المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الواحد والرد على شبه منكريه - حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام - محمد جميل مبارك

[محمد بن جميل مبارك]

الفصل: ‌المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الواحد والرد على شبه منكريه

‌المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الواحد والرد على شبه منكريه

الأدلة من الكتاب:

1 – قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] .

فقد استدل به ابن عباس رضي الله عنهما على طاوس لما سأله عن الركعتين بعد العصر، فنهاه عنهما فقال له طاوس: ما أدعهما، فتلا عليه ابن عباس الآية.

قال الشافعي: "فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي، ودلَّه بتلاوة كتاب الله على أن فرضاً عليه أن لا تكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمرا، وطاوس حينئذ إنما يعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاوس بأن يقول: "هذا خبرك وحدك فلا أثبته عن النبي، لأنه يمكن أن تنسى" (1) .

2 – قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .

ووجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أوجب على كل فرقة قبول نذارة من نفر منها للتفقه في الدين، وأوجب على النافر التفقه والإنذار،

(1) الرسالة ص 443 – 444، وانظر مفتاح الحجة للسيوطي ص 47.

ص: 16

وإنذار النافر إخبار، والناذر طائفة، والطائفة تطلق في اللغة على الواحد فصاعداً، فدلَّت الآية على وجوب قبول خبر الواحد (1) .

وقد استدل بها الإمام البخاري في صحيحه إذ ضمنها ترجمة أول باب من أبواب أخبار الآحاد حين قال: "ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية.

3 – قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .

والاستدلال بالآية على قبول خبر الواحد من وجهين:

أحدهما: أنه لو لم يقبل خبره لما علل عدم قبوله بالفسق.

وثانيهما: مفهوم الشرط وهو حجة، ومفهومه وجوب العمل بخبر الواحد إن لم يكن فاسقا (2) .

وقد ركب ابن حزم الدليل من هذه الآية والتي قبلها فجعلهما "مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان"(3) .

واستدل البخاري بها وبالتي قبلها في صحيحه، وهذه الآيات لا يخلو الاستدلال بأي منها من اعتراضات أوردها المستدلون بها أنفسهم

(1) انظر: الإحكام لابن حزم 1/98، والإحكام للآمدي 2 /58.

(2)

انظر: روح المعاني 26/146، والإحكام للآمدي 2/58.

(3)

الإحكام 1/100.

ص: 17

كالرازي والآمدي والكلوذاني، وحاولوا أن يجيبوا عنها (1)، ولذلك قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على استدلال البخاري بقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]"وهذا الدليل يورَد للتَقوِّي لا للاستقلال؛ لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم"(2) .

وهذا ما دفع آخرين إلى الإحجام عن الاستدلال بها كالجويني والغزالي.

الأدلة من السنة:

أدلة تثبيت حجية خبر الآحاد كثيرة في السنة النبوية، واستقصاؤها غير لازم هنا منهجياً، وسأورد منها ما لعله يفي بالغرض.

الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"(3) .

وقد استدل بالحديث على حجية خبر الواحد الإمامان الشافعي والبخاري، وأفاض الشافعي في بيان وجه الاستدلال بالحديث على المطلوب، وخلاصته: أن أهل قباء أهل سابقة في الإسلام، وأهل فقه، ولم

(1) انظر: المحصول للرازي 2/1/509 وما بعدها، والإحكام للآمدي 2/56 وما بعدها، والتمهيد للكلوذاني 3/46 وما بعدها.

(2)

فتح الباري 13/234.

(3)

أخرجه الإمام الشافعي في الرسالة ص 123 – 124 – 406 والبخاري في كتاب خبر الواحد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد

وغيرهما.

ص: 18

يكن لهم أن يتحولوا عن القبلة التي كانوا عليها بخبر واحد إلا وهم على علم بأن الحجة ثابتة بخبره مع كونه من أهل الصدق، فلما تحولوا من فرض إلى فرض بخبر واحد دلَّ على أن العمل بخبره فرض، وإلا لأنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد علمه بتحولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (1) .

ففي الحديث حجة قوية على وجوب العمل بخبر الواحد، ويكفيه قوة أن اتفق على الاستدلال به هذان الإمامان.

الدليل الثاني: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شراباً من فضيخ (2) وهو تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس (3) لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت (4) .

