المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَهُوَ شَاعِر فَحل مَشْهُور من شعراء الْإِسْلَام مقدم. ذكره الجُمَحِي - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي - جـ ٣

[عبد القادر البغدادي]

الفصل: وَهُوَ شَاعِر فَحل مَشْهُور من شعراء الْإِسْلَام مقدم. ذكره الجُمَحِي

وَهُوَ شَاعِر فَحل مَشْهُور من شعراء الْإِسْلَام مقدم. ذكره الجُمَحِي فِي الطَّبَقَة الأولى من الشُّعَرَاء الإسلاميين. وَكَانَ يقدم الفرزدق على جرير فاستكفه جرير فَأبى فهجاه بقصيدته البائية الَّتِي مطْلعهَا: أقلي اللوم عاذل والعتابا ففضحه بهَا. وَتقدم بَيَانه فِي تَرْجَمَة جرير فِي أَوَائِل الْكتاب.

وَفِي المؤتلف والمختلف للآمدي: من لقبه الرَّاعِي من الشُّعَرَاء اثْنَان: أَحدهمَا: هَذَا وَالثَّانِي: اسْمه خَليفَة بن بشير بن عُمَيْر بن الْأَحْوَص من بني عدي بن جناب. وَقيل غير ذَلِك.

3 -

(بَاب الْحَال)

أنْشد فِيهِ وَهُوَ الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ بعد الْمِائَة

(يَقُول وَقد ترّ الوظيف وساقها

أَلَسْت ترى أَن قد أتيت بمؤيد)

على أَنه يخرج عَن تَعْرِيف الْحَال الْحَال الَّتِي هِيَ جملَة بعد عَامل لَيْسَ مَعَه ذُو حَال.

ص: 151

بَيَانه: أَن جملَة وَقد ترّ الوظيف حَال وعاملها يَقُول وَلَا صَاحب لَهَا وَأما فَاعل يَقُول وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فَلَيْسَ صَاحب الْحَال لِأَنَّهَا لم تبين هَيئته إِذْ لَيست من صِفَاته. وَهَذَا إِنَّمَا يرد على تَعْرِيف المُصَنّف الْحَال فَإِنَّهُ اعْتبر فِيهِ تَبْيِين الْهَيْئَة وَلَا يرد عل ى تَعْرِيف الشَّارِح فَإِنَّهُ لم يعْتَبر فِي الحدّ تَبْيِين الْهَيْئَة. وَقد أوّل النَّاس تَعْرِيف المُصَنّف على وُجُوه مِنْهُم السَّيِّد ركن الدَّين فِي شَرحه الْكَبِير على الكافية وَابْن هِشَام فِي شرح التسهيل وَمُغْنِي اللبيب وَكَذَا الدماميني وَغَيره.

وترّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة وَالرَّاء الْمُهْملَة قَالَ ابْن دُرَيْد: ترّ الْعظم يترّه ترّاً إِذا قطعه وَكَذَلِكَ كل عُضْو انْقَطع بضربة وَاحِدَة فقد ترّ ترّاً وينشد بِالْوَجْهَيْنِ قَول طرفَة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت فِي الجمهرة.

يُرِيد: أَن ترّ ورد لَازِما ومتعدياً.

وَرُوِيَ بِرَفْع الوظيف على أَنه فَاعل ترّ اللَّازِم بِمَعْنى انْقَطع وَفَسرهُ يَعْقُوب بن السّكيت فِي شرح ديوَان طرفَة وَتَبعهُ الأعلم فِي شَرحه بقوله: طنّ وندر. وَرُوِيَ بِنصب الوظيف على أَنه مفعول ترّ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنى قطع وفاعله ضمير العضب فِي بَيت قبله.

وَقَوله: وساقها: مَعْطُوف عَلَيْهِ بِالْوَجْهَيْنِ وَضمير الْمُؤَنَّث رَاجع إِلَى الكهاة فِي بَيت قبله وَهِي النَّاقة الضخمة. والوظيف فِي الرجل مَا بَين الرسغ

والساق وَفِي الْيَد: مَا بَين الرسغ والذراع.

