الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن
هذه قضية من القضايا التي أثيرت حول خبر الواحد بين الذين يقولون بوجوب العمل بخبر الواحد من حيث هو، وهم جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، فهم متفقون على حجية خبر الواحد وإفادته للعمل، ومختلفون في إفادته للعلم.
ومن الذين ينكرون حجيته من يجعل إفادته للظن من دواعي رده؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، لكن الذي يعنينا دراسة هذا الخلاف بين المثبتين لحجيته ووجوب العمل به، أما المنكرون فلا فائدة من إثارة الظنية أو العلمية عندهم، إذ الرفض جملة هو حصيلة مذهبهم.
ومجمل الأقوال في هذه القضية تعود إلى قولين:
القول الأول: أن خبر الواحد الصحيح يفيد العلم بنفسه، وهذا هو الاتجاه العام عند المحدثين، وهو ما نجده عند فقهاء الظاهرية وعلى رأسهم داود وابن حزم الذي أطال في الاحتجاج له وأفاض في ترجيحه (1) ، وما كان له ليقول غير ذلك؛ لأنه لا يقبل بناء أي حكم على الظن، ويرى أن الله تعالى حرم القول في دينه بالظن الذي لا يتيقن، إذ " هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا"، وهو " غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى"(2) .
(1) انظر: الإحكام 1/97 وما بعدها.
(2)
السابق 1/113.
بل إن إيجاب العمل بخبر الواحد يستلزم عنده إفادته للعلم، فكأنه يلزم الجمهور القائلين بوجوب العمل بخبر الواحد بالقول بإفادته للعلم، ولا يتردد في اعتبار " كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم، قائلا بأن الله تعالى تعبَّدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم، وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين، وهذا عظيم جدا"(1) .
وانتصر ابن القيم رحمه الله لهذا القول (2)، وربط المسألة بتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الشؤون بناء على قول الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] فمن ادعى أن خبر الواحد لا يفيد العلم فهو"بمعزل عن هذا التحكيم".
كما ربطها برد المتنازعين ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بناء على قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فإن كانت أخبار الآحاد "لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه"(3) .
وإذا كان الاتجاه العام عند أهل الحديث أن خبر الواحد يفيد العلم، فإن قولهم أولى بالقبول والصواب من قول غيرهم؛ فهم أهل الاختصاص،
(1) السابق 1/113.
(2)
مع أنه استدل على إفادة خبر الواحد للعلم بنفس الأدلة التي استدل بها الشافعي وغيره على إيجاب العمل بخبر الواحد. انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص 477 وما بعدها.
(3)
مختصر الصواعق المرسلة ص 451.
وقول أهل الاختصاص في كل فن مقدم على قول غيرهم، وهذا ما أيد به ابن القيم ترجيحه للقول بإفادة خبر الواحد للعلم، فإذا "كان أهل الحديث عالمين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة، وعلمهم بذلك ضروري؟!! لم يكن قول من لا عناية له بالسنة والحديث، وأن هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم، مقبولاً عليهم، فإنهم يدعون العلم الضروري، وخصومهم إما أن ينكروا حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث؛ فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمون من نفوسهم
…
" (1) .
أما أن يقول أهل الكلام إنه لا يفيد العلم فإنهم وأتباعهم "في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاهتمام به"(2) .
ويلاحظ أن في كلام ابن القيم رحمه الله مبالغة في المسألة من حيث جعل العلم الذي يفيده خبر الواحد علماً ضرورياً، وهذه المبالغة تؤدي إلى زوال الفرق بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد؛ فالفرق بينهما أن المتواتر يفيد العلم الضروري، وخبر الواحد يفيد العلم النظري، وإذا زال هذا الفرق لم يبق لتقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد معنى.
فهل العلم الذي يفيده خبر الواحد ضروري أو نظري؟
(1) السابق ص 455.
(2)
السابق 454.
والمقصود بالعلم الضروري هو العلم الذي يفيد اليقين والقطع بلا نظر وبلا استدلال، فهو يحصل لكل سامع، وسمي ضرورياً لأنه "يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكن دفعه (1) ، أما العلم النظري فهو العلم الذي يتوقف حصوله على نظر واستدلال، وهو لا يحصل إلا لمن له أهلية النظر، والمقصود بالنظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون"(2) .
