِيدِ وَالْعُمُومِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(15: 92، 93) وَمِنْهُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)(7: 36) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ: (يَوْمَ
يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) (5: 109) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَنَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ " هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: جِبْرِيلُ خَاصَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ: فَإِنَّ الرُّسُلَ يُسْأَلُونَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(4: 41) وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا الرِّسَالَةَ، فَمَا هِيَ ذَنْبٌ يَتَوَقَّعُ إِنْكَارُهُ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ الْعَامِّ وَمَا يُسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ السُّؤَالَ الْعَامَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَهِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ:(وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(28: 78) وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)(55: 39) قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (6: 129) إِلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَوْمِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالِاعْتِذَارِ
يَكُونُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عَنِ الذَّنْبِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ يُفَسِّرُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُ وَيَمْتَازَ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ قَالَ بَعْدَهَا:(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)(55: 41) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ لَا يُسْأَلُونَ وَبِمَ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَازُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ حَمْلِ آيَةِ الْقَصَصِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ هَلْ أَذْنَبْتَ أَوْ هَلْ فَعَلْتَ كَذَا مِنَ الذُّنُوبِ؟ أَيْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُ بِذُنُوبِهِ وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَهُوَ يَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا فِي كِتَابِهِ مُتَمَثِّلًا فِي نَفْسِهِ، مَعْرُوضًا لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ - وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ لِمَ عَمِلَ كَذَا - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ تَفْسِيرِهِ هُنَا لِقَوْلِهِ عز وجل:
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى:(وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(28: 11) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(12: 3) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ:(وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)(4: 108) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ
فِيهِمْ أَمْ ضَيَّعَهُ. حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ " وَمَا رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْمِقْدَامِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا يَكُونُ رَجُلٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا جَاءَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ " وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْظَرُ فِي صِلَاتِهِ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ " وَمَا رَوَاهُ هُوَ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ - قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ - تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَحُسَيْنٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُذْكَرُ كَثِيرًا فِي بَعْضِ خُطَبِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْبَزَّارَ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ " إِلَخْ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِي " عَلَّمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ - وَآخِرُهُ عِنْدَهُ
"