المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد - حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام - محمد جميل مبارك

[محمد بن جميل مبارك]

الفصل: ‌المبحث السادس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد

‌المبحث السادس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد

قد تسأل بعد هذا النقاش المحتدم حول إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن؟ ما ثمرة الخلاف بين الفريقين؟ والبحث عن هذه الثمرة يفيد في فَهْم إصرار كل فريق على رأيه، فنجد ابن حزم مثلا ينفي القول بالظن في دين الله جملة، ويجعل قول القائلين بإفادة خبر الواحد للظن بمنزلة القول بأن الله "تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم"(1) .

وإمعاناً منه في رفضه إفادة خبر الواحد للظن وصف الظن باليقين في قوله: "وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا....بل هو ضلال وشك محرم القول به في دين الله تعالى"(2) إيماء إلى أن الظن وإن كان قوياً قوة تُقَرِّبه من اليقين لا عبرة به، ولا يبنى عليه أي حكم، وإلا فكيف يكون الظن متيقنا؟!

ونجد في المقابل قول الجويني: "ذهبت الحشوية (3) من الحنابلة وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خرق لا يخفى مدركه على ذي لب"(4) ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل" (5) .

(1) الإحكام 1/113.

(2)

السابق 1/115.

(3)

وهذا التعبير يغمز به أهلُ البدع أهلَ الحديث!!

(4)

البرهان في أصول الفقه 1/606.

(5)

السابق 1/607.

ص: 57

وجعل الإمام الغزالي بعده عدم إفادة خبر الواحد للعلم معلوما بالضرورة! وفسر ذلك بقوله " فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض الخبرين فكيف نصدق بالضدين"(1) .

والجواب عن السؤال في بداية المبحث: ما ثمرة الخلاف بين الفريقين؟ (2) إن تتبع أقوال العلماء في هذا الموضوع هدى إلى أن هناك ثمرتين واضحتين لهذا الخلاف:

الثمرة الأولى للخلاف تتمثل في التفرقة بين خبر الواحد في مجال العقائد وخبر الواحد في مجال الأحكام، فمن قال: إن خبر الواحد يفيد العلم قَبِلَه في العقائد، ومن قال لا يفيده لم يقبله فيها "إذ العمل على الظن فيما هو محل القطع ممتنع".

لكن هذه الثمرة لا تظهر إلا عند المتأخرين القائلين بالتفرقة بين المجالين، إذ ذهبوا إلى أن العقائد لا تثبت إلا بعلم يقيني، وخبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني فلا تثبت به العقائد.

وقد أبرز العز بن عبد السلام الفرق بين العقيدة فلا يجوز فيها الظن وبين الفروع التي يكتفى فيها بالظنون بقوله: "إذ لو شرط فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، ولا يكفي فيما يتعلق بأوصاف الإله إلا العلم والاعتقاد، والفرق بينهما أن الظان مجوز بخلاف (لخلاف)

(1) المستصفى ج 1/145.

(2)

البحر المحيط ج م/266.

ص: 58

مظنونه، وإذا ظن صفة من صفات الإله فإنه يجوز نقيضها وهو نقص، ولا يجوز تجويز النقص على الإله؛ لأن الظن لا يمنع من تجويز نقيض المظنون، بخلاف الأحكام، فإنه لو ظن الحلال حراما والحرام حلالا لم يكن ذلك تجويز نقص على الرب سبحانه وتعالى، لأنه لو أحل الحرام وحَرَّم الحلال لم يكن ذلك نقصاً، بخلاف الصفات فإن كمالها شرف وضده نقصان" (1) .

لكن ترتيب هذه الثمرة على قول جمهور الأصوليين والفقهاء بإفادة خبر الواحد للظن دون العلم فيه إشكال كبير بالنظر إلى الاتجاه العام عند سلفهم الذين لم ينفوا إثبات العقائد بخبر الواحد، بل سياق كلامهم يدل على عدم الفرق بين العقائد والأحكام في ثبوتها بخبر الواحد، كما سنرى.

ومن ثم فإما أن يقال: إن مذهب الجمهور أن خبر الواحد يفيد الظن في غير العقائد، أما فيها فلا بد أن يقولوا بإفادته للعلم إذا قلنا بوجوب بناء العقائد على العلم وعدم جواز العمل بالظن فيها؛ لقوله تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] .