وخبر الواحد لا يفيد إلا العلم النظري الاستدلالي المبني على البرهان وهو علم "لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث"(3) حسب تعبير الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومن المعلوم أن العلم الذي يفيده خبر الواحد لا يمكن أن يكون ضروريا بالمعنى السابق بحيث يضطر الإنسان إليه، ولا يمكنه دفعه، ولا يتوقف حصوله على النظر والاستدلال وإقامة البرهان، ولم أقف لأحد على القول بإفادة خبر الواحد للعلم الضروري إلا لبعض العلماء كابن القيم في النص السابق، ولعله تبع في ذلك مَنْ قال به قبله كابن خويز منداد على ما نسب إليه.
وقد وافق جمهور المحدثين بعض الفقهاء وبعض الأصوليين في إفادة خبر الواحد للعلم النظري، وحكوا عن ابن خويز منداد أنه نسب القول بذلك إلى الإمام مالك رحمه الله، وذكر ابن القيم رحمه الله أن ابن خويز منداد ذكر في كتابه "أصول الفقه" أن خبر الواحد الذي يرويه الواحد
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر ص 21.
(2)
السابق ص 22.
(3)
الباعث الحثيث ص 37.
والاثنان يفيد العلم الضروري وأن مالكاً نص عليه (1) .
ونلاحظ مرة أخرى أن ابن القيم جعل العلم الذي يفيده خبر الواحد عند ابن خويز منداد علما ضروريا، وهو كذلك فيما قرره المازري من كلام ابن خويز منداد، فقد حكى الزركشي عن المازري قوله: "ذهب ابن خويز منداد إلى أنه يفيد العلم ونسبه إلى مالك، وأنه نص عليه، وأطال في تقريره، وحاصله أنه يوجب العلم الضروري، لكن تتفاوت مراتبه، ونازعه المازري وقال: لم يعثر لمالك على نص فيه (2)
وحكى ابن حزم القول بإفادة خبر الواحد للعلم عن الحارث بن أسد المحاسبي، لكن الزركشي انتقد حكاية ذلك عنه وقال: وفيما حكاه عن الحارث نظر، فإني رأيت كلامه في كتاب "فهم السنن"، نقل عن أكثر أهل الحديث وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم، ثم قال: وقال أقلهم: يفيد العلم، ولم يختر شيئًا...." (3) .
وإذا صحَّ ما ذكره المحاسبي في "فهم السنن" فإنه نسب لأغلب أهل الحديث أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وأن أقلهم هم الذين قالوا إنه يفيد العلم، وهو عكس ما نسبه إليهم آخرون.
وتحقيق نسبة ذلك إلى الأكثر أو إلى الأقل يحتاج إلى تقص للأقوال لا
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 457.
(2)
البحر المحيط 1/263.
(3)
السابق 1 /262.
يسمح الوقت للقيام به الآن، إذ في نسبة الأقوال إلى العلماء اضطراب في المصادر. ومن أوجه هذا الاضطراب: أن ابن القيم رحمه الله نسب القول بإفادة خبر الواحد للعلم إلى مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة بما يفيد أنهم نصوا على ذلك، وعبارته:"فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة إلخ"(1) بل ذكر أن الشافعي قد صرح في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم، قال:" نص على ذلك صريحاً في كتابه: اختلاف مالك"(2) .
أما في الرسالة فذكر أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر، لكنه على كل حال يفيد العلم، وساق نصه في مناظرته مع بعض منكري أخبار الآحاد.
بينما نجد آخرين ينسبون إليهم القول بإفادته للظن لا للعلم، قال ابن عبد البر: "والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعاً
…
" (3) .
ونسب إلى الإمام أبي حنيفة أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن قال أستاذنا د. محمد بلتاجي: "وقد راجعت كل ما استخلصته على فقه أبي حنيفة ومسائله وأقواله ذاتها، وانتهيت إلى أن أبا حنيفة كان يرى
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 457.
(2)
السابق ص 459 وانظر اختلاف مالك والشافعي في الأم 7/177.
(3)
التمهيد 1/7.
أن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين، إنما يوجب العمل به بشروط" (1) .
وإذا صحَّ هذا فإن القول بإفادة خبر الواحد للظن قد راج منذ عهد الأئمة المجتهدين خلافا لما يعتقد من أنه لم يحدث إلا بعدهم على يد المتكلمين.
