الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أدلة منكري الاحتجاج بخبر الواحد في الأحكام والرد عليها
ذهب محمد بن داود الظاهري ومحمد بن إسحاق الكاساني -ونسبه الغزالي إلى جماهير القدرية (1) وقوم من أهل البدعة من الرافضة ومن المعتزلة (2) - إلى منع العمل بخبر الواحد في الأحكام فأنكروا الاحتجاج به، وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين: (3) وهؤلاء استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
[الإسراء آية:36] وقوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة آية:169] وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم آية:28] .
وجه الدلالة: حيث ذكر ذلك في معرض الذم وهو يقتضي التحريم والعمل بخبر الآحاد عمل بغير علم.
أجيب عن ذلك بما يلي:
1 -
أن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العلم بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر - وهذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول
(1) المستصفى ج1 / 153. إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3 / 152.
(2)
خبر الواحد وحجيته. د. أحمد الشنقيطي / 452. العدة ج 3 / 861.
(3)
العدة ج 3/ 861. المستصفى ج 1 / 154. الإحكام للآمدي ج 2 / 46.
بخبر الواحد فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم (1) .
2 -
أن المراد من الآيات من الشاهد عن الجزم بالشهادة فيما لم يبصر ولم يسمع والفتوى بما يرد ولم ينقله العدول. وأن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم بالإجماع، وهو دليل قاطع، وأن إنكارهم للعمل به حكم بغير علم والحكم بغير علم باطل، ولأن تجويز الكذب والخطأ لو كان مانعاً من العمل لمنع العمل بشهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين، وقد دل النص القرآني على وجوب الحكم بها مع جواز الكذب والخطأ فيها أو إذا كنا متفقين على العمل بها فما صح عن رسول الله أولى بالعمل (2) .
ثانياً: لو جاز التعبد به في الفروع (الأحكام) ؛ لجاز في الأصول والعقائد وهو خلاف الإجماع بيننا وبينكم، فكما لا يُقبل في العقائد لا يقبل في الأحكام.
أجيب عن ذلك بما يلي:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على العمل بخبر الآحاد متى صح وتوافرت فيه شروط القبول فيما تضمنه من أحكام وعقائد من غير تفريق، وما ادَّعاه المخالف من إجماع على عدم قبول خبر الآحاد في العقائد يحتاج إلى إثبات حتى يكون إجماعاً قطعياً تقوم به الحجة (3) .
أما ولم يرد غير دعوى مجردة عن الدليل فلا يُتْرك العمل بالحديث
(1) العدة ج 3 / 847. شرح العضد ج 2 / 057 تيسير التحرير ج 3 / 46.
(2)
خبر الواحد وحجيته. د. أحمد الشنقيطي / 255.
(3)
خبر الواحد وحجيته. د. أحمد الشنقيطي / 255.
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما دل عليه سواء كان أصولاً أو فروعاً لأنه مقتضى ما دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث السنة وما نقل من إجماع الأمة.
ويؤيد ذلك ابن حزم بقوله: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة في عملها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك"(1) .
ثالثاً: لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين، حيث توقف في خبر ذي اليدين حين سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين وهو قوله:"أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف فصدقه فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حجة لأتم النبي صلى الله عليه وسلم من غير توقف ولا سؤال.
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة. وفي القوم
أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله نسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس ولم تقصر". فقال صلى الله عليه وسلم: "أكما قال ذو اليدين؟ ". فقالوا: نعم، فقام فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم (2) .
(1) الإجماع لابن حزم ج 401/103.
(2)
صحيح البخاري ج 2/205. كتاب الأذان. باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس رقم /714.
وجه الدلالة: حيث لم يقبل النبي خبر الواحد (ذي اليدين) بل طلب ما يؤيده ويقويه حيث قال: "أكما يقول ذو اليدين؟ " فلما شهدوا معه بقولهم: (نعم) قبل الخبر (1) .
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهم غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره (2) .
2 -
أن توقف النبي ليس لكونه يردُّ خبر الواحد، ولكن توقَّف لسبب ذلك الخبر، وهو أن النبيَّ وإن علم صدق ذي اليدين أراد أن يعلم الأمة أن الحكم للإمام إذا نبهه واحد من المأمومين هو وجوب التوقف حتى يؤيده كثير من المأمومين، إذ لو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم النبي ذلك وبينه (3) .
رابعاً: ورد عن عدد من الصحابة ردُّ خبر الآحاد، فرد أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وردَّ عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان، وردَّ عليٌّ خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة - وأنه كان لا يقبل خبر الواحد حتى يحلفه سوى أبي بكر - وردَّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه (4) .
(1) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /176.
(2)
الإحكام للآمدي ج 2 /62.
(3)
إتحاف ذوي البصائر ج 3 /184.
(4)
إتحاف ذوي البصائر ج 3 /184. إرشاد الفحول / 48. المستصفى ج 1 /153. الإحكام للآمدي ج2 /60. المعتمد ج 2 / 604. العدة ج 3 / 174. خبر الواحد وحجيته / 254.