وإما أن يقال: إن مذهب الجمهور يشمل العقائد والأحكام، ويصح إثبات العقائد بالظن الغالب كما قرر الحافظ ابن عبد البر؛ فهو قد رجح إفادة خبر الواحد للظن، وفي الوقت نفسه رجح إثبات العقائد به، وعزا

(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص 266.

ص: 59

ذلك إلى "أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعا ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة"(1) .

فبناء على هذا التقرير يكون خبر الواحد حجة في العقائد كما يكون حجة في الأحكام، وفي الوقت نفسه لا يوجب العلم وإن أوجب العمل، فتصير هذه الثمرة لهذا الخلاف منعدمة على هذا التقرير.

بل إن من الأصوليين الذين اشتهر عنهم القول بإفادة خبر الواحد للظن مَنْ يصرح بصحة إثبات العقائد بخبر الواحد، على أن يكون الاحتجاج بمجموع أخبار الآحاد لا بآحادها. قال الزركشي:" سبق منع بعض المتكلمين من التمسك بأخبار الآحاد فيما طريقه القطع من العقائد، لأنه لا يفيد إلا الظن، والعقيدة قطعية، والحق: الجواز، والاحتجاج إنما هو بالمجموع منها، وربما بلغ مبلغ القطع، ولهذا أثبتنا المعجزات المروية بالآحاد"(2) .

وهنا يأتي سؤال على تقرير الحافظ ابن عبد البر وغيره ممن أوجبوا العمل بخبر الواحد في العقائد والأحكام معاً، لكنه مع ذلك لا يفيد إلا الظن، والسؤال هو: لماذا لم يجعلوه مفيدا للعلم كما جعلوه مفيداً للعمل موجبا له؟

(1) التمهيد 1/8.

(2)

البحر المحيط 1/266.

ص: 60

وقد علق ابن تيمية في "المسودة" تعليقا لطيفا على تقرير ابن عبد البر بما يشبه هذا السؤال فقال: "هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علما ولا عملا كيف يجعل شرعا ودينا يوالى عليه ويعادى؟ "(1) .

وقد سبق أن ابن حزم يتلازم عنده إيجاب العمل بخبر الواحد وإفادته للعلم، فلم يبق للخلاف المذكور عند الجمهور إلا الثمرة الثانية التي سيأتي الحديث عنها.

وأيًّا ما كان فإن جماهير العلماء عدُّوا قول من يفرق بين العقائد والأحكام في إثباتها بخبر الواحد قولاً مبتدعاً لم يكن معروفاً عند السلف الماضين، وإنما تسرب إلى المتأخرين من الفقهاء والأصوليين وبعض المشتغلين بالحديث.

ويبدو أن السلف مجمعون إجماعاً سكوتياً على قبول خبر الواحد في العقائد كقبوله في مجال الأحكام، وقد صرَّح ابن القيم وغيره بأن الإجماع على قبول أخبار الآحاد في إثبات صفات الرب سبحانه بها إجماع معلوم متيقن "لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول"(2) .

ولم يخرق هذا الإجماع إلا بعض متأخري المتكلمين (3) ، وتسربت منهم هذه التفرقة بين العقائد والأحكام إلى الأصوليين والفقهاء وبعض

(1) المسودة في أصول الفقه ص 245.

(2)

مختصر الصواعق المرسلة ص 502.

(3)

مختصر الصواعق المرسلة ص 489.

ص: 61

المشتغلين بالحديث، واشتهرت هذه التفرقة حتى ادعى بعضهم الإجماع عليها إجماعاً مضاداً للإجماع السابق، كما يفهم من السؤال الذي أورده الآمدي على قبول خبر الواحد وهو:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى، وتعريف الرسالة، فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع"(1) !! أي: إن إثبات التوحيد والرسالة بخبر الواحد خلاف الإجماع، فيا ترى إجماع من هذا؟ الناقض لإجماع السلف على عكس ما يثبته؟! مع أن أصوليين آخرين لم ينسبوا التفرقة إلا لبعض المتكلمين (2) ، فأين ذلك من الإجماع؟

بل إن تتبع أقوال السلف قد هدى إلى أن القول بالتفرقة قول مبتدع؛ فالإمام الشافعي مثلا، وهو أبرز علماء السلف الذين دافعوا عن حجية خبر الواحد لم أقف في كلامه على أي إشارة لهذه التفرقة المبتدعة، فهو لم يتطرق للتنصيص على حجية خبر الواحد في العقائد، والأحكام، وذلك يعزز بدعية هذه التفرقة وحدوثها بعده، ويؤذن بتسويته بين المجالين في الاحتجاج بخبر الواحد كما يفهم من كثير من إطلاقاته كقوله بعد سرد أعلام من التابعين وغيرهم: "كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن

(1) انظر: الإحكام 2/63.

