الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية
في البناء على القبور
وفيه مباحث ثلاثة:
-
المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور
.
- المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور.
- المبحث الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في البناء على القبور.
المبحث الأول
في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور
تعتقد القبورية جواز بناء المساجد والقبب على القبور؛ بل يدعون دعوة سافرة إلى بناء المساجد والقباب على القبور، ولهم في ذلك بحوث ومقالات وكتب:
1 -
فقد عقد السمنودي (بعد 1326هـ) عنواناً بلفظ:
(مبحث البناء على القبور من المذاهب الأربعة، مع بيان الأدلة) ، ثم طول النفس في ذكر الخرافات التي ظنها أدلة على جواز بناء المساجد والقباب على القبور.
2 -
وعقد الحسن العاملي العراقي (1371هـ) فصلاً تاسعاً قائلاً:
(الفصل التاسع في بناء القبور، والبناء عليها وتجصيصها، وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها، وهذا مما حرمه الوهابية، وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها) .
ثم جمع كثيراً من الخرافات في تحقيق مزاعمه الباطلة وتجرد للوثنية الصريحة في كلام طويل مكتظ بالخرافات.
3 -
وعقد فصلاً آخر قائلاً:
(الفصل الحادي عشر في اتخاذ المساجد على القبور واتخاذها مساجد) ، ثم طول النفس في دعم خرافاته القبورية.
4 -
وعنون محمد النوري [ابن] رشيد النقشبندي الدير شوي القبوري بقوله: (البناء على القبور) ثم ذكر طائفة من خرافاته ليدعم بها الوثنية القبورية.
5 -
وللكوثري الحنفي الجهمي الماتريدي القبوري (1371هـ) مقالة فتاكة بعنوان: (بناء مساجد على القبور والصلاة إليها) .
6 -
وللبنوري الديوبندي الحنفي الكوثري القبوري (1397هـ) مقدمة لمقالات الكوثري أبعد غوراً في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد * أطرى فيها مقالات الكوثري إطراءً منكراً، وأكبرها إكباراً عظيماً، ومن تلك المقالات مقالة في الدعوة السافرة إلى القبورية الوثنية وعدة مقالات في الدعوة إلى التجهم والتعطيل، وجعل كتاب التوحيد لابن خزيمة، والسنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، ورد الدارمي على بشر المريسي وغيرها من كتب أئمة السلف - كتباً وثنية، وجعل عقيدة أئمة الإسلام السلفية عقيدة وثنية مع كون هذه المقالات الكوثرية مكتظة بشتائم فظيعة شنيعة لأئمة السنة وأعلام هذه الأمة أمثال: الدارمي والإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد وإمام الأئمة ابن خزيمة وشيخ الإسلام وابن القيم
الإمام، ومجد الدعوة وغيرهم من أئمة الإسلام.
7 -
قال الكوثري مستبشعاً هدم القبور صارخاً مهولاًَ ومجولاً قائماً وقاعداً منكراً على أهل التوحيد والسنة الذين أفتوا بوجوب هدم القباب على القبور: (فعلى هذا الرأي من صاحب التوقيع يجب على أولياء الأمور في بلاد الإسلام أن يمسكوا بمعاول الهدم ليعملوها في هدم قباب الصحابة وأئمة الدين، وصالحي الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، والمساجد المضافة إليهم، وقباب ملوك الإسلام، وأمراء الإسلام وغيرهم في كل قطر!!) .
8 -
9- وقال الكوثري ناقلاً كلام لأبي مقرراً له مجوزاً بناءً المساجد والقباب على القبور: (فأما من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح، أو صلى في مقبرته قصداً للتبرك بآثاره، وإجابة دعائه هناك فلا حرج
…
) .
10 -
11- وقال الكوثري مستدلاً بكلام النابلسي الحنفي القبوري الصوفي الخرافي (1143هـ)، في جواز اتخاذ القبور مساجد وجواز بناء المساجد عليها دعوة سافرة منهما إلى القبورية الوثنية:
(وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح، أو صلى في قبره وقصد به الاستظهار بوجه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا للتعظيم له، والتوجه إليه - فلا حرج....) .
12 -
13- وقالا، ناقلاً اللاحق عن السابق في بيان جواز إيقاد الشموع على القبور، وجواز بناء المساجد على القبور للتبرك ووصول الفيوض من القبور وأهلها:
(...... وهذا كله إذا خلا من فائدة، وأما إذا كان موضع القبور مسجداً أو على طريق، أو كان هناك أحد جالس، أو كان قبر ولي من أولياء الله، أو عالم من المحققين، لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به، ويدعوا لله عنده فيستجاب لهم، فهو أمر جائز لا منع فيه..) .
