الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
في الحمد
والكلامُ عليه من ثلاثةِ أوجه:
الأوَّل: في تفسيرِه: اختلف في معنى الحمدِ، فقيل: هو الثَّناءُ بمحاسن المحمُود، وهو المشهورُ، وذكر ابن جرير بإسناده عن كعبٍ قال: مَن قال: الحمدُ لله، فذلك ثناء على الله (1).
ولكن بين الحمد والثناءِ فرقٌ، ولهذا يقولُ الله عز وجل:(حمدني عَبدي) ثم يقول: (أَثنَى عليَّ عَبدي) فالثناءُ تكريرُ الحمد وتثنيتُه؛ وقيل: هو المدْحُ، وهو مقلوبٌ عَنه، وهو يُلاقيه في الاشتقاق الأوسط - وهو الاجتماعُ في عَين الحُروف دُون نظمها -، وفي الحديث:«لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ مِن الله» ، وفُرِّق بين المدح والحمد بوجوه:
(1)«جامع البيان» (1/ 59).
أحدها: أنَّ الحمدَ لا يكون إلا للحيِّ، والمدحُ يكون للحيِّ والميِّت.
والثاني: أنَّ الحمدَ لا يكونُ إلا بعدَ تقدُّم الإحسان، والمدح يكون قبله، وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الله يحمد نفسَه.
والثَّالث: أنَّ المدحَ لا يَكونُ إلَاّ باللسان، والحمدُ يكونُ بالقلبِ بناءً على أنَّه الرِّضَا كما سيأتي، ذَكرَهُ العِمَّانيُّ وفيه نظرٌ.
والرَّابع: أنَّ قولَك: مدحتُ زيدًا، لا يصدق بدُون سابقة مَدحٍ، بخلافِ قولِك: الحمدُ لله، فإنَّ هذا خبرٌ يَحصُلُ به إنشاءُ الحمدِ، ففيه معنى الخبر ومعنى الإنشاءِ.
والخامسُ: أنَّ الحمدَ: الإخبارُ بمحاسن المحمُودِ معَ المحبَّةِ لها والرِّضا بها، والمدحُ: الإخبارُ بمحاسنِه فقط. قاله أبو عَبد الله بن القيِّم (1).
وقيل: الحمدُ: هو الشكر على النِّعم، قالَه ابنُ جريرٍ والمبرَّدُ، وغيرُهما وأسنده ابنُ جريرٍ مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وموقوفًا على ابنِ عبَّاسٍ (2).
(1)«بدائع الفوائد» (2/ 93 - 96).
(2)
«جامع البيان» (1/ 59).
ولكن بين الحمدِ والشُكرِ فرقٌ من وَجهين:
أحدُهما: أن الحمدَ يكون على النِّعم وغيرِها، بخلاف الشُكر فإنَّه لا يكونُ إلَاّ على النِّعم.
وقد نازع في ذلك مَنْ نازع: أن (1) جميعَ أفعالِ الله عز وجل نِعَمٌ.
والثاني: أنَّ الحمدَ يكون باللسان والقلب، والشَّكر يكون باللسان والقلب والعمل، وقيل: الحمد هو [
…
] (2) الرضا [
…
] (3) فإِن أُريدَ به: أنَّ الحمدَ باللسان ليسَ بحمدٍ فباطلٌ، وإن أُريدَ: أنَّ الرِّضا شطرُه فصَحيحٌ، وإن أُريدَ: أنَّ الرِّضا بالقلب يكونُ حَمدًا كما قال العِمانيُ ففيه نظرٌ.
وهل يختصُّ الحمدُ بلفظ الحمد، أو يكونُ بأعمّ منه؟ فيه خلاف، الصحيحُ عمُومُه.
والتحقيقُ: أنَّ الحمدَ: هو ارتضاء صفاتِ المحمُودِ الحسنة والإخبارُ عنها باللسان، فهو إذًا: الإخبارُ بمحاسن المحمود مع
(1) كذا.
(2)
كلمة (هو) مكررة في الأصل، فحذفتها.
(3)
بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
المحبَّة لها والرِّضا بها.
والحمدُ يكون على النِّعَم بالاتفاق، ويكونُ على غير النِّعَم أيضًا على المشهور من الأفعال الحسَنةً وإن لم تكن نعمًا على الحامد، بخلاف الشُّكر فإنَّه لا يكونُ إلَاّ على النِّعم، هذا هو المشهورُ.
ولكن التحقيق أنَّ جميعَ ما يفعلُه اللهُ سبحانه فهو نعمة أو فيه مِن النِّعمة ما يَستحق به الحمدَ والشُّكرَ، فإنَّ المصائبَ والأمراضَ كفاراتٌ وطَهُورٌ، فهي نعمةٌ، وإهلاكُ المكذِّبين وعُقوبةُ الكافِرين نِعمةٌ على المؤمنين يحصلُ لهم بها الاعتبارُ، ولهذا قال تعالى:{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] والآلاءُ: النِّعَمُ، قاله بعدَ ذِكر جهنمَ وغيرها.
