المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثفي الكلام على هؤلاءالملاحدة الإلحادية القبورية الوثنية عامة - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - جـ ٣

[شمس الدين الأفغاني]

الفصل: ‌المطلب الثالثفي الكلام على هؤلاءالملاحدة الإلحادية القبورية الوثنية عامة

‌المطلب الثالث

في الكلام على هؤلاء

الملاحدة الإلحادية القبورية الوثنية عامة

1 -

قال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) في بيان بعض فضائح هؤلاء الوثنية عامة:

وهؤلاء الملاحدة الزنادقة، الاتحادية * منهم، والحلولية الإلحادية * - ظهورهم أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب، الذي يزعم أنه هو الله؛ فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية [الحلولية منكري علو الله على خلقه وفوقيته على عباده، القائلين بأن الله في كل مكان]- أعظم من كفر اليهود؛ كما قال عبد الله بن المبارك، والبخاري، وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحاً، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في كل

ص: 1359

مكان، وأما هؤلاء الاتحادية - فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، وكان السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فكانوا يعرفون سر أقوال هؤلاء الملاحدة وينفرون منها؛ ولذا قال بعضهم:

(متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك أن المتكلمين من الجهمية المعطلة ينفون صفات الله تعالى ويصفونه بصفات العدم [بل بصفات الممتنع] ؛ فيقولون: إن الله ليس بكذا، وليس بكذا:[أي إن الله لا فوق العرش، ولا تحت العالم، ولا اليمين، ولا الشمال، ولا الخلف، ولا الأمام] ؛ [فهؤلاء المتكلمون لا يعبدون شيئاً موجوداً، بل يعبدون معدوماً ممتنعاً] ، أما الصوفية الاتحادية الملاحدة - فهم يزعمون أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فيعبدون جميع المخلوقات والكائنات بما فيها الشمس، والقمر، والبشر، والأوثان، فيجمعون كل شرك يرتكبه أصناف المشركين في العالم كله، وقد يجمع الرجل بين إلحاد المتكلمين وبين اتحاد هؤلاء الصوفية في آن واحد، فينفي صفات الله تعالى معطلاً لها واصفاً ربه بصفات المعدوم

ص: 1360

والممتنع على طريقة المتكلمين المعطلة نفاة الصفات، فيعبد المعدوم بل الممتنع، ومع ذلك يرى في الوقت نفسه: أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، على طريقة الصوفية الاتحادية الملاحدة، فيعبد كل شيء، وهكذا يتناقض فيجمع بين النقيضين.

فإذا قيل له: لم تجمع بين، النقيضين إلى هذا الحد؟ أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟

قال في الجواب: ذلك وجدي، وهذا ذوقي! ! .

فيقال لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد - فأحدهما أو كلاهما باطل.

وهؤلاء الملاحدة لو سلكوا طريق الأنبياء والمرسلين الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق أئمة السنة * سلف هذه الأمة * - لسلكوا طريق الهدى ووجدوا برد اليقين * وقرة العين *؛ فإن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل؛ بخلاف المعطلة فإنهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.

2 -

وقال رحمه الله تعالى:

وهؤلاء الزنادقة الملاحدة الاتحادية - مع هذا الكفر البواح والاتحاد الصراح - يوهمون الناس أنهم مشائخ الإسلام، وأئمة الهدى - الذين جعل الله لهم لسان صدق في الأمة،

ص: 1361

أمثال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد.

3 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

ومن أشنع كفر هؤلاء الملاحدة زعمهم أن الولي أفضل من النبي، ويقولون في ذلك:

(مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي)

ولذا يقول بعضهم: أنا أحتاج إلى محمد في علم الظاهر دون الباطن، لأنه بعث بعلم الظاهر دون الباطن، وهذا القائل كافر، أكفر وأشر من اليهود والنصارى، وكفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب.

4 -

وقال رحمه الله تعالى:

وهؤلاء الملاحدة المدعون ولاية الله تعالى من أشنع كفرياتهم:

أن جبريل كان خيالاً في نفس النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ويزعمون أنهم أعلم من الأنبياء، مع أن جبريل عليه السلام قد وصفه الله تعالى بأنه روح القدس، ووصفه بصفات يتبين منها:

أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم لا خيال كما يزعم هؤلاء الملاحدة.

ص: 1362

5 -

وقال رحمه الله تعالى:

إن حقيقة أمر هؤلاء الملاحدة الوجودية الاتحادية - جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وحقيقة قول هؤلاء الزنادقة - قول فرعون الذي عطل الصانع، لكن هؤلاء الملاحدة أضل من فرعون؛ لأنهم زعموا أن فرعون هو الله، بل جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله؛ بل قال هؤلاء الملاحدة المحرفين تحريف القرامطة:

إن السحرة لما عرفوا صدق قول فرعون، وعلموا أنه ربهم الأعلى - قالوا لفرعون: صدقت {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] .

6 -

وقال رحمه الله تعالى:

ثم هؤلاء أنكروا حقيقة اليوم الآخر:

فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله، مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، مع أنهم أعظم الناس ولاية للشيطان، فقد قيض الله تعالى لهم شياطين، تخاطبهم وتتمثل لهم، فيظنون أنها ملائكة، وأنها من كرامات الأولياء، ومن هذه الأرواح الشيطانية -

ص: 1363

ذلك الروح الذي يزعم ابن عربي صاحب الفتوحات: أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ((الفتوحات)) ؛ مع أن هذه كلها من الأحوال الشيطانية، وهم كانوا بها مناقضين للرسل صلوات الله عليهم.

7 -

وقال رحمه الله تعالى:

ومن أشنع نماذج كفرهم الذي ارتكبوه بسبب القول بوحدة الوجود أنهم:

(يقولون بأن النصارى إنما كفروا - لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمموا - لما كفروا، وكذلك يقولون في عباد الأصنام:

إنما أخطئوا - لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض، فلو عبدوا الجميع - لما أخطئوا عندهم.

وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم - فيه ما يلزمهم دائماً من التناقض، لأنه يقال لهم: فمن المخطئ؟) .

8 -

وقال رحمه الله تعالى:

ومن كفرياتهم الإلحادية، وهذيانهم الاتحادي الذي وصلوا بسببه إلى غاية التنقص بالله عز وجل، ووصفهم له سبحانه، ورميهم له جل وعلا بجميع الأفعال القبيحة

ص: 1364

التي توجد في المخلوقات: من الكفر، والشرك، والزنى، واللواط، والكذب، والخيانة، والغش، والسرقة، وكل ما يتصور من القبائح، وبعكس ذلك يصفون المخلوق بجميع الصفات الكمالية لرب العالمين؛ وفي ذلك يقول العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كاشفاً الأستار عن أسرار هؤلاء الملاحدة الكفرة الزنادقة:

(يقولون: إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون: إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق.... وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض؛ فإنه من المعلوم بالحس والعقل: أن هذا ليس هو ذلك) .

9 -

ثم هؤلاء الملاحدة الزنادقة الحلولية الاتحادية * الوجودية القبورية الوثنية * - مع تلك الكفريات، وهذه الزندقة التي ذكرت بعض أمثلتها الوثنيات * - يزعمون أنهم أولياء الله تعالى، وأنهم أصحاب الكرامات * - وأنهم خلاصة الخاصة من أهل الله تعالى؛ بل يزعمون أنهم أفضل من الأنبياء، وأعلم منهم.

ص: 1365

10 -

وقال الشيخ أبو الحسن علي الندوي الحنفي في بيان كفريات هؤلاء الملاحدة الزنادقة من الصوفية الاتحادية، أمثال ابن عربي (638هـ) ، مبيناً عقيدة وحدة الوجود لهؤلاء الملاحدة عامة، ولا سيما ملاحدة الصوفية في الهند خاصة:

(وقد كانت هذه الصبغة الوجودية في القرن العاشر.... هي السائدة في الهند؛ حتى كان الشعراء المتذوقون لهذه المعاني [العقائد الوجودية] يتغنون بهذه العقيدة، ويساوون بين الكفر والإيمان؛ بل قد يتعدون حدود ذلك إلى ترجيح الكفر على الإيمان، وكان الناس يرددون أبياتاً معناها:

الكفر والإيمان قرينان، فمن لم يتمتع بالكفر لم يتمتع بالإيمان.

ثم قيل في بعض الكتب شرحاً لهذا البيت، وإيضاحاً لمعناه:

((ثبت من ذلك أن الإسلام في الكفر، والكفر في الإسلام؛ يعني: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] ؛ فالمراد بالليل هو الكفر، والمراد بالنهار هو الإسلام)) ....) .

ص: 1366

قلت:

الحاصل: أن هذه الشبهة في الحقيقة من أعظم كفر هؤلاء الملاحدة الاتحادية * الصوفية، الحلولية، الزنادقة، الإلحادية، وقلدهم هؤلاء القبورية الوثنية * وقد عرفت بعض أمثلة كفرهم وإلحادهم وزندقتهم، وارتدادهم الصريح عن دين الإسلام * وخروجهم على النقل والعقل والحس وإجماع الأنام، ولا سيما الأئمة الأعلام *.

ومن تلك الطامات هذه الشبهة التي تشبث بها القبورية * بدون أن يعرفوا حقيقة هؤلاء الاتحادية * تمهيداً لجواز الاستغاثة بالأموات * عند إلمام الملمات *.

تعالى الله عما يشركون * وسبحانه عما يصفون *.

هذا هو الجواب الأول، وأما الجواب الثاني فهو ما يلي:

الجواب الثاني:

أن هؤلاء القبورية الذين تشبثوا بهذا الحديث بعد تحريفهم له تحريفاً معنوياً * - قرمطياً حلولياً اتحادياً وثنياً * - هم مقلدون لهؤلاء الزنادقة الحلولية * الملاحدة الاتحادية * الذين ذكرت أمثلة كفرهم ونماذج زندقتهم في الجواب الأول:

1 -

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في تحقيق هذا الجواب:

(والنبهاني الضليل * ليس من أولئك القبيل *

ص: 1367

بل خسته مشهورة * ودناءته مذكورة * مع ما ضم إلى ذلك الضلال من العقائد الفاسدة في الإله عز اسمه، حيث أنه ممن قلد القائلين بالحلول والاتحاد، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى اعتقد فيه أنه موجود في كل زمان ومكان، والإغراء على دعاء غير الله ، والالتجاء إلى ما سواه، وكل ذلك من متفرعات القول بوحدة الوجود؛ فإن القائلين بها لم يخطئوا عبدة الأصنام في عبادتهم، وكل كلام الله تعالى ينطبق على كلام غيره، فعندهم: أن ما تكلم به الإنسان نظماً ونثراً - فهو كلامه، وعليه قول الشيخ محيي الدين [ابن عربي الاتحادي الإلحادي] :

((وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه))

فلا شك أن روح النبهاني الخبيثة من جنود هذه الأرواح، وقد تعانقت مع أرواح الغلاة فائتلفت * وتناكرت مع أرواح الأصفياء الطاهرة القدسية فاختلفت *.

..... أفلا يستحي من هذا حاله؟ * ووصفه، أو اعتقاده، وجهله وضلاله * أن يخاصم أهل الحق، وفرسان العلم، وأئمة الإسلام، وبحور الفضل، وورثة الأنبياء، وهو ليس من قبيل هؤلاء الرجال * بل ولا ممن يعد في صف النعال *.

وقد حمله شيطانه على إلقاء نفسه في هذه المهالك * وقاده إلى هذه المعارك *.

ص: 1368

وما أحسن ما قال القائل:

ولقد أقول لمن تحرش بالهوى

عرضت نفسك للبلا فاستهدف)

2 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً أن من تشبث النبهاني بقوله في الاستغاثة بالأموات عند الكربات: من الشعراء - هم من الحلولية أو الاتحادية * القبورية الوثنية * وأن القول بالحلول والاتحاد هو الذي سوغ له ولهم ذلك الشرك.

(الوجه السابع: أن الشعراء الذين أورد النبهاني من شعرهم في الاستدلال على جواز الاستغاثة بغير الله والاحتجاج على مشروعية دعاء من سواه سبحانه - بل كل من كان على هذا المنهج من الغلاة - فهو إما من القائلين بالحلول والاتحاد، وهو الذي يسوغ له ذلك الدعاء والالتجاء؛ إذ الكل واحد؛ وعلى ذلك قول قائلهم:

((وتلتذ إن مرت على جسدي يدي

لأني في التحقيق لست سواه))

وقال آخر:

((الرب عبد والعبد رب

يا ليت شعري من المكلف))

وعندهم الوجود واحد؛ ولذلك قال من قال: ((سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها)) ؛ فإذا كان الله عين كل شيء [عند هذا الملحد]-

ص: 1369

فله أن يعبد كل شيء، إذ هي عين الحق. . . .

والمقصود: أن من يذهب مذهب الغلاة في أهل القبور - فريقان:.

الفريق الأول: من يقول بالاتحاد والحلول؛ إذ لا فرق حينئذ بين الخالق والمخلوق، ولا بين التراب ورب الأرباب، ومنهم النبهاني الزائغ؛ على ما أشعر كلامه واعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم؛ مع ما هو عليه من المسلك، وقد ذكرنا ذلك في أول الكتاب، ومثله كثير ممن أورد شعره.

الفريق الثاني: الجهال بحقائق الدين ودقائقه، وهم أكثر من نقل النبهاني شعره؛ فهم لا يعلمون ما في كلامهم من المحاذير، ولو نبهوا عليها لانتبهوا؛ وهم في شعرهم وما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو - {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ، وقد رأينا من يعمل في قبور الأصفياء ما يعمل من المنكرات والأعمال التي لم تشرع - كلهم من العوام، وإن كانوا في زي العلماء الأعلام؛ فبطل جميع ما استشهد به من الشعر والحمد لله) .

الجوابان: الثالث والرابع:

ما قاله الإمام محمود الآلوسي (1270 هـ) ، وتبعه في ذلك حفيده

ص: 1370

العلامة شكري الآلوسي (1342هـ)، والشيخ الرستمي:

(وقال بعض.... الصوفية:

((إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم، فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه؛ بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور؛ لأنه استغاثة بالحق حينئذ)) .

وأنا أقول: إذا كان الأمر كذلك، فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ .

وأيضاً إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية -

فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له - من تلك الحيثية أيضاً، ولعل القائل بذلك قائل بهذا! بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح! ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره! .

فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده؛ فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى) .

ص: 1371

قلت:

هذا النص مشتمل على جوابين:

حاصل الجواب الأول:

أنكم أيها القبورية الحلولية في قولكم الكفري هذا - قد طولتم الطريق على أنفسكم؛ فإنكم تزعمون جواز الاستغاثة بالولي من حيث ظهور الحق تعالى فيه، وأن المقصود هو الاستغاثة بالله تعالى لا بالولي؛ فهلا تستغيثون بالله تعالى مباشرة من أول الوهلة، ولم تطولون الطريق إلى الله على أنفسكم؟ .

فمثلكم - مع كفركم الحلولي - كمن يمسك أذنه اليمنى من جانب الأذن اليسرى من قفاه.

وقد قيل في أمثالكم من الحمقى ما قيل * مع كونكم من أهل الضلال والتضليل *:

(أرى الأمر يفضي إلى آخر

يصير آخره أولا)

ولله در القائل الذي قال في أمثالكم السفهاء * أهل السفسطة والقرمطة مجانين العقلاء *:

(أقام يعمل أياماً رويته

وشبه الماء بعد الجهد بالماء)

وأنتم أيها القبورية الحلولية في زعمكم هذا - كالماتريدية، والأشعرية، ونحوهم من الجهمية المعطلة المحرفة الذين يحرفون صفة ((الاستواء)) إلى ((الاستيلاء)) ؛ ثم يقولون: المراد من ((الاستيلاء)) ما هو اللائق بالله عز وجل؛

ص: 1372

فهلا قالوا ذلك في ((الاستواء)) - قبل تعطيلهم وتحريفهم - من أول الوهلة؟ ؟ .

ولذلك نرى الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) يقول مبيناً حماقتهم وتناقضهم وجهدهم الخاسر:

(وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه [أي الكيف لا المعنى] إلى الله تعالى؛ فهم يقولون:

استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه.... وأن تفسير ((الاستواء)) بـ ((الاستيلاء)) - تفسير مرذول؛ إذ القائل به لا يسعه أن يقول: ((كاستيلائنا)) ؛ بل لابد أن يقول: هو ((استيلاء)) لائق به عز وجل، فليقل من أول الأمر: هو ((استواء)) لائق به جل وعلا) .

قلت: هذا إذا صدقناكم أنكم في استغاثتكم بالولي تقصدون الله عز وجل مع أن هذا حلول بواح وإلحاد صراح؛ وإلا فالأمر أدهى وأمر وأعظم * والبلية أشد وألهم وأعم *.

هذا هو حاصل الجواب الأول، وهو الثالث بالنسبة إلى ما تقدم.

وحاصل الجواب الثاني:

أنكم أيها القبورية إذا جوزتم الاستغاثة بالولي من حيث إن الله تعالى قد حل فيه - فعليكم أن تجوزوا للولي الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من العبادات من هذه الحيثية أيضاً؛ واعبدوا الأولياء بجميع العبادات * كما تعبدونهم بالاستغاثة بهم عند

ص: 1373

الملمات * - بحجة أن الله تعالى قد حل فيهم، وإذا لم تعبدوا الأولياء بالصلاة والصوم والزكاة ونحوها من العبادات * فأحرى وأولى أن لا تستغيثوا بالأولياء عند الكربات * لأن الاستغاثة عند الكربات - مخ العبادات ولبها.

وهذا هو الجواب الرابع بالنسبة إلى ما تقدم.

الجواب الخامس:

ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، مبيناً مفاسد هذه الشبهة وعواقبها الوخيمة، كاشفاً عن تحريفهم القرمطي الوثني لهذا الحديث، محققاً أن هؤلاء الزنادقة يقولون بتعدد الآلهة:

1 -

(ومن العجيب أن كثيراً من الغلاة [في] أهل القبور الذين يندبون الصالحين ويستغيثون بهم ويستمدون منهم في السراء والضراء * والشدة والرخاء * - يعتقدون أن مدعويهم يسمعون الأصوات * سواء في ذلك من قرب ومن كان في أبعد الجهات *، وإذا توجهت إلى أحدهم سهام الطعن - يقول: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (( «ما زال عبدي يتقرب إلي.... كنت سمعه الذي يسمع به» ....)) الحديث، وقد حمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه: من أن العبد إذا لزم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات -

ص: 1374

أنه يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك -..... [أي أن الولي صار مثل الله في السمع والبصر والعلم والقدرة والإعطاء والمنع] .

وقد تكلمت مع بعضهم يوماً حيث استمد بأحد شيوخه الذين أماتهم الله تعالى منذ مئين من السنين؛ فزعم أنه يحضر روحه، فينال الاستفاضة منه، فقلت له: بينك وبين مدعوك هذا عدة فراسخ وأميال، وربما كان مثلك في مائة بلدة وأكثر، وكلهم استمدوا من هذا الشيخ في آن واحد! فهل يسمعهم ويحضر عندهم؟ ..... قال: نعم. فقلت: قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171، والمائدة: 77] . قال: هذا ليس من الغلو - وذكر الحديث السابق - قال: فإذا كان الله سمع المقربين - لا يستغرب مثل ذلك؛ فإن الله لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

قلت: فإذن تعددت الآلهة - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - حيث لم يبق فرق عند هؤلاء الزنادقة - بين الله سبحانه وبين من يدعون أنه كان يتقرب بالنوافل....) .

2 -

وقال رحمه الله أيضاًَ، كاشفاً عن كفريات النبهاني (1350هـ) ،

ص: 1375

وسلفه السبكي (756هـ)، وغيره من غلاة القبورية قديماً وحديثاً؛ مبطلاً شبهتهم في تحريف هذا الحديث تحريفاًَ وثنياً حلولياً؛ محققاً أن هذا يتضمن الكفر البواح الصراح من القول بتعدد الآلهة:

(الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم - عند النبهاني وأسلافه - ما كان وما يكون، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي [756هـ] ؟ :

((من أنه رجل شافعي المذهب، أشعري العقيدة! إلى آخر ما هذى....)) ؛ وهذا الذي ذكرناه - من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه - هو مما لم يمكنهم إنكاره؛ كيف والنبهاني - على ما أسلفنا - يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان * وكل زمان * وقد تكلمت يوماً مع أحد الغلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم - إذا استغاث بالرفاعي (578هـ) قبل الشروع في ذكرهم - فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي - وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك؟ قال: نعم.

ص: 1376

قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة، وإن كانوا في أقطار شاسعة -[وكلهم ينادونه لدفع الضر مثلاً] فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟؟ قال: نعم.

قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم.

قال: ليس هذا من الغلو، بل هو مقتفى الدين؛ ألم تسمع حديث الأولياء..... (( «كنت سمعه الذي يسمع به»

)) الحديث؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد: من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات - يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك....

والمقصود: أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله! فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأولياء والأصفياء؟ فلا بد أنهم يعتقدون [فيه صلى الله عليه وسلم] فوق اعتقادهم في الولي....

إن السبكي أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله، هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام [728هـ] وجرحه،

ص: 1377

والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان - من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم....

ومن العجائب أن السبكي - مع هذه..... - قد جعله ابن حجر المكي [794هـ] من المجتهدين الاجتهاد المطلق.... وأنه إمام التحقيق والتدقيق، وأنه ليس له نظير ولا قريب في كل فن.... فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين - شتمهم بكل ما خطر له

فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف؛ وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى، وأعظمها تطاول السفهاء، وإناطة الأمر إلى غير أهله، وعنده يترقب الخراب العام.

وابن السبكي [771هـ] الذي جرى مجرى أبيه [في مناصرة القبوريات]- لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده!! ظناً منه أن الحقائق تخفى، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ص: 1378

وفي المثل السائر: ((كل فتاة بأبيها معجبة)) .

والمقصود: أن قدح السبكي بمثل شيخ الإسلام - كصرير باب * وطنين ذباب * ولولا التقى لقلنا: لا يضر السحاب * نبح الكلاب*) .

الجواب السادس:

استئصال هذه الشبهة باجتثاث جذورها بإبطال تحريفهم لهذا الحديث، وبيان معناه الصحيح:

1 -

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً عدة معان لهذا الحديث:

والجواب من وجوه:

الأول: أن معناه: كنت سمعه وبصره في إيثاره لأمري وطاعتي.

والثاني: أن معناه: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني ولا يرى إلا ما أمرته به.

والثالث: أن معناه: أني أعجل له مقاصده.

والرابع: أن معناه: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده على عدوه.

والخامس: أنه على حذف المضاف والتقدير: كنت حافظ سمعه وبصره، بمعنى: أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يحل له.

والسادس: أن السمع مصدر بمعنى المسموع، كالأمل بمعنى المأمول.

والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي،

ص: 1379

ولا يمد يده إلا فيما يرضيني.

والسابع: أن هذه عبارة عن ساعة إجابة دعائه.

أي أن الله تعالى يقضي حوائجه السمعية والبصرية واللمسية.

الحاصل: أن هذا الحديث كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المطيع له، وتأييده وإعانته.

ولهذا وقع في رواية: (( «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» )) .

والمحصول: أنه لا دلالة في هذا الحديث على ما زعمته الاتحادية [* القبورية الوثنية الحلولية *] ولا متمسك لهم فيه بوجه من الوجوه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ومن أعظم الحجج الساطعة، والبراهين القاطعة لدابر هؤلاء الاتحادية قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث:(( «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» )) فإنه صريح في الرد على هؤلاء الاتحادية [* الزنادقة الحلولية القبورية الوثنية*] ؛ فكما أن آخر هذا الحديث وما قدمناه في المعنى الصحيح يرد على الاتحادية، كذلك يرد على ابن جرجيس [إمام قبورية البغداية * المسائل لهؤلاء الوثنية الاتحادية *] ، وكذلك النصوص القطعية دالة على أن لا يدعى غير الله تعالى فيما هو من خصائصه سبحانه.

2 -

7- قلت: هكذا فسر هذا الحديث كثير من علماء الحنفية؛

ص: 1380

وردوا على الملاحدة الحلولية والزنادقة الاتحادية * الذين هم أشنع أنواع القبورية الوثنية * - تحريفهم الاتحادي والحلولي لهذا الحديث.

قلت:

المقصود: أن هذه الشبهة باطلة فاسدة؛ وهي من كفريات الملاحدة الاتحادية، والزنادقة الوجودية، والوثنية الحلولية.

الشبهة التاسعة عشرة:

أن دعاء الأموات عند الكربات * ليس من العبادات * فليس من الشركيات *

لقد سبق أن القبورية قد انحرفت عن الجادة الصحيحة في مفهوم العبادة، فحصرت العبادة في عدة الأعمال الظاهرة الإسلامية من الصلاة

ص: 1381

والزكاة والصوم والحج ونحوها، وبعض الأعمال القلبية من اعتقاد الربوبية.

بناء على ذلك أخرجوا الدعاء والاستغاثة من مفهوم العبادة؛ فقالوا: إن الدعاء والاستغاثة بالأولياء * ونداءهم وطلب المدد منهم عند البلاء * - ليست هذه الأمور من العبادة في شيء، ولا من الشرك بالله عز وجل؛ لأن العبادة لا تتحقق إلا إذا اعتقد في غير الله القدرة الذاتية، والاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة لا محالة، وإذا كان الأمر كذلك - فمن استغاث بالأولياء ودعاهم لدفع الضر وجلب النفع، وطلب منهم المدد فهو لم يعبد غير الله، وإذا لم يعبد غير الله تعالى - لم يشرك به سبحانه أحداً من خلقه؛ إذن لا حرج على المضطر المكروب أن يستغيث بأولياء الله تعالى عند الكربات.

ولقد سقت كثيراً من نصوص القبورية في مبحث العبادة في الباب الأول.

ولكن يحسن للبرهنة على ذلك أن نسوق بعض نصوص القبورية الآخرين في صدد تقريرهم لهذه الشبهة:

1 -

قال ابن جرجيس أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) :

إن أعداء الله الخوارج الوهابية ترويجاً لبدعته، وحرصاً على تكفير

ص: 1382

المسلمين بنوا قواعد مذهبهم على أن نداء أهل القبور والتشفع بهم إلى الله - عبادة، وهو خطأ محض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا العبادة،وهي الدين كما في حديث جبريل، من الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان بالله، والملائكة، وكتبه، ورسله، والقدر، والعبادة عبارة عن هذه الأشياء، وهي الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ولا يتصور أن أحداً يؤمن بالله - يفعل شيئاً من هذه لأحد غير الله، ولم يقل أحد: إن النداء والتوسل عبادة، ولا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.

2 -

وقال: (وأما التوسل، والنداء، فليس من العبادة عند جميع المسلمين، لا لغة، ولا شرعاً، ولا عرفاً) .