14 -
15- لذلك نرى كثيراً من القبورية، منهم العاملي (1371هـ) والكوثري (1371هـ) على عادة أهل البدع الخبيثة قديماً وحديثاً، ولا سيما الروافض والجهمية والقبورية، يطعنون ظلماً وعدواناًَ في الأحاديث الصحيحة الناهية عن البناء على القبور.
16 -
ولقد اهتمت القبورية علماء وجهالاً، خواص وعوام، رجالاً ونساءً، ملوكاً وأمراء ووزراء، وقواداً - اهتماما بالغاً بتعمير القبب
والمساجد على القبور، وتعمير العمائر الشامخات عليها، وتعمير المنارات الناطحات السماء، وأنفقوا على ذلك ملايين الملايين من الأموال الهائلة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ وأما ما ينفق على خدمها وسدنتها وصيانتها، وكذا ما ينفق على الأطعمة والأشربة عند احتفال القبورية على مواليد أصحابها ثاجين * عاجين * وأيضاً ما ينفق على الحج والسفر إليها من كل فج عميق، ناذرين * ذابحين * متبركين * مستغيثين * - فحدث ولا حرج.
كما ترى ذلك التبذير والإسراف والإفراط * في الإنفاق على هذه المزارات والمشاهد والمواليد المبنية على غير سواء الصراط * مما يرى في مشرق الأرض ومغربها * وشمالها وجنوبها * وما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس *.
17 -
وهذه المشاهد والمزاور مئات وألوف * وأنواع وألوان وأقسام وصنوف * فقد صنفوا عدة تأليفات * في تراجم المشاهد والمزاور الشامخات *
18 -
وقد جعلت كالكعبة تحج إليها، وجعلت أوثاناً تعبد من دون الله تعالى.
19 -
ولو أنفقت هذه الأموال الهائلة على المساجد والمدارس والفقراء والمساكين * واليتامى والأرامل، والمجاهدين والمهاجرين * وغير
ذلك من سبل البر في صالح الإسلام والمسلمين * لزال الفقر بالكلية * ولكانت كلمة المسلمين علية *.
20 -
ومع هذا كله قد ألف أبو الفيض أحمد بن محمد الغماري (1380هـ) الصوفي الخرافي القبوري دعوة سافرة إلى الوثنية رسالة سماها: (إحياء المقبور * من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور)، كما ألف أبو الفضل عبد الله بن محمد الصديق الغماري الصوفي الخرافي القبوري دعوة إلى القبورية رسالة سماها:(إعلام الراكع الساجد * بمعنى اتخاذ القبور مساجد) .
الحاصل: أنه قد تبين بما ذكرت من أمثلة لأقوال القبورية ونماذج من أفعالهم الوثنية - في الدعوة إلى بناء القبب والمساجد على القبور - أن القبورية يرون بناء القبب والمساجد من أعظم القربات * ومن أجل الطاعات، ومن أعظم العبادات * مع أن هذا العمل من أعظم وسائل الشرك بخالق الكائنات * وأنه موجب لأنواع اللعنات من رب البريات * وأنه من أبشع المعاصي الموبقات وأشنع الكبائر المنكرات * كما سيتحقق على لسان علماء الحنفية في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني
في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية
في البناء على القبور
وفيه مطلبان:
- المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها.
- المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان مفاسد البناء على القبور ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه.
المطلب الأول
في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها
لقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة لعقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور، وأن ذلك من أعظم الطاعات عندهم، فحرفوا الدين وقلبوا الحقائق وناقضوا التوحيد وعاكسوا الإسلام وجعلوا ما هو سبب للإشراك برب البريات * وما هو موجب لأنواع اللعنات من خالق الكائنات * قربة من أجل القربات التي أنفقوا عليها القناطير المقنطرات * على ظن التقرب إلى الله مالك الأرض والسماوات * ولكنهم وقعوا بسبب ذلك في أنواع من الوثنيات * لأجل ذلك وقف لهم علماء الحنفية بمرصاد * فشنوا عليها الغارات وقاتلوهم بأنواع من العتاد * وكشفوا الأستار عن أسرار هؤلاء القبورية الحيارى * وحققوا أن هذه الأعمال من أعمال اليهود المغضوب عليهم والضالين النصارى * وأنها موجبة لأنواع اللعنات * وسبب لألوان من المفاسد والوثنيات * واستدلوا بعدة أحاديث صحيحة محكمة صريحة، أذكر منها ما يلي:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه، وفي لفظ ((مات
فيه)) : « ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، قالت: ((ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)) » وهذا الحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
وقد استدل بهذا الحديث المتفق على صحته علماء الحنفية على أن البناء على القبور، واتخاذ القبور مساجد - من أعظم موجبات لعنة الله تعالى، وأنه سبب عظيم إلى الشرك بالله، وأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى، وأن ذلك من أسباب لعنهم وطردهم من رحمة الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز للمسلم ارتكاب ما يوجب لعنة الله تعالى فضلاً أن يجعل ما يوجب لعنة الله تعالى قربة إليه سبحانه وتعالى.
الحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها، وابن عباس رضي الله عنهم:(( «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» )) .
وتقرير استدلال علماء الحنفية بهذا الحديث هو ما سبق في الحديث الأول بعينه.
الحديث الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (( «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا»
«على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله» )) .
وقد استدل الحنفية بهذا الحديث على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وأن ذلك موجب للعنة الله تعالى، وأنه من أفعال اليهود والنصارى.
الحديث الرابع: حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: ((.... «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك» )) .
وقد استدل بهذا الحديث الصحيح علماء الحنفية على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وأن ذلك من أفعال المشركين السابقين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهمه هذا الأمر ويخاف منه على أمته؛ ولذلك حذرهم منه في مرضه الذي مات فيه، فصار ذلك من وصاياه المهمة التي تحمي حمى التوحيد وتسد ذرائع الشرك.
قلت: في هذه الأحاديث عبرة بالغة لمن يعتبر، ونكال شديد للمعاندين المكابرين من القبورية.
الحديث الخامس: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال:
(( «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» )) .
وفي رواية......... (( «وأن يكتب عليها» ......)) .
وقد استدل بهذا الحديث كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقبب على القبور، وتحريم تجصيصها، ووجوب المبادرة إلى هدمها؛ لأن ذلك من أفعال المشركين، وذرائع الشرك وموجبات اللعنة.
قلت: إذا كان الأمر كذلك فكيف يجعل ذلك قربة إلى الله عز وجل؟؟ .
الحديث السادس: مرسوم رسمي * أقوى وأهم من مرسوم ملكي *،
وقد استدل بهذا الحديث الصحيح كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقباب على القبور، وعلى وجوب المبادرة إلى هدم المساجد والقباب المبنية على القبور.
ويدل هذا الحديث الصحيح على أن البناء على القبور من أكبر العظائم الموبقات والمهلكات؛ فكيف يجوز لمسلم أن يجعل الموبقات المهلكات * قربة إلى الله عز وجل وطاعة من الطاعات *؟؟
الحديث السابع:
أن ثمامة بن شفي قال: (( «كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا؛ فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي؛ ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» )) .
وقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث الصحيح على تحريم البناء على القبور وعلى وجوب هدم ما بني ما عليها.
الحاصل:
أنه قد تبين من هذه الأحاديث الصحيحة:
أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك، وأنه من موجبات لعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه، وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات؛ فكيف يجوز للقبورية أن يجعلوا مثل ذلك قربة إلى الله تعالى؟؟
وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود الحنفية الأخرى في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور، وبيان مفاسد ذلك.
*****
المطلب الثاني
في جهود علماء الحنفية
في بيان مفاسد البناء على القبور
ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه
لقد حذر علماء الحنفية قديماً وحديثاً من بناء المساجد والقباب على القبور، أو عند القبور، أو اتخاذها مساجد؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة والموبقات المهلكات، ولأنها موجبة للطرد من رحمة الله تعالى، ومستلزمة لأنواع اللعنات من الله تعالى، وأنها من أعظم أسباب الإشراك بالله تعالى، وأنها من أفعال المشركين والكفرة السابقين؛ وفيما يلي أسوق عدة نصوص لعلماء الحنفية في مفاسد ذلك إيضاحاً للمحجة * وإتماماً للحجة * فأقول وبربي أستغيث وأستعين * إذ هو المستغاث المغيث، والمستعان المعين *.
1 -
7- قال الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) ؛ وأحمد الرومي (1043هـ) وولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، ومحمد المظفري والعلامة الرباطي - والمضمون للأول وللباقين قطع منه - ذاكرين تاريخ الوثنية وتطورها وبعض أسبابها - محققين أن الوثنية بدأت في بني آدم من فتنة القبور والبناء عليها،
وتعظيمها بما لم يأذن به الله تعالى - مبينين مفاسد بناء المساجد والقبب عليها -:
ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه: من الفتنة بالقبور؛ حتى عبدوها من دون الله، كما أنهم عبدوا أربابها، وبنوا عليها الهياكل، وبهذا السبب بدأ داء الشرك في قوم نوح عليه السلام، فكان ذلك مبدأ لعبادة الأصنام؛ ولأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد والقبب عليها، ولعن فاعله وبين أنه من أفعال اليهود والنصارى الملعونين الأشرار، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أفعال اليهود والنصارى وعامة المشركين في مرضه الذي لم يقم منه؛ فعمل الصحابة رضي الله عنهم بوصيته صلى الله عليه وسلم، فلم يبرزوا قبره الشريف صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن يتخذ مسجداً، ويجعل وثنا يعبد من دون الله، [وساقوا عدة أحاديث في ذلك ثم قالوا] :
وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، والصلاة إليها، متابعة منهم للسنة الصريحة؛ ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي على تحريم ذلك، والذين قالوا بكراهته أرادوا بالكراهة التحريم؛ لأنه لا يعقل أن يكون فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله - مكروهاً فحسب، ولم يكن محرماً!!! ؛
وقد صرح الفقهاء بتحريم ذلك؛ فلو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، مع أنه قد لعنه؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة؛ ولأن فيه إفراطاً في تعظيم القبور؛ ولأن فيه تشبهاً بعبدة الأوثان.