(2)

البحر المحيط 1/262.

ص: 62

فوقه، ويقبله عنه من تحته" (1) ، وكتمثيله بعقائد ثبتت بخبر الواحد، دون أن يخص منكري حجية خبر الواحد في العقائد برد، مما يدل على عدم وجود القائلين بالتفرقة في عهده، ومن ذلك قوله: "ومن زعم أن الحجة لا تثبت بخبر المخبر الصادق عند من أخبره فما يقول في معاذ إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن والياً ومحارباً من خالفه، ودعا قوما لم يلقوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أخذ الصدقة منهم وغيرها....؟ " (2)

ففي هذا النص دليل واضح على عدم وجود من يفرق بين العقائد والأحكام في عهد الإمام الشافعي، وإنما فيه رد خبر الواحد جملة لا في العقائد ولا في الأحكام.

وقد صنع مثل صنيعه الإمام البخاري في صحيحه، فقد ساق أمثلة عديدة لوجوب العمل بخبر الواحد مع التسوية بين العقائد والأحكام، فقد ساق حديث وفد عبد القيس الذي أمرهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأركان الإسلام وقال لهم في آخره:"احفظوهن وأبلغوهن مَنْ وراءكم" ومن بين الأمور التي أمروا بحفظها وإبلاغها: أمر العقيدة، فدل ذلك على أن الحجة تقوم بخبر الواحد في العقائد كما تقوم به في الأحكام.

ويفهم من عدم تصريحه كسابقه الإمام الشافعي بالتسوية بين العقائد والأحكام ولا بالتفرقة بينهما: أن التفرقة بينهما لم تنشأ إلا بعد زمنهما ولم أقف فيما اطلعت عليه على من يفرق بين المجالين في عهدهما ولا قبل

(1) الرسالة ص 457.

(2)

كتاب اختلاف الحديث بهامش الأم 7/13.

ص: 63

عهدهما، فلم يثبت أن أحداً من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولا أحداً من الأئمة المعروفين ذهب إلى هذه التفرقة، ويبدو أن التفرقة نشأت نشأة غير بريئة ترمي إلى رفض كثير من العقائد التي لم يكن لها مستند إلا خبر الواحد.

وقد جزم ابن القيم رحمه الله بأن الشافعي "لم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، ولا يعرف هذا الفرق عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين ولا عن تابعيهم ولا عن أحد من أئمة الإسلام وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم"(1) .

ولا شك أن هؤلاء الذين لا يعرفون الفرق بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات قد تواطؤوا على الاستدلال بخبر الواحد على أمور العقيدة، فتكون بدعة التفرقة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات قد نشأت متأخرة عن بدعة رفض الاحتجاج بخبر الآحاد، وكأن تلك بنيت على أنقاض هذه، فبعد أن فشل المبتدعون في رد أخبار الآحاد لجأوا إلى رد ما تعلق منها بالعقيدة ظاهرين بمظهر المدافعين عن العقيدة حتى تكتسي بدعتهم بعض المشروعية، وإلا فإن الوقائع التاريخية تدحض هذه التفرقة من حيث إن صحابياً إذا روى لغيره حديثاً في موضوع الصفات تلقاه عنه بالقبول، واعتقد مضمونه على القطع واليقين بمجرد

(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 503.

ص: 64

سماعه، وإذا تثبت أحد منهم في قبول خبر الواحد ففي بعض الأحكام. أما في الصفات فلم يطلب أحد منهم الاستظهار فيها "بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1) .

ولكن المؤسف أن هذه البدعة تسربت عبر الزمان إلى فكر الذين لا يحملون أي دخلة خبيثة لهذا الدين من متأخري الأصوليين والفقهاء، وبذلك اختلطت أسباب التفرقة بين العقائد والأحكام باختلاف دوافع التفرقة.