3 -

وقال هذا الملبس ابن جرجيس أيضاً:

(إن الدعاء الذي ذكره الله عن الكفار والمشركين - معناه: ((العبادة)) التي هي السجود والركوع والذبح والتقرب إلى ذواتهم على أنهم أرباب وآلهة، ولم يكن هذا في المسلمين ولله الحمد ممن يتوسل بالصالحين ويناديهم

ص: 1383

والنداء لأهل القبور والغائبين يسمى دعاء في اللغة، ولكن ليس هو ((دعاء العبادة)) ، ولو كان مطلق النداء والطلب يكون ((دعاء عبادة)) - لزم أن جميع من ينادي أحداً حياً أو ميتاً، ويطلب منه شيئاً - يكون مشركاً، عابداً للمنادى والمطلوب، ولا قائل بذلك لا عاقل ولا مجنون) .

4 -

ومثله كلام للقضاعي (1376هـ)، هكذا ترى القبورية يعمدون إلى جميع تلك الآيات الناهية عن دعاء غير الله فيحرفونها بتأويلها الباطل * القبوري الفاسد العاطل *:

وهو أن المراد بالدعاء في تلك الآيات - هو العبادة بمعنى الصلاة والزكاة والركوع والسجود والذبح، على اعتقاد الربوبية لغير الله تعالى، وليس المراد من الدعاء في تلك الآيات - نداء الأموات وطلب الغوث منهم عند الملمات * والاستغاثة بهم عند الكربات *؛ فإن ذلك ليس من العبادة في شيء، وليس فيه أي محذور.

والقبورية بناء على تعريفهم للعبادة تعريفاً غير جامع لجزئياتها وقصرها على بعض أفرادها - لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع

ص: 1384

الملمات * - صرحوا بإبطال تعريف أئمة السنة وعلماء هذه الأمة للعبادة؛ فقد قالت القبورية في تعريف شيخ الإسلام للعبادة:

(وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)) - هراء، ليس بتعريف للعبادة) .

الحاصل: أنه قد تبين من نصوص القبورية:

أنهم قد حصروا ((العبادة)) على بعض أفرادها بتعريفهم الباطل للعبادة، الذي هو غير جامع لأفرادها، وأن تعريف أئمة السنة وأعلام الأمة للعبادة ولا سيما ما قاله شيخ الإسلام - باطل عندهم وهراء؛ كل ذلك لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع الملمات *.

هذا هو كان تقرير هذه الشبهة، والآن أنتقل إلى الجواب عنها وإبطالها بنصوص علماء الحنفية، فأقول، والله المستعان * وعليه التكلان:

إبطال هذه الشبهة:

لقد تصدى كثير من علماء الحنفية للرد على شبهة القبورية هذه، كما تصدوا لغيرها من شبهاتهم، فقد كشفوا تدليسهم عن تلبيسهم للحق بالباطل بعدة أجوبة، أذكر

ص: 1385

منها: خمسة:

الجواب الأول:

بذكر معاني ((العبادة)) و ((النداء)) و ((السؤال)) ، و ((الشفاعة)) و (الاستشفاع)) و ((النصر)) و ((الاستنصار)) و ((المدد)) و ((الاستمداد)) و ((العون)) و ((الاستعانة)) و ((الغوث)) و ((الاستغاثة)) و ((الدعاء)) ، وتحقيق أن دعاء الأموات عند الكربات، والاستغاثة بهم عند الملمات من أعظم أنواع العبادات.

فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *:

1 -

العبادة:

أما ((العبادة)) فقد تقدم في ضوء علماء الحنفية معنياها اللغوي، والاصطلاحي الشرعي، وأن الحق والصواب عند علماء الحنفية في تعريف العبادة - هو: أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، مع مراعاة غاية الخضوع وغاية الذل، وأن هذا التعريف للعبادة هو التعريف الصحيح طرداً وعكساً، جامع لجميع أفرادها، مانع عن دخول غيرها فيها.

ص: 1386

وأن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف، غير جامع لأفرادها، لخروج كثير من أنواع العبادات عن هذا التعريف، كالحب، والخضوع، والتوكل، والإنابة، والخوف، والرجاء، والطاعة، والدعاء، فكل هذا يصرف لغير الله سبحانه وتعالى بحجة أنها ليست من العبادة.

وفيه قصر العام على بعض أفراده، وهو باطل بدون دليل مخصص؛ إذ لابد في التعريف الصحيح من أن يكون جامعاً مانعاً.

وبناء على هذا يدخل ((الدعاء)) ، ونداء الأموات، والاستغاثة بهم في تعريف العبادة، بل ذلك من أعظم أنواع العبادة وأجلها.

2 -

النداء:

وأما النداء: (فهو إحضار الغائب، وتنبيه الحاضر، وتوجيه المعرض، وتفريغ المشغول، وتهييج الفارغ، وهو في الصناعة: تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه

والنداء: رفع الصوت وظهوره، وقد يقال للصوت المجرد

ص: 1387

والنداء للاستحضار

)

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(إن النداء - هو: رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، والنهي، ويقابله النجى الذي هو المسارة وخفض الصوت، هذا بإجماع أهل اللغة

، وسمي هذا النداء دعاء......) .

قلت:

ويظهر من هذا التعريف للنداء - أن النداء أعم من الاستنصار، والاستمداد، والاستعانة، والاستغاثة، لأن النداء قد يكون لمجرد الإقبال والمحبة، ولا يقصد به طلب العون والغوث، غير أن المنادي إذا قصد بندائه إقبال المنادى وإرضاءه معتقداً أنه يسمع ويعلم فوق الأسباب العادية - فقد أشرك بالله تعالى في صفة السمع والعلم.

وأما إذا قصد مع ذلك طلب ما لا يقدر به إلا الله - فهو إشراك بالله تعالى بالطريق الأولى. كما سبق تحقيقه في ضوء نصوص علماء الحنفية.

3 -

4- السؤال، والطلب:

أما السؤال: فهو طلب الأدنى من الأعلى.

وأما الطلب: فهو عام فيما تسأله من غيرك ومن نفسك.

ص: 1388

والسؤال: لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك.

قلت:

تقدم تحقيق علماء الحنفية في أن من طلب من غير الله تعالى ما لا يقدر عليه إلا الله - فقد أشرك بالله تعالى.

أما من طلب من غير الله ما يقدر عليه فهذا خارج عن الموضوع، ومنعه جنون، والخلط بين المسألتين تلبيس للحق بالباطل، كما تفعله القبورية.

5 -

6- الشفاعة، والاستشفاع:

وأما الشفاعة: (فهي سؤال فعل الخير، وترك الضر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة، ولا تستعمل لغة إلا بضم الناجي إلى نفسه من هو خائف من سطوة الغير) .

وأما الاستشفاع: فهو استفعال: وهو طلب الشفاعة، يقال:(أشفعه إلى فلان: سأله أن يشفع له إليه) .

قلت:

بناء على هذا - من طلب من الحي الغائب أو الميت أن يشفع له عند الله في جلب النفع أو دفع الضر -

ص: 1389

على اعتقاد أنه يسمع ويعلم بحاله - فقد وقع في الشرك الذي وقع فيه الوثنية الأولى؛ فإن أصل إشراكهم بالله - هو هذا الاستشفاع كما حققه علماء الحنفية.

7 -

8- النصر، والاستنصار:

فأما النصر (فهو أخص من المعونة، لاختصاصه بدفع الضر) .

والاستنصار: استفعال، وهو طلب النصر من الغير، يقال:(استنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليه) .

قلت:

لقد سبق في ضوء نصوص علماء الحنفية أن الشرك، منه طلب النصر والمعونة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

أما طلب النصر من الشخص فيما يقدر عليه لا شك في جوازه، ولا يمنعه أحد، بل يعد منعه جنوناً؛ ولكن لا يجوز أن يجعل ما هو المباح دليلاً على ما هو الشرك، لأن هذا تلبيس للحق بالباطل، وخروج عن الموضوع، ووضع الأدلة في غير موضعها؛ لأن النوع الأول [وهو طلب النصر من الغائب أو الميت] شرك بالله تعالى؛ لأن الغائب وكذا الميت لا يسمعان نداء المكروب، ولا يعلمان

ص: 1390

بحاله، ولا يقدران على نصره.

قال الإمام الآلوسي رحمه الله (1270هـ) في تفسير قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ

لَا يَسْمَعُوا}

) [الأعراف: 197-198] :

( {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي تعبدونهم، أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم..... {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} في أمر من الأمور

{لَا يَسْمَعُوا} أي دعاءكم، فضلاً عن المساعدة والإمداد) .

أما النوع الثاني - وهو طلب النصر من الحي تحت الأسباب العادية - جائز لا محذور فيه؛ لقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ؛ قال الإمام النسفي (710هـ) :

(أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا منكم المعونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين) .

9 -

11- المدد، والإمداد، والاستمداد:

وأما المدد فهو: (ما يمد به الشيء، أي يزاد ويكثر، ومنه: أمد الجيش بمدد: إذا أرسل إليه زيادة) .

وأما ((الإمداد)) : فهو الإعطاء، والإعانة.

ص: 1391

وأكثر ما يستعمل ((الإمداد)) في الخير بخلاف ((المد)) .

وأما ((الاستمداد)) : فهو استفعال، وهو طلب المدد.

قلت:

التفصيل في الاستمداد كالتفصيل في الاستنصار والدعاء والطلب، فيجوز الاستمداد من الحي الحاضر تحت الأسباب، وأما الاستمداد من الغائب أو الميت - فهو إشراك بالله تعالى - على ما سبق مفصلاً محققاً بنصوص علماء الحنفية؛ فلا يجوز الخلط بين المسألتين، لأنه تلبيس للحق بالباطل.

12 -

14- ((العون)) ، و ((المعونة)) ، و ((الاستعانة)) :

وأما ((العون)) : فهو المعين والظهير على الأمر.

وأما ((المعونة)) : فهي: الإعانة.

وأما ((الاستعانة)) : فهي استفعال، معناه: طلب المعونة وطلب الإعانة.

ولقد صرح علماء الحنفية بأن الاستعانة من غير الله تعالى على

ص: 1392

نوعين:

الأول: الاستعانة من الحي الحاضر فيما تحت الأسباب العادية، فهذا لا حرج فيه.

والثاني: الاستعانة من الغائب أو الميت، فهذا إشراك بالله تعالى؛ إذ هذا النوع من الاستعانة من أعلى أنواع العبادة؛ ولكن القبورية يلبسون الحق بالباطل؛ فيستدلون بالمباح منها على الشرك منها.

15 -

16- ((الغوث)) ، و ((الاستغاثة)) :

وأما ((الغوث)) : (فهو النصر والعون) .

وأما ((الاستغاثة)) فاستفعال: وهي (طلب الغوث والنصر) .

وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ)، وشكري الآلوسي (1342هـ) :

(اعلم أن الاستغاثة بشيء: طلب الإغاثة منه، كما أن الاستعانة بشيء طلب الإعانة منه، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث - كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك ليس توسلاً إلى غيره) .

ص: 1393

قلت:

يظهر من موارد لفظة ((الاستغاثة)) : أنها أخص من الاستمداد، والاستنصار، والاستعانة؛ لأن ((الاستغاثة)) تكون عند مس الحاجات * ونزول الملمات * وحدوث الكربات * فالنصر، والمدد، والعون الذي يطلبه المضطر والمكروب عند الكربة والشدة - هو الغوث، وفعل ذلك المضطر وطلب ذلك المكروب يسمى ((استغاثة)) ، يظهر ذلك من كلام أهل اللغة من الحنفية؛ فقد قال الزبيدي (1205هـ) ، والمفسر الآلوسي (1270هـ)، واللفظ للأول:

(ويقال: استغثت فلاناً............. قال شيخنا: قالوا: الاستغاثة: طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة، والعون على الفكاك من الشدة، ولم يتعد في القرآن إلا بنفسه كقوله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] .

وقد يتعدى بالحرف كقول الشاعر:

حتى استغاث بما لا رشاء له

من الأباطح في حافاته البرك

ص: 1394

ويقول المضطر الواقع في بلية: أغثني، أي فرج عني) .

وقال الإمام ابن معط:

(وتلحق اللام إذا استغثتا

بمن تناديه إذا دهمتا)

قلت:

لأجل أن ((الغوث)) هو النصر عند الكربة خاصة - قالت الوثنية من الصوفية القبورية:

(الغوث: هو القطب حينما يلجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً) .

ولذلك ترى هؤلاء القبورية الوثنية يسمون آلهتهم الباطلة أغواثاً، لاعتقادهم أنهم يغيثون المضطرين المكروبين المستغيثين بهم.

قلت:

إن من الواقع الملموس والشاهد المحسوس: أن عامة القبورية إنما يدعون الأموات * ويطلبون منهم المدد والنصر عند نزول الملمات ومس الحاجات وحدوث الكربات *.

ص: 1395

ولقد سبق عدة نصوص لعلماء الحنفية على أن القبورية أعظم عبادة وأشد تضرعاً وانكساراً وأكثر خضوعاً وذلاً للأموات * عند الاستغاثة بهم لدفع الكربات * - منهم في المساجد وأوقات الأسحار لخالق الكائنات *.

فكيف يقال: إن الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات * - ليست من العبادات؟ !! .

وسبق أيضاً عدة نصوص لعلماء الحنفية:

على أن القبورية في باب الاستغاثة بالأموات - أعظم شركاً من الوثنية الأولى، فكيف يقال: إن الاستغاثة بالأموات لدفع البليات * - ليست من الإشراك بخالق البريات *؟ !! فمن زعم أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات * ليست من العبادات، وليس من الإشراك بخالق البريات * - فهو أجهل من أبي جهل بالله سبحانه، وبحقوقه جل وعلا.

17 -

((الدعاء)) :

وأما ((الدعاء)) - فهو مصدر ((دعا)) ((يدعو)) وهو لغة يأتي لعدة معان ذكرها علماء الحنفية:

1) النداء: يقال: دعوت فلاناً وبفلان: ناديته وصحت به.

2) السؤال: دعوت فلاناً: سألته.

3) الاستغاثة: دعوت فلاناً: استغثته، والدعاء: الغوث، فالدعاء:

ص: 1396

النداء والاستغاثة.

4) والطلب: دعوت فلاناً: استدعيته، وطلب جلب النفع ودفع الضر.

5) الحث على فعل الشيء والدعوة إليه: دعا إليه: طلبه إليه.

6) السوق: يقال: دعاه: ساقه إلى الأمير.

7) التسمية: يقال: دعوت الولد زيداً، أو بزيد: إذا سميته بهذا الاسم.

8) الجعل: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88] : أي جعلوا.

9) العبادة: يطلق ((الدعاء)) ويراد به ((العبادة)) .

10) رفعة القدر، ورفع الذكر.

و ((الدعاء)) في الاصطلاح الشرعي: اسم لجميع العبادة والاستعانة، فالدعاء الاصطلاحي نوعان: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.

أما النوع الأول: وهو دعاء العبادة - فمعناه:

(الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي) .

وأما النوع الثاني: وهو دعاء المسألة - فمعناه:

ص: 1397

(المسألة، والطلب بالصيغة القولية) .

فالدعاء على هذا: (الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ومنه قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]

) .

تعريف آخر للدعاء وهو: (استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه) .

تعريف آخر للدعاء وهو: (سؤال الله تعالى والاستعانة به في الشدائد وطلب إنجاح الحوائج وكشف المشكلات - معتقداً بأنه مالك للنفع والضر بلا حاجة إلى سبب) .

قلت:

معنى ((دعاء العبادة)) بعبارة أوضح: هو العبادة نفسها، فيكون ((الدعاء)) و ((العبادة)) اسمين مترادفين لمسمى واحد.

أما ((دعاء المسألة)) فمعناه: النداء والاستمداد والاستنصار والاستغاثة لدفع الضر وجلب النفع، قولاً وسؤالاًَ وطلباًَ باللسان، ثم دعاء المسألة - فوق الأسباب - مخ العبادة، فإذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء

ص: 1398

العبادة)) - يكون ((الدعاء)) بعينه ((العبادة)) ، وهما شيء واحد؛ كالأسد، والغضنفر، وغيرهما من المترادفات.

وأما إذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء المسألة)) - فإن كان فيما فوق الأسباب - يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة، وفرداً من أفرادها، وجزيئاً من جزيئاتها؛ فيكون دعاء غير الله شركاً في العبادة، بل أمّا للشرك؛ لأن ((العبادة)) أمر كلي شامل لعدة من الجزئيات التي تندرج تحتها، ومن تلك الجزئيات ((دعاء المسألة)) ؛ فيكون ((دعاء المسألة)) خاصاً وأخص من ((العبادة)) التي هي أمر عام وأعم، فتكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقاً:

ص: 1399

بأن يكون الدعاء أخص مطلقاً، والعبادة أعم مطلقاً.

وأن كل دعاء عبادة ولا عكس.

قلت:

حاصل هذه المباحث اللغوية والاصطلاحية الشرعية التي ذكرها علماء الحنفية - هو إثبات أن دعاء الأموات * ونداءهم عند الكربات * والطلب منهم لإزالة المشكلات * والاستغاثة بهم لجلب المنافع ودفع المضرات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات * والاستمداد منهم عند نزول الكربات - نوع من أعظم أنواع العبادات؛ فيكون شركاً من أكبر أنواع الإشراك بالله تعالى؛ فبطلت شبهة القبورية، وراحت أدراج الرياح.

الجواب الثاني:

بإثبات ورود لفظ ((الدعاء)) بالمعنيين السابقين.

لقد صرح علماء الحنفية بأن لفظ ((الدعاء)) قد ورد في الكتاب والسنة بمعنى ((السؤال)) تارة، وبمعنى ((العبادة)) أخرى.

ص: 1400

أما ورود الدعاء بمعنى السؤال، والنداء، والطلب، والاستغاثة، من الكتاب:

1 -

فكقوله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]- قد فسر بدعاء المسألة.

2 -

وقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 41] .

3 -

وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]- قد فسر بدعاء المسألة، أي الاستغاثة.

فقد قال الإمام ولي الله وغيره من علماء الحنفية مستدلين بهاتين الآيتين:

إن المراد من الدعاء فيهما: هو الاستعانة، لا العبادة؛ لأن المشركين كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم، فرد الله تعالى عليهم وأمرهم أن لا يدعوا إلا إياه.

4 -

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] .

5 -

وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] .

6 -

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] .

ص: 1401

قال العلامة شكري الآلوسي في الاستدلال بهذه الآيات على أن الدعاء فيها دعاء المسألة:

الدعاء في هذه الآيات دعاء المسألة حال الشدة والضرورة، لمناسبة الحال والضرورة، وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غيره - على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك.

7 -

وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] .. فالدعاء ههنا: النداء والاستغاثة. أي دعاء المسألة.

وقد ساق بعض علماء الحنفية عدة آيات غير ما ذكر لتحقيق أن ((الدعاء)) هو السؤال والنداء والاستغاثة لدفع الكربات * والاستمداد والاستنصار والطلب لجلب الخيرات *.

وأن الدعاء بهذا المعنى نوع من أنواع العبادة، بل من أعظم أنواعها وأجلها، وأن دعاء الأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات من أعظم أنواع الشرك وأكبرها:

9 -

كقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] .

ص: 1402

10 -

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] .

11 -

وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] .

12 -

وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] .

13 -

وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] .

14 -

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] .

15 -

وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] .

16 -

17- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ) [فاطر: 13-14] .

18 -

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] .

19 -

20- وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72-73] .

21 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] .

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ((الدعاء)) نداء، وطلب،

ص: 1403

واستغاثة عند الكربات * وأنه من أعظم أنواع العبادات وأجلها، وأن نداء الأموات من أكبر الشركيات *.

والمقصود: أن أهل العلم يستدلون بهذه الآيات التي فيها الأمر بدعاء الله وحده، والنهي عن دعاء غيره سبحانه - على المنع من سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه؛ فكيف يصح زعم القبورية: أن المراد من ((الدعاء)) في هذه الآيات - هو الدعاء، بمعنى العبادة التي هي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، لا الدعاء بمعنى السؤال، والطلب، والاستعانة، والاستغاثة.........؟

وأما ورود ((الدعاء)) بمعنى السؤال، والطلب في السنة:

فكقول الله فيما يرويه عليه الصلاة والسلام: (( «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه» ....)) .

وأما ما ورد في الكتاب والسنة من احتمال لفظ ((الدعاء)) للمعنيين: ((العبادة)) ، و ((الاستعانة)) .

1 -

فكقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .

فالدعاء في هذه الآية يحتمل المعنيين:

الأول: ((العبادة)) : فمعنى ((ادعوني)) : (اعبدوني وأطيعوا أمري) .

ص: 1404

ومعنى ((أستجب لكم)) : (أثبكم) .

والثاني: ((السؤال والطلب)) : فيكون معنى ((ادعوني)) : (استغيثوني إذا نزل بكم ضر) و (سلوني) .

ومعنى ((أستجب لكم)) : (أعطكم) .

2 -

وكقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) .

فقد فسر هذا الحديث بكلا النوعين من الدعاء: ((العبادة)) ، و ((السؤال)) .

الحاصل:

أنه قد تبين من تحقيق علماء الحنفية في ضوء الكتاب والسنة:

أن ((الدعاء)) يرد بمعنى ((العبادة)) - وهذا نزر قليل جداً، وحينئذ تكون ((الاستغاثة)) نوعاً من أنواع الدعاء الذي هو بمعنى ((العبادة)) .

ويرد بمعنى ((النداء، والطلب، والسؤال، والاستغاثة، والاستعانة)) وهذا الاستعمال أكثر في القرآن والسنة، وأغلب وأظهر وأصرح * وأقرب وأوفر وأوضح *.

وحينئذ يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة، بل من أفضل أنواعها وأجلها * ومخها ولبها *.

ص: 1405

فمن دعا الأموات وناداهم واستغاث بهم عند الكربات * فقد عبد غير الله تعالى بأعظم أنواع العبادات * وأشرك أكبر أنواع الشرك بخالق الكائنات *.

الجواب الثالث:

أن ((الدعاء)) ، و ((العبادة)) بينهما تلازم، فأحدهما يستلزم الآخر، قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(والمقصود هنا: أن دعاء الله - قد يكون ((دعاء عبادة)) لله، يثاب العبد عليه في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا.

وقد يكون ((دعاء مسألة)) تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سبباً لضرر دينه، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله تعالى) .

وقال رحمه الله: (فإن ابتغاء الوسيلة إليه - هو طلب ما يتوسل - أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى، سواء كان على وجه العبادة، والطاعة، وامتثال الأمر [واجتناب النهي، وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة] .

أو كان على وجه السؤال له [سبحانه وتعالى] ، والاستعاذة به رغبة في جلب المنافع ودفع المضار [وهذا هو الدعاء بمعنى السؤال، والنداء، والطلب] .

ص: 1406

ولفظ ((الدعاء)) في القرآن [وكذا في السنة] يتناول هذا وهذا:

((الدعاء)) بمعنى ((العبادة)) ، و ((الدعاء)) بمعنى ((المسألة)) ، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة، فيكون مقصوده طلب حاجاته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال، والتضرع - وإن كان ذلك من العبادة، والطاعة.... ثم الدعاء، والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، ومحبته، والتنعم بذكره ودعائه - ما يكون أحب إليه وأعظم قدراً عنده من تلك الحاجة التي أهمته.... وقد يفعل العبد ابتداءً ما أمر به لأجل العبادة لله، والطاعة له، ولما عنده من محبة، وإنابة إليه، وخشية، وامتثال أمره - وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق، والنصر، والعافية) .

وقال رحمه الله: (إنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد.... ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، سميت به لتضمنها معنى الدعاء: دعاء العبادة والمسألة....) .

الجواب الرابع:

أن علماء الحنفية قد حققوا بالكتاب والسنة:

ص: 1407

أن ((الدعاء)) بمعنى النداء، والطلب، والسؤال، والاستمداد، والاستعانة، والاستغاثة فيما فوق الأسباب - من أعظم أنواع العبادة، وأجلها * ومخها، ولبها *.

أ- أما الكتاب:

1 -

فقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .

وقد سبق كلام علماء الحنفية - آنفاً - في تفسير هذه الآية على أحد الوجهين:

أن معناها: استغيثوني إذا نزل بكم الضر واسألوني، أعطكم وأغثكم.

ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (عن دعائي) .

قلت:

لقد صرح كثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية: بأن إطلاق ((العبادة)) على ((الدعاء)) - * لأجل أن ((الدعاء)) مخ العبادة ولبها * ومن أعظم أنواعها، وأجل أفرادها *.

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وغيره من علماء الحنفية،

ص: 1408

واللفظ للأول:

(وجوز أن يكون المعنى: ((اسألوني أعطكم)) - وهو المروي عن السدي.

فمعنى قوله تعالى: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} -: (يستكبرون عن دعائي) ، لأن الدعاء نوع من العبادة، ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر، والحاكم وصححه، عن ابن عباس أنه قال:(( «أفضل العبادة الدعاء» )) ، وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه؛ لأن ذلك عادة المترفين المسرفين، وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع ((العبادة)) صلة الاستكبار - ما يؤذن بأن ((الدعاء)) باب من أبواب الخضوع؛ لأن ((العبادة)) خضوع، ولأن المراد بالعبادة ((الدعاء)) ، والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتي به لم يكن مستكبراً....

وهذا الوجه [أي جعل الدعاء بمعنى السؤال، وجعل العبادة ههنا بمعنى الدعاء]- أظهر بحسب اللفظ، وأنسب إلى السياق؛ لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر -

ص: 1409

جعل ((الدعاء)) وتسليم آياته من الخضوع؛ لأن الداعي له تعالى، الملتجئ إليه عز وجل لا يجادل في آياته

) .

2 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] .

لقد استدل بهذه الآية الكريمة كثير من علماء الحنفية، منهم الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري - على أن الاستغاثة بالأموات شرك؛ لأنها عبادة لغير الله تعالى، بدليل قوله تعالى:{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ؛ وأن القبورية قد عبدوا الأموات بسبب استغاثتهم بهم عند الملمات من حيث لا يشعرون.

ب- وأما السنة:

1 -

فقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) ، ثم قرأ الآية؛

ص: 1410

فقد استدل بهذا الحديث جمع من علماء الحنفية على أن ((الدعاء)) - بمعنى النداء والاستعانة، والاستمداد، والاستغاثة - من أعظم أنواع العبادة وأجلها وأفضلها ومخها ولبها.

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب:

قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث، وكثير غيره من علماء الحنفية، واللفظ له:

(( ( «الدعاء هو العبادة» )) أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة، لدلالته على الإقبال على الله * والإعراض عما سواه *؛ بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه * قائماً بوجوب العبودية * معترفاً بحق الربوبية * عالماً بنعمة الإيجاد * طالباً لمدد الإمداد * على وفق المراد * وتوفيق الإسعاد *، ((ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ؛ قيل: استدل بالآية على أن ((الدعاء)) ((عبادة)) ؛ لأنه مأمور به، والمأمور به عبادة، وقال القاضي:

ص: 1411

استشهد بالآية لدلالتها على أن المقصود يترتب عليه ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب، ويكون أتم العبادات، ويقرب من هذا قوله:(( «مخ العبادة» )) .

أي خالصها.

وقال الراغب: ((العبودية إظهار التذلل، ولا عبادة أفضل منه، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى)) .