ثم نَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور يشمل البناء عليه بالحجارة، وما يجري مجراها؛ كما يشمل ضرب الخبأ عليه، فكلاهما من صنيع أهل الجاهلية، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؛ وهؤلاء المردة [أي القبورية] كانوا يزعمون أن الصلاة لقبورهم تعظيم لها، وهذا شرك جلي؛ ويزعمون أن التوجه إلى قبورهم حالة الصلاة أعظم موقعاً عند الله تعالى؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور - هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو بحجر؛ ولهذا نجد كثيراً من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون - بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر؛ ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد
…
8 -
14- وقال الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه الدهلوي (1176هـ)، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد المظفري، في بيان مفاسد بناء المساجد والقباب على القبور؛ وتحقيق أن القبوريين مناقضون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، واللفظ للأول؛ وللباقين فقرات منه:
(ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم [أي القبورية]- رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً [من وجوه] :
أ- فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور، وهم يخالفونه ويصلون عندها.
ب- ونهى عن اتخاذ المساجد عليها، وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد.
ج- ونهى عن إيقاد السرج عليها؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل، والشموع، بل يوقفون لذلك أوقافاً.
د- وأمر بتسويتها.
وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت.
هـ- ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب.
و ونهى عن الكتابة عليها، وهم يخالفونه ويتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ز- ونهى عن الزيادة عليها غير ترابها؛ وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب: الآجر والأحجار والجص.
ح- ونهى عن اتخاذها عيداً؛ وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر.
والحاصل: أنهم مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، ومحادون لما جاء به.... فانظر ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء [القبورية] وما قصدوه من التباين؛ ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره:
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها.
ومنها: تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى؛ فإنهم يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد
…
ومنها: اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء ويستنزل
الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء *
ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها....
ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها.
ومنها: المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السدنة لها؛ حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد.
ومنها: النذر لها ولسدنتها.
ومنها: المخالفة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمناقضة لما شرعه في دينه.
ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع.
ومنها: السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم) .
15 -
20- وقال هؤلاء الأعلام من الحنفية جميعاً؛ محققين أن القبورية المنصوبة التي يعبدها القبورية وبنوا عليها المساجد والقباب - هي أنصاب وأوثان لغة واصطلاحاً؛ وأن القبورية الذين يعبدون هذه القبور - هم عباد الأنصاب والأوثان؛ وأنه يجب المبادرة إلى هدم تلك المساجد والقباب المبنية على تلك القبور؛ لأن فسادها وضررها أعظم من مسجد الضرار؛ واللفظ للأول:
(ومن عظيم كيده [أي الشيطان] ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان
…
فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله: من شجر أو حجر، أو وثن، أو قبر
…
وأصل اللفظ: الشيء المنصوب الذين يقصده من رآه؛ فمن الأنصاب ما نصبه الشيطان للناس: من شجر أو عمود، أو قبر، وغير ذلك؛ والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، كما أن عمر رضي الله عنه بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.... - فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها * واشتدت البلية بسببها * وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار؛ ففي ذلك دليل على هدم ما هو أعظم فساداً: كالمساجد المبنية على القبور؛ فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ولعن المتخذين عليها مساجد، وأمر بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض؛
فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله؛ وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج، وشمع أوقدت على القبور؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقيم لدينه ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ينصرهما ويذب عنهما) .
21-
ولقد ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله (792هـ) عدة أحاديث لتحقيق تحريم بناء القبب والمساجد على القبور، وأن ذلك موجب للعنة والطرد من رحمة الله تعالى، وأنه من أعمال الكفرة الأولى اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين؛ وأن ذلك من أسباب الإشراك بالله عز وجل؛ وأنه تجب المبادرة والمسارعة لهدم ما بني على القبور.