وَقَوله: أَلَسْت ترى الخ مقول القَوْل. وَالْخطاب فِي الثَّلَاثَة لطرفة والاستفهام للتوبيخ. والرؤية يجوز أَن تكون بصرية فَأن مَعَ مَا بعْدهَا فِي تَأْوِيل مُفْرد مَنْصُوب على أَنه مفعول الرُّؤْيَة وَأَن تكون علمية فَأن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة وَاسْمهَا ضمير شَأْن وَجُمْلَة قد أتيت خَبَرهَا وَهِي مَعَ معمولها سادّة مسدّ المفعولين

ص: 152

للرؤية. والمؤيد: على وزن اسْم الْفَاعِل قَالَ الأعلم: هُوَ الداهية وَأَصلهَا من الأيد وَهُوَ الْقُوَّة كأناداهية ذَات شدَّة وَقُوَّة. وَرَوَاهُ الْخَطِيب التبريزي فِي شرح المعلقات بزنة اسْم الْمَفْعُول أَيْضا وَقَالَ: أَي: جِئْت بِأَمْر شَدِيد يشدّد فِيهِ: من عقرك هذهالناقة. وَلَيْسَ الْمُؤَيد من الوأد مَا توهمه السَّيِّد فِي حَوَاشِي هَذَا الْكتاب فَإِنَّهُ قَالَ: وأده أَي: دَفنه حَيا والْمُؤَيد:)

الداهية.

قَالَ ابْن جنّي فِي الْمنصف وَهُوَ شرح تصريف الْمَازِني: الْفِعْل المعتل الْعين إِذا صَحَّ مَا قبل عينه نقلت حَرَكَة عينه إِلَى السَّاكِن بلها نَحْو أَقَامَ واستقام. فَأَما مَا اعتلّت فاؤه فَإنَّك لَا تنقل إِلَيْهَا حَرَكَة الْعين وَذَلِكَ قَوْلك فِي أفعلت نَحْو آيمت وآولت من آم وَآل. لِأَنَّهُ لما اعتلت الْفَاء وَهِي همزَة فَقبلت ألفا صحّت الْعين وعَلى ذَلِك قَول الشَّاعِر: كرأس الفدن الْمُؤَيد

فَهَذَا فعل بزنة اسْم الْمَفْعُول من الأيد وَهُوَ الْقُوَّة وَلم يقل المؤاد أَي: بِهَمْزَة ممدودة بعد الْمِيم المضمومة وَقَالَ طرفَة: أَن قد أتيت بمؤيد وَهِي الداهية وَهِي بزنة اسْم الْفَاعِل من الأيد أَيْضا وَلم يقل المئيد أَي: بميم مَضْمُومَة فهمزة مَكْسُورَة بعْدهَا مثناة تحتية وَقَالُوا: آيدته فِي أفعلته من الأيد وأيدته فعّلته. وآيدته قَليلَة مَكْرُوهَة لِأَنَّك إِن صححت فَهُوَ ثقيل وَإِن أعللت جمعت بَين إعلالين. فَعدل عَن أفعلته إِلَى فعّلته فِي غَالب الْأَمر اه.

ص: 153

وَهَذَا الْبَيْت من معلقَة طرفَة بن العَبْد الْمَشْهُورَة. وَهَذَا مَا قبله:

(وبرك هجود قد أثارت مخافتي

نواديها أَمْشِي بعضب مُجَرّد)

(فمرّت كهاة ذَات خيف جلالة

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد)

يَقُول وَقد ترّ الوظيف وساقها

الْبَيْت

(وَقَالَ أَلا مَاذَا ترَوْنَ بشارب

شَدِيد علينا بغيه متعمد)

(فظل الْإِمَاء يمتللن حوارها

وتسعى علينا بالسديف المسرهد)

قَوْله: وبرك بِفَتْح الْمُوَحدَة مجرور بواو رب قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: البرك يَقع على جَمِيع مَا يبرك من الْجمال والنوق على المَاء وبالفلاة من حر الشَّمْس أَو الشِّبَع الْوَاحِد بَارك وباركة. وَقيل: البرك: جمَاعَة إبل الْحَيّ وَقيل لَهَا: برك لِاجْتِمَاع مباركها. وبرك الْبَعِير: إِذا ألْقى صَدره على الأَرْض.

