الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: نشأة ظاهرة التشكيك في حجية خبر الآحاد وأسبابها
هذه القضية من أهم القضايا المرتبطة بخبر الواحد من حيث نشأة النابتة التي ابتدعت رفض قبول خبر الواحد جملة، وهذه النابتة قد بذرت بذرتها منذ عقد الأربعين الذي ينظر إليه على أنه الحد الفاصل بين صفاء السنة والتزيد فيها (1) .
بل إن تيار الاقتصار على ما في القرآن قد ظهر مبكراً منذ عهد الصحابة كما يظهر من موقف الرجل (الخارجي) الذي جاء إلى عمران ابن حصين وهو يحدِّث الناس عن السنة فقال: يا أبا نجيد: حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرؤون القرآن؟ أكنت تحدثني عن الصلاة وما فيها وحدودها؟ أكنت تحدثني عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ لكن قد شهدت وغبت أنت، ثم قال: فرض رسول صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني، أحياك الله.
قال الحسن: "فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين"(2) .
وقد نفهم من هذه الواقعة إشارات:
(1) انظر: خبر الواحد للقاضي برهون ص 76.
(2)
مفتاح الجنة للسيوطي ص 38.
الأولى: أن الدوافع التي دفعت هذا الرجل وأمثاله ليقول لهذا الصحابي: حدثنا بالقرآن دوافع غامضة، فهل هو دافع الرغبة في تحصيل قدر أكبر من أسرار القرآن؟ أو هو دافع الاقتصار على ما في القرآن واستبعاد ما في السنة؟ أو هو دافع الجهل بموقع السنة من هذا الدين؟ أو هو دافع الارتياب والشك في ثبوت السنة؟ أو هي هذه الدوافع كلها؟!
الثانية: أن هذا الرجل ليس وحده الذي يقول هذا، بل من ورائه آخرون يرون الرأي نفسه، بدليل قول عمران له:"أنت وأصحابك" لكن يبدو أن لا تأثير لهم في ذلك العهد لأنهم مازالوا في طور النشأة.
الثالثة: أن هذا الرجل ليس ذا طوية خبيثة، ولو كان كذلك لما تراجع عن فكرته بعد محاورة عمران له، ولما قال له ممتنَّاً:"أحييتني أحياك الله" وإنما وقع فريسة الجهل بمكانة السنة النبوية وبأثرها المحمود في تسديد مسار المسلم في الحياة.
ومن أعلام النبوة: ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من وجود ظاهرة التشكيك في سنته؛ فقد روى أبو داود وغيره عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه"، الحديث
…
(1) .
واستمرت الظاهرة في تصاعد مع مرور الزمن حتى جعلتها طوائف
(1) رواه أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة.
من سمات منهجها في التعامل مع السنة كطوائف المعتزلة والخوارج والروافض.
وقد حاول ابن حزم تحديد زمن نشأة هذه الظاهرة بقوله: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تجري على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدَّث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"(1) .
فابن حزم في هذا النص ينسب إلى متكلمي المعتزلة في القرن الثاني بدعة رفض قبول خبر الواحد بعد أن كان حجة عند جميع الفرق.
ويبدو أن هذه الظاهرة قد تنامت خلال القرن الثاني وما بعده وتفرعت إلى أكثر من فرع، وقد حمل لواء هذه الظاهرة أهل الكلام الذين ليس لهم موقف واحد في المسألة كما نفهم من قول الإمام الشافعي رحمه الله:"ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقاً متبايناً، وتفرق غيرهم ممن نسبته العامة إلى الفقه فيه تفرقاً"(2) .
فلبدعة نشأة الكلام والاشتغال به أثر واضح في نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الواحد، ولا شك أن سيل البدعة إذا كان جارفاً سيتحطم على حصون السنة.
(1) الإحكام 11/102، وانظر أيضا ص 119.
(2)
جماع العلم بهامش الأم 7/250.
وقد كان لأهل الكلام وجود بارز في عصر الإمام الشافعي في كثير من البلاد، ونال خبر الواحد نصيباً من معارضتهم الجدلية كما يفهم من قول الإمام الشافعي:"فقد وجدت أهل الكلام منتشرين في أكثر البلدان، فوجدت كل فرقة منهم تنصب منها ما تنتهي إلى قوله، وتضعه الموضع الذي وصفت"(1) .
ويعد الإمام الشافعي رحمه الله أبرز العلماء الذين تعدُّ كتاباتهم تاريخًا أمينًا لهذه الظاهرة، كما يعد أبرزهم في التصدي لها.
وقد صرَّح أكثر من مرة في كتبه أن جميع العلماء منذ عهد الصحابة والتابعين كانوا يثبتون حجية خبر الواحد إلا فرقة يبدو أنها تفرعت إلى فرقتين (2) في عهده:
فرقة رفضت الاحتجاج بالسنة كلها
وفرقة رفضت الاحتجاج بأخبار الآحاد
وقد خصص للرد على الفرقتين بابين:
أحدهما: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها (3) !!