ووجه الاستدلال بالحديث واضح من حيث إنهم –وهم أهل مكانة في العلم والنصيحة- اعتمدوا على خبر واحد في تحريم ما كان حلالا لهم، وفي كسر الجرار إهراق ما فيها، ولم يعترض أحد منهم على خبر الواحد بالبقاء على حِلِّية الخمر حتى يشافههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهم قريبون منه، كما لم ينههم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر الواحد (5) ،

(1) انظر الرسالة ص 407 – 408.

(2)

في الرسالة: من فضيخ وتمر، والفضيخ شراب يتخذ من البسر.

(3)

المهراس حجر مستطيل منقور. يُدقُّ فيه، ويُتوضأ منه.

(4)

أخرجه البخاري في أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد

والشافعي في الرسالة ص 409.

(5)

انظر: الرسالة ص 409 – 410.

ص: 19

وأثبت هؤلاء ما كان مباحاً بخبر الواحد (1) .

وقد اتفق الإمامان الشافعي والبخاري على الاستدلال بالحديث على حجية خبر الواحد، ومما يزيد هذه الحجية قوة ما ورد في بعض طرقه:"فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل (2) ".

الدليل الثالث: جملة من الأحاديث التي فيها بعث النبي صلى الله عليه وسلم آحادا من الصحابة دعاة وولاة وقضاة وأمراء ورسلا؛ فبعث أبا بكر والياً على الحج ليقيم للناس مناسكهم "وأخبرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لهم وما عليهم"(3) ، وخبره خبر واحد، وبعث علي بن أبي طالب لينبذ إلى قوم عهدهم، ولولم تكن الحجة قائمة بخبر كل واحد منهما لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وولى زيد بن حارثة بعث مؤتة، وبعث ابن أنيس سرية وحده، وبعث اثني عشر رسولا إلى اثني عشر ملكا يدعو كل واحد منهم من بعث إليه إلى الإسلام (4) .

وقد ضمن الإمام البخاري هذا المعنى بابين: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد

وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحداً بعد واحد، فإن سها أحد منهم رد إلى السنة، وباب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد.

(1) فتح الباري 27/276.

(2)

السابق 27/276.

(3)

الرسالة ص 414.

(4)

انظر السابق ص 414 – 418.

ص: 20

دليل الإجماع:

إجماع الصحابة من أقوى الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد، إذ لم يكن يثبت عن أحد منهم أنه رفض قبول خبر الواحد من حيث هو كذلك، حتى إن الأصوليين أكدوا أن "إجماعهم على العمل بخبر الواحد منقول تواتراً"(1) والتواتر دليل قطعي لا يتطرق إليه شك، وقد رويت وقائع كثيرة جداً تدل على أنهم جميعاً يقبلون خبر الواحد ويعملون به.

ومن هذه الوقائع الكثيرة: اعتماد أبي بكر الصديق رضي الله عنه على خبر الواحد في توريث الجدة السدس (2) .

ومنها: ما صح عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر"(3) .

ومثله: ما روى طاوس أن عمر قال: "أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئاً؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لي –يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره"(4) .

(1) البرهان للجويني 1/600.

(2)

انظر الحديث في جامع الترمذي كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة، وفي غيره.

(3)

أخرجه الشافعي في الرسالة ص 426 وانظر أيضاً: الأم 6/77.

(4)

الرسالة ص 427.

ص: 21

قال الشافعي: "فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه"(1) .

ففي هاتين الواقعتين دليل واضح على قبول خبر الواحد العدل مع كون عمر أعلم ممن أخبره، وأكثر صحبة، ولم يقل للضحاك:"أنت رجل من أهل نجد، ولحمل بن مالك: أنت رجل من أهل تهامةلم تريا رسول الله، ولم تصحباه إلا قليلاً، ولم أزل معه ومن معي من المهاجرين والأنصار، فكيف عزب هذا عن جماعتنا وعلمته أنت، وأنت واحد، يمكن فيك أن تغلط وتنسى؟ "(2) .

ومنها: اعتماد عثمان بن عفان رضي الله عنه على خبر الفريعة بنت مالك في كون المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الزوجية (3) .

قال الشافعي: "وعثمان في إمامته وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار"(4) .