22 -
وقد ساق الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) عدة أحاديث في تحريم بناء المساجد والقبب على القبور ووجوب هدمها، وأن ذلك موجب للعنة من الله تعالى، وأنه من أفعال الكفار
السابقين، وأن ذلك من أسباب الشرك بالله تعالى وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات، وأن الصلاة إليها وعليها والتبرك بها، كل ذلك من المحرمات الكبائر.
23 -
ثم قال: (قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به، عين المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل؛ للنهي عنها، ثم إجماعاً، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك؛ وأمر بهدم القبور المشرفة؛ وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ولا نذره) .
24 -
وله رحمه الله كلام مهم آخر في قلع شبهات القبورية وقمع جموعهم؛ وتحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك ومن الكبائر المبوقات وأنه من أفعال المشركين الأولين، وأنه مستوجب للعنة الله تعالى، وأنه عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
وأنه يجب هدم جميع تلك القبب والمساجد المبنية على القبور.
25 -
وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام مهم في بيان شناعة البناء على القبور وبيان مفاسدها، وأنه من أعظم وسائل الشرك بالله عز وجل، وأنه تجب المبادرة إلى هدم ذلك - بقمع القبورية وبقلع شبهاتهم وهو قريب من كلام والده الآلوسي.
26 -
وأهم من ذلك كلام العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) - في تحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى، وأنه موجب للعنة الله تعالى، وأنه تجب المبادرة إلى هدمه حماية لحمى التوحيد؛ لأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة.
27 -
29- وقال العلامة الخجندي (1379هـ) وشيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول - بعد ما ساقوا عدة أحاديث في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور؛ مبينين مفاسد هذا العمل الملعون أهلها:
(ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث [الناهي عنه] دخولاً أولياً - القبب والمشاهد المعمورة على القبور؛ وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد؛ وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك؛ كما سيأتي.
وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام:
منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحل، وتمسحوا بها، واستغاثوا.
وبالجملة: أنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا وفعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ ومع هذا المنكر الشنيع * والكفر الفظيع * - لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف: لا عالما، ولا متعلماً، ولا أميراًَ، ولا وزيراً، ولا ملكاً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه - حلف بالله فاجراً؛ وإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ - وأبى، واعترف بالحق؛ وهذا من أبين الأدلة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة؛ فيا علماء الدين * ويا ملوك المسلمين! * أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟؟
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟؟ .
لقد أسمعت لو ناديت حياً
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت
…
ولكن أنت تنفخ في الرماد
قلت: هذا النص يقمع القبورية من جهة، وفيه عبرة للمثلجين الباردين الساكتين على هذه المنكرات الفظيعة والشركيات الشنيعة ممن ينتمون إلى التوحيد والسنة؛ كما يقطع دابر تلك الجماعات والأحزاب التي همهم الوصول إلى الحكم فحسب دون الجهاد في سبيل التوحيد وقمع وثنيات القبورية * من هؤلاء الأحزاب السياسية * الذين يزعمون أن الاشتغال بالرد على القبورية اشتغال في غير الأمور المهمة، وأن هذا يسبب تفريق الأمة.
وفي هذا القدر كفاية لمن عنده دراية.
والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال بعض شبهات القبورية.
***
المبحث الثالث
في إبطال علماء الحنفية
لبعض شبه القبورية في البناء على القبور
للقبورية قديماً وحديثاً شبه كثيرة تشبثوا بها واستدلوا بها على جواز بناء المساجد والقبب على القبور، ولا غرو في ذلك؛ فإن القبورية قبورياتهم كلها شبهات، ولكن الله تعالى وفق بعض علماء الحنفية فوقفوا لهم بالمرصاد وردوا كيدهم في نحورهم وقلعوا شبهاتهم وقمعوا جموعهم وقطعوا دابرهم؛ وفيما يلي أذكر أهم تلك الشبهات التي استدل بها القبورية - مع أجوبة علماء الحنفية عنها؛ فأقول والله المعين وهو المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان:
الشبهة الأولى: القدح في أحاديث تحريم البناء على القبور.
وقد سبق مفصلاً مدللاً محققاً أن علماء الحنفية قد صححوا تلك الأحاديث وقالوا بمقتضاها، من القول بتحريم البناء على القبور، والقول بوجوب المبادرة إلى هدمه؛ كما سبق الأجوبة عن تمويهات الكوثري وتلبيساته في قدحه في بعض تلك الأحاديث.
فلا حاجة إلى إعادتها؛ وإن عدتم عدنا.