وثانيهما: باب حكاية قول مَنْ ردَّ خبر الخاصة (4) .
ويبدو من نتيجة حوار الإمام الشافعي مع الطائفة الأولى التي ردت
(1) جماع العلم بهامش الأم 7/256.
(2)
انظر السابق 7/250.
(3)
السابق 7/251.
(4)
السابق 7/256.
الأخبار كلها أن مناظره منها قد رجع إلى جادة الصواب وأقر بحجية السنة كما يفهم من قوله للإمام: "والحجة لك ثابتة بأن علينا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرت إلى أن قبول الخبر لازم للمسلمين لما ذكرت وما في مثل معانيه من كتاب الله، وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره إذا بانت الحجة فيه، بل أتدين بأن علي الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق"(1) .
وإذا كان هذا المجادل المنصف الباحث عن الحق قد رجع إليه بتجلية الشافعي إياه له، فإن كثيرين من ذوي الأغراض السيئة قد لا يقنعهم هذا الحق الأبلج.
أما حواره مع الطائفة الثانية فيبدو منه أنهم كثيرون، كما يفهم من بعض عبارات الشافعي كقوله:"ثم كلَّمني جماعة منهم مجتمعين ومتفرقين بما لا أحفظ أن أحكي كلام المتفرد عنهم منهم وكلام الجماعة، ولا ما أخبر به كُلاًّ"(2) .
وكقوله: "قال هو وبعض من حضر معه"(3) وكقوله: "وقلت له أو لبعض من حضر معه (4) " وكقوله: "فقال جماعة ممن حضر منهم"(5) .
(1) السابق 7/251 – 252.
(2)
السابق 7/255، وفي نسخة ((ولا ما أجبت به كُلاًّ)) .
(3)
السابق 7/256.
(4)
السابق 7/259.
(5)
السابق 7/261.
وتصور هذه العبارات ضراوة المعارك التي خاضها الإمام الشافعي مع هؤلاء وبسالته في مصاولتهم انتصاراً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المؤكد أن الإمام الشافعي أراد بهذا الحجاج العلمي أن يثبت أموراً:
الأول: أن السلف - مجمعون صحابةً وتابعيهم- على تثبيت حجية خبر الواحد ووجوب العمل به بشروطه.
وقد نال هذا الأمر قسطاً كبيراً من اهتمام الشافعي رحمه الله وإن تحاشى التصريح بالإجماع كما سبق وعدل عنه إلى قوله: "ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد
…
جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد
…
" (1) .
وقصده من تثبيت هذا الإجماع بيان أن ما ذهبت إليه الطوائف التي يرد عليها خرق لهذا الإجماع، فيلزم التصدي لهذا الخرق، والشبه التي يثيرها هؤلاء.
وقد صرح كثير من الأصوليين والمحدثين فيما بعد بحصول الإجماع على هذا، بل صرح ابن القيم بأن إجماع الصحابة على ذلك معلوم بالضرورة (2) .
(1) الرسالة ص 457 – 458.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 457، وانظر أيضا ص 502.
وصرح إمام الحرمين أن إجماع الصحابة على حجية خبر الواحد منقول تواترا (1) .
عدَّ ابن عبد البر الخارقين لهذا الإجماع من الخوارج وطوائف من أهل البدع" شرذمة لا تعد خلافاً"(2) .
الثاني: أن مبدأ تثبيت حجية خبر الواحد لا يجوز التساهل فيه مع تلك الطوائف كيلا يغتر بهم الأغرار من المسلمين، وهذا ما يفسر تلك الإطالة الملحوظة عند الشافعي في تثبيت حجية خبر الواحد رغم تصريحه بأنه لم يحفظ فيه خلافاً عن أحد من فقهاء المسلمين.
وتنفيراً للمسلمين من الاغترار بهؤلاء، وصفهم الشافعي بقوله:"فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة! "(3) .
الثالث: أن دحض كل الشبه وكل الأدلة التي تستمسك بها الطوائف التي ترفض الاحتجاج بخبر الواحد من مهمات العلماء، وإذا لم تدحض تلك الشبه فإنها تتغلغل شيئا فشيئا حتى تصبح في صورة أدلة.
الرابع: أن التيار الخارق للإجماع في حجية خبر الواحد يبدو أنه قوي كما يفهم من بعض عبارات الشافعي كقوله: "قلت له: أنت تسأل عن الحجة في ردِّ المرسل وترده، ثم تجاوز فترد المسند الذي يلزمك عندنا الأخذ به"(4) ، وقوة هذا التيار يجب أن تقابلها قوة الرد.
(1) انظر: البرهان 1/601.
(2)
التمهيد 1/2.