وقال الطيبي رحمه الله: ((يمكن أن تحمل ((العبادة)) على المعنى اللغوي:

ص: 1412

وهو غاية التذلل والافتقار والاستكانة، وما شرعت ((العبادة)) إلا للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ؛ حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار، ووضع:{عِبَادَتِي} موضع: (دعائي) ، وجعل جزاء ذلك الاستكبار الهوان والصغار)) .

قال ميرك:

أتي بضمير الفصل، والخبر المعرف باللام؛ ليدل على الحصر في أن ((العبادة)) ليست غير ((الدعاء)) مبالغة،

ص: 1413

ومعناه: ((الدعاء)) معظم ((العبادة)) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( «الحج عرفة» )) . أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، أو المعنى: أن ((الدعاء)) هو ((العبادة)) سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه، والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء، حتى يدخر لنفسه ويمنعه عن عباده، وهذه الأشياء هي العبادة، بل مخها....

2-

وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) .

ص: 1414

لقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث على أهمية الدعاء بمعنى النداء والطلب والاستعانة والاستغاثة، وأنه مخ العبادة ولبها، وأنه من أهم أنواع العبادة:

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في شرح هذا الحديث لتحقيق هذا المطلوب:

1 -

قال الحكيم الترمذي (320هـ) :

ص: 1415

(الأصل السابع والعشرون والمائة في بيان أن الدعاء لم صار مخ العبادة

إنما صار مخاً لها، لأنه تبري من الحول والقوة، واعتراف بأن الأشياء كلها له، وتسليم إليه، إن كان رزق، أو عافية، أو نوال، أو دفع عقاب، فمنه، إذا سأله فقد تبرأ من الاقتدار، والتملك، والحول، والقوة، والدعاء سؤال حاجة وافتقار، فإنما يظهر على القلب، ثم على اللسان، فما على القلب يسمى عبودة، وما على اللسان عبادة) .

2 -

4- وقال العلامة القاري (1014هـ) ، والشيخ عبد الحق الدهلوي (1052هـ)، والغورغوشتوي (1388هـ) واللفظ للأول:

(الدعاء مخ العبادة: أي لبها، والمقصود بالذات من وجودها، قيل: مخ الشيء خالصه، وما يقوم به كمخ الدماغ الذي هو نقيه، ومخ العين ومخ العظم شحمهما، والمعنى: أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء،

ص: 1416

كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ) .

5 -

وقال الإمام الفتني الملقب عند الحنفية بملك المحدثين (986هـ) :

(الدعاء مخ العبادة، لأنه امتثال أمر الله بقوله: {ادْعُونِي} [غافر:60] ، ولأنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده، وهذا أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء) .

6 -

وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية بحجة الله على العالمين، وحجة الهند (1176هـ) :

(ومنها الدعاء، فإنه يفتح باباً عظيماً من المحاضرة، ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) ....) .

7 -

وللعلامة شكري الآلوسي كلام مهم في شرح هذا الحديث وتحقيق أن الدعاء لب العبادة، ومن أجل أنواع العبادة، وأن الدعاء إيمان، أي من أعظم أعمال الإيمان.

ص: 1417

8 -

وللشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) كلام نحو هذا.

3 -

وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «أشرف العبادة الدعاء» )) .

قال الشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) في شرح هذا الحديث:

(أشرف العبادة: أي الأمور التي يظهر فيها المرء عبوديته وكونه عبد

ص: 1418

الله - فمن أشرفها الدعاء، أي ليس الدعاء إلا إظهار المرء فاقته والاستكانة إلى ربه.... إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله، والاستكانة له، ولذا جعل جزاء الاستكبار الصغار والهوان...... وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء - وجدنا الشارع قد شرع الدعاء في كل منها بما يوافق ذلك القصد، فصار الدعاء عبارة عن الأمرين: السؤال باللسان، والقصد بالجنان؛ لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد، فإذا صح هذا: فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة - وهو القصد القلبي، وترجمته اللسانية - لم يبق من العبادة إلا صورتها، ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه - أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك، ولهذا صح أن (( «الدعاء مخ العبادة» )) .

وهو معنى: أن الدعاء هو العبادة، على وزان قوله [صلى الله عليه وسلم] :(( «الحج عرفة» ))

) .

الحاصل:

أن علماء الحنفية قد حققوا في ضوء نصوص الكتاب والسنة أن نداء الأموات عند الملمات * والاستغاثة بهم من أعظم العبادات * وأن هؤلاء

ص: 1419

القبورية بسبب استغاثتهم بالأموات عند البليات * قد عبدوهم وأشركوهم بخالق الأرضين والسماوات *.

ولذلك قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري، بعد ذكر عدة آيات كريمات، منها: قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ.... وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] :

لقد تبين أن هذا النوع من الدعاء في الحقيقة نوع من أنواع العبادة، لأن الله تعالى قد بين أن هؤلاء المدعوين سيكفرون بعبادة هؤلاء الداعين، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(( «الدعاء مخ العبادة» )) ، فثبت أن دعاء هؤلاء القبورية ونداءهم الأولياء عند الكربات * واستغاثتهم بهم عند الملمات * أو زيارة قبورهم للاستعانة بهم - هو في الحقيقة عبادة من هؤلاء القبورية لهؤلاء الأولياء، وإن هم يزعمون أنهم يذهبون لزيارة قبورهم، ولا يعبدونهم، فهم قد عبدوهم وهم لا يشعرون.

قلت:

المقصود أنه قد ثبت بالكتاب والسنة ونصوص علماء الحنفية أن الدعاء والاستغاثة من أعظم أنواع العبادة ومخها ولبها،

ص: 1420

وأن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات والملمات * قد عبدوا غير الله، وأشركوا بخالق البريات * فبطل زعمهم: أن الدعاء ليس من العبادات.

الجواب الخامس:

أن علماء الحنفية حققوا: أن المشركين السابقين قد كانت عبادتهم لآلهتهم الباطلة - هي هذا الالتجاء إليهم، من الدعاء والنداء عند الملمات * والاستعانة بهم والاستغاثة عند الكربات * وأن إشراكهم بالله هو استغاثتهم بغير الله عند البليات * وأن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى، فكيف يصح زعمهم أن الدعاء ليس من العبادة؟ .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب، وبالله التوفيق:

1 -

2- قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) ، بعد تحقيق أن المشركين لم يشركوا بالله في الخالقية، والرازقية، والربوبية، واللفظ للأول:

(فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم - التوكل عليهم، والالتجاء إليهم بشفاعتهم.... ومن تأمل بعين الاستبصار في الشفاعة المنفية أولاً - علم أن المقصود بنفي الشفاعة نفي الشرك: وهو أن لا يعبد إلا الله، والدعاء عبادة كما ورد، وقال سبحانه:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ؛ فلا يسأل غيره، ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة، ولا في

ص: 1421

غيرها.... فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقاً

ما كان فيها شرك، وتلك منفية مطلقاً، والشفاعة المثبتة ما يكون بعد الإذن يوم القيامة، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضى....

إذا تبين هذا - فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء والدعاء لأجل الشفاعة، معتقدين أنها المقربة لهم، فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء - أريقت دماؤهم، واستبيحت أموالهم...... فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها - عبادة لا تصلح إلا له عز وجل، وإنها من صرف حقوقه، ومن الشرك.

فإن قلت:

((إن المشركين كانوا يعبدونهم ونحن لا نعبدهم)) .

فالجواب:

أن عبادتهم هي هذا الالتجاء الذي أنت فيه، وكما أنك تدعو النبي صلى الله عليه وسلم....... وتدعو غيره ملتجئاً إليهم بطلب الشفاعة منهم - كذلك الأولون كانوا يدعون صالحين أنبياء ومرسلين * طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين * كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، فبهذا الالتجاء والتوكل على هذه الشفاعة والرجاء -

ص: 1422

أشركوا) .

3 -

4- وقالا أيضاً، واللفظ للثاني:

(ولئن قلت: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم مأذون له فيها)) .

فالجواب:

أنه صلى الله عليه وسلم الآن موعود بالشفاعة، ووعد الله حق، لكنها مشروطة بيوم القيامة، وأنها بعد إذن الله ورضاه عن المشفوع فيه، فلا تطلب منه الآن - ولو كانت تطلب منه الآن - لجاز لنا أن نطلبها أيضاً ممن وردت الشفاعة لهم، كالقرآن، والملائكة، والأفراط، والحجر الأسود، والصالحين - ولجاز لنا أن ندعوهم، ونلتجئ إليهم، ونرجوهم بهذه الشفاعة؛ إذ لا فرق بين الجميع في الثبوت والإذن - فنصير إذن والمشركين الأولين في طريق واحد، وحال واحد، ولم نفترق إلا بالأسماء الظاهرة، وقول كلمة التوحيد من غير عمل بما فيها ولا اعتقاد لحقيقتها، ولا يقدم على ذلك من له أدنى مسكة من عقل، أو فكرة فيما صح من النقل.

ص: 1423

ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون، وعرف كيف كان شركهم؟ وبماذا أرسل الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هو التوحيد؟ وما معنى الإله والتأليه؟ وتبصر في العبادات وأنواعها - تحقق له: أن هذا الالتجاء والتوكل والرجاء، بمثل طلب الشفاعة - هو الذي حورب من أجله الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات * مما لا يقدر على دفعه ورفعه إلا خالق الأرض والسماوات * وقد كان المشركون الأولون إذا وقعوا في شدة - {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، ومن فعل ذلك بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد جاوز حده * واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده * قال سبحانه:

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] .

إذا علمت هذا -

ص: 1424

ظهر لك قول العراقي [ابن جرجيس] :

((إن هذه الآية واردة في الأصنام)) الخ.

فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما نبه عليه الأصوليون، وإلا لتعطلت جميع المسائل، وكذا قوله [ابن جرجيس] :((فهي رد على الكفار لا على المسلمين)) الخ.

فإنا قد ذكرنا: أنه لا فرق بين الفعلين * ولا تغاير بين الصنيعين * فما يستوجبه أحدهما يستوجبه الآخر؛ فإنه سبحانه إذا ذم فعلاً ورتب عليه حكماً - لا يختص به فرد دون فرد، ولا شخص دون شخص) .

5 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققاً أن عبادة المشركين لآلهتهم - هي هذا الدعاء والالتجاء والنداء والاستغاثة:

(فالجواب عن هذه العبارة الركيكة، والكلام السخيف: قد سبق غير مرة، وذلك أن يقال: إن غالب عبدة الأصنام - لم تكن عبادتهم لها سوى ما ذكره العراقي، كما يدل على ذلك قوله سبحانه:

ص: 1425

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وغير ذلك من الآيات، فطلب ما لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، والنداء في الشدائد، والالتجاء، ونحوه من أي مخلوق كان - هو عين عبادة الأصنام * من غير فرق عند ذوي البصائر، والأفهام * والتفرقة بينهما من غير فارق * ومن فرق فهو زائغ مارق*) .

تنبيه: للعلامة الخجندي كلام - يأتي نصه - يصلح أن يكون جواباً سادساً، وهو وجه عقلي وجيه.

الشبهة العشرون:

شبهة التسمية:

تزعم القبورية أن المشركين السابقين كانوا يسمون آلهتهم أرباباً، ويسمون معاملتهم معهم عبادة، بخلافنا نحن، فنحن لا نسمي الأولياء أرباباً، ولا نسمي معاملتنا معهم عبادة، بل نتوسل بهم، ونستغيث بهم، وهذا ليس بعبادة.

وفي ذلك قال ابن جرجيس (1299هـ) :

(أولاً: أن المشركين الكفار اتخذوا من دون الله أولياء أي أرباباً....

ثانياً: أن الكفار يقولون: نعبدهم.

وأما التوسل، والنداء، فليس من العبادة عند جميع المسلمين، لا

ص: 1426

لغة، ولا شرعاً، ولا عرفاً) .

ومثله كلام لجميل صدقي الزهاوي العراقي (1354هـ) .

والجواب: أن الحقائق لا تتغير بتغيير الأسماء، فالعبرة للحقائق الثابتة الواقعة، لا للأسماء، فالخمر خمر وإن غير اسمها، والزنى زنى وإن غير اسمه باسم مزخرف.

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لإبطال هذه الشبهة:

1 -

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد نقله قول ابن جرجيس العراقي (1299هـ) السابق:

(وأما قول العراقي:........ فقد أراد به التفرقة بين الفريقين:

أعني هو وأضرابه المغالين في خلص عباد الله، والمشركين.

ص: 1427

وحاصل ما فرق به:

أن المشركين كانوا يسمون أولياءهم أرباباً، وهؤلاء لا يسمونهم بهذا الاسم.

وأن معاملتهم مع أوليائهم كانوا يسمونها عبادة، وهؤلاء لا يسمون استغاثتهم بالصالحين وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، ونداءهم في الملمات، ودفع الشدائد، والالتجاء إليهم، والنذر لهم، والحلف بهم - لا يسمون ذلك عبادة...... وهذا كله باطل، قاده إليه سوء فهمه، واتباعه لهواه، وبدعته، فإنه قد سبق أن الرب وضع للمعبود، كما وضع للمالك، والمربي، والخالق، وكذا لا يلزم أن لا يكون العمل عبادة إلا بالتسمية، فمن سجد لآخر - فقد اتخذه ربا وعبده، وإن لم يسم سجوده عبادة والمسجود له رباً، كما أسلفنا ذلك.

وقد مر أيضاً مراراً عديدة: أن من العبادة طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحو ذلك من خصائص الألوهية، والعبادة ليست منحصرة في الركوع والسجود) .

2 -

وقال رحمه الله محققاً أن العبرة بالمسميات لا بالتسمية:

(وأما قوله:...... -

فمما يضحك الثكلى، بل لا تجد له معنى ولا محصلاً، وكأن مراده: أن الأفعال الشركية لا تكون شركاً - ما لم يسمها فاعلها عبادة،

ص: 1428

فيلزم أن لا يكون السجود مثلاً لغير الله تعالى شركاً - ما لم يسمه الساجد عبادة، (( {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} )) .

وقد صرح العلماء بأن المسميات ليست تابعة للأسماء، فالذهب مثلاً ذهب وإن سميناه رصاصاً، أو لم نسمه باسم) .

3 -

وقال رحمه الله أيضاً، مبيناً أن لا عبرة للأسماء، وإنما العبرة للحقائق والمسميات:

(قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ؛ فسجل على من أمر بدعاء الصالحين والاستعانة بهم - بالجهالة، سواء سمى ذلك توسلاً وتشفعاً واستنصاراً أو كرامة، أو لم يسمه) .

4 -

وقال الإمام محمد البركوي (981هـ) مبيناً أن العبرة للحقائق والمسميات، مبطلاً شبهات القبورية في الأسامي:

(فالمعرض عن التوحيد مشرك وكافر، شاء أم أبى. والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى) .

5 -

وقريب منه كلام للإمام أحمد الرومي (1043هـ) .

6 -

7- والشيخين: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي.

ص: 1429

8 -

9- وقد سبق قريباً كلام الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) وتبعه الشيخ المظفري:

أن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات - يعبدونهم من حيث لا يشعرون، وإن هم يقولون: لا نعبدهم.

10 -

وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققاً أن محاولة تغيير الحقائق والمسميات والمصطلحات - بتغيير أسمائها - مكيدة من مكائد الشيطان التي أدخل بسببها الشرك على القبورية في قوالب شتى مزينة، وأسماء مزخرفة:

(نحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحد أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم - بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم يقيناً أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من أعظم مكائد الشيطان على بني آدم قديماً وحديثاً - إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين، وتوقيرهم، بتغيير اسمه بالتوسل والتشفع، ونحوه، فالمشرك مشرك، شاء أم أبى،

ص: 1430

والزنى زنى، وإن سمي جماعاً، والخمر خمر وإن سمي شراباً، وكل معبود من دون الله - فهو جبت وطاغوت، ويدخل فيه رءوس الضلال، والكهان، وسدنة الأوثان، إلى عباد القبور، وغيرهم - بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة أن المقبور يقضي حاجة من توجه إليه وقصده - فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه * نعوذ بالله منه وطابعه *) .

11 -

وقال رحمه الله أيضاً، محققاً أن الحقائق والمسميات - لا تتغير بتغير الأسماء، مع تحقيق أن ((نداء الأموات)) عبادة:

(اعلم: أن كثيراً من الناس يسمون أنفسهم: ((موحدين)) ، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين:

من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، ولكنهم لا يسمون أعمالهم هذه:((عبادة)) ، فيفسدون في اللغة، كما يفسدون في الدين، وقد يسمونها:((توسلاً)) ، و ((شفاعة)) ، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله:((شركاء)) ، ولكنهم لا يأبون أن يسموهم:((أولياء)) ، و ((شفعاء)) ، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق، لا على الأسماء،

ص: 1431

ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله، ونداؤه - لقضاء الحاجات * وتفريج الكربات * - لكفى ذلك عبادة له، وشركاً بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( «الدعاء مخ العبادة» )) ، رواه أبو داود، والترمذي، وهذا يفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن ((العبادة)) بـ ((الدعاء)) - في أكثر الآيات الواردة في ذلك - يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم: أن ((الدعاء)) هو: ((العبادة)) الحقيقية الفطرية - التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس، ولا سيما عند الشدة، وأما ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان - فكله أو جله، تعليمي تكليفي، يفعل بالتكليف، والقدوة، وقد يكون في الغالب خالياً عن الشعور - الذي به يكون القول، أو العمل:((عبادة)) ، وهو الشعور بالسلطة الغيبية - التي هي وراء الأسباب العادية، أما ترى إلى حافظ الأدعية الراتبة - يحرك بها لسانه - وقلبه مشغول بشيء آخر،

ص: 1432

وإنما العبادة جد العبادة: في الدعاء - الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب، وقرارة النفس، وهذا الدعاء الخالص - الذي يغشاه جلال الإخلاص) . [ولذا نقول: إنه هو العبادة ومخها ولبها] .

قلت:

لقد تبين للقراء الكرام بعد اطلاعهم على تحقيقات علماء الحنفية وجهودهم وأجوبتهم عن شبهات القبورية - التي تشبثوا بها لدعم وثنيتهم، وجواز استغاثتهم بالأموات * عند الكربات لدفع المضرات وجلب الخيرات *.

أن القبورية لا يمكن لهم الآن أن يخوفوا أحداً من أهل التوحيد بشبهاتهم التي هي أوهن من بيت العنكبوت * الذي لا قرار له، ولا له شيء من الثبوت * وتبين أن شبهاتهم كصرير باب * أو كطنين ذباب *.

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضيرني؟

وستعلم القبورية أيضاً أن علماء الحنفية قد حاسبوهم حساباًَ شديداً، حيث كشفوا الأستار عن أسرارهم، وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم، وحققوا أنهم في استغاثاتهم بالأموات وثنية على دين الوثنية الأولى، وبهذه المناسبة أتمثل بالبيت الآتي:

ستعلم ليلى أي دين تدينت

وأي غريم في التقاضي غريمها

وستعرف القبورية أن أهل التوحيد الذين ينبزونهم بالوهابية ليسوا وحدهم، رادين على القبورية.

ص: 1433

فلست وحيداً يا ابن حمقاء فانتبه

ورائي جنودي كالسيول تدفق

وبعد ما عرفنا بطلان أهم شبهات القبورية في باب الاستغاثة - ننتقل إلى الباب الآتي في التوسل، لأن توسل القبورية في الحقيقة استغاثة بغير الله، وبذلك يستوفى الرد على القبورية في الاستغاثة بالأموات عند الكربات، فنقول وبربنا الرحمن المستعان نستعين *وعليه التكلان وبه نستغيث إذ هو المعين *:

*****

ص: 1434

الباب التاسع

في جهود علماء الحنفية في إبطال

شبهات القبورية في التوسلات الشركية والبدعية

وفيه فصول ثلاثة:

- الفصل الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية.

- الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل، الشرعية منها والقبورية، وإبطال التوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية.

- الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في توسلاتهم الشركية والبدعية.

ص: 1435

الفصل الأول

في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية.

وفيه مطالب ثلاثة:

- المطلب الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة.

- المطلب الثاني: في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية.

- المطلب الثالث: في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم.

ص: 1437

المطلب الأول

في تعريف التوسل والوسيلة لغة

لقد ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في المباحث السابقة في إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله تعالى.

وحققت على لسان علماء الحنفية: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات مرتكبون للشرك برب البريات.

بل واقعون في أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات، وأنهم أشد وأشنع وأبشع شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثات.

وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خشوعاًَ وخضوعاً وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق الأرضين والسماوات في المساجد والأسحار من الأوقات.

وبهذه التحقيقات والمقارنة التي قام بها علماء الحنفية تحقق أن القبورية فرقة مشركة وثنية. ولما كان توسل القبورية من جنس استغاثتهم بالأموات، ناسب الكلام عليه عقب باب الاستغاثة. لذا عقدت له في هذا الباب.

ويقتضي وضع هذا الباب أن يكون مشتملاً على فصول ثلاثة.

أما الفصل الأول ففيه مطالب ثلاثة:

ص: 1439

أتولى فيها الكلام على التوسل لغة، واصطلاحاً، وأميز بين أنواع التوسل الشرعي، وبين أنواع التوسل الشركي البدعي. وأذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال التوسل القبوري. كما أذكر بعض جهودهم في إبطال شبهات المتوسلين بالأموات.

فأقول وبربي أستغيث وأستعين، إذ هو المستغاث المغيث، المستعان المعين:

أ- التوسل لغة: ((التوسل)) تفعل من مادة ((وس ل)) وله معان ثلاثة:

الأول: التقرب إلى الشيء بشيء: بعمل، أو كتاب، أو قرابة، أو سبب آخر.

فالتوسل: هو التقرب إلى شيء بوسيلة أيا كانت.

وبلفظ آخر: التوسل: هو ابتغاء الوسيلة ليتقرب بها إلى شخص آخر، للحصول على مطلوبه منه بسببها.

الثاني: الشفاعة: يقال: شفعت: إذا كنت متوسلاً له.

الثالث: السرقة: يقال: أخذ فلان إبل فلان توسلاً: أي سرقة خفية.

ص: 1440

قلت: يمكن أن يرجع المعنيان: الثاني والثالث إلى الأول، لأن الشفاعة أيضاً وصول إلى المطلوب بسبب، وأخذ فلان إبل فلان توسلاً أيضاً، حصول لهذا المطلوب بنوع من السبب الخفي.

الحاصل: أن ((التوسل)) مصدر من باب ((التفعل)) .

وباب ((التفعل)) له عدة معان، منها ((الاتخاذ)) ، نحو ((توسد الحجر)) فمعنى ((التوسل)) اتخاذ الوسيلة إلى الشخص لحصول المطلوب منه.

ب- ((الوسيلة)) لغة: إذا كان التوسل: هو اتخاذ الوسيلة، وابتغاؤها، فما معنى الوسيلة؟ .

والجواب أن الوسيلة لها عدة معان أذكر بعضها:

1 -

التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من ((الوصيلة)) لتضمنها لمعنى الرغبة.

2 -

كل ما يتوصل به إلى الشيء وما يتقرب به إلى الآخر.

ص: 1441

3 -

القربة.

4 -

الرغبة.

5 -

الحاجة.

قلت: من شواهد هذا المعنى للوسيلة قول عنترة بن شداد:

إن الرجال لهم إليك وسيلة

إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

ص: 1442

فقد استشهد به السيوطي (111هـ) وغيره لكون الوسيلة بمعنى الحاجة.

ولكن جعله الإمام ابن جرير الطبري (310هـ) وغيره شاهداً لكون الوسيلة بمعنى القربة.

واضطرب صنيع بعض الفضلاء فذكره شاهداً للمعنيين: (الحاجة والقربة) .

قلت: لا يصلح هذا البيت شاهداً لكون الوسيلة بمعنى ((القربة)) لأن الشاعر يقصد (مخاطباً زوجه منكراً على إنكار زوجه على اهتمامه بمهره) : أنه دائماً يهتم بتربية مهره ليكون مستعداً لدفع هجوم أعدائه، لأنهم إن أسروه استخفوا به، ويمشي على أقدامه، وإن أسروها يكرموها ويركبوها، لأن لهم حاجة ماسة إليها وهي أيضاً ستكتحل لهم وتتخضب لتتزين لهم، بحكم الأنوثة، كما يدل على كل ذلك قصيدته التي منها هذا البيت.

6 -

المحبة.

7 -

الطلب.

ص: 1443

8 -

المسألة.

قلت: ((المسألة)) و ((الطلب)) و ((الحاجة)) بمعنى واحد.

9 -

القربى.

10 -

الوصلة.

قلت: يمكن رجوع ((القربى)) إلى ((القربة)) وكذا ((الوصلة)) .

11 -

المنزلة عند الملك.

12 -

الدرجة.

قلت: هذا المعنى أعم من الذي قبله.

13 -

الذريعة والسبب.

قلت: يمكن رجوع هذا المعنى إلى الأول.

14 -

وكيل الرجل.

وغيرها من معاني الوسيلة.

أقول: يظهر من كلام أهل اللغة: أن ((الوسيلة)) قد يراد بها المعنى الاسمي، نحو:

ص: 1444

((الحاجة)) ، و ((المنزلة)) ، و ((القرابة)) ، و ((الوكيل)) ، و ((كل ما يتوسل به إلى المقصود)) .

وقد يراد بها المعنى المصدري، نحو:

((المحبة)) ، و ((الرغبة)) ، و ((الطلب)) ، ونحو ذلك.

هذه كانت عدة معان لغوية للوسيلة، ذكرتها عن علماء الحنفية وغيرهم، وبعد هذا أنتقل إلى معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية.

*****

ص: 1445

المطلب الثاني

في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية

لقد سبق أن ذكرت معاني التوسل والوسيلة اللغوية عن علماء الحنفية وغيرهم.

وفي هذا المطلب أذكر معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية.

فأقول وبالله التوفيق:

لقد صرح علماء الحنفية بأن الوسيلة في شرع الله تعالى هي القربة إلى الله عز وجل، وما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.

أقول: ((القربة)) إلى الله عز وجل معنى مصدري للوسيلة.

و ((ما يتقرب به إلى الله سبحانه)) معناها الأسمى.

والمناسبة بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي للوسيلة - أن المعنى اللغوي أعم مطلقاً، وأن المعنى الاصطلاحي أخص مطلقاً، فيكون معناها الاصطلاحي فرداً من أفراد معناها اللغوي، وإذا ثبت

ص: 1447

أن ((الوسيلة)) الشرعية إنما هي: ((القربة)) أو ((ما يتقرب به)) ، ولكن لا مطلقاً؛ بل إلى الله جل وعلا - فيكون معنى ((التوسل)) اتخاذ ((القربة)) ، و ((ابتغاؤها)) ، و ((اتخاذ)) ((ما يتقرب به)) و ((ابتغاؤه)) ، ولكن لا مطلقاً، بل إلى الله سبحانه وتعالى.

ثم المراد من ((القربة)) إلى الله تعالى، واتخاذ ((القربة)) وابتغاؤها، ليس مطلقاً أيضاً.

