المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامسوهو: أحكام الفاتحة - تفسير سورة الفاتحة لابن رجب

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌الفصل الخامسوهو: أحكام الفاتحة

‌الفصل الخامس

وهو: أحكامُ الفاتحة

فمِن أحكامِها: أنَّ قراءتهَا في الصَّلاة رُكنٌ من أركان الصَّلاةِ، لا تَصِحُّ بدُونِها في الجُملة، وهذا القول أحدُ قولي العلماءِ، وحكاه التِّرمذيُّ عن أكثرِ الصَّحابَةِ، منهم: عمر وجابر وعمران بن حُصَين (1)، وهو قولُ أكثرِ السَّلفِ وفقهاءِ أهلِ الحجازِ وأهلِ الحديثِ كابنِ عَونٍ وابنِ المباركِ والأوزاعيِّ والشافعيِّ وإسحاقَ وأبي ثورٍ وداودَ، وغيرِهم، وهو الصَّحيحُ عن مالكٍ، وهو مَذهَبُ الإمامِ أحمدَ الذي نقلَه معظمُ أصحابِه الرُّواة عنه، وعليه أهلُ مَذهبِه قاطبةً.

والقولُ الثاني: أنَّها ليست من فرُوض الصَّلاةِ، بل تجزئُ قراءةُ غيرِها في الجُملة، وهذا قولُ طائفةٍ من فقهاءِ العراق، ثم

(1)«جامع الترمذي» (1/ 288 - رقم: 247).

ص: 49

اختلفوا في القدرِ المجزئ مِن القراءةِ:

فقيل: تجزئُ قراءةُ ثلاثِ آياتٍ، وهو محكيٌّ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ.

وقيل: بل ثلاثُ آياتٍ قِصَارٍ، أو آيةٌ طويلةٌ تعدِلهُنَّ، وهو قولُ أبي يوسفَ ومحمدٍ.

وقيل: بل تجزئُ قراءةُ آيةٍ واحدة مُطلقًا، وهو المحكيُّ عن أبي حَنيفة وذكرهُ طائفةٌ من أصحابِنا روايةً عن أحمد، وأنَّ حَربًا نَقلَها عنه، فذكر القاضي في «الجامِع الكبيرِ» أنَّه وجد بخطِ بعضِ أصحابنا: [

] (1) وكتابِ أبي إسحاقَ بنِ شاقْلَا (2) أخبَرنا أبو بكر عبدُ العزيز حدَّثني الخلَاّلُ ثنا حربٌ الكرمانيُّ قال: قلتُ لأبي عبدِ الله: رجلٌ قرأَ بآيةٍ من القرآنِ ولم يقرأ فاتحةَ الكتابِ؟ قال: الصَّلاةُ جائزةٌ. قلت: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحةِ الكتابِ» . قال: على طريقِ الفضلِ لا على طريقِ

(1) بياض في الأصل بمقدار كلمة.

(2)

قال في "المطلع"(430): (شاقلا: بالشين المعجمة، القاف الساكنة بعد الألف، وآخره ألف ساكنة، هكذا قيدناه عن بعض شيوخنا، وكذا سمعته من غير واحد منهم، والله أعلم) ا. هـ.

ص: 50

الإيجابِ.

قال القاضِي: وهذا صَريحٌ في أنَّ الصَّلاةَ تصحُّ بغير الفاتحة، وأنَّها لا تتعيّن لها.

وهذه الرِّواية مَذكورةٌ في «جَامِع الخلَاّل» على غير هذِه الصِّفة، وقد نقلتُ من خطِّ القاضِي مما انتقاهُ من «الجامِعِ» ، قال: نقل حربٌ عنه: إذا نَسِي أن يَقرأ فاتحةَ الكتابِ فَقرأ قرآناً، فقال: وما بأس بذلك، أليس قد قرأ قُرآنًا؟ ! قال الخلَاّل: الذي رَواهُ حَربٌ قد رَجَع أحمدُ عنه.

وهذه الرِّواية بهذه الصِّيغة قد لا تدلُّ على نفي وُجوبِ الفاتحة في الجُملة، بل على سُقوطِها بالنِّسْيَانِ، فتصيرُ من جُمْلَةِ وَاجبَاتِ الصَّلاةِ التي تجبُ معَ الذِّكْر، وتسقطُ بالسَّهْوِ، كالتسبيحِ في الركوع والسُجود عنده، وهذا أحَدُ قولي الشَّافعيِّ وهو قولُ الحَسنِ والشَّعبيِّ: أنَّ مَنْ نَسِيَ الفاتحةَ سَجدَ للسَّهْوِ؛ وقد رُوي عن عمرَ رضي الله عنه صحةُ الصَّلاةِ إذا نَسِيَ الفاتحةَ، ولكن ضَعَّفَ الرِّوايةَ عنه: الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ وغيرُهما، ورُوي عن عمرَ خلافُ ذلك، وأنَّه أعاد الصَّلاة.

وإذا قلنا: لا تتعيَّن الفاتحةُ، بل تجزئُ آيةٌ، فظاهرُ ذلك: ولو كانت قصيرةً، ولو كلمةً، وقد يُقال: بل تُحمل هذه الرِّواية

ص: 51

على آيةٍ متوسِّطةٍ، لا قصيرة، ولا طويلة.