(3)
اختلاف الحديث بهامش الأم 7/26.
(4)
الرسالة ص 470 – 471.
أسباب نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الآحاد
من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور التشكيك في خبر الآحاد خاصة وفي السنة عامة:
1 – ظهور قرن الفتنة التي عصفت بالأمة منذ مقتل عثمان رضي الله عنه، فالخوارج أدت بهم قضية "التحكيم" إلى تجريح الصحابة، لأنهم رضوا بالتحكيم، والروافض جرحوا كثيراً من الصحابة إلا علياً وأبناءه وشيعته، وكان من منهجهم ألا يقبلوا من الأحاديث إلا ما جاء عن طريق آل البيت (1) .
2 – طغيان المنهج العقلي في التعامل مع السنة، ولا سيما عند المعتزلة الذين جعلوا دلالة العقل أولى الدلالات، فالأدلة عندهم على الترتيب هي:"حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع"(2) .
وقد رأى القاضي عبد الجبار-وهو أحد أقطابهم- أن خبر الآحاد لا يعلم كونه صدقاً ولا كذباً فيلجأ فيه إلى الحجة العقلية التي هي الدليل الأول "فإن لم يكن موافقاً لها كان الواجب أن يرد! وأن يحكم أن النبي لم يقله، وإن قاله فإنما قاله حكاية عن غيره!! "(3) .
ومن نتائج طغيان هذا المنهج أن خبر الواحد يمكن أن يكون في نفس
(1) انظر خبر الواحد في: التشريع الإسلامي وحجيته للقاضي برهون ص 77 وص 283.
(2)
شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 88.
(3)
شرح الأصول الخمسة ص 770، وانظر أمثلة لردهم الأحاديث المخالفة للمعقول في الاعتصام للإمام الشاطبي 1/231 وما بعدها.
الأمر كذباً أو خطأ، وقد جعلت "المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به، وقالوا: ما جاز أن يكون كذباً أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل، ولا أن يضاف إلى الله تعالى، ولا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يسع أحداً أن يدين به"(1) .
3 – قضية الصفات وما أثير حولها من تعطيل وتجسيم وتأويل، فنفاة الصفات ومعطلوها قالوا:"لا يحتج بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من صفات ذي الجلال والإكرام"(2) .
وقد انطلقوا في التعطيل من زعم تنزيه الله عن صفات البشر: إذ "لو كان الله عالماً بعلم لكان يجب في علمه أن يكون مثلاً لعلمنا" كما قال القاضي عبد الجبار (3) ، والصفات الواردة في القرآن الكريم لابد أن تؤول بما يتفق مع هذا المنطلق (4) ، وهو منطلق تنزيه الله عز وجل، والخوف من تشبيهه بمخلوقاته، إذ جعلوا قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة" (5) .
وقضية الصفات دفعت الكثيرين إلى التوقف في آيات الصفات من القرآن الكريم نفسه؛ لأن الصفات لابد فيها من القطع، والآيات القرآنية
(1) الإحكام 1/107.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة ص 438.
(3)
شرح الأصول الخمسة ص 201 وص 770.
(4)
انظر السابق ص 212.
(5)
مختصر الصواعق المرسلة ص 509.
وإن كانت لها صفة القطع من جهة الثبوت لا تفيد القطع من جهة الدلالة، وأخبار الآحاد فقدت القطع من الجهتين معاً، "وبهذا قدحوا في دلالة أحاديث الآحاد؛ لأنها لا تفيد العلم، فسدُّوا على القلوب معرفة الرب تعالى، وأسمائه وصفاته من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم "(1) .
4 – انتشار الوضع في الحديث، وقد شككت هذه الظاهرة كثيراً من الفرق في حجية السنة جملةً، رغم الجهود المضنية التي بذلها علماء الحديث لتمييز الحديث الصحيح عن غيره، ولتحذير الأمة من الأحاديث الموضوعة، لكن أهل الأهواء وفاقدي العلم بالحديث وجدوا في هذه الظاهرة مستنداً لهم لرد أخبار الآحاد.
بل إن بعض المعاصرين تَعدَّوْا التشكيك في أخبار الآحاد إلى التشكيك في الأحاديث المتواترة، وتساءل بعضهم:"هل كل ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأمر به يكون واجبا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة وإن لم يرد له ذكر في القرآن؟ "(2) ثم أجاب عن السؤال بقوله: "إنه لا يجب!! "(3) .
5 – دعوى معارضة القرآن الكريم أو السنة المتواترة أو الأصول.
لكن يجب بصدد الحديث عن هذا السبب أن نفرق بين مذهب مَنْ
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 438.
(2)
مجلة المنار 9/522 عن موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، للدكتور الأمين الصادق الأمين ص 277.
(3)
انظر تأسيس النظر للدبوسي ص 99.