بل المراد من ((القربة)) إلى الله سبحانه وتعالى، واتخاذ ((القربة)) وابتغائها إليه جل وعلا - ((القربة)) و ((ابتغاؤها)) إليه سبحانه بما يرضيه، وذلك لا يمكن إلا بطاعته: من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وذلك بفعل الطاعات، وترك السيئات، فهذا مسمى ((الوسيلة)) ومصداقها.

فالتوسل الاصطلاحي الشرعي - هو التقرب إلى الله عز وجل بفعل الطاعات، وترك المنكرات.

هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع، وبيان مسماها ومصداقها.

****

ص: 1448

المطلب الثالث

في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم

لقد ذكرت خلاصة مذهب علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في شرع الله تعالى.

وبيان مصداقهما، ومسماهما:

أن ((الوسيلة)) هي القربة إلى الله عز وجل بما يرضيه، وأن ((التوسل)) هو التقرب إلى الله جل وعلا بما يرضاه، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

ولكن القبورية شذوا فأدخلوا في مفهوم ((الوسيلة)) و ((التوكل)) الاستغاثة بالأموات، لرفع الكربات وجلب الخيرات، وقد سبق أن ذكرت عقيدة القبورية في الاستغاثة والتوسل بالأموات على وجه التفصيل، فلا حاجة إلى الإعادة.

ولكن أذكر ما لا بد من ذكره ههنا لعرض مذهب القبورية في التوسل بالأموات، في عدة من الفقرات والكلمات، فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المعين وهو المغيث:

ص: 1449

1 -

قول عامة القبورية: إن الاستغاثة والتوسل شيء واحد، قالوا:(واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التجوه أو التوجه، لأنهما من الجاه، والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه.......) .

2 -

قول القبورية: إن ((الباء)) في ((المستغاث به)) ، و ((المتوسل به)) للاستغاثة، فالتوسل عندهم نوع من الاستغاثة والاستعانة.

قال السبكي (756هـ) وتبعه آخرون من خلطائه القبورية: (وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، وتارة يطلب الغوث من خالقه، وهو الله وحده.....، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذين القسمين تعدى الفعل تارة بنفسه

، وتارة بحروف الجر...... فيصح أن يقال: استغثت النبي صلى الله عليه وسلم، واستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه - على النوعين السابقين في التوسل، من غير فرق، وذلك في حياته، وبعد مماته

فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم له معنيان:

أحدهما: أن يكون مستغاثاً.

والثاني: أن يكون مستغاً به، ويكون الباء للاستعانة.

ص: 1450

فقد ظهر إطلاق ((الاستغاثة)) ، و ((التوسل)) جميعاً....) .

3 -

أحوال جواز التوسل عند القبورية.

لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى: من الأنبياء والأولياء الأحياء والأموات.

4 -

بل سبق أنهم يرجحون التوسل بمعنى الاستغاثة بالأموات، على التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بالأحياء.

5 -

أنواع التوسل عند القبورية:

الأول: أن يدعوا الله تعالى بذات الميت، أو ببركته، أو بحرمته، أو بحقه، أو بجاهه، ونحو ذلك؛ نحو: اللهم إني أسألك بوليك فلان.

الثاني: أن يطلب من الميت الشفاعة عند الله في قضاء حاجته، بأن يقول للميت: يا فلان! ادع الله لي: أن يرد علي بصري.

الثالث: أن يطلب من الميت حاجته نفسه، ونحو ذلك بأن يقول للميت: يا فلان! رد علي بصري، واقض حاجتي، واشف مريضي، ونحو ذلك.

6 -

ألفاظ التوسل عند القبورية: لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل والاستغاثة بالأموات، بأنواع من الألفاظ والكلمات وشتى التعبيرات.

فقالوا: يجوز بلفظ الاستغاثة، والتوسل، والتشفع، والتجوه،

ص: 1451

والتوجه. فهذه خمس كلمات.

الكلمة السادسة: أن يقول: بفلان؛ فقد قال السبكي (756هـ) :

(يسأل الله تعالى به

) .

الكلمة السابعة: أن يقول: بذات فلان.

الكلمة الثامنة: التوسل ببركة فلان؛ فقد صرح به السبكي (756هـ) وغيره.

الكلمة التاسعة: التوسل بحرمة فلان.

الكلمة العاشرة: التوسل بشرف فلان.

الكلمة الحادية عشرة: التوسل بقرب فلان.

الكلمة الثانية عشرة: التوسل بحق فلان.

ص: 1452

إلى غيرها من ألفاظ التوسل عند القبورية.

الكلمة الثالثة عشرة: التوسل بوجه فلان.

الكلمة الرابعة عشرة: التوسل بروحانية فلان.

إلى غيرها من ألفاظ التوسل البدعي القبورية.

7 -

الحاصل: أن القبورية قد أدخلوا في مفهوم التوسل الاستغاثة بالأموات، التي ليست بشرك فحسب، بل أم لعدة أنواع من الإشراك بخالق الأرض والسماوات.

وحرفوا دين الله أشنع التحريفات بأبشع التبديلات، وغيروا المصطلحات الشرعية بما هو عين الوثنيات، وفسروا بتوسلاتهم البدعية نصوص الكتاب والسنة، وادعوا إجماع السلف والخلف، فافتروا على أئمة الأمة، بل تقولو على الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين.

قال السبكي (756هـ) وتبعه خلطاؤه القبورية إلى يومنا هذا: (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى.

وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان.

ص: 1453

حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار. وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار.

وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوكل، قول لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الإسلام مثله....) .

وقال البروسوي القبوري الحنفي، الإسلامبولي

ص: 1454

الجلوتي الاتحادي الصوفي، (1127هـ)، أو (1137هـ) في تفسير الوسيلة ومسماها:

(الوسيلة علماء الحقيقة، ومشايخ الطريقة) .

قلت: هذه كانت عقيدة القبورية في التوسل والوسيلة وأنواعها، الشركية والبدعية.

وبعد هذا أنتقل إلى الفصل الثاني؛ لنعرف أنواع التوسل الشرعية، وأنواعه القبورية عند علماء الحنفية *.

كما نعرف جهودهم في إبطال توسلات القبورية، الشركية منها والقبورية *.

* والله المغيث والمستعان * وهو المعين وعليه التكلان *

****

ص: 1455

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية

في بيان أنواع التوسل، الشرعية منها والقبورية

وإبطال التوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية

وفيه مطالب ثلاثة:

- المطلب الأول: في بيان أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية.

- المطلب الثاني: في بيان أنواع التوسل القبوري الشركي والبدعي عند علماء الحنفية.

- المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لتوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية.

ص: 1457

المطلب الأول

في أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية

لقد سبق أن ذكرت معنى التوسل لغة، ومعناه الاصطلاحي عند علماء الحنفية، ومعناه عند القبورية.

كما ذكرت أنواع التوسل وكلماته عند القبورية، وفي هذا الفصل سأذكر جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل الشرعي، وأنواع التوسل الشركي والبدعي وإبطال توسلات القبورية.

أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية:

لقد حقق علماء الحنفية أن حقيقة التوسل الشرعي ومصداقها: هو التقرب إلى الله تعالى بفعل الطاعات، وترك السيئات، قال العلامة نقيب أحمد الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول عند الحنفية المعاصرة:

(اعلم أن حقيقة الوسيلة الشرعية، ومصداقها - أعني ما يكون ذريعة للوصول إلى الله تعالى والفوز بالنعم، والأمن من النقم - إنما هي اتباع أوامره والاجتناب عن نواهيه بعد الإيمان به واعتقاد أن له سلطة غيبية، وله الحكم وبيده الأمر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

ص: 1459

فحقيقة التوسل الشرعي ليست إلا عبادة الله وحده والأعمال الصالحة، فالتوحيد الاعتقادي والعملي هو حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى، وخلاصة ذلك لبه، ولله - هو اتباع سنة سيد المرسلين [صلى الله عليه وسلم] ) .

وقال حفظه الله: (وقال الراغب: حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، تفسير المنار 6\396، والتفسير الماجدي 251

) .

قلت: إذا ثبت أن حقيقة التوسل إلى الله تعالى عند علماء الحنفية هي التقرب إليه جل وعلا بفعل الطاعات وترك السيئات؛ فأقول: إن التوسل الشرعي إلى الله تعالى عند علماء الحنفية على عدة أنواع لا تخرج عن التوسل بالطاعات:

ص: 1460

الأول: التوسل بالطاعات مطلقاً.

قلت: هو أن يقول: اللهم إن كنت فعلت هذا لرضاك - فارحمني وأجب مسألتي، واشفني، واكشف كربتي واقض حاجتي، ونحو ذلك.

الثاني والثالث: التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.

قلت هو: أن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وغيرها من الأسماء الحسنى.

أو يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، وأسألك برحمتك وإحسانك وقدرتك، ونحوها من صفات الله العلي.

قلت: لقد سبق أن ذكرت تلك المقالة الحنفية المشهورة المستفيضة القاطعة للوثنية المؤيدة للحنفية، وهي مقالة الإمام أبي حنيفة وغيره من كبار أئمة الحنفية:(لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به) .

وقد سبق تفسير هذه المقالة بأن المراد: هو التوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.

الرابع: التوسل بالفقر والحاجة.

ص: 1461

قلت: ذلك أن يقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .

أو يقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك.

أو يقال: اللهم أنت الغني، ونحن الفقراء، فأنزل علينا الغيث.

أو يقال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.

أو يقال: اللهم أنت رب المستضعفين، ومغيث المضطرين.

أو يدعو ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] .

أو يقول: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] .

ونحو ذلك من إظهار الفقر والحاجة والتذلل إلى الله عز وجل.

الخامس: التوسل بالاعتراف بالذنب.

قلت: ذلك أن يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] .

أو يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .

أو يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .

السادس: التوسل بذكر وعد الله جل وعلا.

ص: 1462

كأن يقول: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] .

السابع: التوسل بدعاء الحي الحاضر.

(هو أن يطلب من أحد حي (حاضر) أن يسأل الله تعالى كشف كربته عنه، ودفع حاجته، وأمثلته كثيرة من القرآن والحديث، أذكر ههنا نبذة منها:

قال تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] ....) .

قلت: هذه أهم أنواع التوسل الشرعي عند الحنفية وأشهرها.

وإذا عرفنا أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية - ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف أنواع التوسل الشركي والقبوري عند علماء الحنفية.

* والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان *

*****

ص: 1463

المطلب الثاني

في بيان التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية

لقد ذكرت في المطلب السابق أشهر أنواع التوسل الشرعي وأهمها عند علماء الحنفية.

وبهذه المناسبة أذكر في هذا المطلب أنواع التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية، فأقول وبالله أستعين، إذ هو المغيث وهو المعين:

إن أحسن ما رأيته وأجمعه وأدقه من كلام علماء الحنفية في ذكر أنواع التوسل الشركي والبدعي، هو كلام العلامة الرباطي الملقب عند الحنفية المعاصرة بجامع المعقول والمنقول.

قال حفظه الله: (إلى هذا كان الكلام في تحقيق التوسل الشرعي، وأما القسم الذي نعبر عنه بالتوسل الغير الشرعي - فحان أن نشرع فيه؛

ص: 1465

فأقول وبالله التوفيق:

التوسل الغير الشرعي على أنحاء سبعة؛ حسبما وقع عليه عمل كثير من الناس المفتونين بالقبور والمشاهد:

النحو الأول: أن يأتي قبر نبي أو ولي أو غيرهما ممن يحسن عقيدته عليه، فيقول: يا سيدي فلان، اشفني، أو اشف مريضي، أو اكشف كربتي، واقض حاجتي، أو أهلك عدوي، وعليك أن تفعل كذا وكذا، وأنت وكيلي، وأنت كفيلي.

وغير ذلك من الألفاظ المختلفة باختلافهم.

والثاني: أن يدعو غائباً أو ميتاً من بعيد من غير الإتيان إلى قبره والحضور لديه بهذا النحو من الكلمات.

والثالث: أن يأتي القبر، ويقول: يا فلان! ادع الله أن يقضي حاجتي، واشفع لي في حاجتي هذه، فإنك مقبول الشفاعة، لا جائز أن يرد الله شفاعتك.

والرابع: أن يدعو غائباًَ أو ميتاً بعيداً عن القبر بهذا النحو من الدعاء.

ص: 1466

الخامس: أن يأتي القبر ويسأل الله وحده معتقداً أن الدعاء عند مزار الولي أقرب إلى الإجابة.

السادس: أن يدعو من غير شهود المقابر والمزارات: يا إلهي! اقض حاجتي بحق فلان، وفلان.

السابع: أن يقول في دعائه: بوسيلة فلان، أو ببركته، أو بخاطره، أو بطفيله، أو بحرمته، أو بجاهه، وغير ذلك مما يؤدي مراده.

فهذه جملة الأسماء التي يسميها عباد القبور بالتوسل - وينكرون أشد النكير على من أنكر عنها، وينسبونه إلى إنكار الوسيلة، وإنكار

ص: 1467

الكرامات، وتوهين الأولياء، وغير ذلك من المطاعن....) .

وللشيخ عبد السلام الرستمي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة الرادين على القبورية أيضاً كلام حسن في بيان أنواع التوسل الشركي والبدعي -.

الحاصل: أن هذه عدة أنواع التوسل الشركي والبدعي التي يرتكبها القبورية.

وأما حكمها عند علماء الحنفية فبيانه في المطلب الآتي:

ص: 1468

المطلب الثالث

في إبطال علماء الحنفية توسلات القبورية

لقد ذكرت أنواعاً من توسلاتهم الشركية والبدعية بأنحاء من الكلمات وفي عدة من الأوقات.

وذكرت في المطلب الثاني من هذا المبحث بيان علماء الحنفية لبعض أنواع التوسلات الشركية والبدعية التي ترتكبها القبورية.

وأذكر في هذا المطلب جهود علماء الحنفية في إبطال هذه التوسلات القبوريات ببيان أن بعضها من الوثنيات الفاضحات، وبعضها من البدع الواضحات.

فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المعين المستعان، وهو المستغاث المغيث:

لعلماء الحنفية في إبطال توسلات القبورية عدة وجوه، أذكر بعضها:

الوجه الأول: قول ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية.

لقد سبق أن ذكرت مقالة ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية، وعلى رأسهم أئمتهم الثلاثة على الإطلاق:

أبو حنيفة (150هـ) ، أبو يوسف (182هـ) ، ومحمد (189هـ) ، ثم

ص: 1469

بشر الكندي (238هـ) ، وعالم بن العلاء (286هـ) ، والحاكم الشهيد (334هـ) ، والقدوري (428هـ) ، وطاهر البخاري (542هـ) ، والمرغيناني (593هـ) ، وابن أبي العز (792هـ) ، والحلبي (956هـ) ، والبركوي (981هـ) ، والتمرتاشي (1004هـ) ، والقاوي (1014هـ) ، وشيخي زاده (1087هـ) ، والحصكفي (1088هـ) ، والطوري (1138هـ) ، وابن عابدين الشامي (1252هـ) وغيرهم.

مقالتهم: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، والدعاء

ص: 1470

المأذون فيه والمأثور به، ما استفيد من قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وكره قوله: بحق رسلك، وأنبيائك، وأوليائك، أو بحق البيت

) .

وقد سبق أيضاً شرح قولهم: ((إلا به)) بأن المراد: هو التوسل بذاته وأسمائه وصفاته، سبحانه وتعالى.

أقول: هذه المقالة لهؤلاء الأئمة الحنفية تقطع دابر القبورية المتوسلين بالأموات. وتبطل التوسل بحق فلان، والوجه، والجاه، والطفيل، والخاطر، والحرمة والشرف والبركات.

وإذا تبين بطلان التوسل بمثل هذه الكلمات بطل ما هو عين الاستغاثة بالأموات. لأنه إذا لم يجز أن يقول المرء في دعائه: اللهم اشفني بحق فلان أو ببركة فلان أو بحرمة فلان أو بجاه فلان مثلاً - فلا يجوز أن يقول: يا فلان الولي! اشفني وأغنني، واكشف كربتي، ونحو ذلك من نداء الغائبين والأموات - بالطريق الأولى والأحرى.

الوجه الثاني: أن غالب توسلات القبورية بالأموات إنما هي استغاثات بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن هذا إشراك بخالق الأرض والسماوات.

بل تحقق على لسانهم أنه ليس بشرك فحسب بل أم لعدة أنواع الإشراك برب البريات.

وأن القبورية أشد شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بالغائبين

ص: 1471

والأموات.

وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خضوعاً وأعظم عبادة للموتى منهم لله في المساجد والأسحار من الأوقات.

وقد سقت لتحقيق هذه المطالب ما يقارب مئتي نص من نصوص علماء الحنفية. التي فيها قرة عيون للموحدين، وسخنة أعين للقبوريين الوثنيين.

فكل توسل فيه نداء الأموات لدفع المضرات وجلب الخيرات، أو فيه طلب الشفاعة من الموتى لقضاء الحاجات، كأن يقول: يا فلان اشفني، واقض حاجتي، واكشف كربتي. أو يقول: يا فلان: ادع الله تعالى أن يزيل همي ويدفع عني ويغفر حوبتي - كما سبق في الأنواع الأربعة الأول للتوسل القبوري - هو شرك بواح برب البريات، بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات.

قال العلامة الرباطي في بيان الحكم على هذه الأنواع الأربعة، محققاًَ أن هذه الأنواع من التوسل إشراك بالله العظيم:(أما النحو الأول فليس من التوسل المباح في شيء، بل هو كفر بواح وإشراك بالله في التصرف والقدرة والدعاء، يجب استتابة المبتدي به، فإن تاب وإلا يقتل؛ وليس هذا أقل من شرك المشركين الذين أنزل لإصلاحهم القرآن، وبعث لدعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أزيد من شركهم بكثير) .

ص: 1472

ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك.

ثم ذكر حكم النوع الثاني، وبين أنه شرك مثل النوع الأول، وأقام البراهين القاطعة والسلاطين القاهرة الساطعة من الكتاب والسنة على ذلك أيضاً.

ثم ذكر حكم النوع الثالث، وبين أيضاً أنه شرك بالله وأنه من قبيل شرك الشفاعة.

وأنه عين وثنية الوثنيين السابقين والمشركين الأولين الذين كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأنهم يقربونا إلى الله زلفى.

ثم ذكر حكم النوع الرابع، وحقق أنه أيضاً إشراك بالله تعالى مثل النوع الثالث، في أنه شرك وأنه من وثنيات المشركين الأولين في باب الشفاعة الشركية. مع كونه مثل الثالث، إشراكاً بالله في صفتي العلم والسمع أيضاً

وللشيخين: العلامة عبد السلام الرستمي والفاضل جوهر الرحمن - وهما من فضلاء الحنفية المعاصرة - تحقيق أنيق في كون هذه الأنواع من التوسل

ص: 1473

شركاً صريحاً، وأنها من وثنيات الوثنية الأولى.

الوجه الثالث: بيان حكم التوسل ببركة فلان، وحقه، وجاهه، ووجهه، وخاطره، وطفيله، وحرمته، وشرفه، ونحوها.

لقد صرح علماء الحنفية بعدم جواز التوسل الذي يكون من هذا القبيل.

وذلك لأمور ثلاثة:

الأول: أن الدعاء مخ العبادة ولبها، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة هذا الدين جواز ذلك. فهو لا شك أنه بدعة ضلالة في عبادة الله تعالى.

الثاني: أن مثل هذا النوع من التوسل من أعظم الذرائع الموصلة إلى الشرك، فيجب سدها والتحذير منها، حماية لحمى التوحيد، وحفظاً لجانبه.

الثالث: إن كثيراً من الأئمة قد نهوا عن مثل هذا، ولا سيما أئمة الحنفية، هذه الوجوه الثلاثة هي أهم الوجوه التي ذكروها لبطلان هذه الأنواع من التوسل. وذكروا وجوهاً أخرى أيضاً لا حاجة إلى سردها، وفي هذه كفاية، لمن له دراية، وقدر له الهداية.

ص: 1474

وأما من تعود أن يقول عنزة وإن طارت - فهو من أهل العناد والمكابرة والغواية.

وإذا ثبت أن هذه الأنواع من التوسل بدعة بلا ريب، فالتعبد بالبدعة ضلال أيما ضلال، فصاحبه مبتدع ضال والداعية إليه صاحب الإضلال.

الوجع الرابع: بيان حكم التوسل ببركة فلان خاصة.

لقد صرح بعض فضلاء الحنفية الرادين على القبورية أن قول المتوسل القبوري: اللهم إني أسألك ببركة فلان الولي أن تشفيني أو تكشف كربتي ونحو ذلك - محتمل لأن يكون شركاً بواحاً صراحاً، ومحتمل لأن يكون بدعة على أقل تقدير، فلا يجوز التوسل بمثل هذه الكلمة مطلقاً.

قال العلامة عبد السلام الرستمي:

(وما يقولون في أدعيتهم توسلاً ببركة فلان - فلا معنى له، ولا يجوز، لأن ذلك المصدر ((البركة)) إما مضاف إلى الفاعل - فالمعنى: المبارك ((بصيغة اسم الفاعل)) هو الفلان

ص: 1475

فهذا شرك، كما ثبت قبل، وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى: المبارك ((بصيغة اسم الفاعل)) هو الفلان، فلا معنى لهذا التوسل، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم.

فهذا اللفظ ((البركة)) موهم للشرك، وقد نهانا الله عن الألفاظ الموهمة للشرك بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} الآية [البقرة: 104] .

وقال في الفتاوى الرشيدية ص 145: ((إن الألفاظ الموهمة ممنوعة شرعاً، ولذا لا يجوز ما يقولون في ((درود تاج)) ، ((دافع البلاء

ص: 1476

والوباء والقحط والألم)) ، وقال في ((منهاج التأسيس)) :((إن قولهم ببركة فلان - لا يجوز، لعدم نقله عن السلف في ألفاظ الدعاء، والدعاء عبادة، ومبنى العبادات على النقل الشرعي)) .

وقال الجصاص في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}

ص: 1477

الآية [البقرة: 59] .

((يحتج بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها [إلى غيرها] إلخ، أحكام القرآن 1\36، شيخ القرآن محمد طاهر.

فيجب على من يدعي الإيمان والتوحيد أن يجتنب من الألفاظ الشركية، ومن الألفاظ الموهمة للشرك لئلا يصير مثل المنافق المتذبذب

ص: 1478

الذي هو في الدرك الأسفل من النار ولن تجد له نصيراً)) .

الوجه الخامس: أن كل ما فيه توجه إلى الأموات، ونداؤهم عند الكربات * - ليس ذلك من التوسل في اللغة بل هو عين الاستغاثة التي هي إشراك برب البريات *.

قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ)، واللفظ للأول:

(ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون، وعرف كيف كان شركهم [وما عليه القبوريون] ، و [عرف أنه] بماذا أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف التوحيد * وما معنى الإله والتأله؟ وتبصر في العبادات وأنواعها [بفهم رشيد]- تحقق أن هذا الالتجاء * والتوكل والرجاء [والنداء] * بمثل طلب الشفاعة، هو الذي نهى عنه الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل

ص: 1479

الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات ولرفع الكرب والمهمات * مما لا يقدر على دفعه إلا خالق الأرض والسماوات *.

وقد كان الأولون إذا وقعوا في شدة دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إذا هم يشركون * [بخلاف القبورية المتوسلين بالأموات والمستنجدين] * ومن فعل هذا بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد غلا وجاوز حده * [واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده] *....

إذا علمت هذا، فاعلم: أن الاستغاثة بالشيء طلب الإغاثة والغوث منه؛ كما أن الاستغاثة بشيء طلب الإغاثة منه، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث، كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك ليس توسلاًَ به إلى غيره، بل طلب منه؛ إذ جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره - أن يقول لمستغاثه:((أستغيثك على هذا الأمر بفلان)) ، فيوجه السؤال إليه، ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به، و [لا يناديه ولا يدعوه، بأن]

ص: 1480

يقول له: أرجو منك، وأريد منك، أو أستغيث بك.

[أو يناديه] ، و [يخاطبه، بأن] يقول [له]-: ((إنه [أي إنك] وسيلتي إلى ربي)) - فإن هذا غير معروف [كونه توسلاً في لغة العرب، بل هذا عين الاستغاثة] .

وإن كان [هذا المستغيث سماه توسلاً] كما يقول - فما قدر عظم المتوسل إليه حق قدره وتعظيمه، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره، [و] كيف [يصح جعله توسلاً لغة] ؟؟؟ واستعمال العرب يأبى عنه!!!

فإن من يقول: ((صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر، فحصل لي الفرج)) - يدل دلالة جليلة على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه

ص: 1481

توسل به عند غيره.

بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال (مخاطباً لله تعالى دون الميت) : (( (اللهم إني) توسلت (إليك بفلان)) ) .

أو (قال) : ((استغثت عند الله تعالى (أي استغثت بالله) بفلان)) ، أو يقول لمستغاثه - وهو الله سبحانه:(اللهم إني) استغثت إليك بفلان.

فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به.

ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: ((استغثت بفلان)) ، وتريد التوسل به.

سيما إذا كنت داعيه، وسائله (ومخاطبه ومناديه) ، بل قولك هذا

ص: 1482

نص على أن مدخول الباء مستغاث، وليس بمستغاث به.

والقرائن التي تكشفه:

- من الدعاء له، وقصر الرجاء عليه، (وخطابه له، وطلبه منه) - شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول.

فهذه الاستغاثة، وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإنابة - محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.

قال الشيخ محمد الأمين السويدي الشافعي:

((ولا يجوز ذلك إلا من جهل آثار الرسالة: ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات، عند نزول الكربات، يسألونهم ويفزعون إليهم، فكان ما يفعلونه

ص: 1483

معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات)) انتهى) .

قلت: الحاصل أن توسل القبورية نوعان:

النوع الأول: ما فيه خطاب ونداء للميت وطلب منه، مثل أن يقول: يا فلان الولي اكشف كربتي واشفني واغفر حوبتي واقض حاجتي ونحوها.

أو يسأله الشفاعة عند الله تعالى لقضاء الحاجة، مثل أن يقول: يا فلان الولي اشفع لي عند الله أن يقضي حاجتي ويكشف كربتي، ونحو ذلك - فهذا كله وأمثاله ليس من التوسل بالميت لغة، بل هو استغاثة بالميت وطلب منه، وهو إشراك صريح بالله تعالى.

بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بالله تعالى، كالشرك في علم الغيب، والشرك في التصرف، والشرك في السمع، كما سبق تحقيقه على لسان علماء الحنفية.

النوع الثاني: وهو ما لم يكن فيه خطاب ونداء للميت ولا فيه طلب قضاء الحاجة منه، ولا طلب الشفاعة منه له عند الله لقضاء الحاجة، بل يكون توجيه الكلام إلى الله والاستغاثة به تعالى، والطلب منه، والنداء له تعالى فقط لا للميت:

ص: 1484

كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تكشف كربتي وتغفر حوبتي وتقضي حاجتي - بجاه فلان، وحرمة فلان، ووجه فلان، ووسيلة فلان، ونحو ذلك.