وقد تفرع عن القول بإفادة خبر الواحد للعلم قولان آخران يقيدان إطلاقه:
أحدهما: أنه يفيد العلم لكن لا بنفسه بل بالقرائن التي حفت به، وهذا القول فرع عن سابقه، ويتفقان في أن خبر الواحد يفيد العلم، لكن على القول الأول يفيد العلم بنفسه من غير قرينة، وعلى هذا القول يفيد العلم بالقرائن لا بنفسه.
وقد رجح هذا القول بعض الأصوليين كالآمدي (2) وابن الحاجب والسبكي في جمع الجوامع (3) وإليه مال الحافظ ابن حجر، قال في "النخبة" وشرحها:"وقد يقع فيها – أي في أخبار الآحاد- ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار خلافاً لمن أبى ذلك"(4) .
ونقل في ((الفتح)) عن الكرماني قوله في حديث ذي اليدين: "لم يخرج عن كونه خبر الآحاد وإن كان قد صار يفيد العلم بسبب ما حَفَّه من القرائن"(5) .
(1) دراسات في السنة ص 92.
(2)
قال في الإحكام 2/ 32: "والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن".
(3)
انظر: جمع الجوامع بحاشية العطار 2/157 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(4)
نزهة النظر ص 26.
(5)
فتح الباري 27/274.
ومن القرائن التي أوردها الحافظ، ويفيد بها خبر الواحد العلم النظري: إخراج الشيخين لخبر الواحد، ونسب القول بإفادة ما أخرجه الشيخان للعلم النظري للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني، وأبي عبد الله الحميدي وأبي الفضل بن طاهر (1) .
ومنها: تعدد طرق خبر الواحد مع سلامتها مِنْ ضعف الرواة والعلل.
ومنها: اشتراك أئمة حفاظ متقنين في رواية خبر الواحد.
وهذه القرائن التي ذكرها الحافظ أولى من القرائن التي أوردها بعض الأصوليين كقرينة إخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء وإحضار الكفن والنعش (2) .
ثانيهما: أنه يفيد العلم الظاهر، وقد نسب الحافظ ابن عبد البر هذا القول إلى قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر (3) .
غير أن قيد العلم بالظاهر مما يصعب تحديده وضبطه، ولذلك أوَّله بعض العلماء ليوافق رأي جمهور الأصوليين والفقهاء أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن كما سيأتي، فالإمام الغزالي في "المستصفى" يفسر العلم الظاهر عند من قال به من المحدثين بأنه يعود إلى الظن؛ لأنَّ العلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن (4) .
(1) نزهة النظر ص 27.
(2)
انظر مثلا جمع الجوامع بحاشية العطار 2/157.
(3)
التمهيد 1/8.
(4)
المستصفى 1/145.
وجعل القاضي عبد الوهاب الخلاف لفظياً بين من يقول: "إن خبر الواحد يفيد العلم الظاهر وبين من يقول: إنه لا يفيده لأن مرادهم أنه يوجب غلبة الظن، فصار الخلاف في أنه هل يسمى علما أو لا (1) ؟ ".
بينما سَخِرَ ابن حزم من هذا القيد ووصفه بأنه: "كلام لا يعقل، وما علمنا علماً ظاهراً غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر، بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معاً، وكل ظن يتيقن فليس علماً أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى"(2) .
القول الثاني من القولين الأصليين: أن خبر الواحد يفيد الظن، وهو الاتجاه العام عند جمهور الأصوليين والفقهاء، وهو مذهب الحنفية والشافعية وجمهور المالكية وجميع المعتزلة وغيرهم (3) .
وهو الذي رجحه بعض محدثي الفقهاء كالحافظ ابن عبد البر ونسبه إلى الإمام الشافعي (4) .
وقد دفع بعض العلماء إصرارهم على أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن إلى تعريفه بقولهم: "خبر الواحد ما أفاد الظن"(5) وبقولهم: "خبر
(1) عن البحر المحيط للزركشي 1/264.
(2)
الإحكام 1/114 – 115.
(3)
الإحكام للآمدي 1/107.
(4)
التمهيد 1/8.
(5)
الإحكام للآمدي 1/31، وقد انتقد الآمدي هذا التعريف بأنه غير مطرد ولا منعكس.
الواحد العدل أو العدول المفيد للظن" (1) .