يرفض العمل بخبر الواحد أصلاً، ومذهب مَنْ يرفضه إذا عارضه ما هو أقوى منه، كما هو مذهب أبي حنيفة مثلاً، وكما نسب إلى الإمام مالك في تقديم ظاهر القرآن الكريم على خبر الواحد.
وتجب ملاحظة هذه التفرقة حتى لا يظن بمثل أبي حنيفة أنه من الرافضين لحجية خبر الواحد، فهو رحمه الله إمام أهل الرأي، ويحتل القياس عنده مكانة بارزة في الاستدلال، ومع ذلك يقدم خبر الواحد على القياس، ومعه في هذا التقديم الإمامان محمد وأبو يوسف، وهذا من أقوى البراهين على حجية خبر الآحاد عندهم.
غير أن المشكل – منهجياً - أن هناك ما يشبه خيطاً رابطاً بين اتجاه من يرفض حجية خبر الواحد جملة، واتجاه من يرفض حجيته إذا عارضه ما هو أقوى منه، من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة، وهو ما يدخل في ما يطلق عليه "تعارض الأخبار" وقد ميَّز الإمام الشافعي بين الاتجاهين لما قال لمناظره:"قد أجد الناس مختلفين فيها (أي السنة) منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها، فأما سنة يكونون مجتمعين على القول بخلافها فلم أجدها قط"(1) .
ويتمثل هذا الخيط الرابط بين الاتجاهين في مبدأ رد خبر الواحد، وفي مبدأ اتساع رقعة هذا الرد، وفي أدلة الرد، وأظهر هذه الأدلة ما استشهد به أصوليو المذهب الحنفي لردِّ خبر الواحد إذا تعارض مع الكتاب والسنة
(1) الرسالة ص 470.
المتواترة أو المشهورة من حديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: "تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا روي لكم عن حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه، واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه، واعلموا أني منه بريء"(1) .
لكن هذا الحديث غير صحيح، فقد قال عنه يحيى بن معين: إنه موضوع وضعته الزنادقة، وقال عنه الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، ونقل الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن عبد الرحمن بن مهدي قوله:"الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فأنا لم أقله"(2) .
على أن أسلوب هذا الحديث يوحي بالاختلاق والوضع!
وقد توسع الحنفية في ردِّ بعض أخبار الآحاد، لا لأن منهجهم هو ردُّ أخبار الآحاد، كما هو منهج المبتدعة، لكن لاعتبارات علمية ومنهجية لم يسلمها لهم غيرهم، فمتأخرو الحنفية ردوا خبر الواحد إذا كان في ما تعم به البلوى" (3) .
(1) أصول السرخسي 1/365 مفتاح الجنة السيوطي ص36، وقد استشهد أبو يوسف بنص هذا الحديث انظر كتاب سير الأوزاعي في الأم 7/308، وانظر دراسات في السنة لأستاذنا د/محمد بلتاجي حسن ص99.
(2)
جامع بيان العلم 2/191.
(3)
قال ابن القيم: "وحكوه عن أبي حنيفة وهو كذب عليه وعلى أبي يوسف ومحمد، فلم يقل ذلك أحد منهم ألبتة، وإنما هذا قول متأخريهم، وأقدم من قال به عيسى بن أبان، وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره" مختصر الصواعق المرسلة ص 509.
كما ردوه إذا ورد مخالفا للأصول، قال الدبوسي:"الأصل عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أوجب الوضوء مِنْ مَسِّ الذكر، لم يقبل أصحابنا هذا الخبر لأنه ورد مخالفاً للأصول؛ لأنه ليس في الأصول انتقاض الطهارة بمس بعض أعضائه"(1) .
وقضية مخالفة خبر الواحد للأصول لم تُسَلَّمْ لفقهاء المذهب الحنفي وأصوليِّيه، ومثلهم فقهاء المذهب المالكي وأصوليوه، إذ كيف يكون خبر الواحد مخالفا للأصول، وهو نفسه من الأصول؟! فقد وجدت للعلماء نصوصا تثبت أن خبر الواحد أصل بنفسه، والأصل لا تجوز مخالفته، فقد قال الإمام الشافعي:"وتثبيت خبر الواحد أقوى من أن أحتاج إلى أن أمثله بغيره؛ بل هو أصل في نفسه"(2)، ومثله قول ابن حزم في رده على بعض الحنفيين:"وأما قولهم: مخالف للأصول، فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل؛ لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين، وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه، ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين"(3) .
وبالرغم من وجود هذا الشبه الظاهري في ظاهرة الرفض، فإن علماء الحنفية وغيرهم ممن ردوا بعض أخبار الآحاد يختلفون منهجا واعتقادا مع الرافضين لمبدأ الحجية نفسها.
(1) تأسيس النظر ص 156.
(2)
الرسالة ص 384.
(3)
الإحكام 1/105.