وهل يُحمد على الذَّات والصِّفات اللازمة لها؟ فيه خلافٌ:
فمن النَّاس من قال: يُمدَحُ عليه ولا يُحمد، ذكره الرَّازيُّ في «تفسيره» ، والصَّحيح أنَّه يُحمد عليها أيضًا، لأنّه مرجعُ الحمد وَفيها يجتمع، ولأنَّ تنعُّم العباد بما يتعلَّق بالذَّاتِ أعظمُ من تنعُّمِهم بالمخلوقات في الدُّنيا بالمعرفة والذِّكر والمحبَّة، وفي الآخرة بالرُّؤية والنَّظر، وقد قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فهذا أمرٌ بالحمد له على صفات كمالِه من وَحدَانيّتِهِ وصَمديّتِهِ.
وقولُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، الألفُ واللامُ فيه:
قيل: للعَهدِ، أي: الحمدُ المعهودُ.
وقيل: لتعريف الجنس، أي: مُطلقُ الحمد، وهو ضعيفٌ.
وقيل: للاستغراق، قاله أبو جَعفر الباقِرُ وغيره، وهو أصحُّ، وفي الأثر:«اللهمّ لك الحمدُ كلُّه» ، وفي دُعاءِ القنوت:«ونثني عليك الخيرَ كلَّه» ، وقوله:«لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك» .
فإن قيل: فإذا كان الحمدُ كلُّهُ لله، فكيفَ يُحمد غيرُه من خلقه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم:(محمَّد)، وهو مُفعّل مِنَ الحمد؟ قيل: عنه ثلاثة أجوبة:
أحدُها: أنَّ الحمدَ كلَّه لله، بمعنى: أنَّه هُوَ المستحِقُ للحمد، وهو الحامد لما يَشاءُ مِن خَلْقِه، فلا يُحمد إلا من حَمِدَهُ هو، فحمدُ بعضِ مخلوقاتِه إنما هو بحمدِه له، فلا يخرجُ ذلك
كون الحمد كلّه له، لكن تارةً باعتبار أنَّه يُحمد، وتارةً باعتبار أنه يَحمد.
والثَّاني: أنَّ كون الحمد كلّه له لا يُنافي أن يحمد غيرُه من خَلْقِه ببعضِ أنواع الحمد.
والثَّالث: أنَّ حمد غيرِه بالنِّسبة إلى حمدِه كلا حمد، فلذلك حُصِرَ الحمدُ في حقِّه سُبحانه، فصَارَ الحمدُ كلُّهُ له.
فائدة: لم يقل: أحمدُ الله، ولكن قال: الحمدُ للهِ، وهذه العِبارة الثَّانية أولى لوجوهٍ:
منها: أنَّه لو قال: أحمدُ اللهَ [
…
] (1) ذلك على حمده، أمَّا إذا قال: الحمدُ لله أفادَ ذلك أنَّه كان مَحمُودًا قبل حمد الحامدين.
ومنها: أنَّ الحمد لله يقتضي أنَّ الحمدَ والثناءَ حقٌّ الله وملكهُ، فاللفظ الدَّالُ على كونِه مستحقًا للحمد أولى من اللفظ الدَّال على أنَّ شخصًا وَاحدًا حمدَهُ.
ومنها: أنَّه لو قال: أحمدُ الله، لكان قد حمدَ، لكن لا
(1) بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.
حمد (1) يَليق به، أمَّا إذا قال: الحمدُ لله، فكانَّه قال: مَنْ أنا حتى أحمدَه؟ لكنَّه مَحمُودٌ بجميع حمد الحامدين، مثالُه: لو سُئلت: هل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلتَ: نعَم، فقد حمدتَه، لكن حَمدًا ضعيفًا، وإن قلتَ: بل نِعَمُهُ على كلِّ الخلائق، فقد حمدتَهُ بأكملِ المحامد.
فائدة: الحمدُ لله ثمانيةُ أحرُف، وأبوابُ الجنَّةِ ثمانية، فمَن قال هذه الثمانية عن صَفاءِ قلبه = استحقَ ثمانيةَ أبواب الجنَّة (2).
فائدة: قدّم التَّسبيح على التَّحميد في قولك: سبحانَ اللهِ والحمدُ لله، لأنَّ التَّسبيحَ إشارةٌ إلى أنَّه تامٌّ، والتحميد يدلُّ على كونه تعالى فوق التَّمام، فلهذا السَّبب كان الابتداءُ بالتحميدِ أوْلى.
الوجه الثَّاني: في فضائل الحمد.
(1) كذا بالأصل، ولعلها:(لا حمداً).
(2)
كذا بالأصل، ولا أعلم لهذا أصلًا، ويغلب على الظن أن هذه الفائدة ليست من كلام ابن رجب رحمه الله، لأنه لا يعرف من طريقته ذكر مثل هذه الأمور، وأيضًا المكان الذي ذكرت فيه لا تظهر فيه مناسبة قولها، وقد كان كثير من ملاك المخطوطات الأوائل يلحق بالكتاب فوائد تتعلق بموضوعه في طرته، فلعل هذه الجملة مما ألحقه بعضهم بهذا الكتاب والله تعالى أعلم.
يَتلوهُ بقية الكلام عليها فيما بَعْد
إنْ شاء اللهُ تعالى
* * *