وإن عادت العقرب عدنا لهم
…
وكانت النعل لها حاضرة
فإن عدت والله الذي فوق عرشه
…
منحتك مسنون الغرارين أزرقا
فإن دوار الجهل أن تضرب الطلى
…
وأن يغمس العريض حتى يغرقا
الشبهة الثانية: أن القبورية زعموا أن النهي الوارد في تلك الأحاديث - إنما هو عن بناء المساجد وإيقاد السرج على القبور أي فوق القبور، بدليل كلمة (على) ؛ ولكن لو بني المسجد بجوار قبر ولي وأوقد السراج بجوار قبره لا حرج في ذلك؛ لأن النهي في تلك الأحاديث لا يشمل ذلك؛ لأن ذلك النهي مقيد بكلمة (على) ؛ فقيد (عليها) يفيد أن اتخاذ المسجد بجنبها لا بأس به.
الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة بعض علماء الحنفية بأن كلمة (عليها) الواردة في أحاديث النهي عن بناء المساجد والقبب على القبور، تشمل بناءها فوق القبور؛ كما تشمل بناءها بجوار القبور؛ لأن كلمة (على) في الكتاب والسنة ولغة العرب تأتي لمعنى المجاورة أيضاً؛ فقد قال تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] ؛ فليس معنى ذلك أن هذا المار مر فوق جدران هذه القرية.
وقال تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ؛ فهل معنى هذه الآية نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام فوق قبور المنافقين؛ دون القيام بجوارها؟؟ .
وقد ورد في حديث الإسراء والمعراج: (( «فأتيت على آدم» )) و (( «فأتيت على عيسى» )) و (( «فأتيت على يوسف» )) و (( «فأتيت على إدريس» )) و (( «فأتيت على هارون» )) و (( «فأتيت على موسى» )) ، و (( «فأتيت على إبراهيم» )) ؛ كما ورد فيه:(( «فرجعت فمررت على موسى» )) ؛ فهل يعقل أن معاني هذه الجمل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى ومر فوق رءوس هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟؟ .
«وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم جنازة امرأة ماتت في نفاسها، ((فقام عليها للصلاة)) » رواه أبو داود 2 100؛ فهل معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فوق هذه المرأة للصلاة؟؟ .
الحاصل: أن هذه الشبهة باطلة من أصلها.
وأن النهي في هذه الأحاديث شامل لجميع تلك الصور، والأعمال
بالنيات.
الشبهة الثالثة: استدلال القبورية بقوله تعالى:
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] ؛ قالوا: معناه: (لنتخذن على باب الكهف مسجداً يصلي فيه المسلمون، ويتبركون بمكانهم) ، وهذا يدل على الجواز؛ هكذا استدل بهذه الآية الكريمة كثير من الروافض والبريلوية، والكوثرية، الديوبندية وغيرهم - على جواز بناء المساجد والقبب على قبور الأولياء والتبرك بآثارهم بالصلاة في تلك المساجد.
الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بأن هذه الآية لا تدل على أن هذا من فعل المسلمين الموحدين أتباع سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل الظاهر أن هؤلاء كانوا من المشركين فبنوا ذلك على عادتهم الوثنية؛ ولو سلم أن هذا من فعل المسلمين فلا نسلم أن ذلك من فعل أهل
السنة أتباع الرسل صلى الله عليهم وسلم، بل ذلك من فعل المبتدعة الخرافية من المسلمين على أقل تقدير؛ فإنه لم يأت شرع نبي من الأنبياء على جواز بناء المساجد والقبب على القبور؛ فإن هذا من أعمال المشركين قديماً وحديثاً، ومنهم أخذه المبتدعة من المسلمين أهل الخرافات، ولو سلم على سبيل فرض المحال: أن هذا كان جائزا في الشرائع السابقة - فالجواب: أن الشرائع السابقة غير حجة في شريعتنا هذه إلا إذا كانت شريعتنا مؤيدة لها مقررة لها؛ ودون ذلك خرط القتاد؛ فإن شريعتنا جاءت بالإنكار على بناء المساجد والقباب على القبور، وتحريم ذلك ولعن فاعله، وطرده من رحمة الله تعالى؛ وصرحت بأن هذا من أعمال اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين السابقين الذين لعنهم الله تعالى بمثل هذه الأعمال التي هي أبواب إلى الوثنية والإشراك بالله عز وجل، فلا حجة في ذلك أصلاً؛ فبطل استدلال القبورية بعملهم هذا على جواز بناء القبب والمساجد على القبور والتبرك بذلك.
الحاصل: أن استدلال القبورية بهذه الآية على جواز بناء القبب والمساجد على القبور - ليس إلا تحريفاً لكتاب الله تعالى وتبديلاً لشرع الله عز وجل.
قال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) مبطلاً استدلال القبورية بهذه الآية قالعاً شبهتهم قاطعاً دابرهم:
(واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك؛ وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي؛ وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد) .