فهذا النوع قد يمكن أن يقال فيه: إنه توسل لغة ولكن هل هو جائز شرعاً؟

الجواب: أن هذا النوع من التوسل غير جائز شرعاً، لوجهين:

الأول: أنه بدعة ضلالة في العبادة التي هي مخ العبادات. ألا وهي الدعاء، لأن هذا النوع من التوسل لم يعهد في الكتاب والسنة، ولم يفعله أحد من الصحابة والتابعين ولا إمام من أئمة الأمة.

الثاني: أنه ذريعة كبيرة لفتح باب الشرك بمصراعيه، فيجب سدها حماية لحمى التوحيد، يوضحه النص الآتي:

وهو قول العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : (إنه (أي التوسل بالذات) مكروه كراهة تحريم، وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره، مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك أو بحرمته، أو بحقه.

وأما إذا توجه إلى ذلك الغير - فطلب منه [وليس ذلك من التوسل في شيء] كما يفعله كثير من الجهلة. فهو شرك [بل هو أم لعدة أنواع من الشرك] ، كما تقدم) .

يوضحه الوجه السادس:

الوجه السادس: أن توسلات القبورية ليست من التوسل الشرعي الاصطلاحي الذي اصطلح عليه الكتاب والسنة، والصحابة والتابعون، فإن التوسل في اصطلاح الكتاب والسنة والصحابة والتابعين -

ص: 1485

إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، أو التوسل بالأعمال الصالحة، أو التوسل إلى الله تعالى بدعاء شخص حي حاضر، بأن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ثم هذا الحي الحاضر يدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويشفع عنده بالدعاء.

هذا هو التوسل الشرعي الاصطلاحي المسنون المعروف في لغة القرآن واصطلاحه، ولغة السنة واصطلاحها، ولغة الصحابة والتابعين واصطلاحهم.

فكل ما هو مخالف لهذا التوسل الشرعي المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - فهو دائر بين أن يكون إشراكاً بالله تعالى - إذا كان من باب الاستغاثة بالغائبين والأموات - وبين أن يكون بدعة ضلالة مكروهاً محرماً، منكراً في القول وزوراً؛ وذريعة إلى الإشراك بالله تعالى.

فلفظ ((التوسل)) فيه إجمال واشتراك بحسب اصطلاح الصحابة ولغة القرآن والسنة، وبحسب اصطلاح القبورية.

فهو في اصطلاح القرآن والسنة، والصحابة والتابعين، وأئمة السنة شيء. وفي اصطلاح القبورية المستغيثين بالأموات شيء آخر.

وما بين هذين الشيئين من البعد كما بين السماء والأرض، وكما بين التوحيد والشرك، وكما بين الإسلام والكفر.

ولكن القبورية عمدوا إلى نصوص التوسل الحق المسنون المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح - فاستدلوا بها على

ص: 1486

إثبات التوسل الباطل الذي - نوع منه: استغاثة بالأموات عند الكربات، وهو إشراك صريح، بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله العظيم.

كقول القبوري: يا فلان الولي! أغثني، واكشف كربتي، واقض حاجتي، ونحو ذلك.

أو قول القبوري: يا فلان الولي: ادع الله لي، أو اشفع لي عند الله! أن يكشف كربتي ويقضي حاجتي، ويغفر حوبتي، ومثل ذلك.

ونوع منه: بدعة ضلالة، ومنكر من القول وزور، وباب إلى الشرك بالله تعالى، يجب سده، كقول القبوري: اللهم اكشف كربتي واقض حاجتي بوسيلة فلان، وحرمته، وحقه وجاهه، ونحو ذلك من التوسل الذي لم يفعله أحد من السلف.

هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في هذا الوجه.

وللعلامة نعمان الآلوسي كلام آخر مثله في غاية من التحقيق والإتقان.

قلت: كلام هؤلاء الحنفية في غاية من الإنصاف والدقة والتحقيق، وهو الحقيقة الواقعة التي إنكارها مكابرة وعناد، لا يليق إلا بأهل الإضلال والإفساد والإلحاد، وقد اعترف بها الشاه أنور الكشميري، أحد كبار أئمة

ص: 1487

الديوبندية وأحد مشاهير الحنفية (1352هـ) .

وأصل هذا التحقيق من كلام المجاهد المجتهد الهمام، الإمام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية، شيخ الإسلام.

وقد ذكر العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : أن القبورية يذكرون كلاماً مجملاً في التوسل يحتمل ستة أنواع من التوسل، بعضها باطل إما شرك وإما بدعة، وبعضها حق، فيدخلون الباطل في الحق.

الوجه السابع: أن حمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة، واصطلاح السلف الصالح وعلماء السنة وأئمة الأمة، على ((الوسيلة)) المصطلح عليها في اصطلاح القبورية، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية. حتى باعتراف القبورية، ولا سيما الكوثرية.

لقد سبق بغاية من التحقيق، ونهاية من الدقة والتدقيق، على لسان علماء الحنفية، الرادين على عقائد القبورية، أن توسلات القبورية ليست من التوسل المصطلح عليه في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة؛ لأن توسل الصحابة والتابعين عين توحيد رب العالمين، وأما توسلات هؤلاء القبورية، فإما من الأفعال الوثنية وإما من الأعمال البدعية.

الحاصل: أن توسل القبورية وتوسل السلف أمران متضادان لا

ص: 1488

يجتمعان، كالتوحيد والشرك، والإسلام والكفر، والسنة والبدعة، والنور والظلمة، والحق والباطل، فحمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة على ((الوسيلة)) المصطلح عليها عند القبورية، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية، ليس إلا، ولا بد منه، ولا خلاص، ولا مفر ولا محيد، ولا محيص، ولات حين مناص.

وهذا باعتراف القبورية، ولا سيما الكوثرية، فقد وضع الكوثري قانوناً كلياً لا استثناء فيه:

وهو أن حمل نصوص الكتاب والسنة على المصطلحات التي اصطلح عليها بعد عهد التنزيل بدهور - زيغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب عن سبيل السلف الصالح، ومنابذة للغة التخاطب، وفيما يلي أسوق قانون الكوثري بنصه وفصه، ثم أقلبه عليه خاصة، وعلى القبورية، ولا سيما الكوثرية عامة في باب التوسل والوسيلة، فأقول: قال الكوثري (1371هـ) في الرد على الصوفية الذين يزعمون أن مصطلحاتهم يدل عليها ظاهر الكتاب والسنة، مبيناً أن هذا تحريف للكتاب والسنة وزيغ عن منهجهما، ومنابذة للغة العربية:

(.... وأين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية من تخاطب العرب؟ ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين؟ ؟

ص: 1489

حتى يكون حمل النصوص والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالاًَ لها في حقائقها؟ ؟ .

ومن زعم ذلك - فقد [ارتكب سبع طامات موبقات] :

[الأولى أنه] زاغ عن منهج الكتاب والسنة.

و [الثانية أنه] تنكب سبيل السلف الصالح.

و [الثالثة أنه ناقض] مسلك أئمة أصول الدين.

و [الرابعة لأنه] نابذ لغة التخاطب.

و [الخامسة أنه] هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل.

و [السادسة أنه] جانب أصفياء الصوفية القائلين بالتوحيد

ص: 1490

الشهودي، بل [ترقى في الإلحاد فارتكب الطامة]

ص: 1491

[السابعة] ، حيث حاد عن فرق هذه الأمة جمعاء، غير الحلولية من طوائف المشبهة) ، انتهى كلام الكوثري.

قلت: أيها المسلم المنصف المنشد لضالة الحق! هذا كان كلام الكوثري أحد أئمة القبورية والجهمية، وشيخ عصبة التعصب من المقلدة الحنفية، وهو كلام حق، صواب وصدق، والكذوب قد يصدق، والأعرج

ص: 1492

قد يسبق، فالكوثري وإن كان أكذب من طغى وسطا، ولكن ههنا نراه أصدق من القطا، ولكن صدقه ههنا ليس له ولا لجماعته القبورية، بل صدقه سيف قطع به دابره ودابر جميع القبورية والجهمية الذين حملوا نصوص الكتاب والسنة، ومصطلحات السلف وأئمة الأمة، على مصطلحاتهم البدعية، وعقائدهم القبورية والجهمية، فالكوثري مع تناقضه الفاضح، واضطرابه الواضح، قد قطع عنقه من قفاه، لئلا يفتح فاه.

فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها؛ لأن هذا الكوثري البهات المأبون * الصادق المحق في هذا القانون * - قد ناقض وتناقض.

حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية الوثنية، فتلاعب بنصوص الكتاب والسنة، ومصطلحات الشرع، في هذه الأمة.

* حيث قال هذا المحرف * المتقول الأفاك المخرف *: (وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث [القبوري الوثني] والمعقول، [معقول القبورية الوثنية] ، أما الكتاب، فمنه قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل المتبادر من ((التوسل)) في

ص: 1493

الشرع، هو هذا [أي التوسل بالأعمال] وذاك [أي التوسل بالأشخاص] رغم تقول كل مفتر أفاك

) .

قلت: أخي المسلم! لقد اطلعت على قانون الكوثري إمام الكوثرية، الذي وضعه صارماً لقطع دابره ودابر قومه من القبورية الجهمية.

ثم رأيت أنه عارضه، فتناقض لأنه ناقضه، حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية، فتلاعب بالنصوص والمصطلحات الشرعية.

فالآن يحق لي بحق أن أقلب قانون الكوثري عليه وعلى قومه. وأقلب عليه حجته، وأحاربه بسلاحه، وأبين تناقضه ليصحو من غفوته وسباته ونومه وغفلته؛ فأقول وبربي أستغيث وأستعين، إذ هو المستغاث المستعان المغيث المعين:

إن القبورية الذين فسروا ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند هؤلاء الوثنية. وحملوا نصوص الكتاب والسنة، وأقوال أئمة هذه الأمة - في باب ((الوسيلة)) - على ((الوسيلة)) في اصطلاح هؤلاء القبورية، كما فعل هذا الكوثري وغيره من أئمة هؤلاء الوثنية -

ص: 1494

قد تلاعبوا بنصوص الكتاب والسنة، وحرفوا المصطلحات الشرعية في هذه الأمة، لأننا نقول لهم في ضوء قانون هذا الكوثري:

أين التوسلات التي اصطلح عليها القبورية الوثنية، والصوفية الحلولية الاتحادية وأذيالهم من الخرافية، من تخاطب العرب؟.

وأين مصطلحات هؤلاء الخلف، من تفاهم السلف، وأية مناسبة لها بهذا اللسان العربي المبين، حتى يكون حمل النصوص والآثار السلفية على التوسلات المصطلح عليها عند هؤلاء القبورية، التي ابتدعوها بعد عهد التنزيل بدهور.

- فما المناسبة بين الظلمات والنور؟؟ .

استعمالاً لها في حقائقها، ومن زعم ذلك، كالكوثري المتهالك الهالك، فقد ارتكب سبع طامات، مع ما عنده من موبقات:

الأولى: أنه زاغ عن منهج الكتاب والسنة.

والثانية: أنه تنكب سبيل سلف الأمة.

والثالثة: أنه ناقض مسلك أئمة أصول الدين.

والرابعة: أنه نابذ لغة التخاطب بلسان عربي مبين.

والخامسة: أنه هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعديل، للإفساد والتضليل.

ص: 1495

والسادسة: أنه جانب أصفياء أهل السنة القائلين بتوحيد الأنبياء والمرسلين الرادين على القبوريين، بل ترقى في الإلحاد، فارتكب الطامة:

السابعة: حيث حاد من فرق هذه الأمة جمعاء بتلك التحريفات القبورية الوثنية الحمقاء غير الحلولية، من طوائف المشبهة القبورية، والصوفية الاتحادية، والجهمية، والوثنية.

أقول: هذا كان قانون الكوثري، وقد عرفت كيف سلط الله عليه ما وضع بيديه، ووقع في التناقض الواضح والاضطراب الفاضح بما لديه.

وقد قال الكوثري نفسه:

(والتناقض شأن من اصيب في عقله أو دينه) .

قلت: هذا مثال آخر لانتحار الكوثري!.

انظر عافاك الله تعالى وإياي، فقد شهد الكوثري على نفسه ببيانه، واعترف اعترافاً بلسانه وبنانه، أن الكوثري لتناقضه أصيب في عقله أو دينه.

وأما قول الكوثري في كل من قال بالتوسل المصطلح عليه عند السلف: (رغم تقول كل مفتر أفاك) .

فالجواب عنه من وجهين:

الأول: أن الكوثري هو المتقول على الله، المفتري على رسوله صلى الله عليه وسلم، الأفاك على الصحابة والتابعين، لأنه يحمل نصوص التوسل وأقوال

ص: 1496

السلف فيه - على التوسل المصطلح عليه عنده وعند القبورية.

والثاني: أن العلامة محمد أنور شاه الكشميري، إمام الكوثرية والديوبندية (1352هـ) - الذي أكبره الكوثري نفسه، وعظم أمره وأجله إجلالاً عظيماً وأقره أبو غدة الكوثري - قد صرح بأن التوسل في اصطلاح السلف وعرفهم ولغتهم - غير التوسل في اصطلاح المتأخرين [أي القبورية] وعرفهم ولغتهم.

فالآن نسأل الكوثري:

هل الشاه أنور الكشميري الذي تجله إجلالاً عظيماً وتكبره إكباراً جليلاً - كان متقولاً؟ مفترياً؟ أفاكا؟ أم الكوثري هو المقول المتقول، المفتري الأفاك؟؟.

حيث استدل بالتوسل الحق المصطلح عليه عند السلف - على التوسل الباطل الشركي البدعي المصطلح عليه عنده وعند القبورية.

هذه كانت بعض الحجج الدامغة والبراهين الباهرة القاهرة التي ذكرها علماء الحنفية لإبطال توسلات القبورية، الشركية منها والبدعية.

وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الآتي لنرد على بعض شبهات القبورية

ص: 1497

في التوسل، على لسان علماء الحنفية، لنعرف جهوداً أخرى لهم في إبطال عقائد القبورية.

والله المستعان وعليه التكلان.

****

ص: 1498

الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

في توسلاتهم الشركية

لقد سبق أن ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في بيان التوسل الشرعي وأنواعه، وبيان التوسل القبوري منه والبدعي، وصوره وأصنافه، وبعض جهودهم في إبطال التوسل القبوري، ولكن لا يتم الرد على الوجه الأكمل إلا بإبطال شبهاتهم، لذا أذكر بعض جهود علماء الحنفية في هذا المبحث لإبطال أهم شبهات القبورية وأشهرها التي تشبثوا بها في باب التوسل القبوري.

فأقول وبربي أستعين، إذ هو المستعان المعين، وبه أستغيث، إذ هو المستغاث المغيث:

لقد تشبثت القبورية لإثبات توسلهم القبوري، الشركي منه والبدعي - بشبهات كثيرة لا يمكن لي أن أسردها كلها ثم أذكر أجوبة علماء الحنفية عنها، لأن هذا يحتاج إلى تأليف مستقل ضخم، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه أو جله.

لذا أكتفي بذكر ثلاث من شبهاتهم التي هي أقوى الشبهات على الإطلاق، وأشهرها لديهم في باب التوسل، فهي وإن لم تكن جل الشبهات عدداً وكماً، ولكنها جلها كيفاً وقوة ومعنى ووزناً.

ص: 1499

مع كلام علماء الحنفية في الرد عليها والجواب عنها وقلعها وقمع أصحابها.

فأقول وبالله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق:

الشبهة الأولى: تشبث القبورية بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .

لقد استدل عامة القبورية بهذه الآية الكريمة على إثبات توسلهم القبوري، الشركي منه والبدعي.

فقد قال البروسوي الإسلامبولي الحنفي، الخلوتي الاتحادي، الصوفي (1127هـ) أو (1137هـ) مستدلاً بهذه الآية على وثنيته:(الوسيلة علماء الحقيقة، ومشايخ الطريقة) .

وتبعه بعض الديوبندية القبورية من المعاصرين.

بل صرح بعض غلاة القبورية الوثنية - كابن جرجيس الحنفي (1199هـ) أن المراد من ((الوسيلة)) في هذه الآية - هو التوسل بذوات الصالحين لا غير.

وكثير من هؤلاء القبورية استدلوا بهذه الآية على إثبات التوسل القبوري، الشركي منه والبدعي، زعماً منهم أن لفظ ((الوسيلة)) عام يشمل التوسل بالأعمال ويشمل التوسل بذوات الصالحين.

ص: 1500

وأغرب القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) في وضع العنوان وتبعه المالكي أحد أئمة القبورية المعاصرة؛ ولكنه سارق كلام الأول، حيث لم يحل عليه لا تصريحاً ولا تلميحاً، فقالا:

(أدلة ما عليه المسلمون من التوسل [والاستغاثة بالأنبياء والصالحين]، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه.

ولفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى. فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات، وبإتيان الأعمال الصالحة على الوجه المأمور به) .

ص: 1501

قلت: وجه انحراف هذا العنوان هو قولهما: (أدلة ما عليه المسلمون من التوسل) فإن فيه تعريضاً بجعل أهل التوحيد غير مسلمين، وأن المسلمين هم هؤلاء القبورية الوثنية فقط؟؟.

وأما الكوثر الكرار، الشاطر الجرار، الشاتم المهذار، فيقول جهاراً دون إسرار:

(وهم (يعني أهل التوحيد) في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة، والعمل المتوارث [أي القبوري الوثني] والمعقول [معقول الوثنية]، أما الكتاب فمنه قوله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ، و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل المتبادر من ((التوسل)) في الشرع - هو هذا (أي التوسل بالأعمال) ، وذلك (أي التوسل بالأشخاص) رغم تقول كل مفتر أفاك

) .

قلت: هذا هو استدلال القبورية بهذه الآية على إثبات توسلهم القبوري.

الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة القبورية بوجهين، وحاربوهم من جهتين اثنتين.

الوجه الأول: وهو جواب إجمالي يقمع به هذه الشبهة وغيرها من الشبهات أيضاً، وهو: أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية كالشمس في رابعة النهار أن التوسل في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة -

ص: 1502

هو التوسل بأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة، دون التوسل بالأموات والاستغاثة بهم عند الكربات.

وإذا ثبت هذا - فحمل نصوص الكتاب والسنة في التوسل المصطلح عليه في عهد التنزيل على التوسل المصطلح عليه عند القبورية، ليس إلا تحريفاً لتلك النصوص، وتلاعباً بالمصطلحات، وذلك كحمل نصوص الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والوضوء، والنكاح، وغيرها من المصطلحات الشرعية، على مصطلحات أخرى حدثت بعد عهد التنزيل، وهذا ليس تحريفاً فحسب، بل هو قرمطة في النقليات، وسفسطة في العقليات، وقد صرح الكوثري - الذي يرمي أهل التوحيد بقوله:((رغم كل مفتر أفاك)) - بأن هذا الصنيع زيغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب لسبيل السلف الصالح، ومسلك أئمة أصول الدين، ومنابذة للغة التخاطب، وهجر لطريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل، وبعد من تخاطب العرب، وتفاهم السلف بهذا اللسان العربي المبين.

وإذا ثبت هذا على لسان الكوثري - فقد ثبت ثبوتاً لا يحتمل النقيض

ص: 1503

أن الكوثري ومن على شاكلته من القبورية - الذين يستدلون بالوسيلة الواردة في الكتاب والسنة وآثار السلف المصطلح عليها عندهم - بأنها أسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة - على الوسيلة القبورية، الشركية منها والبدعية المصطلح عليها عند الكوثري وخلطائه من القبورية - هم متقولون على كتاب الله، ومحرفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفترون على الصحابة والتابعين، وأفاكون على أئمة هذا الدين، وأنهم هم اللعابون بالمصطلحات الشرعيات، وأنهم يقرمطون في النقليات ويسفسطون في العقليات.

وبهذا القدر من التحقيق تبين بطلان هذه الشبهة، وأنه لا حجة للقبورية في هذه الآية على توسلهم القبوري البتة.

فقد قال العلامة الكشميري، محمد أنور، أحد كبار أئمة الديوبندية، والكوثرية (1352هـ) الذي أكبره الكوثري والكوثرية، فضلاً عن الديوبندية غاية الإكبار، وأعظموه نهاية الإعظام غلواً وإطراءً:

(وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} - فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة لكن لا حجة فيه على التوسل المعروف بالأسماء فقط [دون التوسل بدعاء الحي الحاضر] ....) .

ص: 1504

قلت: الآن نسأل الكوثري - القائل: ((رغم تقول كل مفتر أفاك)) -: من هو المتقول المفتري الأفاك؟؟.

هل الكوثري ومن على شاكلته من القبورية؟؟ أم الشاه أنور الكشميري الذي يجلونه ويكبرونه ويعظمونه؟؟.

وفي هذا القدر كفاية لمن له دراية.

الوجه الثاني: أن ((الوسيلة)) في هذه الآية إنما المراد بها فعل الطاعات وترك السيئات، وقد أطبقت على ذلك كلمة المحققين من الحنفية في تفسير هذه الآية، وإليكم أمثلة من نصوص بعضهم إقامة للحجة وإيضاحاً للمحجة:

1 -

قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد كبار أئمة الحنفية: (أي اطلبوا القربة والفضيلة بالأعمال الصالحة) .

2 -

3- وقال الزمخشري الحنفي اللغوي البلاغي (538هـ) ، وتبعه الإمام النسفي (710هـ) مبيناً معنى ((الوسيلة)) لغة، وشرعاً، وأن ((الوسيلة)) الشرعية أخص من ((اللغوية)) : (هي كل ما يتوسل به - أي يتقرب - من قرابة أو صنيعة، أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل

ص: 1505

الطاعات وترك السيئات) .

وهذا بعينه نص كلام الزمخشري، غير أنه قال:

(الوسيلة كل ما يتوسل به

فاستعيرت

من فعل الطاعات وترك المعاصي) .

4 -

وقال الإمام أبو السعود العمادي (983هـ) : (هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى: من فعل الطاعات وترك المعاصي) .

5 -

6- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) :

ص: 1506

(هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل: من فعل الطاعات، وترك المعاصي.....

واستدل بعض الناس [من القبورية] بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد.

والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال:

((اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا)) ، ومنهم من يقول للغائب، أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين:((يا فلان! ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا)) .

ويزعمون: أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)) أو ((فاستغيثوا بأهل القبور)) .

وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل) .

الشبهة الثانية: تشبث القبورية بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما: فعن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) قال: فيسقون) .

وقد استدل عامة القبورية بهذا الأثر على إثباتهم للتوسل القبوري، الشركي منه والبدعي، قديماً وحديثاً.

ص: 1507

الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية بعدة وجوه، أذكر منها أربعة:

الوجه الأول: أنه قد سبق محققاً مدققاً على لسان علماء الحنفية أن التوسل المصطلح عليه في الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأمة، هو التوسل بأسماء الله الحسنى،

ص: 1508

وصفاته الكمالية العلى، والتوسل بالطاعات، من فعل الحسنات وترك السيئات، حتى اعترف بهذه الحقيقة الشيخ أنور الكشميري (1352هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية.

والكوثري والكوثرية يعظمه غاية التعظيم ويجله غاية الإجلال، وأما إكبار الديوبندية له وغلوهم فيه غلواً لا نهاية له، فحدث ولا حرج، فقوله حجة على الديوبندية، والكوثري والكوثرية.

وإذا ثبت أن توسل السلف غير توسل القبورية - فقد تبين بطلان حمل توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما على التوسل المصطلح عليه عند الكوثرية والديوبندية خاصة، والقبورية عامة.

وظهر أن الاستدلال بهذا الأثر وغيره من نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح - على التوسل القبوري الشركي منه والبدعي - هو من قبيل توجيه قول القائل بما لا يرضى به قائله، وقد سبق أن ذكرت قانوناً وضعه الكوثري ببيانه وقاله بلسانه، وكتبه ببنانه.

وهو أن حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور - بعد عن اللسان العربي المبين، وزيغ عن منهج الكتاب والسنة وتنكب لسبيل السلف، ومنابذة للغة التخاطب، وهجر لطريقة أهل النقد.

إلى غير ذلك من المفاسد التي ذكرها الكوثري، فكيف يجوز

ص: 1509

للكوثري وغيره من القبورية بعد وضع هذا القانون وبعد معرفة مذهب السلف في التوسل - أن يستدلوا بنصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على التوسل المصطلح عليه عند القبورية، الذي هو دائر بين أن يكون شركاً بواحاً صراحاً. وبين أن يكون بدعة ضلالة ووسيلة إلى الشرك بالله تعالى.

الحاصل: أن استدلال القبورية عامة والكوثرية والديوبندية خاصة بهذا الأثر - على التوسل المصطلح عليه عندهم - باطل ومحال، وتحريف، وتخريف، إذ هو من قبيل القرمطة في النقليات والسفسطة في العقليات، بل الحق الحقيق، والواقع والتحقيق: أن التوسل في هذا الأثر - هو التوسل بدعاء الحي الحاضر.

فاستمع للوجه التالي. وأنصت لتكتسب الدرر العوالي.

الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن ((التوسل)) المذكور في هذا الأثر هو التوسل بدعاء الحي الحاضر، فعمر بن الخطاب الخليفة الراشد فقيه الصحابة رضي الله عنه، قد توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ولم يكن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما من قبيل التوسل القبوري الشركي منه والبدعي، فلم يكن هذا التوسل بذات العباس رضي الله عنه، ولا بحرمته، ولا بحقه، ولا بجاهه، ولا بوجهه، ولا ببركته.

ص: 1510

وإنما هو التوسل بدعائه رضي الله عنه، وإليكم بعض نصوص كبار أئمة الحنفية في شرح هذا الأثر وتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما:

1 -

قال الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره (1176هـ) : توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه، إنما كان بدعائه، ولا شك في جوازه.

2 -

وقال الإمام ابن أبي العز أحد كبار علماء الحنفية (792هـ) محققاً أن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعائه لا غير: (فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه [حيث] يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون -:

ص: 1511

((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) ، معناه: بدعائه هو ربه، وشفاعته، وسؤاله.

[و] ليس المراد: أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك.

إذ لو كان ذلك مراداً - لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس [رضي الله عنه]

) .

3 -

4- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ)، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) واللفظ للوالد:

(إن معنى ((الاستشفاع)) به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس معناه: الإقسام به على الله تعالى

وعلى هذا لا يصلح ((الخبر)) [أي خبر التوسل والاستشفاع] ولا ما قبله [في آية الوسيلة]- دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام [والتوسل] بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه، عليه الصلاة والسلام، بجامع الكرامة..

وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن - يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه؛ ففي صحيح البخاري، عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه، فقال:((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) ،

ص: 1512

فيسقون؛ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار - لما [تركوا التوسل به صلى الله عليه وسلم، ولما] عدلوا [عن التوسل به] إلى [التوسل بشخص] غيره [صلى الله عليه وسلم] بل كانوا يقولون [حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم] : ((اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا)) ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس - وهم يجدون أدنى مساغ لذلك - فعدوا لهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم و [هم أعرف منا بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام] و [هم أدرى منا بكل] ما يشرع [في دين الله] من الدعاء وما لا يشرع.