وقد قال أبو البقاءِ العكبريُّ من أصحابنا في «شرح الهداية» له نحوَ هذا، فإنَّه قال: لم أجد لأصحابِنا في بعضِ الآيةِ التي يجوز للجُنبِ قِراءتُها حَدًّا، وظاهرُ قولِهم: أنَّه يجوزُ ذلك وإن كثرَ البعضُ، وأن (1) بمنزلة آياتٍ متوسِّطة.

قال: والأمرُ مَحمُولٌ عندي على غير ذلك، وهو أن يُحمَلَ البعضُ على مقدارٍ دون آيةٍ متوسِّطةٍ إذا كان كلامًا تامًّا غيرَ متعلقٍ بما قبلَه وبعدَه.

وقال ابنُ عَقيلٍ: إذا قُلنا: لا تتعيّن الفاتحةُ، بل يُعتبرُ أن يأتي بسبعِ آياتٍ فيها عَدَدُ حُروفِها، أوْ بسَبعِ آياتٍ وإن لم تبلغ حرُوفَها، على وجهين.

قال أبو البَركات بنُ تيميَّة: وهذا مخالفٌ لمنصوصِ أحمدَ كما سَبق، وهو سهوٌ، لأنَّ اعتبارَ السَّبعِ من فُروع وجُوبِ الفاتحةِ، لا من القول بعَدم وجُوبِها.

وَقد عادَ ابنُ عَقيلٍ نقضَ (2) كلامه في مَوضعٍ آخرَ! وقال:

(1) كذا.

(2)

كذا، ولعلها:(ونقض).

ص: 52

تَكفيهِ الآية كما نصَّ عليه أحمدُ.

قلتُ: لكن حَكى الحُلوانيُّ روايةً: أَنّه يَجبُ سَبعُ آياتٍ إذا قلُنا: لا تتعَيّن الفاتحةُ؛ والظَّاهرُ - إن صحّت هذه الرواية عن أحمد - فالمراد بها: إمَّا أن تجبَ الفاتحةُ أو سَبْعُ آياتٍ سِوَاها.

وحُكي عن أحمدَ: أنَّه يجب قراءةُ ما تَيسَّرَ، لكن لم أرَ مَن ذكر ما المرادُ بقراءة مَا تَيسَّرَ: هل المراد بهِ في كلِّ رَكعةٍ تجبُ قراءةُ ما تيسَّرَ، أو تجبُ قراءةُ ما تَيسَّرَ في رَكعةٍ مِن الصَّلاةِ، كما ذَهبَ إليه الحَسَنُ البصريُّ وبعضُ أصحاب داود؟ .

وإذا قلنا: تتعيَّن الفاتحةُ للصَّلاةِ، فهل تتعيَّن في كلِّ رَكعةٍ، أمْ لا؟ فمذهَبُنا ومَذهَبُ أكثرِ العلماءِ: أنَّها تتعيَّن في كلِّ رَكعةٍ، وحُكي عن أحمدَ: أنَّ القراءةَ تجبُ في رَكعتين من الرُباعيَّة [

] (1).

وقولُ صاحب «المغني» يَدُلُّ على تعيين الأُوليَيَن (2)، وَحكاهُ النوويُّ في «شرح المهذَّب» عن أبي حنيفة (3)، وعن مالكٍ: إن

(1) بياض في الأصل بمقدار خمسة أسطر.

(2)

«المغني» (2/ 156 - 157).

(3)

«المجموع» (3/ 361)، ونص كلامه:(وقال أبو حنيفة: تجب القراءة في الركعتين الأوليين، وأما الأخريان فلا تجب فيهما قراءة، بل إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت) ا. هـ.

ص: 53

تَرَكَ القراءةَ في رَكعةٍ من الصُّبحِ لم يُجزئْهُ، وإن تركَهَا في رَكعةٍ مِن غيرِها أجزَأهُ؛ وعن الثَّوريِّ وإسحاقَ بنِ راهُويه نحوُه، وحُكي عن الحسنِ بنِ صالحٍ والأصمِّ: أنَّ القراءةَ لا تجبُ في الصَّلاةِ.

والصَّحيحُ قولُ جُمهورِ العلماءِ، وهو: تعيين الفاتحة للصَّلاةِ دُونَ غيرِها، والدَّليلُ عليه: ما ثبتَ عن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا صَلاة لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ» ، وفي لفظٍ:«بأمِّ القُرآنِ» .

وتوجيهُ الدّلالة من هذا النصِّ يحتاجُ إلى تقريرِ مُقدِّمة، وهي: أنَّ الحقائقَ المنفيَّة نوعان:

أحدُهما: أن تكون لغويَّةً، ولا غرضَ لنا الآن في ذِكر هذا النوع وحُكمِه.