ثم ذكر الإمام الآلوسي عدة من الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور، وتحقيق أن هذا موجب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه، وأنه من أعمال الكفرة السابقين اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وساق نصوص كثير من أهل العلم في التحذير من هذا العمل
المعلون أهله؛ وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات، وأنه من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى، وحقق أنه يجب المبادرة إلى هدمه والمسارعة إلى إزالته، وأنه أعظم ضرراً من مسجد الضرار، وأن العلماء أفتوا بهدم جميع القباب المبنية على القبور حتى القبة على قبر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ وساق نصوصاً مهمة لابن حجر الهيتمي (974هـ) في ذلك مع كونه من أئمة القبورية إتماماًَ للحجة على القبورية وإيضاحاً للمحجة لهم؛ ثم قال: (والأحاديث، وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى.
لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا
…
لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا - وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا؛ بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار - وإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور؛ على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع؛ وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة؟؟ مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاج الأئمة
بها؛ وليس فيها [أي في هذه الآية التي استدل بها القبورية] أكثر من حكاية قول طائفة من الناس، وعزمهم على فعل ذلك؛ وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم؛ فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً [نبياً]- لا يدل فعلهم فضلاً عن عزمهم، على مشروعية ما كانوا بصدده؛ ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم، القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين، كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور؛ فأشاروا بالبناء على الكهف وسده، وكف كف التعرض عن أصحابه - فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك؛ حتى أقسموا على اتخاذ المسجد) ، ثم ذكر رحمه الله تعالى احتمالات أخرى في معنى الآية يسقط بها استدلال القبورية أيضاً.
ثم قال: (وبالجملة: لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب
إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة * والآثار الصريحة *؛ معولاً على الاستدلال بهذه الآية * فإن ذلك في الغواية غاية * وفي قلة النهى نهاية *؛ ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر، وتعليق القنادل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك، محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة، من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً البعض على البعض؛ وكل ذلك محادة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل، ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام؛ وهو أفضل قبر على وجه الأرض؛
بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، فتتبع ذاك * وتأمل ما هنا وما هناك * والله سبحانه وتعالى يتولى هداك *)
قلت: الحاصل: أن تشبث القبورية بهذه الآية باطل كاسد * وعاطل فاسد *.
وذلك لوجوه:
الأول: أن هذا الفعل فعل وثني قد فعله الكفار المشركون.
والثاني: أنه لو سلم أنهم كانوا مسلمين - على سبيل فرض المحال - فالجواب: أن فعلهم هذا بدعة وثنية * لا فعلة سنية *.
والثالث: أنه لو سلم على سبيل فرض المحال أيضاً: أن عملهم هذا كان من شرائع من قبلنا - فالجواب: أن ما كان من شرائع من قبلنا - لا يحتج به إلا إذا أقره شرعنا؛ ففسد ما هذى به هؤلاء القبوريون * {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} *.
الشبهة الرابعة: زعم القبورية أن بناء المساجد والقباب على قبور
الأنبياء والأولياء عمل توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف في مشارق الأرض ومغاربها، صرح بذلك الكوثري وغيره من القبورية.
وهذا يعني إجماع الأمة على جواز ذلك إجماعاً عملياً.
الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه المغالطة المكشوفة - بأن هذا ليس من باب إجماع الأمة في شيء، ولا من قبيل العمل الذي توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف؛ وإنما هو من البدع الشنيعة * والعادات القبيحة الفظيعة * - التي توارثها أهل البدع والملوك الجهلة والعوام * والمتصوفة الذين كانوا أضل من الأنعام *
وأيدهم المنتسبون إلى العلم من أئمة البدع والضلال الطغام * وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها * فكم من ظلم ومنكر وبدعة قد توارثته العامة كابراً عن كابر حتى في الحرمين * فضلاً عن بقية بلاد الإسلام في الخافقين * (ففي الحرمين الشريفين من شيوع الظلم وكثرة الجهل وقلة العلم وظهور المنكرات وفشو البدع وأكل الحرام والشبهات) .
فهل كل ذلك صار من إجماع الأمة، وحجة يحتج بها؟؟ .
وقد صرح جمع من الحنفية بأن هذا التوارث هو عمل منكر لا حجة فيه؛ إذ هو من أفعال العوام الجهلة لا من أعمال العلماء.
وقالوا: (فإن قلت: هو إجماع فعلي فهو حجة، كما صرحوا به.
قلت: ممنوع؛ بل هو أكثري فقط؛ إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه؛ وبفرض كونه إجماعاً فعلياً - فمحل حجته - كما هو ظاهر - إنما هو عند صلاح الأمة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد تعطل ذلك منذ أزمنة) .