والهجود: النيام جمع هاجد وهاجدة ومصدره الهجود أَيْضا بِمَعْنى النّوم كالقعود وَالْجُلُوس.

ومخافتي: فَاعل أثارت وَهُوَ مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَي: مخافتها إيَّايَ.

ونواديها: مفعول أثارت أَي: أوائلها وَمَا سبق مِنْهَا وَهُوَ بالنُّون

يُقَال: لَا ينداك مني أَمر تكرههُ أَي: لَا يسْبق إِلَيْك مني وَإِنَّمَا خص النوادي لِأَنَّهَا أبعد مِنْهُ عِنْد فرارها. فَيَقُول: لَا يفلت من عقري مَا قرب وَلَا مَا شَذَّ فندّ.)

وَقَالَ ابْن السّكيت: النوادي الثقال أَيْضا من الْإِبِل الْوَاحِدَة نَادِيَةَ. وَجُمْلَة أَمْشِي حَال من الْيَاء فِي مخافتي. والعضب:

ص: 154

السَّيْف الْقَاطِع. والمجرد: المسلول من غمده. يَقُول: ربّ إبل كَثِيرَة باركة قد أثارت نوادي هَذَا البرك عَن مباركها مخافتها إيَّايَ فِي حَال مشيي إِلَيْهَا بِسيف مسلول قَاطع.

يُرِيد: أَنه أَرَادَ أَن ينْحَر لأضيافه بَعِيرًا فنفرت مِنْهُ لتعودها ذَلِك مِنْهُ.

وَقَوله: فمرّت كهاة الخ الكهاة بِفَتْح الْكَاف قَالَ ابْن السّكيت: هُوَ جلد الضَّرع وَقَالُوا: هُوَ جلد الضَّرع الْأَعْلَى الَّذِي يُسمى الجراب. يُقَال: نَاقَة خيفاء إِذا كَانَ ضرْعهَا كَبِيرا. وجلالة: بِالرَّفْع: صفة كهاة وَهِي بِضَم الْجِيم بِمَعْنى الجليلة والعظيمة. وعقيلة شيخ: صفة ثَالِثَة أَي: خير مَاله والعقيلة: الْكَرِيمَة. وَهَذَا الشَّيْخ قَالَ ابْن السّكيت: هُوَ بعض بني عَم طرفَة كَانَ طرفَة عقر لَهُ نَاقَة.

وَقَالَ الزوزني: أَرَادَ بالشيخ أَبَاهُ يُرِيد: أَنه نحر كرائم مَال أَبِيه لندمائه. وَقيل: بل أَرَادَ غَيره مِمَّن يُغير على مَاله. وَقَوله: كالوبيل صفة شيخ. قَالَ ابْن السّكيت: الوبيل الْعَصَا. وَقَالَ الزوزني: الوبيل: الْعَصَا الضخمة فِي الصِّحَاح: الوبيل: الحزمة. فعلى هَذَا شبّه عِظَامه فِي البيوسة بالحطب وَالشَّيْخ بِأَنَّهُ حزمة من الْحَطب. واليلندد: السَّيئ الْخلق الشَّديد الْخُصُومَة صفة ثَانِيَة للشَّيْخ.

وَقَوله: يَقُول وَقد ترّ الوظيف الخ أَي: قَالَ الشَّيْخ فِي حَال عقري هَذِه النَّاقة الْكَرِيمَة النجيبة.

وَمثلهَا لَا يعقر للأضياف وَقَوله: وَقَالَ أَلا مَاذَا ترَوْنَ الخ فَاعل قَالَ ضمير الشَّيْخ صَاحب النَّاقة وَذَا اسْم مَوْصُول وَمَا اسْتِفْهَام مَنْصُوب بترون وَالْبَاء مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف

ص: 155

أَي: قَالَ الشَّيْخ مستشيراً أَصْحَابه: مَا الَّذِي

ترَوْنَ أَن نَفْعل بطرفة شَارِب الْخمر يَبْغِي علينا بعقر كرائم أَمْوَالنَا وَقَوله: فَقَالُوا: ذروه الخ أَي: ذَروا طرفَة فَإِن نَفعهَا للشَّيْخ فَإِن طرفَة يخلف عَلَيْهِ ويزيده وَإِن لم تردّوا قاصي إبلكم يعقر مِنْهَا أَيْضا. وَقيل: مَعْنَاهُ: إِن لم تردّوا قاصي البرك وتردّوه إِلَى أَوله زَاد فِي نفاره وَذهب. والقاصي: اسْم فَاعل من قصا يقصو قصوّاً: إِذا بعد.