وهم في وقت ضرورة ومخمصة، [وكانوا] يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق - دليل واضح على أن المشروع [هو] ما سلكوه:[من التوسل بدعاء الحي الحاضر] دون غيره [من توسلات القبورية، الشركية منها والبدعية] ....

ص: 1513

[فلذلك نقول:] إن هذا التوسل [أي توسل عمر بالعباس] ليس من باب الإقسام [على الله تعالى] بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد: أن لفظ ((التوسل)) بالشخص، والتوجه إليه وبه - فيه إجمال وإشراك [يختلف المراد منه] بحسب الاصطلاح [السلفي، والقبوري الخلفي]، فمعناه في لغة الصحابة [رضوان الله عليهم أجمعين] :

أن يطلب منه الدعاء، والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس [عبدة القبور]- فمعناه: أن يسأل الله تعالى بذاته، ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع.

وقد علمت الكلام [والحجج الدالة على خلافه، وعرفت ما] فيه [من المفاسد الشركية والبدعية] ،

ص: 1514

و [تحقق لك أنه قد] جعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: ((اللهم أسألك بجاه فلان)) ، فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك.......) .

5 -

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذا الأثر مبيناً أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعاء العباس رضي الله عنه لا غير: (وقول عمر رضي الله عنه: ((إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) .

معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله [صلى الله عليه وسلم] و [الآن] نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته [و] ليس المراد به: أنا نقسم عليك به، وأما ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول الناس [من القبورية] : أسألك بجاه فلان عندك، و [من هؤلاء القبورية من] يقولون:

ص: 1515

نتوسل إلى الله بأنبيائه، وأوليائه، فإنه لو كان هذا [التوسل القبوري] هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس [رضي الله عنه] ، مع علمهم بأن السؤال به، والإقسام به [صلى الله عليه وسلم على فرض جوازه شرعاً]- أعظم من [التوسل بعمه] العباس [رضي الله عنه] فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه - هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره) .

6 -

وله رحمه الله كلام مهم آخر في شرح أثر عمر وتوسله بالعباس رضي الله عنهما، وتحقيق أن هذا التوسل هو التوسل بدعاء الحي الحاضر لا غير.

7 -

وله أيضاً كلام آخر في غاية الدقة والإتقان يقطع دابر القبورية ولا سيما الكوثرية.

8 -

تحقيق الشيخ الشاه محمد أنور الكشميري، الملقب عند الديوبندية والكوثرية بإمام العصر ومحدث العصر (1352هـ) ، وهو من كبار أئمة الديوبندية.

والديوبندية قد أطروه إطراءً لا غاية له، وأكبروه إكباراً لا نهاية له.

حيث قالوا في إجلاله وإكباره: إنه بحر البحور، عديم النظير، بقية

ص: 1516

السلف، حجة الخلف، أمة وحده، جمع ميزات كل من الذهبي (748هـ) ، وابن حجر (852هـ) ، وابن دقيق العيد، والبحتري، وسحبان، وأنه إعجاز الدين، مثل سفيان (161هـ) ، والبخاري (256هـ) ، وأحمد (241هـ) ، والترمذي (279هـ) ، والزهري (124هـ) ، بلا خلاف. إلى غير ذلك من الثناء والمدائح التي كالوها له جزافاً وغلواً، وأما الكوثري نفسه والكوثرية - فهم أيضاً أتوا بالعجائب من الإجلال له وإكباره وإعظامه:

بأن الكشميري ((إمام العصر المحدث الكبير)) و ((الإمام المحدث الكبير)) و ((الإمام الكشميري)) ، ((والعلامة فقيد الإسلام المحدث المحجاج)) ، وأنه ((لم يأت بعد ابن الهمام مثله)) ، إلى آخر تلك المبالغات الديوبندية والكوثرية في هذا الكشميري.

قلت: إنما أطلت هذه الإطالة في ذكر أمثلة إطراء الديوبندية والكوثري والكوثرية لهذا الكشميري وغلوهم فيه تخرصاًَ وجزافاً وتهوراً،

ص: 1517

لأنقل كلامه في توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، ثم أنقل كلاماًَ للكوثري مناقضاً لكلام الكشميري، ليكون كلام الكشميري قاطعاً لدابر الكوثري خاصة ولدابر الديوبندية والكوثرية عامة، ولسائر القبورية أيضاً.

فأقول وبالله أستعين، إذ هو المستعان المعين: قال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري، أحد كبار أئمة الديوبندية والكوثرية (1352هـ) ، في شرح هذا الأثر محققاًَ أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه، ولم يكن من قبيل توسل المتأخرين:(قوله: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم) - ليس فيه ((التوسل)) المعهود [عند المتأخرين] الذي يكون بالغائب، حتى قد لا يكون به شعور [للمتوسل به] أصلاً، بل فيه [أي أثر عمر هذا] توسل السلف، وهو: أن يقدم [المتوسل] رجلاً ذا وجاهة عند الله تعالى، ويأمره أن يدعو لهم، ثم يحيل عليه في دعائه، كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه توسل المتأخرين [القبورية]- لما احتاجوا بإذهاب عباس رضي الله عنه معهم، ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته، (وكفاهم التوسل أيضاً) بالعباس رضي

ص: 1518

الله عنه مع عدم شهوده معهم....) .

9 -

وقال رحمه الله أيضاً مبيناً أن توسل السلف غير توسل الخلف:

(واعلم أن التوسل بين السلف - لم يكن كما هو المعهود بيننا [أي الديوبندية خاصة والقبورية عامة] ، فإنهم [أي السلف الصالح] إذا كانوا يريدون أن يتوسلوا بأحد - كانوا يذهبون بمن يتوسلون به أيضاً معهم، ليدعو لهم، ثم يستعينون بالله ويدعونه، ويرجون الإجابة منه

أما التوسل بأسماء الصالحين كما هو المتعارف في زماننا - بحيث لا يكون للمتوسلين بهم علم بتوسلنا، بل لا تشترط فيه [أي في هذا التوسل القبوري] حياتهم، [فيتوسلون بالأحياء والأموات] أيضاً.

وإنما يتوسل [عند القبورية] بذكر أسمائهم فحسب، زعماً منهم أن لهم وجاهة عند الله وقبولاً، فلا يضيعهم بذكر أسمائهم - فذلك أمر لا أحب أن أقتحم فيه

وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .

فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة، لكن لا حجة فيه على التوسل

ص: 1519

المعروف، بالأسماء فقط [بطلب الدعاء من المتوسل به] ....) .

10 -

وقال رحمه الله أيضاً مبيناً الفرق بين توسل السلف وبين توسل الخلف:

(قوله: ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون)) قلت: وهذا توسل فعلي [أي بدعاء حي حاضر وفعله، كما هو عند السلف]، لأنه [أي عمر] كان يقول له بعد ذلك:((قم يا عباس فاستسق)) ، فكان [العباس يدعو الله تعالى، و] يستسقي لهم، فلم يثبت منه [أي من هذا الأثر من توسل عمر بالعباس] التوسل القولي [القبوري] : أي الاستسقاء بأسماء الصالحين [بمجرد ذكرهم على اللسان] فقط، [بأن يقال: اللهم بوسيلة فلان أو بحرمة فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان] بدون شركتهم [، وحضورهم ودعائهم] ....) .

قلت: لقد قرأ القراء الكرام المنصفون المنشدون لضالة الحق هذه النصوص الثلاثة لإمام الديوبندية والكوثرية جميعاً، ألا وهو العلامة أنور الكشميري (1352هـ) . وهو يقرر في هذه النصوص أمرين مهمين:

الأول: الفرق بين توسل السلف وبين توسل هؤلاء الخلف القبورية.

الثاني: بطلان استدلال هؤلاء الخلف القبورية بهذه الآية الكريمة وهذا الأثر في توسل عمر بالعباس، محققاً أن هذه الآية وهذا الأثر لا يشملان توسل هؤلاء الخلف القبورية، لأن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعاء العباس، لأن العباس كان يدعو لهم وهم كانوا يؤمنون بدعائه،

ص: 1520

بخلاف توسل هؤلاء الخلف القبورية، فإنهم يتوسلون بالشخص من دون أن يدعو لهم، ومن دون أن يحضر ويشترك معهم في التضرع إلى الله.

قلت: هذه كانت خلاصة نصوص العلامة الكشميري، وأن ترى أنها تقطع دابر القبورية عامة، ودابر الديوبندية، ودابر الكوثري والكوثرية خاصة.

تنبيه: بمناسبة هذه النصوص الثلاثة للعلامة الكشميري (1352هـ) الذي يجله الكوثري والكوثرية فضلاً عن الديوبندية بالمبالغات التي ذكرت أمثلة منها - لا بد من أن أذكر كلمة في إبطال تلك الكلمات الوقحة التي هذى بها الكوثري بلسانه وسجلها ببنانه حيث قال:

إن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يشمل التوسل بالأشخاص والتوسل بالأعمال، (رغم تقول كل مفتر أفاك

) .

وقال بعد استدلاله بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما على توسل القبوري:

(قول عمر

نص على توسل الصحابة بالصحابة

وقصر ذلك على ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم تقصير عن هوى، وتحريف لنص الحديث، وتأويل بدون دليل.

ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم، بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال، ونسب إلى عمر ما لم يخطر

ص: 1521

له على بال، فضلاً عن أن ينطق به؛ فلا يكون هذا إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) .

قلت: بتحقيق هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية ولا سيما العلامة الكشميري الذي يجله الكوثري ويكبره إكباراً - تبين: أن الكوثري هو المتقول على الله تعالى، وأنه هو المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الأفاك على السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الأمة، وأنه هو المقصر عن هوى، وأنه هو المحرف لأثر توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، وأنه هو الذي قد حاول المحال، وأنه هو الذي قد نسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال، وأن أفاعيله محاولات لإبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي، وإلا لكان هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية - ولا سيما العلامة الكشميري (1352هـ) أحد أئمة الديوبندية والكوثرية - متقولين، مفترين، أفاكين، محرفين للحديث، مبطلين للسنة الصحيحة، محاولين للمحال، ناسبين إلى عمر ما لم يخطر له على بال - بتصريح هذا الكوثري - لكن التالي باطل فالمقدم مثله؛ لأن الكوثري قد وضع بنفسه قانوناً كلياً في عدم جواز حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور، وأن من فعل هذا - فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وأنه تنكب سبيل السلف الصالح، مسلك أئمة أصول الدين، وأنه نابذ لغة التخاطب،

ص: 1522

وأنه هجر طريقة أهل النقد، إلى آخر ذلك القانون الكلي الذي وضعه الكوثري بنفسه لقطع دابره ودابر قومه القبوريين.

فالكوثري مع تناقضه الفاضح، واضطرابه الواضح - ممن يأمرون ولا يأتمرون، وعلى الكتاب يتقولون، وعلى السنة يفترون، ولنصوصهما يحرفون.

حيث يحمل نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على مصطلحات جديدة بدعية قبورية شركية، فهو المتقول المفتري الأفاك الكذاب.

فهل يرعوي عن أباطيله هذا المرتاب؟؟؟.

ويجدر بي أن أتمثل بمناسبة حال الكوثري بأبيات آتية ترثي حاله وحال خلطائه:

ودع سليمى إن تجهزت غادياً

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

على حين عاتبت المشيب على الصبا

فقلت ألما أصح والشيب وازع

فإن تنج منها تنج من ذي ملمة

وإلا فإني لا أخالك ناجيا

وأكتفي بهذا القدر وأنتقل إلى الجواب الثالث في الوجه الآتي:

{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] .

الوجه الثالث:

لقد سبق في الوجه السابق أن متن هذا الأثر يدل على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه، وقد ذكر علماء الحنفية عدة من القرائن الموجودة في متن هذا الأثر الدالة على أن هذا التوسل لم يكن إلا بدعاء العباس رضي الله عنه، ولم يكن من قبيل توسلات القبورية، وفي هذا الوجه أذكر كلام علماء الحنفية وتحقيقهم بإقامة شاهدي عدل من كلام عمر والعباس أنفسهما - على أن التوسل إنما كان بدعاء العباس رضي

ص: 1523

الله عنه، ولا أكتفي بذلك؛ بل أذكر اعتراف كبار أئمة القبورية وشهادتهم على أن هذا التوسل إنما كان بدعاء العباس، وكفى بذلك إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجة، فيكون الجواب السابق من قبيل ما قيل:

وتسعدني في غمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد

وهذا معنى قولهم: ((هذه القضايا قياساتها معها)) .

وأما هذا الجواب - فيكون من قبيل ما قيل:

ونديمهم وبهم عرفنا فضله

والفضل ما شهدت به الأعداء

وما قيل:

ومليحة شهدت لها ضراتها

والحسن ما شهدت له الضرات

بل هو من قبيل ما قال الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا

فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27] .

فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المستعان المعين، والمستغاث المغيث:

1 -

قال الإمام البدر العيني إمام الحنفية في عصره (855هـ) في بيان صفة دعاء العباس في الاستسقاء:

(إن العباس قال ذلك اليوم: اللهم إن عندك سحاباً، وإن عندك ماء، فانشر السحاب، ثم أنزل منه الماء، ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل، وأحل به الفرع، وأدر به الضرع. اللهم شفعنا إليك عمن لا منطق له من بهائمنا، وأنعامنا.

ص: 1524

اللهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقاً مجيباً. اللهم إنا نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل عادم، وجوع كل جائع، وعري كل عار، وخوف كل خائف

) .

2 -

وقال رحمه الله أيضاً، ذاكراً دعاء آخر دعا به العباس رضي الله عنه، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه:

(فلما صعد عمر، ومعه العباس المنبر - قال عمر رضي الله عنه: ((اللهم إنا توجهنا إليك بعم نبيك، وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين)) .

ثم قال: ((قل يا أبا الفضل)) ، فقال العباس [رضي الله عنه] :

اللهم: لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث)) .

قال [ابن عباس] : فأرخت السماء شآبيب مثل الجبال، حتى أخضبت الأرض وعاش الناس) .

3 -

وقال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري أحد أئمة الديوبندية،

ص: 1525

والكوثرية، والملقب عندهم جميعاً بإمام العصر، ومحدث العصر، مبيناً صفة دعاء العباس رضي الله عنه، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه ليس غير:

(وصفة استسقاء العباس ما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى: ((اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب

)) ا. هـ) .

قلت: هذه كانت أمثلة لشهادة علماء الحنفية لتحقيق أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان بدعائه ليس إلا، بدليل أن عمر رضي الله عنه طلب منه الدعاء، وأن العباس رضي الله عنه قد دعا لهم.

وأما شهادة أئمة القبورية وذكرهم طلب عمر الدعاء من العباس وأن العباس قد دعا لهم - فبيان ذلك: أنه ذكر كثير من أئمة القبورية أن عمر طلب من العباس أن يدعو لهم، وأن العباس قد دعا لهم، ثم ذكروا نص دعائه، حتى اعترف بذلك الكوثري، فشهد بما يقطع وتينه.

وهذا من الحجج القاهرة والسلاطين الباهرة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما -

ص: 1526

إنما كان بدعائه، فكان العباس رضي الله عنه يدعو لهم، والباقون يؤمنون.

الحاصل: أنه قد ثبت بنصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية وشهادة هؤلاء الخصوم القبورية:

أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه، ولم يكن هذا التوسل من قبيل توسلات هؤلاء القبورية.

ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا

وأنك تلقى باطل القول لجلجا

الوجه الرابع: أن هذا الأثر من أقوى السلاطين القاهرة، ومن أعظم البراهين الباهرة، على إبطال توسلات القبورية بجميع أنواعها، الشركية منها والبدعية.

وأنه من أوضح الأدلة القاطعة، وأظهر الحجج الدامغة الساطعة، على إثبات أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان بدعائه ليس غير.

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(والجواب: أن المراد من التوسل - الدعاء لهم، يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا، كما جاء في بقية الروايات. وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في كتبهم، ومرادهم التوجه إلى الله بدعاء الصالحين بأن يدعوا لهم.

ولو كان التوسل بالذوات - هو المطلوب، والمدلول الذي أقاموا

ص: 1527

عليه الدليل - وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة، ولو بندائهم ودعائهم كما مر تقريره من دليلهم، وأنه على معنى الشفعاء، يدعون لهم. وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً، وشرعاً. فإنهم أحياء في قبورهم - لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمر المهم - وهم عنده بالمدينة - أولى.

ولكان قولهم - كما في رواية البخاري: ((أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون)) -

ص: 1528

عبثاً ضائعاً، بل مخلاً بما يقولون ويدعون، بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأوضحها وأصدقها لما ندعيه.

فإن قول عمر: ((اللهم: إنا إذا أجدبنا توسلنا

)) إلخ - يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء، بدليل قوله:((إنا كنا)) .

ولما كان العباس حياً طلبوه منه، فلما مات - فات.

فقصرهم له على الموجودين - ولو كانوا مفضولين - دليل ساطع، وبرهان لامع، على هذا المراد، ولو كان المقصود الذوات

ص: 1529

- كما يقولون - لبقيت هذه التوسلات عندهم على حالها، ولم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين، سيما الأنبياء والمرسلين.

فتأمل في هذا، فإنه أحسن ما في هذه الأوراق، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق.

والله يهديك السبيل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل) .

قلت: بهذا القدر أكتفى في قلع هذه الشبهة، فلا حاجة إلى مزيد من الإطالة، وبعد قطع دابر القبورية بهذه الصوارم القواطع - ننتقل إلى الشبهة الثالثة، لنطلع على جواب علماء الحنفية عنها.

الشبهة الثالثة: دعوى القبورية الإجماع على التوسل القبوري.

لقد ادعى السبكي (756هـ) وغيره من خلطائه القبورية الإجماع - إجماع هذه الأمة، بل إجماع جميع أهل الأديان - على حسن التوسل والاستغاثة بالأموات عند الكربات، وأنه فعل الأنبياء والمرسلين، ومن سير السلف الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان

ص: 1530

حتى جاء ابن تيمية فأنكر الاستغاثة والتوسل، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار به بين الأنام مثله.

وقال الكوثري، الأفاك المفتري:

(وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث، والمعقول

، رغم تقول كل مفتر أفاك) .

وقال هذا الكوثري الجهمي الوثني:

(وعلى التوسل بالأنبياء والصالحين أحياء وأمواتاً - جرت الأمة طبقة فطبقة، وقول عمر في الاستسقاء: ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا)) - نص على توسل الصحابة بالصحابة.

وفيه إنشاء التوسل بشخص العباس رضي الله عنه..، وقصر ذلك على ما قبل وفاته عليه السلام، تقصير عن هوى، وتحريف للحديث

ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال، ونسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال، فضلاً عن أن ينطق به.

فلا يكون [يعني إنكار الاستغاثة والتوسل بالأموات] إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) .

الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الفتاكة الأفاكة

ص: 1531

بوجهين، وحاربوا القبورية من جهتين اثنتين:

الوجه الأول: أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية أن التوسل في اصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتوسل بالأعمال الصالحة، والتوسل بدعاء حي حاضر ليس غير، وقد أقام علماء الحنفية على ذلك براهين باهرة، وسلاطين قاهرة.

وساقوا لذلك حججاً قاطعة، وأدلة ناصعة، وثبت بهذا كله أن أهل التوحيد والسنة هم على ما عليه هذه الأمة وليسوا متقولين ولا مفترين، ولا كذابين ولا أفاكين، وأنهم ليسوا مبطلين للسنة، ولا هم خارجين على إجماع هذه الأمة، وأنهم ليسوا مثلة بين الأنام، ولا هم أهل شرك وابتداع كالقبورية الطغام.

وإنما المتقولون والمبطلون للسنة والأفاكون، والمحرفون للكتاب والسنة، والخارجون على إجماع هذه الأمة، وأهل الشرك والابتداع، والمثلة بين الأنام - هم هؤلاء القبورية الدعاة إلى الوثنية في الإسلام.

فإن السلف لم يستغيثوا بالأموات عند الكربات، ولا توسلوا بمجرد الذوات عند إلمام الملمات.

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) في إبطال هذا الإجماع القبوري الباطل، وذلك في تفسير آية الوسيلة: (واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين

وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في

ص: 1532

هذا المقام:

أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه، لا شك في جوازه، إن كان المطلوب منه حياً.. وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً - فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف.. ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئاً

وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد،

ص: 1533

فقال: ((ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة)) انتهى.

وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة - ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم.

ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك - فمؤول بتقدير مضاف، كما سمعت، أو نحو ذلك، كما تسمع إن شاء الله تعالى. ومن ادعى

ص: 1534

النص فعليه البيان) .

قلت: هذا هو كلام علماء الحنفية في إبطال دعوى هؤلاء القبورية الإجماع على استحسان الاستغاثة بالأموات، والتوسل بهم عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات، وقد عرفت أن أمثال السبكي والكوثري من أئمة القبورية، في دعواهم الإجماع على صحة الاستغاثة بالأموات، وفي قولهم: إن الأمة طبقة فطبقة على ذلك رغم تقول كل مفتر أفاك، وإن منكر الاستغاثة والتوسل بالأموات مبتدع ومثلة بين الأنام - هم في الحقيقة خارجون على إجماع هذه الأمة، مبطلون ومحرفون لنصوص الكتاب والسنة، وأنهم هم المتقولون على الله تعالى، وأنهم هم المفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم هم الأفاكون الكذابون على الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة هذا الدين.

وأنهم هم أهل الشرك والابتداع في صميم الإسلام، وأنهم هم المثلة بين الأنام، وأن الأمة طبقة فطبقة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لم يقل أحد منهم قط بجواز التوسل والاستغاثة بالمقبورين، لكن هؤلاء القبورية المتهورين زعموا أن لا جواب لدعواهم وإن كذبوا.

ص: 1535

فسلط الله عليهم علماء الحنفية فكشفوا عن أسرارهم الأستار وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم وأظهروا الحق كالشمس في رابعة النهار، وتحدوهم تحدي الفرسان في مضمار الرهان.

فقطعوا دابرهم وصرعوا لهم أميراً ووزيراً، فلم يجدوا لهم مجيراً ولا نصيراً، فانقطعوا منهزمين مكسورين أذلة صاغرين مع كثرتهم نفيراً.

فلم يكن لهم جواب هذا التحدي ولن يمكن لهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

ستعلم ليلى أي دين تدينت

وأي غريم في التقاضي غريمها

والحقيقة أن هؤلاء الأعلام من الحنفية غرماء لهؤلاء القبوريين، وأن هؤلاء القبورية الصرعى لا يمكن لهم قضاء دينهم إلى يوم الدين.

قضى كل ذي دين فوفى غريمه

وعزة ممطول معنى غريمها

وبعد هذا أنتقل إلى الجواب الثاني في الوجه الآتي:

الوجه الثاني: أن هذا التعامل وهذا الإجماع الذي ذكرهما القبورية ليسا من التعامل والإجماع الشرعيين، حتى يكونا حجة عند النزاع، وذلك لوجوه:

الأول: أن أصحاب هذا التعامل وهذا الإجماع - ليسوا من الصحابة والتابعين ولا من الأئمة المجتهدين، وإنما هم خليط أمشاج من العوام الطغام، والملوك الجهلة، ومن انتموا إلى العلم ولكنهم أجهل خلق الله بتوحيد الأنبياء والمرسلين، كما سيأتي تحقيقه على لسان علماء الحنفية.

والثاني: أن هذا التعامل، وذلك الإجماع ليسا من الحجج

ص: 1536

الشرعية، لأن بناءهما ليس على الكتاب والسنة، بل بناؤهما على العادة المتوارثة المأخوذة عن العوام الطغام طبقة فطبقة، حسب البيئات والتأثيرات الداخلية والخارجية، ولا شك أن العادات المخالفة للشرع - ليست من الحجج الشرعية.

والثالث: أن التعامل، والإجماع لا يكونان من الحجج، إلا عند صلاح الأزمنة التي ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد علمت أنها قد تعطلت منذ أزمنة، كما صرح به علماء الحنفية.

قلت: الحاصل: أنه قد تحقق تحقيقاً لا مزيد عليه أن إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء المحققين والأئمة المجتهدين - على عدم جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات، عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات، فإذا كان في الدنيا إجماع صحيح فهو هذا.

وأما الإجماعات الأخرى: كإجماع الوثنية من أهل الملل والنحل، أو إجماع القبورية من هذه الأمة، أو إجماع الفسقة والفجرة من الناس، أو إجماع أهل البدع، أو إجماع العوام - فهي من أبطل الباطل * وأنها أمر كاسد فاسد عاطل * فإن كان القبورية يعرضون عن أصح الإجماعات، ويتشبثون لدعم وثنيتهم بأبطلها -

ص: 1537

فحينئذ هم ساقطون عن مرتبة الخطاب * إلى إسطبل الدواب *

وذي سفه يواجهني بجهل

فأكره أن أكون له مجيبا

فدع عنك الكتابة لست منها

ولو لطخت وجهك بالمداد

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

فليس شعاع الشمس يخفى لناظر

أفيقوا عن الإصرار ما بالكم لد

وفي هذا القدر كفاية * لمن رزق الدراية والهداية * والله الهادي إلى سواء السبيل * وهو حسبي ونعم الوكيل *.

ص: 1538

الباب العاشر

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

من النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور

وزيارتهم للقبور والبناء عليها

وفيه فصول ثلاثة:

- الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور.

- الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور.

- الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور.

ص: 1539

الفصل الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور

وفيه مبحثان:

- المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور.

المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التبرك على الوجه المحذور.

ص: 1541

المبحث الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور

وفيه مطالب ثلاثة:

- المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور.

- المطلب الثاني: في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور.

- المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في النذور لأهل القبور.

ص: 1543

المطلب الأول

في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور

من الأمثال الشركية التي وقع فيها القبورية عبادة لغير الله تعالى - النذور لأهل القبور.

وفيما يلي عدة نماذج من أقوال أئمة القبورية في جواز النذور لأهل القبور.

1 -

قال القباني (1157هـ) وهو أحد كبار أئمة القبورية:

(فإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيماً لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله، جاز) .

2 -

وقد بوب السمنودي المنصوري المصري، أحد كبار أئمة القبورية (المتوفى بعد 1326هـ) قائلاً:

(الباب التاسع في الكلام على النذر والذبح للأنبياء والصالحين) ثم ذكر ما هو دعوة سافرة إلى الوثنية.

ص: 1545

3 -

وقال الملا جيون الهندي الحنفي * الجهمي الصوفي الخرافي * (1130هـ) :

(ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء كما هو الرسم في زماننا، حلال طيب، لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح، وإن كانوا ينذرونها له [أي لغير الله] ....) .

4 -

وقد عقد القضاعي أحد كبار أئمة غلاة القبورية الكوثرية (1376هـ) فصلاًَ في الدعوة السافرة إلى الوثنية عامة والنذور للأموات خاصة، فقال:

(فصل في توضيح بطلان القول بأن الذبح للميت والنذر له شرك، وتحقيق أن ذلك [أي النذر للميت] من القرب الواصل نفعها إلى الحي والميت جميعاً) ، ثم طول النفس في الدعوة إلى الوثنية السافرة عامة، وإلى النذر للأموات خاصة، بحجة أن الناذرين لا يعتقدون فيهم الخالقية والرازقية والربوبية، كما طعن على عادته الكوثرية في أهل التوحيد والسنة بكلمات وقحة.