وقد صرَّح كثير من علماء الحديث وعلماء الأصول بحصول إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد، واستمر ذلك الإجماع إلى أن حدثت مذاهب تشكك في خبر الواحد.

ولم يمنع الشافعي من التصريح بالإجماع إلا تحفظه المعروف في

(1) السابق ص 429.

(2)

اختلاف الحديث بهامش الأم 7/20.

(3)

الرسالة ص 438 – 439.

(4)

السابق ص 439.

ص: 22

الموضوع، ولكن كلامه غير بعيد عن التصريح بالإجماع، وذلك أنه لمَّا ذكر كثيراً من أعلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال:"كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد عن مَن فوقه ويقبله عن مَن تحته".

ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته – جاز لي- ولكن أقول: "لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"(1) .

وصرَّح ابن عبد البر بإجماع أهل العلم في جميع الأمصار على قبول خبر الواحد وإيجاب العمل به (2) .

وهكذا "شاع فاشياً عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول"(3) .

ومثل المحدِّثين علماء الأصول، فقد قال الآمدي بعد أن ساق أدلة من القرآن الكريم على حجية خبر الواحد، وأورد اعتراضات عليها:"والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة"(4) .

(1) السابق ص 456 – 457.

(2)

انظر التمهيد 1/2.

(3)

فتح الباري 27/270.

(4)

الإحكام ج 2/64، ومثله قول الكلوذاني الحنبلي: أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد، التمهيد في أصول الفقه 3/54.

ص: 23

وقبله الإمام الجويني الذي اختار في الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد مسلكين:

أحدهما: يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا جاحد، ولا يدرؤه إلا معاند.

"والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة "(1) .

والجويني يلخص بهذا موقف الأصوليين، ويوحد بينهم وبين المحدثين في وجوب العمل بخبر الواحد، رغم المناقشات المستفيضة التي أثارها الأصوليون حول إفادة خبر الواحد العلم أو الظن كما سيأتي، لكن العبرة بهذه النتيجة التي جمع فيها الجويني حجتين يقينيتين قاطعتين هما: التواتر والإجماع، أي التواتر في نقل الروايات التي توجب العمل بخبر الواحد، وإجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد، وهذا الإجماع منقول نقلاً متواتراً مفيداً للقطع واليقين.

فلم يُبْقِ الأصوليون بعد هذه الحجج عذراً لأحد في مخالفة خبر الواحد.

ولم يكتف العلماء بإقامة هذه الحجج على وجوب العمل بخبر الواحد حتى دحضوا كل الشبه، وفندوا كل الحجج التي تعلق بها منكرو حجية خبر الآحاد، سواء منهم أولئك الذين ردُّوه جملة، وأولئك الذين ردوه إذا كان في موضوع العقائد.

ومن تلك الشبه: ما تعلقوا به من قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ

(1) البرهان 1/600 – 601، وأضاف الزركشي إلى هذين مسلكا ثالثا وهو: " أن العمل بخبر الواحد يقتضي رفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا

" البحر المحيط 1/260.

ص: 24

بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فقد فهموا أن النهي يتناول الأخذ بخبر الواحد من حيث إن الأخذ به اتباع ما ليس للآخذ به علم، وقد عَدَّ ابن حزم تعلقهم بهذه الآية أقوى ما شغبوا به، ورد عليهم بقوله: "وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة؛ لأنا لم نَقْفُ ما ليس لنا به علم، بل قد صَحَّ لنا به العلم، وقام البرهان على قبوله، وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به، فسقط اعتراضهم بهذه الآية

" (1) .

ورد عليهم إمام الحرمين تمسكهم بظاهر هذه الآية بأن "مضمون الآية: النهي عن اقتناء الظنون من غير ضبط متأيد بمراسم الشرع، وليس الغرض الإضراب عن كل ما ليس معلوما"(2) .

وقد عاكسهم ابن القيم في الاحتجاج بالآية على عكس ما احتجوا بها عليه، وهو وجوب العمل بخبر الواحد، وإفادته للعلم من حيث إن المسلمين لم يزالوا منذ عهد الصحابة يتبعون أخبار الآحاد ويعملون بمقتضاها، ويثبتون بها صفات الله تعالى "فلو كانت لا تفيد علما لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قَفَوْا ما ليس لهم به علم"(3) .