ومنطلق الجمهور في قولهم: إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن أنه لا يمكن أن يقطع على غيبه، وأنه بمنزلة شهادة الشاهد الواحد، كما صرح به ابن القصار وقال:"وصار خبر الواحد بمنزلة الشاهد الذي قد أُمِرنا بقبول شهادته، وإن كنا لانقطع على صدقه"(2)، وقال الحافظ ابن عبد البر:"الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء"(3) .
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن عبارات بعض العلماء يفهم منها أن خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يفيد العلم. قال ابن الصلاح عن هذا النوع من الخبر: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ" قال: "وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح
…
" (4) .
ويبدو أن مرادهم بالذي تلقته الأمة بالقبول: هو الذي لا خلاف فيه بين جماهير الأمة، بل كلهم يعملون به أو يصدقونه، وقد مثلوا له بخبر
(1) شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 356.
(2)
مقدمة في الأصول ص 69.
(3)
التمهيد 1/8 وقد انتقد ابن حزم تشبيه خبر الواحد بشهادة الواحد، وأورد فروقا بين المقامين انظرها في الإحكام 1/119.
(4)
مقدمة ابن الصلاح: (ص14) .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما الأعمال بالنيات" وبخبر أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"(1) .
وقد جعلوا معظم الأحاديث المخرجة في صحيح البخاري ومسلم مما تلقته الأمة بالقبول، وقد نص على ذلك أبو عمرو بن الصلاح، وقبله الحافظ أبو طاهر السلفي وغيره (2)، وعقب ابن تيمية على ذلك بقوله:"فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين"(3) .
وإذا أضفنا إلى خبر الواحد الذي تلقَّته الأمة بالقبول خبر الواحد الذي احتفت به القرائن من حيث إن كليهما يفيدان العلم النظري، فإن الخلاف في إفادة خبر الواحد للعلم ينحصر في خبر الواحد المستوفي لشروط الصحة دون أن يكون مما تلقته الأمة بالقبول، ودون أن يكون مما احتفت به القرائن.
والمقصود أن هذه القيود مما يقلص شقة الخلاف بين العلماء في إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن، ولاسيما إذا وسعنا دائرة القرائن، فقلما يوجد حديث صحيح لا تحتف القرائن بمضمونه ليفيد العلم.
وقد اعترف ابن القيم بوجود خلاف بين العلماء في إفادة خبر
(1) انظر: السابق ص 464.
(2)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص 465 نقلا عن الإمام ابن تيمية.
(3)
عن مختصر الصواعق المرسلة ص 465.
الواحد للعلم إذا لم يرتق إلى درجة ما تلقته الأمة بالقبول، وقد حكي القولان عن الإمام أحمد، وقد نص ابن القيم على أن من بين القائلين بإفادة خبر الواحد للظن "جماعة من أهل الحديث"(1) ، وبذلك لا يُسَلَّمُ قول من ادَّعَى أن الخلاف إنما حدث خارج دائرة أهل الحديث.
ولعل الرغبة في تقليص شقة الخلاف في المسألة هي التي حدت بالحافظ ابن حجر أن يقول: " والخلاف في التحقيق لفظي، لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالتواتر، وما عداه عنده كله ظن، لكن لا ينفي أن ما احتفت به القرائن أرجح مما خلا عنها"(2) .
وإن كان الزركشي رفض كون الخلاف لفظيًّا، فالنتيجة أن الخلاف ليس بذي بال إذا كان الاتفاق حاصلاً على وجوب العمل بخبر الواحد في جميع المجالات.
على أن بعض الأصوليين والفقهاء لجؤوا إلى تأويل مذهب أهل الحديث ومن معهم من الظاهرية في إفادة خبر الواحد للعلم حتى يجعلوا قولهم آيلا إلى قولهم، فابن دقيق العيد حاول أن يجمع بين مذهب الظاهرية ومعهم المحدثون، وبين مذهب غيرهم في إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن بقوله: "قد أكثر الأصوليون من حكاية إفادته القطع عن الظاهرية أو بعضهم، وتعجب الفقهاء وغيرهم منهم!!؛ لأنا نراجع أنفسنا
(1) السابق ص 466.
(2)
نزهة النظر ص 26.