وَقَوله: فظل الْإِمَاء الخ يمتللن بِكَسْر اللَّام أَي: يشوين فِي الْملَّة وَهِي الرماد الْحَار. وَالْإِمَاء: الخدم. والحوار بِضَم الْمُهْملَة: ولد النَّاقة. والسديف: قطع السنام. والمسرهد: المريء الْحسن الْغذَاء وَقيل: السمين. أَي: فظل الْإِمَاء يشتوين الْوَلَد الَّذِي خرج من بَطنهَا تَحت الْجَمْر والرماد الْحَار وتسعى الخدم علينا بِقطع سنامها المقطّع يُرِيد: أَنهم أكلُوا أطايبها وأباحوا غَيرهَا للخدم.)

وَذكر الحوار يدل على أَنَّهَا كَانَت حُبْلَى وَهِي من أنفس الْإِبِل عِنْدهم.

وترجمة طرفَة بن العَبْد تقدّمت فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ بعد الْمِائَة

(وَقد أغتدي وَالطير فِي وكناتها

بمنجردقيد الأوابد هيكل)

لما تقدم قبله. وَقد بَيناهُ.

وَهَذَا الْبَيْت من معلقَة امْرِئ الْقَيْس الْمَشْهُورَة. وَقَوله: وَقد أغتدي أَي: أخرج غدْوَة للصَّيْد.

والوكنات الْوَاو مَضْمُومَة وَالْكَاف

ص: 156

يجوز ضمهَا وَفتحهَا

وسكونها جمع وكنة بِضَم فَسُكُون. قَالَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب: وَمن ذَلِك قِرَاءَة عبد الْكَرِيم الْجَزرِي: فتكِن فِي صَخْرَة بِكَسْر الْكَاف من قَوْلهم وَكن الطَّائِر يكن وكوناً: إِذا اسْتَقر فِي وكنته وَهِي مقره لَيْلًا وَهِي أَيْضا عشّه الَّذِي يبيض فِيهِ. وَكَأَنَّهُ من مقلوب الْكَوْن لِأَن الْكَوْن الِاسْتِقْرَار. اه.

وَالْقَاف لُغَة فِي الْكَاف يُقَال: وقنة ووقنات. وَرُوِيَ: فِي وكراتها بِضَمَّتَيْنِ جمع وكر بضمة فَسُكُون وَهُوَ جمع وكربفتح فَسُكُون والوكر: مأوى الطَّائِر فِي العش. وَالطير: جمع طَائِر كصحب جمع صَاحب. وَهَذَا المصراع قد اسْتَعْملهُ امْرُؤ الْقَيْس فِي قصيدته اللامية قَالَ:

(وَقد أغتدي وَالطير فِي وكناتها

لغيث من الوسمي رائده خَالِي)

وَفِي الضادية أَيْضا وَتَمَامه: بمنجرد عبل الْيَدَيْنِ قبيض وَفِي البائية أَيْضا وَتَمَامه: وَمَاء الندى يجْرِي على كل مذنب وَهَذَا الْبَيْت قد وَقع فِي قصيدة لعلقمة الْفَحْل أَيْضا. وَجُمْلَة: وَالطير فِي وكناتها

حَال من ضمير الْمُتَكَلّم أَي: أغدو إِلَى الصَّيْد ملابساً لهَذِهِ الْحَالة. والمنجرد من الْخَيل قيل: الْمَاضِي فِي السّير وَقيل: الْقَلِيل الشّعْر القصيره. وبمنجرد مُتَعَلق بقوله أغتدي. والأوابد: الوحوش جمع آبده.