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
1 -
يحتمل أن الصحابة ردُّوا خبر الآحاد في هذه الوقائع احتياطاً، ويؤيد ذلك ما رواه عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يُجترأ على رسول الله (فكأنه احتاط فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا (1) .
2 -
أن هذا الدليل يعتبر دليلاً على الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام؛ وذلك لأن شهادة محمد بن مسلمة مع المغيرة، وشهادة أبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر عن كونه آحاداً؛ لأن خبر الاثنين خبر آحاد.
3 -
توقفهم كان لمعان مختصة بهم؛ فأبو بكر عندما توقف في قبول خبر المغيرة في ميراث الجدة - لم يتوقف بناء على عدم قبوله خبر الواحد مطلقاً، بل إنه توقف في قبول خبر المغيرة لسبب خاص بهذه الحادثة، وهو أنه رضي الله عنه أراد أن يتأكد ويستظهر من الخبر ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم آكد. وذلك لأن الخبر يخص المال والحقوق فيكون في معنى الشهادة على المال، ولا سيما إذا كان الحكم الثابت به مؤبداً، وهو ميراث الجدة، فكان توقفه وجيهاً للاحتياط والاستظهار.
وأما توقف عمر في خبر أبي موسى أيضاً لم يتوقف بناء على عدم قبوله خبر الواحد مطلقاً، ولكن توقفه كان لسبب خاص بهذه الواقعة وهو أن أبا موسى لما استأذن عمر ثلاث مرات انصرف عن بابه. ثم سأله عمر لماذا تصرَّفت هذا التصرف؟ فروى الحديث، فلما رآه عمر قد روى حديثاً يوافق الحال ويخلص به، خشي أن كل واحد إذا نابه أمر أن يصنع حديثاً بحسب
(1) العدة ج 3 /872.
حاله ليتخلص به، فطالبه بالشاهد، ويؤيد ذلك أن أبا موسى لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر: إني لا أتهمك لكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما توقف عائشة عن قبول خبر ابن عمر أيضاً: ليس لأنها لا تقبل خبر الواحد، وإنما لسبب خاص وهو أنها رأت ابن عمر قد وهم في رواية الحديث ونسب إلى النبي شيئاً لم يَقُله عن طريق الوهم، فأرادت أن تبين الحق في ذلك، فبينت أنَّ المراد بذلك الحديث هو "الكافر" وليس المؤمن. وهذا وارد بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"(1) .
وذكر ابن حجر: "أن عائشة رضي الله عنها توقفت عن قبول خبر ابن عمر لأنه عارض القطعي حيث استدلت بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر آية:18] فهي لم تردَّه لكونه خبرَ واحدٍ.
أما توقف عمر في خبر فاطمة بنت قيس أيضاً فليس لأنه لا يقبل خبر الآحاد، وإنما لسبب خاص بفاطمة ويؤيد ذلك قوله:"لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري صدقت أم نسيت" فقوله: "نسيت" صريح في سبب الرد (2) .
وأما استحلاف عليٍّ للمخبر ليس لأنه لا يقبل خبر الواحد، وإنما كان عليٌّ رضي الله عنه يحتاط لنفسه، فكان لا يقبل خبر الواحد، إلا إذا حلف
(1) صحيح البخاري ج 3 / 150. كتاب الجنائز. باب قول النبي صلي الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته رقم /1288.
(2)
الإحكام للآمدي ج 2 / 61. المستصفى ج 1 / 154.
هذا الراوي أنه سمعه من رسول الله - ومع ذلك قبل خبر أبي بكر رضي الله عنه بغير يمين. فلو لم يكن خبر الواحد حجة مطلقاً لما قبل خبر أبي بكر رضي الله عنه بمفرده، ولأن من لا يقبل خبر الواحد مطلقاً لا يقبله مع اليمين (1) .
خامساً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول (2) .
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم (3) .
سادساً: قياس الخبر على الشهادة فكما أن الشهادة لا تقبل إلا من اثنين فكذلك الخبر.
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال وفي شهادة القابلة، وأن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، وقبل الخبر ممن ظاهره العدالة من غير بحث عنه.
ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ فيقال: أشهدني فلان على شهادته بكذا واللفظ يعتبره في الشهادة دون الخبر، وتقبل فيه النساء ولا تقبل في كثير
(1) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /185.
(2)
العدة ج 3 / 875.
(3)
العدة ج 3 / 875.
من الشهادات فكانت الشهادات أقوى فاعتبر فيها العدد، ولم يُعتبر في الخبر وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبر والمختبر - والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له. فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له فبان الفرق بينهما (1) .
تعقيب: ذكره الشوكاني في إرشاده بقوله: "وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة أو تهمة الراوي أو وجود معارض راجح ونحو ذلك"(2) .
وبالتالي فأخبار الآحاد جزء لا يتجزأ من السنة النبوية بل هي الجزء الأغلب منها، نظراً لندرة المتواتر بسبب صعوبة توافر شروطه، لذلك فإن حجية أخبار الآحاد لا ينفك عن إثبات حجية السنة.
(1) العدة ج 3 / 878.
(2)
إرشاد الفحول/ 49.