ص: 1546

5 -

وقال محمد الفقي أحد غلاة القبورية الوثنية:

(المبحث الثالث في النذور، النذر للأنبياء والأولياء وغيرهم من القرب التي يدعو إليها الدين) .

هكذا ترى القبورية يعقدون عناوين بارزة للنذور للأموات، دعوة منهم إلى عبادة غير الله تعالى.

الحاصل: أن خلاصة عقيدة القبورية في النذر للأموات ما يلي:

1 -

أن النذر للأموات من أعظم القربات، والأعمال الصالحات.

2 -

أن النذر للأموات يجوز ما لم يعتقد الناذر أن الميت خالق ورب.

3 -

أن الذبح يجوز للميت، بشرط أن لا يذكر اسمه على المذبوح عند الذبح.

4 -

أنه يبدو لي أن مقصود القبورية بالنذر للأموات هو الاستغاثة بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات.

وهذه خلاصة عقيدة القبورية في النذور للأموات وبعد هذا ننتقل إلى:

ص: 1547

المطلب الثاني

في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية

في نذورهم لأهل القبور

لقد صرح كثير من العلماء الحنفية في الرد على القبورية بأن النذر لغير الله تعالى حرام، بل هو شرك؛ لأنه نوع من أعظم أنواع العبادة، وعبادة غير الله شرك، ولأنه متضمن أنواعاً أخرى للشرك بالله تعالى، فإن الذي ينذر شيئاً للميت لابد من أن يعتقد فيه عدة عقائد شركية:

1 -

أن يعتقد أنه يعلم حال هذا الناذر.

2 -

أن يعتقد أنه يتصرف في الأمور، من شفاء المريض وغناء الفقير، وإغاثة الملهوف ونحو ذلك.

3 -

أنه يسمع نداء الناذر واستغاثته به.

وهذه العقائد كلها شركية وثنية كما سبق تحقيقها على لسان علماء الحنفية في الأبواب السابقة.

وفيما يلي عدة نصوص لعلماء الحنفية دالة على أن النذر لغير الله تعالى حرام، بل إشراك صريح بالله وأنه من أعمال المشركين السابقين:

ص: 1549

1 -

16- قال الإمام قاسم بن قطلوبغا (879هـ) وتبعه كثير من أئمة الحنفية المشاهير، كالإمام ابن نجيم، الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) ، والإمام خير الدين الرملي (993هـ) ، والإمام سراج الدين عمر بن نجيم (1005هـ) ، والإمام علاء الدين الحصكفي (1088هـ) ، وفقيه الحنفية الشامية ابن عابدين (1252هـ) ، والشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، الإمام الثاني للديوبندية الملقب بالإمام الرباني (1323هـ) ، والعلامتان شكري الآلوسي (1342هـ) والخجندي (1379هـ) والشيخ علي محفوظ الحنفي المصري (1361هـ) وغيرهم، واللفظ للأول على ما نقله عنه الثاني ثم الآخرون:

(وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام - على ما هو مشاهد - كأن يكون لإنسان، غائبٌ أو مريضٌ، أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض [قبور] الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه فيقول: يا سيدي فلان! إن رد غائبي، أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا ومن الفضة كذا ومن الطعام كذا ومن الماء كذا ومن الشمع كذا ومن الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع، لوجوه:

منها: أنه نذر مخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق.

ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك.

ومنها: [أنه] إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر

) ، زاد الحصكفي: (وقد ابتلي الناس بذلك، ولا

ص: 1550

سيما في هذه الأعصار) .

وزاد ابن عابدين فيما حكاه عن النهر الفائق:

(ولا سيما في مولد البدوي) .

قلت: هذا النص لهؤلاء الأعلام من الحنفية دال دلالة قاطعة على أن النذر لغير الله تعالى من أعظم أنواع الشرك؛ لأن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بواح، ولأن المنذور له ميت والميت لا يملك شيئاً، ومن اعتقد التصرف في الكون للميت فقد كفر كفراً مبيناً، وهذا النص من قبيل القضايا التي قياساتها معها، وفي ذلك عبرة بالغة لمن فيه إنابة إلى الحق من القبورية، ونكال شديد أليم للمعاندين المكابرين المستنكفين منهم.

كما يدل على أن القبورية الناذرين لأهل القبور هم عباد القبور، بل هم وثنية، حيث جعلوا القبور وأهلها أوثاناً يعبدونها من دون الله تعالى،

ص: 1551

يوضحه النص الآتي:

17 -

21- وهو قول الإمام محمد البركوي (981هـ) في صدد البرهنة على أن القبورية وثنية، حيث يعبدون القبور وأهلها أنواعاً من العبادات، ويشركون بالله تعالى أنواعاً من الإشراك، منها النذر لهم، وتبعه آخرون من كبار أعلام الحنفية: أمثال الإمام الشيخ أحمد الرومي (1043هـ) والشيخين: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :(ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير رب العالمين *) .

22 -

25- وقالوا كلهم غير الأخير:

(لو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن من فعله، وقد لعن، ولأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور تشبيهاً بتعظيم الأصنام؛ ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن ينذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك، فإنه نذر معصية، لا يجوز الوفاء به اتفاقاً......) .

26 -

29- وقالوا أيضاً مبينين عدة أنواع للشرك الذي يرتكبه

ص: 1552

القبورية: (ومنها النذر لها ولسدنتها) .

30 -

31- ونقله الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيخ محمد علي المظفري وأقرانه.

32 -

وقال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله تعالى في كشف الستار عن أسرار القبورية، وتحقيق أنهم على طريقة المشركين الأوائل عبدة الأصنام السفلية * والأجرام العلوية * مقارناً لهؤلاء القبورية بأولئك الوثنية:

(.... ولهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت لها الأصنام، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم........) .

33 -

وقال رحمه الله تعالى مبيناً أن القبورية يعبدون عدة من الأوثان بعدة أنواع من العبادة، منها النذر الذي هو عبادة للمنذور:

(...... ثم يتجاوز هذا إلى أن يعظم وقع الأماكن في قلوبهم،

ص: 1553

فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي بين شجر وحجر وحائط وعين، يقولون: إن هذا الشجر، وهذا الحجر وهذه العين يقبل النذر، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له....) .

34 -

وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبيناًَ أنواع الشرك التي ارتكبها أهل الشرك في القديم والحديث، ولا سيما مشركي العرب - منها النذر لغير الله تعالى، ومحققاً أن القبورية في هذه الشركيات على طريقة الوثنية الأولى: (ومنها أنهم كانوا يستغيثون بغير الله في حوائجهم: من شفاء المريض وغناء الفقير، وينذرون لهم، يتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور، ويتلون أسماءهم رجاء بركتها، فأوجب تعالى عليهم أن يقولوا في صلاتهم:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4]، وقال تعالى:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .

35 -

وقال ابن عربشاه (854هـ) مبيناً أن القبورية يعبدون القبور وأهلها، حتى عبدوا الفسقة الفجرة منهم بأنواع العبادات، حيث عبدوا تيمور الفاسق الفاجر * ذلكم الملك الظالم الجائر *

ص: 1554

(.... وقبره في مكانه المشهور * تنقل إليه النذور* وتطلب عنده الحاجات * ويبتهل عنده بالدعوات *....) .

36 -

وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) .

37 -

وتبعه غلام الله الملقب بشيخ القرآن (1980م) ، في بيان وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام وبيان فضائح القبورية، وأن القبورية يعبدون القبور وأهلها بأنواع من العبادات، منها النذر لها ولأهلها، وأنه إشراك بالله تعالى، لأنه عبادة، وعبادة غير الله شرك، وأن القبورية قد كثروا في هذه الأمة حتى صاروا أكثر من الدود، وذلك في تفسير قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] :

(ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها، المعتقدون للنفع والضر [في أهلها] ممن الله أعلم بحاله فيها [أي في القبور] ، وهم اليوم أكثر من الدود) .

38 -

وقال العلامة الرباطي:

(ثم اعلم أن بيان هذا المرام -

ص: 1555

أعني أن المنذورات لغير الله وكل ما أهل لغير الله به - فهو حرام قطعاً ونجس، ليس حرمته دون حرمة الكلب والخنزير - من وجهين: الأول: أن ذلك عبادة، وقد عرفت أن العبادة مطلقاً من حقوق الله، فإعطاؤها لغير الله كفر صريح وشرك قبيح.

والثاني: أن النصوص القرآنية قد وردت في تحريمها بخصوصها فكانت محرمة من هذا الوجه أيضاً) .

39 -

وقال الشيخ الرستمي: (فالنذر لله عبادة له تعالى، كما قال جمهور الفقهاء، فمن نذر لغير الله تعالى فقد عبد لغير الله، والعبادة لغير الله كفر وشرك، والتجربة شاهدة بأن النذر إنما يكون لمن يرجى منه كشف المهمات * ودفع البليات وإنجاح الحاجات *

.... فمن ينذر لغير الله فهو يعتقد أن ذلك الغير يشفي مرضي، ويجيب دعوتي وينجح حاجتي؛ ورجاء إنجاح الحاجات من غير الله شرك.

قلت: الحاصل: أن هذه عدة نصوص لكبار علماء الحنفية تدل

ص: 1556

على عدة أمور مهمة:

الأول: أن القبورية ينذرون للقبور وأهلها.

الثاني: أنهم ينذرون لدفع الكربات وجلب الخيرات.

الثالث: أنهم يعتقدون أن الأموات يعلمون بنذورهم.

الرابع: أنهم يعتقدون فيهم التصرف في الأمور.

الخامس: أن النذر للقبور وأهلها من أعظم أنواع الإشراك بالله العظيم.

السادس: أن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بلا شك.

إلى غيرها من المطالب في كلام هؤلاء الأعلام، وبعد هذا ننتقل إلى عرض بعض شبهات القبورية مع ذكر أجوبة علماء الحنفية عنها، قلعاً لأعذارهم * وقطعاً لأدبارهم *.

*****

ص: 1557

المطلب الثالث

في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية

التي تشبثوا بها لتبرير نذورهم للقبور وأهلها

لقد تشبثت القبورية لتبرير النذور للقبور وأهلها بشبهات كثيرة أهمها ثلاث، أود أن أسوقها مع جواب علماء الحنفية عنها وكلامهم في قلعها وقمع أهلها:

الشبهة الأولى: أن ما يقرب إلى القبور وأهلها من المنذورات - لا يدخل في باب عبادة غير الله تعالى، فإن هذه النذور ليست من قبيل العبادة لأن العبادة لا تحقق إلا باعتقاد الربوبية والخالقية في المخضوع له.

والجواب: أنه قد أجمع علماء الحنفية على أن النذر عبادة، دل على ذلك تعريفهم للنذر، فقد قال الجرجاني (816هـ) :

(النذر إيجاب عين الفعل المباح على نفسه، تعظيماً لله تعالى) وقد صرحوا بأنه لا يجوز النذر للقبور وأهلها، ونصوا على أنه شرك بالله تعالى،

ص: 1559

وعللوا ذلك بأنه عبادة، وعبادة غير الله شرك بالله.

وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية: أن العبادة لا يشترط فيها اعتقاد العابد في المعبود أنه رب وخالق.

وأقول: من اختبر حال القبورية وعلم الدافع لهم على النذور للأموات، ولا سيما المضطرين منهم الذين يريدون بنذورهم للأموات استعطاف الأموات لدفع الملمات وجلب الخيرات، ورأى ما هم فيه من الخشوع والخضوع والتذلل لهم - عرف أنهم أعظم عبادة للأموات * منهم لخالق البريات * ومن أنكر هذا فهو مكابر غالط * ومعاند مغالط *.

الشبهة الثانية: أن القبورية زعمت أن الإنسان إذا نذر لغير الله تعالى، ولم يذبح منذوره باسم غير الله تعالى، بل ذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح - فهو جائز حلال، فالمنذور لا يحرم إلا إذا ذكر اسم غير الله عليه عند الذبح ويذبح باسم غير الله تعالى.

قال الملا جيون الهندي الحنفي * الماتريدي القبوري الخرافي (1130هـ) :

ص: 1560

(ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء - كما هو الرسم في زماننا - حلال طيب؛ لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح؛ وإن كانوا ينذرونها له) .

الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة أن العبرة في النذر لغير الله تعالى للنية لا لذكر اسم غير الله عند ذبح المنذور، فمن نذر بقرة لميت مثلاً فقد أشرك بمجرد نذره إياه له، سواء ذكر اسم الله عند ذبحها أو ذكر اسم ذلك الميت، فإن العبرة لنية هذا الناذر المتقرب إلى ذلك الميت الطالب بنذره له كشف المعضلات وجلب الخيرات منه؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3، والنحل: 115] وقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فما أهل به لغير الله أعم من المذبوح باسم غير الله؛ فإن ما أهل به لغير الله قد يكون من قبيل المشروبات، أو الملبوسات، أو المشمومات، بل قد يكون من المعادن كالذهب والفضة والياقوت والمرجان ونحوها، وقد يكون من المطعومات التي لا تحتاج إلى الذبح، كالسمك والزيت والسمن والعسل ونحوها؛ لأن ((الإهلال)) هو رفع الصوت بالشيء وليس معناه الذبح، فمن زعم: أن معنى قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} -: ما ذبح باسم غير الله بأن يذكر اسمه عليه وقت الذبح، فقد غلط غلطاًَ مبيناً، وقيد مطلق الكتاب وخصص عامه بدون دليل مسوغ، وتقول على اللغة العربية ما لا يعرفه العرب، فإن الإهلال لم يعرف عند

ص: 1561

العرب بمعنى الذبح، وأما ما ذكره بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:((وما ذبح للأصنام والطواغيت)) ونحو ذلك، فليس هذا معناها اللغوي الكامل - بل قصدهم بيان فرد من أفراد {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ، فإن المشركين السابقين كانوا عادة، إذا نذروا شيئاً من الأنعام لآلهتهم ذبحوه بأسمائها، بخلاف القبورية في هذه الأمة، فإنهم إذا نذروا بقرة مثلاً لأوليائهم الأموات مثلاً، ذبحوها باسم الله تعالى لساناً وظاهراً، حيلة منهم، ولكن هذا المنذور المذبوح يكون مذبوحاً في الحقيقة باسم ذلك الولي الميت، فهم وإن لم يذكروا اسم هذا الولي المنذور له ظاهراً على ألسنتهم عند ذبح ذلك الحيوان المنذور، لكنهم يذكرون اسم وليهم باطناً في قلوبهم قبل ذبحه وعند ذبحه وبعد ذبحه، دل على ذلك نذرهم له ونيتهم وتقربهم إليه واستعطافهم إياه لدفع الملمات وجلب الخيرات.

إذاً لا تأثير لذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح ما دام المنذور لغير الله تعالى، فذبحهم باسم الله تعالى ليس إلا حيلة قبورية لا تنجيهم من الشرك والتحريم؛ لأن العبرة للنية لا لذكر اسم الله تعالى على اللسان، فهذا الناذر مشرك وهذا المنذور حرام وإن ذكر اسم الله عليه وقت الذبح.

ص: 1562

قال المهايمي الحنفي (835هـ) مبيناً أن ما أهل به لغير الله فهو حرام في الحالين، سواء ذكر اسم الله عليه أم لا:(فإنه وإن ذكر معه اسم الله فقد عارض المطهر فيه المنجس مع نجاسته بالموت - وإن لم يذكر فقد زيد في تنجيسه) .

وقال الإمامان التمرتاشي (1004هـ) والحصكفي (1088هـ) وتبعهما العلامة ابن عابدين الشامي (1252هـ)، والعلامة اللكنوي (1304هـ) :[شخص](ذبح)[ضأناً مثلاً](لقدوم الأمير) ونحوه كواحد من العظماء (يحرم) ، لأنه أهل به لغير الله، (ولو) وصلية (ذكر اسم الله تعالى) .... وهل يكفر؟ قولان

ونحوه في شرح الوهبانية عن الذخيرة، ونظمه: * وفاعله جمهورهم قال: كافر * وفضلى

ص: 1563

وإسمعيلي ليس يكفر *.

الشبهة الثالثة: لقد احتال القبورية في الاعتذار عن نذورهم للأموات بحيلة ماكرة عجيبة، وهي أنهم يقولون: نحن إذا نذرنا للأولياء - فإن نذرنا في الحقيقة لله تعالى، وإنما قصدنا إيصال ثواب نذرنا إلى الأولياء. هكذا ترى القبورية يحتالون بهذه الحيلة الماكرة، ويعتذرون هذا الاعتذار البارد الفاسد.

الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الماكرة بأن هذه المعذرة حيلة محضة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن القبورية غير صادقين في هذا الاعتذار، لأمارات وشواهد، وفيما يلي أسوق كلام بعض كبار الحنفية لقلع هذه الشبهة للقبورية * قمعاً لأعذارهم * وقطعا

ص: 1564

لأدبارهم * وإقامة للحجة * وإيضاحاً للمحجة *:

1 -

2- قال أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) وتبعه محمد مراد المنزلوي - محققاً أن النذر لغير الله تعالى من أعظم الإشراك بالله سبحانه، لأنه عبادة، ومبيناً أن كثيراً من أهل الهند الجهلة القبورية يرتكبون أنواعاً من الشرك بأنواع من النذور لغير الله، والاستغاثات، ومبطلاً هذه الشبهة القبورية، بأن القبورية في اعتذارهم هذا - غير صادقين: (والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام * - كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - * عين الشرك والضلالة....، وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع

ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصاً وقت عروض مرضى الجدري المعروف فيما بين نساء الهنود بالستيلة، فإن ذلك الفعل مشهود ومحسوس من خيرهن وشرهن

وتعظيم الأيام المعظمة عند اليهود، وأداء رسوم الأيام المتعارفة عند اليهود - مستلزم للشرك، ومستوجب للكفر، كما أن جهلة أهل الإسلام خصوصاً طائفة نسائهم يؤدون رسوم أهل الكفر

، كل ذلك شرك وكفر بدين الإسلام، قال الله تبارك وتعالى:

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .

وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشايخ عند قبور المشايخ المنذورة لهم، جعله الفقهاء أيضاً في الروايات الفقهية داخلاً في الشرك،

ص: 1565

وبالغوا في هذا الباب وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً.... ومثل ذلك صيام النساء بنية المشايخ

، ويجعلن مطالبهن، ومقاصدهن مربوطة بتلك الصيام.

ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة تلك الصيام، وذلك الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى، وطلب لقضاء الحوائج عن الغير بواسطة العبادة إليه

وقول بعض النساء وقت إظهار شناعة هذا الفعل: ((نحن نصوم هذا الصيام لله تعالى، وإنما نهدي ثوابها لأرواح المشايخ)) - حيلة منهن، فإن كن صادقات في ذلك فلأي شيء يحتاج إلى تعين الأيام للصيام، وتخصيص الطعام، وتعين أوضاع شنيعة مختلفة في الإفطار * وكثيراً ما يرتكبن المحرمات وقت الإفطار * ويفطرن بشيء حرام، ويسألن شيئاً من غير حاجة، ويفطرن به، ويزعمن قضاء حوائجهن مخصوصاً بارتكاب هذا المحرم، وهذا عين

ص: 1566

الضلالة، وتسويل الشيطان اللعين، والله العاصم) .

3 -

8- وقال الإمام الآلوسي محمود، مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) وآخرون من الحنفية، مبينين أن النذر لغير الله تعالى شرك، وأن عبدة القبور كعبدة الأصنام، ومبطلين اعتذارهم بأنه من أبطل الحيل، وأنهم غير صادقين في ذلك، ومحققين أن القبورية عار شنار على هذه الأمة وضحكة لأهل الملل والنحل:

(وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} إلخ -[الحج: 73] إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى * حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى * وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: ((إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي)) .

ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل [لهم] : انذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم؛ فإنهم أحوج من أولئك الأولياء -

ص: 1567

لم يفعلوا.

ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة؛ وإذا طولبوا بالدليل - قالوا:((ثبت ذلك بالكشف)) !!! .

قاتلهم الله تعالى!! ما أجهلهم!! وأكثر افتراءهم!!! ، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور، ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون:((إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه)) . وكل ذلك باطل، لا أصل له في الكتاب والسنة * وكلام سلف الأمة * وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية) .

قلت: هذا كان جواباً دامغاً لحيلة القبورية هذه.

والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود الحنفية في إبطال تبركات القبورية.

ص: 1568

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية

في إبطال عقائد القبورية في التبرك على الوجه

المحذور

وفيه مطلبان:

- المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية.

- المطلب الثاني: في إبطال علماء الحنفية تبركات القبورية الشركية والبدعية.

ص: 1569

المطلب الأول

في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية

من أشهر عقائد القبورية التبركات الشركية والبدعية، فهم يهتمون بالتبرك بقبور الصالحين وأتربة قبورهم وآثارهم ومجالسهم التي لا

ص: 1571

يوجد الدليل الشرعي على جواز التبرك بها، كما يهتمون بالتبرك بكثير من الكتب البدعية الخرافية، لمؤلفيها الذين لهم إجلال وإكبار في قلوب هؤلاء القبورية.

وفيما يلي عدة أمثلة لتبركات القبورية الشركية والبدعية:

1 -

التماس البركة من قبور الأولياء جائز.

2 -

تعظيم القبور والتبرك بها ولمسها وتقبيلها وتقبيل أعتاب مشاهدها، والتمسح بها والطواف حولها، جائز شرعاً وراجح عقلاً.

3 -

تبرك القبورية بقبر أبي منصور الماتريدي، إمام الماتريدية الحنفية (ت 333هـ) .

4 -

وقال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الحنفية (1340هـ) : (لا بأس بوضع تمثال مقبرة الحسين في البيت للتبرك) .

5 -

تبركات أخرى يرتكبها القبورية قديماً وحديثاً.

6 -

تبركات الديوبندية الحنفية الماتريدية النقشبندية القبورية، بالحجرة الشريفة، على صاحبها ألف تحية وصلاة وسلام.

7 -

وتبركاتهم بالغلاف.

8 -

وتبركاتهم بتمر المدينة النبوية.

9 -

وتبركاتهم بنوى التمر.

ص: 1572

10 -

وتبركاتهم بتراب الحجرة الشريفة.

11 -

وتبركاتهم بأقمشة المدينة الطيبة.

12 -

وتبركاتهم بالزيت المحروق في المسجد النبوي.

13 -

وتبركاتهم بالزيت المحروق في الحجرة النبوية.

14 -

وإدخالهم الأطفال إلى الحجرة للتبرك.

15 -

وتبركاتهم بقبر النبي صلى الله عليه وسلم.

16 -

وتبركاتهم بموضع جلوس النبي صلى الله عليه وسلم.

17 -

وتبركاتهم بما مسته يده الشريفة صلى الله عليه وسلم.

18 -

وتبركاتهم بما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم.

19 -

وتبركاتهم بالمنبر في المسجد النبوي.

20 -

وتبركاتهم بكتاب ((إحياء العلوم)) للغزالي الصوفي (505هـ) ذلكم الكتاب الخرافي * الجهمي القبوري الصوفي *.

21 -

وتبركاتهم بكتاب ((المثنوي)) للرومي الحنفي * الحلولي الاتحادي الصوفي القبوري الخرافي * (672هـ) ، الذي أطراه القبورية حتى جعلوه قرآناً فارسياً.

هذه التبركات القبورية الديوبندية البدعية غير الشرعية - كلها - موجودة عند الديوبندية الذين هم أقرب إلى السنة والتوحيد بالنسبة إلى بقية القبورية. وقد سبق بيانها بالتوثيق.

22 -

تبركات القبورية الأتراك بقصيدة البردة للبوصيري الصوفي الخرافي (696هـ) .

ص: 1573

23 -

تبركات القبورية بكتاب ((مختصر القدوري)) (428هـ) .

24 -

تبركات القبورية بالقبور وأتربتها.

25 -

ولعلي الأحمدي كتاب في الدعوة إلى التبركات القبورية الشركية والبدعية، سماه ((التبرك)) .

هذه كانت عدة أمثلة ذكرتها لبيان عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية، وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها.

***

ص: 1574

المطلب الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في التبرك على الوجه المحذور

اعلم أخي المسلم أن التبرك نوعان:

نوع مشروع: وهو ما ورد الشرع بجوازه، فهذا النوع من التبرك لا كلام فيه. وليس هو موضوعنا ههنا، ومن أراد أن يطلع على كثير مما ثبت التبرك به شرعاً فليرجع إلى كتاب ((التبرك أنواعه وأحكامه)) ، وغيره.

فكل ما ثبت في شرع الله تعالى التبرك به يجوز التبرك به ولا ينافي التوحيد ولا السنة.

ونوع ممنوع غير مشروع: وهو التبرك الذي لم يرد الشرع بجوازه، أو ورد الشرع بخلافه، فهذا النوع من التبرك هو بيت القصيد ههنا، وهو صنفان:

الصنف الأول: تبرك شركي: وهو ما كان فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو أن يعتقد المتبرك [بصيغة اسم الفاعل] : أن المتبرك به غير الله تعالى يعطي الخير والنماء

ص: 1575

فوق الأسباب العادية، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن من أنواع التبرك: الشرك في التبركات.

وهذا النوع من التبرك يرجع إلى عقيدة التصرف في الكون لغير الله سبحانه وتعالى؛ وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية، أن هذه العقيدة من أعظم أنواع الإشراك بالله تعالى في الربوبية، وأن صاحب هذه العقيدة من أوضح أصناف المشركين.

قال العلامة الرستمي حفظه الله تعالى - وهو من كبار علماء الحنفية المعاصرة - محققاً أن القبورية واقعون في شرك البركات، مبيناً معنى (بسم الله الرحمن الرحيم) :

(فالمعنى: ((متبركاً باسم الله الرحمن الرحيم أقرأ)) ؛ فيه إشارة إلى أن البركة في اسمه تعالى، وهو يبارك في الأشياء وحده لا شريك له في هذا؛ وفي هذا رد على من يشرك [بالله تعالى في القبورية] في البركات، ولذا ينذرون للأولياء، وغيرهم من سوى الله تعالى، ويقولون: ((إذا أعطينا نذورهم من الأنعام أو الحرث فينظر الأولياء إلى أموالنا

ص: 1576

بنظر الشفقة، ويباركون فيه)) ، وبعضهم يقرءون أسماءهم في وظائفهم وخلواتهم للتبرك بها، وما هذا إلا شرك في البركات.... فالذي يعتقد: أن فلان - الولي يبارك في أموالنا وفي حرثنا وفي أنعامنا - فهو مشرك بالله تعالى؛ فالله تعالى هو ((المبارك)) باسم الفاعل وحده، الذي يعطي له [أي عبده] نعيم الدنيا والآخرة ويزداد له في قليل ماله؛ فهو [أي العبد] يسمى:((مباركاً)) باسم المفعول؛ كما قال الله تعالى: في شأن بيته المعظم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] ؛ فالله بارك في هذا الموضع بأنه يزيد ثواب عمل فيه أضعافاً مضاعفة، وكذا فيه منافع كثيرة للناس؛ فلذا سمي مباركاً، وقال تعالى في شأن عيسى عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} الآية [مريم: 31] ؛ فبارك الله في عيسى عليه السلام بأن ينتفع به عباد الله، وهو

ص: 1577

يدعوهم إلى الله وإلى توحيده، وعبادته، وجعل في عبادته منافع كثيرة لأتباعه....

