الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: شبه منكري الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والرد عليهم
ترتب على الخلاف السابق خلاف للعلماء في الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، فمن ذهب إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم قال بالاحتجاج به في العقائد، ومن قال إن خبر الآحاد يفيد الظن قال بعدم الاحتجاج به في العقائد.
وبالتالي فنحن أمام مذهبين في الاحتجاج به في العقائد: مذهب أوجب الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، ومذهب أنكر الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد.
أولاً: الذين أنكروا الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد قديماً:
وقد ذهب جمع من العلماء (1) إلى عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، وهو مذهب أهل الكلام والأصوليين، وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي عن خبر الواحد: فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا (2) .
وقال البزدوي: خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد به العمل (3) .
وقال الأسنوي: إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما
(1) تحقيق الوصول إلى الأصول / 2 /ص163.
(2)
شرح الأصول الخمسة / 769.
(3)
أصول البزدوي ج 2/ 408.
أجاز الظن في المسائل العملية، وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين (1) .
وقال ابن برهان: "خبر الواحد لا يفيد العلم - خلافاً لأصحاب
الحديث - ولا تثبت به العقائد" (2) .
وقال السمرقندي: "خبر الواحد لا يحتج به في العقائد لأنه يوجب الظن"(3) .
وقال أبو الوليد الباجي - في معرض مناقشته لمنكري جواز العمل بخبر الواحد -: فإن قالوا: فيجب قبول خبر الواحد في التوحيد وأعلام النبوة وما طريقه العلم؛ لأن رسله أيضاً كانوا ينفذون بذلك إلى أهل النواحي. قال: والجواب: أن هذا غلط لأنه إنما كان ينفذ رسله بأحكام الشريعة بعد انتشار الدعوة وإقامة الحجة، وكيف يقول رسوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبركم في الزكاة بكذا وكذا، وهم لا يعرفون الله ولا رسوله (4) .
وهؤلاء المنكرون لهم شبه تتمثل فيما يلي:
أن خبر الآحاد يفيد الظن ويعنون به الظن الراجح؛ لجواز خطأ الواحد أو غفلته أو نسيانه، والظن الراجح يجب العمل به في الأحكام اتفاقاً، ولا يجوز الأخذ به عندهم في المسائل الاعتقادية، ويستدلون على ذلك ببعض
(1) نهاية السول للأسنوي/258.
(2)
الوصول إلى الأصول ج 2 / 163.
(3)
ميزان الأصول ج 2 / 643.
(4)
أحكام الفصول للباجي / 339.
الآيات التي تنهى عن اتباع الظن كقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَالْحَقِّ شَيْئًا} [النجم آية: 28] .
الجواب عن هذه الشبهة:
إن الظن في هذه الآية وأمثالها ليس الظن الغالب الذي عنوه، وإنما هو الشك والكذب والخرص والتخمين، فقد ذكر ابن الأثير أن المراد بالظن في اللغة الشك يعرض لك في شيء فتحققه وتحكم به (1) .
وذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {مالهم به من علم} أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع" إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً" أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"(2) .
فالشك والكذب هو الظنُّ الذي ذمَّه الله تعالى ونعاه على المشركين؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّالظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ}
[الأنعام آية:116] حيث وصفهم بالظن والخرص الذي هو مجرد الحَرْز والتخمين، وإذا كان الخرص والتخمين هو الظن فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام لأن الأحكام لا تبنى على الشك والتخمين.
وأمَّا ما قيل من احتمال غفلة الراوي ونسيانه فهو مدفوع بما يشترط في
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر ج 3 /162_163.
(2)
تفسير ابن كثير ج 4 /434.
خبر الواحد من كون كل من الرواة ثقة ضابطاً، فمع صحة الحديث لا مجال لتوهُّم خطأ الراوي، ومع ما جرت به العادة من أن الثقة الضابط لا يغفل ولا يكذب لا مجال لرد خبره لمجرد احتمال عقلي تنفيه العادة (1) .
ثانياً: الذين أنكروا الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد حديثاً:
وقد امتد الإنكار للاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد من القديم إلى الحديث، فنجد الشيخ محمد عبده يقول:"وأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد ولو صحت"(2) .
ويقول محمد فريد وجدي: "وقد ضعف كثيرون من أئمة المسلمين أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه"(3) .
ويقول الشيخ شلتوت: "والأحاديث المروية إذا لم تتوفر فيها أركان التواتر فلا تفيد بطبيعتها إلا الظن والظن لا يثبت العقيدة"(4) .
ويقول سيد قطب: "ونحن على منهجنا في هذه الظلال لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي متواتر فهي من أمور الاعتقاد التي لا يُلتزم فيها إلا بنص هذه درجته ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض"(5) .
ويقول الغزالي في كتاب هموم داعية: "خبر الآحاد لا مدخل له في إنشاء
(1) أشراط الساعة/ 46-47.
(2)
التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي ج 2 /574.
(3)
دائرة المعارف ج 10 /481.
(4)
الإسلام عقيدة وشريعة/524.
(5)
في ظلال القرآن ج 3 / 1531.
العقائد" (1) . ولهم شبه تتمثل فيما يلي:
الشبهة الأولى:
العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد لأن العقيدة ما يطلب الإيمان به، والإيمان معناه اليقين الجازم إلا ما كان قطعي الورود والدلالة وهو المتواتر والأحاديث المروية إذا لم تتوافر فيها أركان التواتر فلا تفيد بطبيعتها إلا الظن، والظن لا يثبت العقيدة (2) .
الرد عليها:
إن الذين يقولون إن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم الآحاد والصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة (3) .
الشبهة الثانية:
دعوى الإجماع على أن خبر الآحاد لا تثبت العقيدة فيقول الشيخ شلتوت: "ومن هنا يتأكد أن ما قررناه من أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء"(4) .
الرد عليها:
(1) هموم داعية للغزالي / 116.
(2)
الإسلام عقيدة وشريعة / 524.
(3)
الصواعق المرسلة / 490.
(4)
الإسلام عقيدة وشريعة / 75.
أن هذه عادة أهل الكلام يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل أئمة الإسلام على خلافه.
وذكر الشنقيطي: أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله تعالى زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين، باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل (1) .
ومن ادعى الإجماع فقد كذب وهذه دعوى يريدون بها إبطال سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكر الخطيب البغدادي: وإنما دفع خبر الآحاد بعض أهل الكلام لعجزه - والله أعلم - عن علم السنن، رغم أنه لا يقبل منها إلا ما تواترت به أخبار من لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا عندنا ذريعة إلى إبطال سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام (2) .
(1) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي / 124.
(2)
الفقيه والمتفقه ج 1/ 98.