والثاني: أن تكون شرعيَّةً، كالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، ونحوِهما، وهو المقصودُ هاهنا بالذِّكر، فهذا إذا دخلَ عليه النَّفيُ لم يَكن مجمَلاً عندَ جمهورِ الفُقهاءِ؛ وذهبَ طائفةٌ مِن المتكلِّمين: إلى أنَّه مجملٌ، فلا يُستدلُّ به على نفي الصِّحَّة ولا وجودِها،

ص: 54

والأقوال في هذه المسأَلة تبلغ سَبْعَ أقاويلَ، لأنَّ القائلين بإجمالِه لهم مَذهَبان:

أحدُهما: أنَّ النفيَ ظاهرٌ في نفيِ الذَّاتِ حِسًّا وهي موجودة، فلا بُدَّ من إضمارِ حُكمٍ، إمَّا الصِّحَّة وإمَّا الكمال، وليسَ أحدُهما أولى من الآخرِ، ولا يُضمرَانِ جَميعًا، لأنَّ الاقتضاءَ لا عُمومَ له.

والمذهب الثاني: أنَّه ظاهرٌ في الشَّرعيِّ، لكنَّه متردِدٌ بين نفي الكمال ونفي الصِّحَّة، كما تقدَّم، وَهذا الذي حكاهُ الماورديُّ عن المحقِّقين، وأمَّا جمهورُ الفقهاءِ والمتكلمين فلا إجمالَ عندَهم في ذلك، لكنهم اختلفوا فيه على خمسة أقوال:

أحدها: أنَّه محمولٌ على نفي الكمال خاصّةً، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حربٍ السَّابقة (1)، وتقريرُ هذا أنَّ اللفظ قد استُعمل في نفي الصِّحَّة تارَةً وفي نفي الكمال أُخُرى، كقولِه:«لا صَلاة لجار المسجد إلَاّ في المسجد» ، وقوله:«لا صلاة لملتفتٍ» ، ونحو ذلك، فإن جُعِل حقيقةً فيهما أو في أحدِهما: لزم المجاز أو الاشتراك، فيُجعَلُ حقيقةً في القدر المشترك

(1)(ص: 51).

ص: 55

بينهما، وهو نفي الكمال مع قطع النَّظر عن الصِّحَّة نفيًا وإِثباتًا، وهذا ضعيفٌ.

والقول الثاني: أنَّه عامٌّ يتناوَلُ نفي الذَّات ونفي الحُكم والصِّفة، فإذا خصّ نفي الذَّات بالعقل = بقي ما عَداهُ، وهذا الذي حكاهُ أبو المعالي الجُوَيني عن جمهور الفقهاءِ، وهو مَبنيٌّ على: أنَّ النفي لا يتوجه إلى المسمَّى الشَّرعي، بل إلى اللغويِّ، وفي نسبته إلى أكثر الفقهاءِ نظرٌ، لأنَّ أكثرَهم يُثبتُ الشَّرعيَّة.

والقولُ الثَّالثُ: أنَّه يَنصرفُ إلى الشَّرعيِّ، لكنَّه عامٌّ في نفي الذَّاتِ والصِّحَّة والكمال.

والقولُ الرابعُ: أنَّه ظاهرٌ في نفي الصِّحَّة، ولا ينصرفُ إلى نفي الكمال إلَاّ بدَليلٍ، وهذا قولُ أكثر المحقِّقين من أصحابِنا وأصحابِ الشَّافعيِّ، وهو الذي يَدُلُ عليه كلامُ أحمدَ في أكثر الرِّواياتِ عنه.

والقولُ الخامسُ: أنَّ نفي المسميَّات الشَّرعيَّة لأمرٍ متعلِّقٍ بها يَدُلُّ على وجوب ذلك الأمر الذي انتفت لأجله، فإنَّ الشيءَ إنَّما يجوزُ نفيُه لانتفاءِ وَاجبٍ من واجباتِه، ولا يجوز نفيُه لانتفاءِ سُنَّةٍ من مَسنُونَاتِه، إذ لو جاز ذلك لجاز نفيُ صلاة أكثر المسلمين

ص: 56

وصيامهم وحجهم، فإنَّ اجتماعَ جميع سُنن العبادة فيها مِن أَندَرِ الأمُورِ، ومعلومٌ أنَّه لا يجوزُ أن يقال: لا صلاة لمن لم يُسبِّح في رُكوعِه وسجُودِه ثلاثًا، ولا صَلاة لمن لم يَقرأ في الصُّبحِ بطِوَالِ المفصَّل، ولا صَلاة لمن لم يَتوضّأ ثلاثًا، ونحو ذلك، وحقيقة هذا القول يَرجعُ إلى أنَّ المراد بهذا النفي = نفي الكمال، لكن نفي كمال الواجباتِ، لا كمال المستحبات، وهذا اختيارُ أبي العباس ابن تيميَّة (1)، وهو الأرجح؛ والله أعلمُ (2).

* * *

(1)"الفتاوى"(22/ 530 - 531).

(2)

لم يُذكر هنا إلا حكم واحد من أحكام الفاتحة، فالذي يبدو - والله أعلم - أنه قد وقع هنا خرم، وقد سبق في مقدمة التحقيق ذكر بعض النقول عن هذا الكتاب، ومنها ما يتعلق بأحكام الفاتحة.

ص: 57