ومن تلك الشبه: أنهم رأوا وقائع في عهد الصحابة فهموا منها أنهم يرفضون الاحتجاج بخبر الواحد، كرد أبي بكر لخبر المغيرة بن شعبة في

(1) الإحكام 1/103.

(2)

البرهان 1/605.

(3)

مختصر الصواعق المرسلة ص 479.

ص: 25

ميراث الجدة حتى استظهر بمحمد بن مسلمة (1) ، وكرد عمر لخبر أبي موسى في الاستئذان حتى ظاهَرَهُ أبو سعيد الخدري (2) ، وكرده لخبر فاطمة بنت قيس في السكنى (3) ، وكرد علي لخبر أبي سنان الأشجعي في قصة بَرْوَع بنت واشق أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لها بعد أن توفي زوجها - ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها- أن لها مثل صداق نسائها، ولها الميراث وعليها العدة (4) .

وقد رد العلماء تمسكهم بهذه الشبهة بأن هناك فرقا بين التثبت والاستظهار، وبين رفض الاحتجاج، فهؤلاء الصحابة إنما أرادوا بفعلهم التثبت في قبول خبر الواحد في تلك الوقائع لأسباب اقتضت ذلك، بدليل أنهم في وقائع أخرى اعتمدوا على خبر الواحد (5) .

ولا عيب في الاستظهار على الخبر بخبر ثان وثالث ورابع وخامس وسادس "لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبت للحجة وأطيب لنفس السامع"(6) .

(1) انظر: سنن أبي داود كتاب الفرائض باب في الجدة، وسنن الترمذي كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة.

(2)

انظر: صحيح البخاري في كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا، وصحيح مسلم كتاب الأدب باب الاستئذان.

(3)

انظر قصتها في: صحيح مسلم كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.

(4)

انظر: سنن أبي داود كتاب النكاح باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، وسنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في الرجل يتزوج امرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها.

(5)

انظر: تدريب الراوي 1/73 وما بعدها.

(6)

الرسالة ص 433.

ص: 26

وما فعله بعض الصحابة من تحليف الراوي الواحد أو اشتراط شهادة آخرين على قبول خبر الواحد محمول على التثبت والاستظهار (1) .

والحاصل أن تَرْكَ الاحتجاج ببعض أخبار الآحاد في فروع فقهية لا يستلزم عدم الاحتجاج بها من حيث الأصل؛ إذ قد يكون ترك الاحتجاج بتلك الأخبار آتياً من أسباب أخرى كالاحتياط والتثبت في الرواية.

ومن تلك الشبه: أنهم رأوا اختلاف الأئمة في العمل بالخبر الواحد في فروع فقهية، فظنوا أن ذلك بسبب رد خبر الواحد، وقد ألمح الشافعي إلى هذه الشبهة بقوله:"فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث"(2) ثم أجاب عنها بأن ذلك ليس بسبب رد الخبر، بل إما أن يكون عنده خبر آخر يخالفه، أو يكون سمع خبراً ممن هو أوثق عنده من الذي سمع منه الخبر الذي رده، أو يكون سمعه من غير حافظ أو من متهم، أو يكون الحديث محتملا عنده معنيين فيذهب إلى أحدهما دون الآخر (3) .

ومن تلك الشبه: أن خبر الواحد يمكن فيه الغلط، وإمكان الغلط فيه دفعهم إلى رده بناء على مبدأ انطلقوا منه وهو أن الحجة لا تقوم "بأمر يمكن فيه الغلط"(4) .

(1) انظر: البرهان 1/609 – 610.

(2)

الرسالة ص 458.

(3)

انظر السابق ص 458 – 610.

(4)

جماع العلم بهامش الأم 7/256.

ص: 27

وقد رُدَّتْ عليهم هذه الشبهة بأن إمكان الغلط لا يستلزم وجوده وعدم اطلاع أهل العلم عليه؛ لأن ذلك يتنافى مع وعد الله بحفظ دينه (1) ، ويستلزم إضلال العباد "فإن ما يجب قبوله شرعاً من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر"(2) .

(1) انظر تفصيل هذا الرد في الإحكام لابن حزم 1/109 ومختصر الصواعق المرسلة ص 462.

(2)

وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ الألباني ص 13.

ص: 28