فالمبتدعة ردوا كل العقائد التي رويت بطريق أخبار الآحاد فراراً منهم من التجسيم -زعموا- وهروباً إلى التعطيل، بل عمموا المسألة في السنة كلها متواترها وآحادها بناء على قاعدة بناء العقائد على القطع ولا يمكن أن تبنى العقائد على الأخبار كلها، أما المتواتر منها فرغم كونه قطعي الثبوت غير قطعي الدلالة، ولا شك أن النص القرآني نفسه ينطبق عليه هذا الوصف، فهو غير قطعي الدلالة وإن كان قطعي الثبوت؛ لأن في النصوص القرآنية الواردة في العقائد ما يتنافى مع ما يعتقدون من التعطيل والإبطال.

فإذا كانت نصوص القرآن والسنة المتواترة التي لا تفيد القطع من جهة الدلالة، ونصوص أخبار الآحاد لا تفيد القطع من الجهتين معا: جهة الدلالة وجهة السند فذلك "إبطال لدين الإسلام رأساً "كما قال ابن

(1) مختصر الصواعق المرسلة 457.

ص: 65

القيم رحمه الله (1) .

فالدافع الأقوى إلى هذه التفرقة هو الموقف من الأسماء والصفات التي يثبتها السلف بنصوص القرآن والسنة معا كما وردت، مع تفويض الكيف إلى الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بينما المبتدعة يعطلون حذراً من التجسيم الذي تُصَوِّره عقولهم.

أما الذين تسربت إليهم هذه التفرقة مع سلامتهم من تلك البدعة، فكان دافعهم الحرص على سلامة منطلقات العقيدة، وأول منطلقاتها هو العلم، فمعرفة الله ومعرفة صفاته لا يكفي فيها مجرد الظن، فالظن في هذا الموضع مذموم؛ لأن الله ألزم المكلفين القطع واليقين في عقيدتهم، وذلك ما لا سبيل للظن إلى تحقيقه، وفي هذا قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها

أما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قررها، وأخبر بها عن الله عز وجل فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل بها واجب" (2) .

ومثله قول أبي بكر السمرقندي: "خبر الواحد لا يحتج به في العقائد لأنه يوجب الظن وعلم غالب الرأي لا علماً قطعياً، فلا يكون حجة فيما يبتني عليه العلم القطعي والاعتقاد حقيقة"(3) .

وجاهر ابن برهان بمخالفته لأصحاب الحديث في قوله إن " خبر

(1) مختصر الصواعق 2/439.

(2)

الكفاية ص 432.

(3)

ميزان الأصول 2/643.

ص: 66

الواحد لا يفيد العلم خلافا لأصحاب الحديث ولا تثبت به العقائد" (1) ، فهم إنما يفرون بهذه التفرقة من الذمِّ الذي يستوجبه بناء العقيدة على الظن، وفي هذا قال العز بن عبد السلام: "وإنما ذم الله العمل بالظن في كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم كمعرفة الإله ومعرفة صفاته، والفرق ظاهر" (2) .

فالدافع هو تنزيه صفات الله عن النقص الناجم عن بنائها على الظن، فمن ظن صفة من صفات الله فيمكنه أن يجوز نقيضيها وذلك نقص" (3) .

بل إن بعض أولئك الذين تسربت إليهم التفرقة حاولوا الرد على أدلة مثبتي الحجية لخبر الواحد في مجالي العقائد والأحكام معا، وكان ردهم متكلفاً بارداً. ومن أمثلة تلك الردود المتكلفة قول أبي الوليد الباجي رحمه الله:"فإن قالوا: فيجب قبول خبر الواحد في التوحيد وأعلام النبوة وما طريقه العلم؛ لأن رسله أيضاً ينفذون بذلك إلى أهل النواحي".

قال: "والجواب: أن هذا غلط، لأنه إنما كان ينفذ رسله بأحكام الشريعة بعد انتشار الدعوة وإقامة الحجة"(4) .

وأجاب الآمدي عن هذه المسألة حيث قال: "إن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول!! لكونه خبر واحد، بل

(1) الوصول إلى علم الأصول لابن برهان ج1/163.