فنجد خبر الواحد محتملا للكذب والغلط، ولا قطع مع هذا الاحتمال، لكن مذهبهم له مستند لم يتعرض له الأكثرون وهو أن يقال: ما صح من الأخبار فهو مقطوع بصحته لا من جهة كونه خبر الواحد
…
وإنما وجب أن يقطع بصحته لأمر خارج عن هذه الجهة، وهو أن الشريعة محفوظة، والمحفوظ ما لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه، فلو كان ما ثبت عندنا من الأخبار كذباً لدخل في الشريعة ما ليس منها، والحفظ ينفيه، والعلم بصدقه من هذه الجهة لا من جهة ذاته، فصار هذا كالإجماع" (1) .
فابن دقيق العيد في هذا النص يجعل مسألة القطع بالصحة مشتركة بين الجميع، واختلاف الجهة المأخوذ منها القطع لا يجعل الخلاف حقيقياً.
وأحسب أن ابن دقيق العيد استخلص هذا المستند من كلام مُدَوِّن فقه الظاهرية الإمام ابن حزم في كتابه "الإحكام"، فقد حام حول هذه الفكرة للدفاع عن مذهبه في إفادة خبر الواحد للعلم منطلقاً من أن الوحي محفوظ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه حرف، وأن لا يحرف منه شيء، ثم لا يعقبه بيان الضياع أو التحريف أو البطلان؛ إذ لو جاز ذلك لكان الوحي غير محفوظ، وهو محفوظ قطعاً، وما هو محفوظ لابد أن يفيد القطع والعلم اليقيني (2) .
(1) عن البحر المحيط للزركشي 1/264 – 265.
(2)
انظر تفصيل الفكرة في الإحكام 1/109 وما بعدها.
والإمام الغزالي يقول بعد نفيه إفادة خبر الواحد للعلم: "وما حُكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل؛ إذ يسمى الظن علما"(1) .
وقد قرر هذا المعنى قبله الإمام الباجي مدعيا أن الغلط إنما دخل على القائلين بإفادة خبر الواحد للعلم " من أن العمل بأخبار الآحاد معلوم وجوبه بالقطع واليقين، وأما ما يتضمنه من أخبار فمظنون، فلم يتميز لنا العلم بوجوب العمل من العلم بصحة الخبر"(2) .
وأوَّلَ بعضهم مذهب المحدثين بأنهم يقصدون أن الخبر يفيد العلم بمعنى الظن محتجين بأن العلم قد يأتي بمعنى الظن كما في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10](3) .
والإمام ابن تيمية رحمه الله، وإن كان توجهه العام أن خبر الواحد يفيد العلم، لا يمانع في كون بعض الأخبار تفيد ظناً قد يتحول إلى علم بوجود مؤيدات لتلك الأخبار، وقد يتحول ذلك الظن إلى أوهام مع انعدام مؤيدات لتلك الأخبار، فقد نقل عنه ابن القيم رحمه الله قوله:"والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنوناً بشروطها، فإذا قويت صارت علوما، وإذا ضعفت صارت أوهاماً وخيالات فاسدة"(4) .
(1) المستصفى 1/145.
(2)
إحكام الفصول ص 324.
(3)
انظر الإحكام للآمدي 2/49.
(4)
مختصر الصواعق المرسلة ص 465.
ويعترف الذين لا يفيد عندهم خبر الواحد إلا الظن أن الظن الذي يفيده قد تختلف درجته باختلاف درجات رواته أو بكثرتهم؛ فالظن المستفاد من أخبار أكابر الصحابة آكد من الظن المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم" (1) ، والخبر "الصادر من اثنين آكد ظناً وأقوى حسباناً من الخبر المستفاد بقول الواحد، وكلما كثر المخبرون كثر الظن بكثرة عددهم إلى أن ينتهي خبرهم إلى الاعتقاد، فإن تكرر بعد حصول الاعتقاد انتهى إلى إفادة العلم".
فهذا الكلام يكاد يكون صريحا في أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأن كثيرا من أخبار الآحاد تنتهي إلى إفادة الاعتقاد بصحتها.
لكن عبارات أهل الأثر صريحة في أن مرادهم أن خبر الواحد يوجب العلم بصحته، وكفى على ذلك دليلاً قولهم: إنه يصح أن تشهد على الله وعلى رسوله بمضمونه، وتأكيدهم أن الأمة منذ عهد الصحابة "لم تزل تشهد على الله ورسوله بمضمون هذه الأخبار....."(2) .
(1) قواعد الأحكام 2/ 219.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 484.