وما يقولون في أدعيتهم توسلاً: ((ببركة فلان)) فلا معنى له ولا يجوز؛ لأن ذلك المصدر [البركة] إما مضاف إلى الفاعل، فالمعنى:((المبارك هو الفلان)) - فهذا شرك؛ كما ثبت قبل؛ وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى: ((المبارك هو الفلان)) - فلا معنى لهذا التوسل، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم) .

قلت: القبورية في تبركاتهم الباطلة على طريقة الوثنية الأولى؛ فقد صرح الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) بأن المشركين كانوا يتلون أسماء من يتغيثون بهم للتبرك ويعتقدون أن أسماءهم مباركة للحلف بها، وكانوا يقصدون مواضع يعظمونها للتبرك بها.

الصنف الثاني: تبرك بدعي:

ص: 1578

وهو ما لم يكن فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ بل كان فيه طلب الخير والنماء من الله تعالى، ولكن بواسطة شيء لم يرد الشرع به:

كطلب البركة من الله تعالى بواسطة غلاف الكعبة أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة استلام الحجرة النبوية أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة تمر المدينة النبوية، ونحوها مما لم يرد به الكتاب والسنة، وقد ذكرت عدة أمثلة للتبركات البدعية التي يرتكبها القبورية عامة والديوبندية خاصة.

والتبركات البدعية قناطر التبركات الشركية، بل قد تكون شركية فعلاً إذا اعتقد المتبرك: أن المتبرك به يقدر على البركة؛ ولقد حذر علماء الحنفية من جميع التبركات البدعية أيضاً كما حذروا من التبركات الشركية، فقد صرحوا بوجوب إزالة كل ما يتبرك به القبورية تبركاً بدعياً: من قبر، ونصب وشجر وحجر، ومسجد بني على قبر، وقنديل، وسراج، وشمع على قبر، وخرفة، ومسمار، وحائط، وعين، وعمود، ونحوها وقالوا: إن الواجب هدم هذه الأشياء كلها، وإزالة أثرها، والمبادرة إلى محوها؛ لأن الناس يقصدونها، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء بها والتبرك بها، حسماً للفتنة التي قد عظمت بها، وقطعاً للبلوى التي اشتدت بها، إذ هي سبب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه؛ ولأنها أعظم شراً ومفسدة من مسجد الضرار؛

ص: 1579

ولأن هذه التبركات البدعية قنطرة للتبركات الشركية، فوجب منع ذلك، حماية لحمى التوحيد، وسداًَ لذرائع الشرك؛ لئلا تصير هذه الأشياء أوثاناً تعبد من دون الله.

ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التبرك والتمسح بحجر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن لا يقبل الركن اليماني، ونصوا أيضاً على أن يقبل الحجر الأسود للتعبد لا للتبرك، فلا يجوز تقبيل الحجر الأسود للتبرك، حماية للتوحيد، وسداً لذرائع الشرك.

ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التعلق بشجرة تشبه شجرة للمشركين، ولو كان هذا التشبه بالاسم فقط، فضلاً عن التبرك بها، والعكوف عليها، فإن ذلك يتسبب إلى الوثنية، واستدلوا بحديث ((ذات أنواط)) .

وكذلك صرحوا بمنع انتياب الناس إلى شجرة ذات حادث جلل فضلاً عن التبرك بها، ووجوب المبادرة إلى قطعها وإزالة أثرها، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب في إزالة شجرة الرضوان؛ كل ذلك حماية لحمى التوحيد وقطعاً لوسائل الشرك.

قلت: الحاصل أنه إذا كان التبرك بأمثال الحجر الأسود والركن اليماني، وذات أنواط، وشجرة الرضوان وغيرها مما لم يرد بالتبرك به

ص: 1580

الشرع - فكيف يجوز التبرك بالأتربة، والمنبر والزيت المحروق في المسجد النبوي، وغير ذلك فضلاً عن التبرك بالقبور عامة وأتربتها، والقبور المعظمة خاصة؛ كما سبق ذلك في تحقيقات علماء الحنفية ومنعهم وتحذيرهم من التبركات الشركية والبدعية، واستدلالهم بعمل الصحابة رضي الله عنهم في قصة دانيال وأمر عمر بن الخطاب بدفنه وتعمية أمره وأثره، وأن أمثال هذه التبركات والتوسلات - من أفعال الوثنية الأولى.

نتيجة هذا البحث: لقد وصلنا في مبحث التبرك إلى نتائج:

1 -

تعريف التبرك لغة واصطلاحاً.

2 -

التبرك المشروع، وهو ما ورد الشرع بجوازه.

3 -

التبرك الشركي، وهو شرك بالله في التصرف والربوبية.

4 -

التبرك البدعي، وهو دون التبرك الشركي في الإثم.

5 -

التبرك البدعي قنطرة للتبرك الشركي.

6 -

التبرك البدعي قد يصير تبركاً شركياً.

7 -

تبركات القبورية كتوسلاتهم فيها شرك وبدعة.

8 -

التبرك غير المشروع من أفعال الوثنية الأولى.

9 -

القبورية في تبركاتهم الشركية والبدعية على طريقة المشركين السابقين.

10 -

هذه التحقيقات لعلماء الحنفية فيها عبرة للقبورية عامة وللديوبندية الماتريدية النقشبندية خاصة.

وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الثاني والله المستعان * وهو المبارك، وعليه التكلان *.

ص: 1581

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

وفيه مبحثان:

- المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور.

- المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور.

ص: 1583

المبحث الأول

في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

لقد سبق محققاً مفصلاً مبرهناً على لسان علماء الحنفية، أن سبب وقوع بني آدم في الوثنية إنما هو الغلو في الصالحين، والافتتان بقبورهم، ولذلك نهى الشارع الحكيم أولاً عن زيارة القبور حسماً لمادة الشرك، ثم لما استقر التوحيد في قلوب المسلمين، وزال الخوف أذن لهم في زيارة القبور مع بيان صفة الزيارة والحكمة فيها والمقصود منها، وهو التزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والدعاء والاستغفار لأهل القبور بدون ارتكاب أي نوع من الشرك والبدعة وغير ذلك من المعاصي.

ولكن الشيطان قد احتال على قبورية هذه الأمة، واستدرجهم لأجل جهلهم بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين، وزين لهم كثيراً من أنواع الشرك ووسائله، وصاغ لهم الشرك والبدع في قالب الدين ومحبة الأولياء وتعظيمهم، فأعاد هذا الخسيس إبليس * - بأنواع من التدليس والتلبيس * - الوثنية الأولى في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، ومن مظاهرها زيارتهم للقبور زيارة شركية وبدعية.

ص: 1585

وفيما يلي أذكر أمثلة من زيارة القبورية للقبور، والمشاهد، على طريقة شركية وبدعية؛ فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *:

للقبورية في زياراتهم الشركية والبدعية للقبور ألوان وأفنان، أذكر منها ما يلي:

1 -

زيارة القبور للمراقبة عند القبر، وقد ارتكبها الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) مؤلف ((بذل المجهود)) و ((المهند على المفند)) - ذلكم الكتاب القبوري - وأحد كبار أئمة الديوبندية النقشبندية، مع رفقة من كبار علماء الديوبندية، وكان منهم الشيخ أشرف علي التهانوي (1362هـ) الذي لقبوه بحكيم الأمة، وهو حكيم ولكن للأمة الديوبندية.

فقد زار الشيخ السهارنفوري مع هؤلاء الركب الديوبندي، ضريح الخواجة معين الدين الجشتي إمام الصوفية الجشتية، وبمجرد الوصول إلى القبر جلس للمراقبة واستغرق في المراقبة كأنه أغمي عليه والناس حول القبر بين طائف وساجد ومرتكب للشرك.

2 -

زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من قبور الأكابر.

قلت: هذا نوع من الزيارة من أعظم عقائد الديوبندية، وأقول: كانت الفلاسفة اليونانية إذا دهمتهم نازلة يذهبون إلى قبر

ص: 1586

((أرسطاطاليس)) المنطقي وشيخ الفلاسفة والمعلم الأول لهم (322 ق م) لحصول المدد والفيض من قبره.

وأقول: زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من القبور وأهلها قد دعا إليها دعوة سافرة المتفلسفة في الإسلام، أمثال الفارابي (339هـ) الملقب بالمعلم الثاني، الضال الكافر، وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) الملقب بالرئيس، ذلكم الملحد الذي فعل بالإسلام كما فعل بولس اليهودي (65م) بالنصرانية. صرح بذلك كثير من علماء الحنفية.

3 -

زيارة القبور لأجل الدعاء والصلاة والقيام عندها، وطلب القربة إلى الله تعالى والزلفى لديه بواسطة أهلها.

وأول من اطلعت عليهم من القبورية الذين ارتكبوا هذه الزيارة ودعوا إليها - هم إخوان الصفا، المتفلسفة الباطنية.

وأخذها عنهم الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) ، والتفتازاني

ص: 1587

فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، ثم تبعهم عامة القبورية حتى الديوبندية، والكوثرية.

حتى صرح بعضهم بأن السؤال عند قبور الصالحين ثابت متوارث. وأن المختار أن يستقبل الزائر القبر عند الدعاء. وقد سبق الكلام عليه.

وقد صرح النابلسي الحنفي أحد أئمة القبورية (1143هـ) - وتبعه الكوثري إمام الكوثرية القبورية الجهمية (1371هـ) - بجواز إيقاد السراج على قبر ولي من أولياء الله تعظيماً لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به، ويدعوا الله عنده فيستجاب لهم.

4 -

زيارة القبور بالسفر إليها، وشد الرحال إليها، والحج إليها.

وهذا النوع من الزيارة هو بيت القصيد عند القبورية قديماً وحديثاً.

أقول: هذا النوع من الزيارة قد كان عند المشركين السابقين، كما صرح بذلك الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) .

ثم تسربت هذه الزيارة إلى الروافض، فقد صنف ابن النعمان شيخ

ص: 1588

الرافضة، المعروف بابن المعلم، والملقب بالمفيد (413هـ) كتابا سماه:((مناسك حج المشاهد)) ، وقد أفضى ببعض القبورية إلى أنه قد حج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب إلى الكعبة المشرفة، وبعض القبورية يعد هذا العمل من الفضائل وأن فاعله أفضل من الحاج، وهذا لازم كلام الديوبندية لأن القبر الشريف أفضل من الكعبة والعرش عندهم.

5 -

زيارة الديوبندية لقبر النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة تناقض السنة * وتصدم عمل سلف هذه الأمة *، وهي من أوضح عقائد الديوبندية وبدعهم؛ فقد صرحوا بأن الزائر يجرد نيته لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي المقصد الأعظم من السفر، أما زيارة المسجد النبوي فتكون تبعاً وضمناً؛ فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة والعرش والكرسي.

قلت: هذه من عجائب الديوبندية، مع أنهم أقرب إلى السنة، فما ظنك بغيرهم من القبورية؟؟ .

6 -

زيارة القبور لأجل الاستمداد من أهلها والاستغاثة بهم لدفع الملمات وجلب الخيرات. وللنذر لها ولأصحابها، ولا سيما الذبح

ص: 1589

عندها ولها ولأصحابها، وللاحتفال بمواليد أصحابها عندها، وللطواف بها، وأكل ترابها، وتقبيلها واستلامها، ولغيرها من الشركيات والبدع التي يرتكبها القبورية عند زيارة القبور في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها مما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس *.

وهذه المشاهد مئات بل آلاف * وأنواع وألوان وأقسام وأصناف *

وقد اهتم القبورية بهذه الأنواع من الزيارات للقبور، حتى جعلوها أهم من فروض الأعيان، فتراهم يتحملون عناء السفر في تحقيقها، وينفقون للوصول إليها أموالاً هائلة، ويذهبون إليها خفافاً وثقالاً، وينفرون إليها ثباتاًَ وجميعاً، ويطيرون إليها زرافات ووحداناً، ويجتمعون عندها رجالاً ونساء وصغاراً وكباراً، وشباباً، وشيوخاً، فيتهافتون على القبور - تهافت الفراش على النار، ويسبب ذلك فتناً كثيراً، منها: موت كثير من الخلائق من شدة الزحام *، فضلاً عن ارتكاب الفسق والفجور وكبائر الآثام *.

هذه نماذج من زيارات القبورية للقبور ذكرتها مثالاً لما عندهم من

ص: 1590

العقائد الشركية والبدعية في زيارة القبور؛ وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الثاني؛ لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال هذه الزيارات وقلعها وقمع أصحابها، والله المستعان وعليه التكلان.

****

ص: 1591

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

لعلماء الحنفية جهود كثيرة في الرد على القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية وبدعية، ولهم نصوص قاطعة لدابر القبورية وقامعة لشبهاتهم، أسوق بعضها للإنذار * وحسماً للأعذار * وإتماماً للحجة * وإيضاحاً للمحجة *:

1 -

8- قال الأئمة الثلاثة: محمد البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ)، والشيوخ الثلاثة: المظفري، وسبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، والعلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) وشكري الآلوسي (1342هـ) في بيان الفرق بين الزيارتين: السنية، والشركية البدعية؛ محققين أن طريقة حصول الفيوض من القبور وأهلها طريقة للوثنية الأولى، وأن هذه الزيارة أخذها منهم المتفلسفة في الإسلام ثم عامة القبورية - واللفظ للأول بكامله وللآخرين قطعات منه -:

(فإذا كان ذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة ويقف عند ما شرع له، ولا يتعداه؛ ليكون محسناً إلى نفسه، وإلى الميت، فإن زيارة القبور نوعان:

ص: 1593

زيارة شرعية * وزيارة بدعية *؛ [بل شركية] .

أما الزيارة الشرعية: التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود منها شيئان:

أحدهما: راجع إلى الزائر: وهو الاعتبار والاتعاظ.

والثاني: راجع إلى الميت: وهو أن يسلم عليه الزائر، ويدعو له.

وأما الزيارة البدعية: فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، والولد، وقضاء الديون، وتفريج الكربات * وإغاثة اللهفات * وغير ذلك من الحاجات * التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين * إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين * وسائر أئمة الدين * بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة عن عباد الأوثان؛ فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به، وأدناه منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء الصافي ونحوهما على الجسم المقابل له، ثم قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه

ص: 1594

الزائر بروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه * ويوجه قصده وإقباله إليه * بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعها، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا، والفارابي وغيرهما؛ وصرح به عباد الكواكب؛ وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور؛ ولهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات، واتخذت لها الأصنام، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله، وأنزل كتبه لإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله،

ص: 1595

ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه فوقف هؤلاء الضالون في طريقه، وناقضوه في قصده؛ وقالوا: إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى وتوجه إليه بهمته، وعكف بقلبه عليه - صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى؛ وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به، وبهذا السبب عبدوا القبور، وأصحابها، واتخذوهم شفعاء على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله في الدنيا والآخرة؛ والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد عليهم، وإبطال رأيهم.......) .

قلت: هذا النص لا يحتاج إلى تعليق ما، وفيه عبرة ونكال للديوبندية المتبركين الزائرين لأجل الفيوض، فضلاً عن غيرهم من القبورية المحضة.

9 -

14- وقال هؤلاء الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ)، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، والمظفري، في بيان المقارنة بين الزيارة السنية وبين الزيارة الشركية - البدعية، - محققين أن القبورية

ص: 1596

خالفوا السنة في زيارة القبور، من عدة وجوه، وأنهم غيروا وبدلوا القول الذي قيل لهم في شرع الرحمن * بالذي أخذوه من شرع الشيطان * فناقضوا التوحيد والسنن * وارتكبوا أنواعاً من الشرك والفتن * - واللفظ للأول، وللباقين فقرات من هذا النص -:

(ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في [زيارة] القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس [من القبورية] اليوم - رأى أحدهما [يعني الزيارة البدعية] مضاداً للآخر، مناقضاً له [يعني الزيارة السنية] ؛ بحيث لا يجتمعان أبداً [لأن القبورية ناقضوا السنة والتوحيد في زيارتهم للقبور من وجوه:

الأول: صلاتهم عندها] فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور، وهم يخالفونه ويصلون عندها.

و [الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام] نهى عن اتخاذ المساجد عليها؛ وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد، ويسمونها مشاهد.

و [الثالث: أنه] نهى عن إيقاد السرج عليها؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع؛ بل يوقفون لذلك أوقافاً.

و [الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم] أمر بتسويتها؛ وهم يخالفونه، ويرفعونها من الأرض كالبيت.

و [الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن تجصيصها والبناء عليها؛ وهم يخالفونه ويجصصونها، ويعقدون عليها القباب.

و [السادس: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن الكتابة عليها؛ وهم يخافونه

ص: 1597

ويتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.

[والسابع: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن الزيادة عليها غير ترابها، وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب: الآجر والجص.

[والثامن: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن اتخاذها عيداً، وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر.

الحاصل: أنهم مناقضون لما أمر به الرسول عليه السلام، و [ما] نهى عنه، ومحادون لما جاء به.

و [التاسع: أنه] قد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه:((مناسك حج المشاهد)) ؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر [أيها المسلم] ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم: من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء [القبورية] وما قصدوه من التباين، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره:

فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها.

ومنها: تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى، فإنهم يقصدونها مع التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه؛

ص: 1598

وذلك يقتضي عمارة المشاهد * وخراب المساجد * ودين الله الذي بعث فيه رسوله بضد ذلك؛ ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين، إذ عمروا المشاهد * وخربوا المساجد *.

ومنها: اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء * ويستنزل الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء *.

ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها....

ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها.

ومنها: المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها:

من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السدنة لها؛ حتى أن عبادها [القبورية] يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد.

ومنها: النذر لها، ولسدنتها.

ومنها: المخالفة لله ولرسوله [صلى الله عليه وسلم] والمناقضة لما شرعه في دينه.

ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع.

ومنها: السفر إليها مع التعب الأليم، والإثم العظيم؛ فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين * ولا أمر بها رسول رب

ص: 1599

العالمين * ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين *؛ فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع؛ ولو سافر بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك؛ وقد ثبت في الصحيحين أنه عليه السلام قال:(( «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» )) .

ومنها: إيذاء أصحابها؛ فإنهم يتأذون بما يفعل عند قبورهم مما ذكر، ويكرهونه غاية الكراهة؛ كما أن المسيح [على نبينا وعليه السلام] يكره ما يفعله النصارى في حقه، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله [القبورية] أشباه النصارى في حقهم وهم يتبرءون منهم يوم القيامة....

ومنها: أن الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، والاتعاظ، والاعتبار بحال المزور، والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه؛ حتى يكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت؛ فقلب هؤلاء الأمر، وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه، وسؤاله الحوائج، واستنزال البركات منه، ونحو ذلك؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم، وإلى الميت

) .

ص: 1600

قلت: هذا النص لا يحتاج إلى التعليق.

ولكن أقول: فيه عبرة بالغة للديوبندية الذين يشدون الرحال إلى القبور، ويرون ذلك قربة عظيمة، ويزورون القبور لأجل حصول البركات والفيوض من القبور وأهلها، مع تظاهرهم بالتوحيد والسنة!! ونكال شديد لغيرهم من القبورية المحضة المرتكبين أنواعاًَ من الشركيات الوثنيات عند القبور.

15 -

19- وقال الإمامان: البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) والشيخان: سبحان بخش 1الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد كلام طويل متين في بيان مفاسد الزيارة الشركية والبدعية، وذكر فضائح القبورية، وإبطال كثير من أفعالهم الشركية والبدعية التي يرتكبونها عند زيارة القبور؛ محققين أن الاحتفال بالقبور والحج إليها، والحضور للاجتماع عند مواليد أصحابها، وجعلها أعياداً - من أعظم أسباب الوثنية، وأن ذلك متضمن لعدة أنواع من الإشراك بالله، وعبادة غير الله جل وعلا، فضلاً عن البدع، والفتن * ما ظهر منها وما بطن *؛ فاستمع أيها المسلم إلى كلام هؤلاء العلماء من الحنفية - واللفظ للأول -:

(ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها عيداً؛ كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه عليه

ص: 1601

الصلاة والسلام قال: (( «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، ولا تجعلوا قبري عيداً؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» )) ......... فإن قبره عليه الصلاة والسلام لما كان سيد القبور، وأفضل قبر على وجه الأرض - وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذه عيداًَ - فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من

ص: 1602

كان.... وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك [القول] إلى أن ما يناله منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبره، وبعدكم عنه؛ فلا حاجة بكم إلى الاتخاذ [لقبره] عيداً؛ كما اتخذ المشركون من أهل الكتاب قبور أنبيائهم وصالحيهم عيداً؛ فإن اتخاذ القبور عيداً - هو من أعيادهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام؛ وقد كان لهم أعياد زمانية ومكانية؛ فلما جاء الإسلام أبدلها الله تعالى وعوض عن أعيادهم الزمانية: عيد الفطر، وعيد النحر وأيام منى [ويوم الجمعة] كما عوض عن أعيادهم المكانية: الكعبة البيت الحرام، وعرفات ومنى، والمشاعر، [والمسجد النبوي والمسجد الأقصى] .

[شبهة، وقلعها، وقمع أصحابها] :

قال ابن القيم في ((إغاثته)) : قد حرف هذه الأحاديث الناهية عن اتحاذ القبور أعياداً بعض من أخذ شبهاً من النصارى بالشرك، وشبهاً من اليهود بالتحريف فقال:

هذا [الحديث فيه] أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام، والعكوف عنده، واعتياد قصده، وانتيابه، و [فيه] نهي [عن] أن يجعل [قبره] كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين؛ فكأنه [صلى الله عليه وسلم] قال: ((لا تجعلوا [زيارة] قبري بمنزلة العيد الذي يكون

ص: 1603

من الحول إلى الحول؛ [بل زوروا قبري مراراً وتكراراً، كل حين وفين] ، واقصدوه كل وقت وكل ساعة)) .

وهذا محادة ومناقضة لما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس؛ إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده، وكثرة انتيابه بقوله:(( «لا تجعلوا قبري عيداً» )) فهو إلى التلبيس، وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان؛ فإن لم يكن هذا تنقيصاً [للنبي صلى الله عليه وسلم] فليس للتنقيص حقيقة فينا؛ ولا شك أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثماً، وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك [التحريف] في دينه عليه السلام وسننه؛ وهكذا غيرت ديانات الرسل؛ ولولا أنه تعالى أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله؛ قال عليه السلام:(( «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» )) ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بين في هذا الحديث: أن الغالين يحرفون ما جاء به وأن المبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله؛ وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث؛ فلو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 1604

ما قال هؤلاء الضالون - لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولم يلعن من فعل ذلك؛ فإنه عليه السلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها - فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها، وإتيانها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟؟ .

وكيف يقول: (( «وصلوا علي حيث ما كنتم» )) بعد قوله: (( «لا تجعلوا قبري عيداً» )) !! وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف......

ثم في اتخاذ القبور عيداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى: ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد؛ وتقبيح للشرك وتهجين للكفر والبدع؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام؛ فمن مفاسد اتخاذها عيداً:

أن غلاة متخذيها عيداً إذا رأوها من موضع بعيد * ينزلون من الدواب، ويضعون الجباه على الأرض، ويقبلون، ويكشفون الرءوس، وينادون من مكان بعيد * ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد * ويرفعون

ص: 1605

الأصوات بالضجيج * ويرون أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج *

حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين * ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين * فتراهم حول القبور - سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً * وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسراناً * فلغير الله تعالى بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات * و [ما] يرتفع من الأصوات * و [ما] يطلب من الميت من الحاجات * و [ما] يسأل من تفريج الكربات * وإغناء ذوي الفاقات * ومعافاة أولي العاهات والبليات *.

ثم إنهم ينتشرون حول القبر طائفين * تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركاً وهدى للعالمين *

ثم يأخذون في التقبيل والاستلام * كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام * ثم يخرون على الجباه والخدود * والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود * ثم يكلمون مناسك حج القبر بالتقصير والحلاق * ويستمتعون من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق *.

ص: 1606

ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم، ونسكهم، وقربانهم لغير الله رب العالمين * ثم نراهم يهنئ بعضهم بعضاً، ويقول [جاهراً] * أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً * ثم إذا رجعوا يسألهم بعض غلاة المتخلفين: أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام * فيقول: لا ولو بحجك كل عام * هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال * و [فوق] ما يدور في الخيال *......) .

أقول: هذا النص من هؤلاء الأعلام من الحنفية سيف قاطع لأعناق هؤلاء القبورية.

20 -

21- وللإمامين الآلوسيين: الجد (1270هـ) والابن (1317هـ) نص مهم فيه عبرة للديوبندية خاصة وللقبورية عامة فليرجع إليه.

22 علق عليه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) قائلاً:

(قلت: وقد تعاظم الأمر في هذا الزمان * وظهرت البدع في كل

ص: 1607

مكان * وبنيت القبب المذهبة على القبور * ونذرت لها النذور * وجعلت عليها الشبابيك من العين * وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين * ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة * وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير المقنطرة * وطاف حولها الزائرون * وتبرك بتقبيلها والتمسح بأعتابها الداخلون * وطلبوا منهم قضاء الحاجات * وتفريج الكربات * وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات * ورموا من زجرهم عن هذا الفعل بأعظم الهنات * وأسمعوه ما يكره من الكلمات *

وأكثر عملهم في ذلك من الكبائر * كما صرحت به الجهابذة الأكابر *) .

23-

24- وللإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) نصان مهمان في إبطال الزيارة الشركية قد قطع بهما دابر القبورية، وقد سبق أن ذكرتهما.

25 -

28- وللعلامة الآلوسي الحفيد (1342هـ) نصوص أربعة قامعة رادعة في بيان كشف الستار عن أسرار القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية، قد سبق ذكرهما.

29 -

31- وقال الإمامان: الكمال ابن الهمام (861هـ) وابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) وغيرهما من أعلام الحنفية في بيان الزيارة السنية والبدعية: (ويكره النوم عند القبر، وقضاء الحاجة؛ بل كل ما لم يعهد من السنة؛

ص: 1608

والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائماً [يعني الدعاء لأهل القبور] ؛ كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع) ؛ ثم ذكر الدعاء المأثور لأهل القبور بالعافية والمغفرة.

قلت: هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن كل ما تفعله القبورية مما لم يرد في السنة فهو باطل؛ فضلاً عما يرتكبونه من الشرك البواح والكفر الصراح وعبادة القبور، وأهلها وما يرتكبونه من الفسق والفجور وغير ذلك من المنكرات.

وفيما ذكرت من نصوص الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية - كفاية، والله الهادي إلى سواء السبيل * من ضل عن التوحيد والسنة من كل ضليل * ولننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحريم البناء على القبور.

***

ص: 1609