(2)

قواعد الأحكام 2/ 232.

(3)

السابق 1/149.

(4)

أحكام الفصول ص 339.

ص: 67

إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية

!! " ولم يذكر هذه الأدلة العقلية التي زعم أن الرسل يخبرون بها من بعثوا إليهم بالرسائل والأوامر، أما مضمون ما حملوا تبليغه فلا يجب عليهم قبوله إلا بالأدلة العقلية (1) .

والظاهر أن الآمدي رحمه الله أبان بهذا الكلام عن تأثره بمنهج المعتزلة، ودليل ذلك أن القاضي عبد الجبار المعتزلي لا يثبت لخبر الآحاد من حيث هو حجية في العقائد، لكن موجب خبر الواحد عنده يعتقد "لا لمكانه، بل للحجة العقلية!! "(2)

وأما الثمرة الثانية لإفادة خبر الواحد للعلم أو الظن: فتتمثل في كفر جاحد ما ثبت بخبر الواحد أو عدم كفره، فمن ذهب إلى أن خبر الواحد يفيد العلم القطعي اليقيني كفَّرَ من جحده، ومن ذهب إلى أنه لا يفيد العلم القطعي اليقيني لم يكفره، قال الزركشي:"وقد حكى ابن حامد من الحنابلة أن في تكفيره وجهين، ولعل هذا مأخذهما"(3) .

غير أن هذه الثمرة لم يكن النص عليها شائعا في المصادر شيوع سابقتها بمعنى أنه من غير المجزوم به أن كل من قال بإفادة خبر الواحد للعلم يكفر جاحده، ولم أعثر إلا على نصوص لابن العربي وابن القيم والزركشي، فابن العربي أكد أنَّ مَنْ رَدَّ الحديث "لأنه خبر آحاد فهو

(1) الإحكام 2/64.

(2)

شرح الأصول الخمسة ص 770.

(3)

البحر المحيط 1/266.

ص: 68

مبتدع أو كافر على التأويل في أحد القولين، وبه أقول فإن من أنكر خبر الواحد فقد رد الشريعة كلها ولم يعلم مقاصدها، ولا اطلع على بابها الذي يدخل منه إليها" (1) .

أما ابن القيم فقد عزا إلى جماعة من أصحاب أحمد وغيرهم تكفير "من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل، والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه

" (2) .

غير أنه لم يفرع التكفير على إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن كما فعل الزركشي، وإن كان في كلامه بعد ما يفيده، فقد قال:"وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه لكونه من الحجج العلمية كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع"(3) .

غير أن للإمام الشافعي كلاما يومئ إلى هذه الثمرة من حيث تفرقته في الحجية بين خبر الواحد والخبر المتواتر، لا من حيث أصل الاحتجاج بل من حيث ترك الاحتجاج، فمن لم يقبل خبر الواحد وشك فيه لا من جهة صحة سنده فلا يستتاب مِن رفضه قبول خبر الواحد، ومِنْ شكه فيه، ومن لم يقبل الخبر المتواتر يستتاب، فهذه التفرقة قد تكون دليلا على أن الشافعي يقول بإفادة خبر الواحد للظن لا للعلم، وقد نسب ذلك إليه الحافظ ابن عبد البر، ونسب إليه عكسه الإمام ابن القيم كما سبق.

(1) عارضة الأحوذي 10/131.

(2)

مختصر الصواعق المرسلة ص 461.

(3)

السابق ص 462.

ص: 69

وهذا نصُّ الشافعي: "أما ما كان من نص كتاب بَيِّنٍ أو سنةٍ مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة، كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك -إن كنت عالما- أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم".

فمن هذا النص تؤخذ أمور:

أولها: أن هذه التفرقة قد تكون دليلا على أن الشافعي يقول بإفادة خبر الواحد للظن لا للعلم.

ثانيها: أن من شك في السنة المجتمع عليها كمن شك في النص القرآني فيستتاب، والظاهر أنه يقصد الاستتابة من الكفر، أما من شك في خبر الواحد فليس بكافر ولا يستتاب.

ثالثها: أنه لا يفرق من حيث الحجية بين النص القرآني والحديث المتواتر وخبر الآحاد، فالجميع عنده حجة وإن كان الاختلاف في درجة قوة الحجية.

ص: 70