المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهل الاستقامة…عند المصيبة: - حقوق آل البيت

[ابن تيمية]

الفصل: ‌أهل الاستقامة…عند المصيبة:

‌أهل الاستقامة

عند المصيبة:

وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون الله ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسول بأمر أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما أمروا به لفعل غيرهم ما نهى عنه، بل كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1.

ولا يعانون أحدا على معصية، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف، فهم وسط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم.

ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام.

وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين وقد كانت قد شهدت مصرع أبيها، الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها"2.

فقد علم أن الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم.

1-سورة المائدة، آية:105.

2-

أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/201. وابن ماجة في السنن في الجنائز باب55.

ص: 44

العهد، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا ولا ريب أن ذلك فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، ورفعا لدرجته ومنزلته عند الله، تبليغا له منازل الشهداء، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما، لأنهما ولدا في عز الإسلام، تربيا في حجور المؤمنين، فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة، أحدهما مسموما، والآخر مقتولا، لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل: أي الناس بلاء؟ فقال: "الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، وابتلى الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس خطيئة"1.

وشقي بقتله من أعان عله، أو رضي به، فالذي شرعه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصائب وإن عظمت أن يقولوا:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 2.

وقد روى الشافعي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات، وأصاب أهل بيته من المصيبة ما أصابهم، سمعوا قائلا يقول: "يا آل بيت رسول الله، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا المصاب من حرم الثواب

".

فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

1-الحديث أخرجه الترمذي في الزهد باب 57. وابن ماجة في سننه في الفتن باب23.والدارمي في مسنده في كتاب الرقاق باب 67. والإمام أحمد في المسند 1/172-174-180-185.

2-

سورة البقرة، آية:156.

ص: 45

فأما اتخاذ المآتم في المصائب، واتخاذ أوقاتها مآتم، فليس من دين الإسلام، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من السابقين الأولين، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من قادة أهل البيت، ولا غيرهم.

وقد شهد مقتل علي أهل بيته، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته، وقد مرت على ذلك سنون كثيرة، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحدثون مأتما، ولا نياحة، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله، أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"1.

وقال: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"2. يعني: مثل قول المصاب "يا سنداه، يا ناصراه، يا عضداه".

وقال: " إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب، وسربالا من قطران "3.

وقال: "لعن الله النائحة والمستمعة إليها"4.

1-أخرج أبو نعيم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان من حزن في قلب أو عين فهو من قبل الرحمة وما كان من حزن يد أو لسان فهو من قبل الشيطان" انظر جمع الجوامع للسيوطي 1/709.

2-

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب 36-38-39، وفي المناقب باب8. ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان حديث 165. والترمذي في كتاب الجنائز باب22. وابن ماجة في سننه باب الجنائز باب52. والإمام أحمد في مسنده 1/386-432-456-442-465-4/131.

3-

أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز حديث رقم 29. وابن ماجة في سننه في الجنائز باب51. والإمام أحمد في مسنده 5/342-343-344.

4-

أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الجنائز باب25. والإمام أحمد في المسند 3/65.

ص: 46

وقد قال في تنزيله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} بأنها النياحة.

وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة.

"والحالقة"2: التي تحلق شعرها عند المصيبة.

والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة.

وقال جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة.

وإنما السنة أن يصنع لأهل الميت طعام، لأن مصيبتهم تشغلهم.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال: "اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم"3.

وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والانخضاب، أو المصافحة، والاغتسال، فهو بدعة أيضا لا أصل لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين.

وإنما روي فيها حديث: " من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام" نحو ذلك.

1-سورة الممتحنة، آية:12.

2-

ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل.

3-

الحديث أخرجه الترمذي في الجنائز باب21. وابن ماجة في الجنائز باب59.

ص: 47

ولكن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه وقال:"صومه يكفر سنة"1.

وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنجى فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، وروى انه كان فيه حوادث الأمم..فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه.

وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا، أو المحنة التي توجب صبرا.

كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر، وفيه مقتل علي

وأبلغ من ذلك: أن يوم الاثنين في ربيع الأول فيه مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه هجرته وفيه وفاته.

والعبد المؤمن يبتلي بالحسنات التي تسره، والسيئات التي تسوءه في الوقت الواحد، ليكون صبارا شكورا، فكيف إذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد.

ويستحب صوم التاسع والعاشر، ولا يستحب الكحل، والذين يصنعونه من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومن قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره، أو فرح، أو استشفى بمصائبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي" 2 لما شكى إليه العباس أن بعض قريش يجفون بني هاشم.

1-أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/295-297-304-307.

2-

انظر الحديث في مسند: الإمام أحمد، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، والمستدرك للحاكم 4/75، وسنن ابن ماجة. مع اختلاف في الألفاظ. قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح".

ص: 48

وقال: "إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة، اصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم"1.

وروي أنه قال: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"2.

وهذا باب واسع يطول القول فيه.

1-أول حديث: " إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا"

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل حديث رقم 1. والترمذي في المناقب باب1. والإمام أحمد في المسند 4/107 وأورده السيوطي في الجامع الصغير حديث رقم 1683 وعزاه إلى الترمذي عن وائلة بن الأسقع وصححه وقال الترمذي: حيث صحيح".

2-

أخرجه الترمذي في لمناقب، والحاكم في مستدركه في فضائل أهل البيت، وصححه كل منها، وأقره الذهبي في التلخيص. وأورده السيوطي في الجامع الصغير حديث رقم 224 وعزاه إلى الترمذي والحاكم، ورمز له بالصحة.

ص: 49