وقد اعترف به بعض الغلاة من القبورية أيضاً.
قلت: الحاصل: أن هذا التوارث هو توارث أهل البدع والجهلة من العوام والملوك الذين كانوا على مذهب العامة، والمنتسبين إلى العلم من أئمة القبورية الذين كانوا يباشرون البدع ويدعمون الوثنيات ويفتون لإرضاء الملوك والعامة بما يجافي دين الله ويناقض التوحيد، وساعدهم سكوت كثير من العلماء وتهاونهم في دين الله، فمثل هذا لا يحتج به إلا ممرض مغرض.
الشبهة الخامسة: تشبث القبورية بالقبة التي بنيت على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما.
لقد تشبثت كثير من القبورية بالقبة التي فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على جواز بناء المساجد والقباب على قبور الأنبياء والأولياء.
هكذا أوحاهم الشيطان هذا القياس المفارق مع الفارق، الذي هو قرة عين الشيطان، والذي قد صدق به إبليس عليهم ظنه.
الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن البناء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس من باب البناء على القبور، لأن أصل هذا البناء كان موجوداً قبل أن يقبر تحته النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حجرة لعائشة رضي الله عنها؛ وكان من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في حجرة عائشة رضي الله عنها فدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحجرة؛ بناءً على الحديث الوارد في ذلك؛ فعن عائشة رضي الله عنها:( «لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؛ فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته، قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) ؛ ادفنوه في موضع فراشه» ) ،
فدفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها؛ فلم يكن هذا البناء على قبره صلى الله عليه وسلم بنية البناء على القبر لأنه كان سابقاً عليه؛ وأما دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان تبعاً لدفن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان؛ فلم يكن هذا البناء أيضاً على قبورهما على سبيل القصد والتعمد.
الحاصل: أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، كان من الأمور الاتفاقية التي تحدث حدوث القضايا الاتفاقية من دون تعمد وقصد وخطة مدبرة، ولا بنية البناء على القبر؛ فقياس بناء المساجد والقباب على القبور على الحجرة النبوية - قياس فاسد عاطل * كاسد باطل *؛ لأنه قياس مع الفارق * لا يشك فيه إلا مغرض ممرض مفارق *.
الوجه الثاني: أن القبة على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين * ولا على عهد التابعين ولا على عهد أتباع التابعين * ولا على عهد أئمة السنة * في خير القرون من قرون هذه الأمة *.
قال العلامة الخجندي (1379هـ) مبيناً تاريخ بناء هذه القبة الخضراء المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محققاً أنها بدعة حدثت بأيدي بعض السلاطين * الجاهلين الخاطئين الغالطين * وأنها مخالفة للأحاديث الصحيحة * المحكمة الصريحة *؛ جهلاً بالسنة، وغلواً وتقليداً للنصارى * الضلال الحيارى *:
(ابتداء القبة الخضراء على القبر الشريف:
اعلم أنه إلى عام (678هـ) لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة (678هـ) ، فعملت تلك القبة.
قلت: إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ كما قلدهم الوليد في
زخرفة المسجد، فتنبه، كذا في وفاء الوفاء.... اعلم أنه لا شك أن عمل قلاوون هذا - مخالف قطعاً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الجهل بلاء عظيم * والغلو في المحبة والتعظيم وباء جسيم * والتقليد للأجانب داء مهلك؛ فنعوذ بالله من الجهل ومن الغلو ومن التقليد للأجانب..) .
قلت: الحاصل:
إن بناء هذه القبة ليس من السنة في شيء، ولا من عمل الصحابة والتابعين * ولا من طريقة الأئمة المهتدين * بل هو من صنيع الملوك الجاهلين * بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين * فلا يجوز الاستدلال بأفعال المبتدعين الخرافيين * على جواز بناء المساجد والقبب على المقبورين * فقد اتضح للقبورية المحجة * ولعلهم تقام به عليهم الحجة* فإن الحق لا بد أن يظهر * والباطل لا محالة يقمع ويقهر ويكسر *
كما قيل:
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا
…
وأنك تلقى باطل القول لجلجا
وكان علي بيان الحق والصواب * وحساب أهل الباطل على رب
الأرباب *.
كما قيل:
أبن وجه نور الحق في وجه سامع
…
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
بل كثير من القضايا التي خالها القبورية * هي من الأمور الواضحة البديهة *.
كما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وبهذا تنتهي مقاصد هذه الرسالة بتوفيق الملك الوهاب * والآن ننتقل إلى خاتمة هذا الكتاب *
والحمد لله رب العالمين * والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين * وآله وصحبه أجمعين *
*****