ص: 157

يُرِيد: أَن هَذَا الْفرس من شدَّة سرعته يلْحق الأوابد فَيصير لَهَا بِمَنْزِلَة الْقَيْد. قَالَ أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة: قيد الأوابد صفة وَهُوَ مصدر كَأَنَّهُ قَالَ: يُقيد الأوابد ثمَّ اسْتعْمل الْمصدر: بِحَذْف الزِّيَادَة فوصف بِهِ. وَقَالَ التبريزي: تَقْدِير قيد الأوابد ذِي تَقْيِيد الأوابد. قَالَ الباقلاّني فِي إعجاز الْقُرْآن: قَوْله قيد الأوابد عِنْدهم من البديع وَهُوَ من الِاسْتِعَارَة ويرونه من الْأَلْفَاظ)

الشَّرِيفَة وعنى بذلك أَنه إِذا أرسل هَذَا الْفرس على الصَّيْد صَار قيدا لَهَا وَكَانَت بِحَال الْمُقَيد من جِهَة سرعَة عدوه. وَقد اقْتدى بِهِ النَّاس وَاتبعهُ الشُّعَرَاء فَقيل: قيد النواظر وَقيد الألحاظ وَقيد الْكَلَام وَقيد الحَدِيث وَقيد الرِّهَان قَالَ ابْن يعفر:

(بمقلّص عتد جهير شدّه

قيد الأوابد والرهان جواد)

وَقَالَ أَبُو تَمام:

(لَهَا منظر قيد الأوابد لم يزل

يروح وَيَغْدُو فِي خفارته الحبّ)

وَقَالَ آخر:

(ألحاظه قيد عُيُون الورى

فَلَيْسَ طرف يتعدّاه)

وَقَالَ آخر:

قيّد الْحسن عَلَيْهِ الحدقا والهيكل قَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ الْفرس الْعَظِيم الجرم.

(مكرّ مفرّ مقبل مُدبر مَعًا

كجلمود صَخْر حطّه السَّيْل من عل)

ص: 158

مكر ومفر بِكَسْر الْمِيم فيهمَا وجرّهما أَي: فرس صَالح للكرّ والفرّ. وَالْكر: الْعَطف يُقَال: كرّ فرسه على عدوه. أَي: عطفه عَلَيْهِ. ومفعل بِكَسْر الْمِيم يتَضَمَّن مُبَالغَة كَقَوْلِهِم: فلَان مسعر حَرْب وَفُلَان مقول ومصقع. وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ متضمناً مُبَالغَة لِأَن مفعلاً يكون من أَسمَاء الأدوات فَكَأَنَّهُ أَدَاة للكرّ والفرّ وَآلَة لتسعر الْحَرْب أَي: تلهبها وَآلَة الْكَلَام. ومقبل ومدبر بِضَم ميميهما: اسْما فَاعل من الإقبال والإدبار. والجلمود بِالضَّمِّ: الصخر الْعَظِيم الصلب. والحط: إِلْقَاء الشَّيْء من علو إِلَى سفل. وعل بِمَعْنى عَال أَي: من مَكَان عَال.

وَفِي هَذَا الْبَيْت الاتساع قَالَ ابْن أبي الإصثبع فِي تَحْرِير التحبير: الاتساع أَن يَأْتِي الشَّاعِر بَيت يَتَّسِع فِيهِ التَّأْوِيل على قدر قوى النَّاظر فِيهِ وبحسب مَا تحْتَمل لفاظه كَقَوْلِه فِي صفة فرس: مكرّ مفرّ مقبل مُدبر مَعًا

لِأَن الْحجر يطْلب جِهَة السّفل لكَونهَا مركزه إِذْ كل شَيْء يطْلب مركزه بطبعه فالحجر يسْرع انحطاطه إِلَى السّفل من الْعُلُوّ من غير وَاسِطَة فَكيف إِذا أعانته قُوَّة دفّاع السَّيْل من عل فَهُوَ حَال تدحرجه يرى وَجهه فِي الْآن الَّذِي يرى فِيهِ ظَهره بِسُرْعَة تقلبه وَبِالْعَكْسِ. وَلِهَذَا قَالَ: مقبل مُدبر مَعًا يَعْنِي يكون إدباره وإقباله مُجْتَمعين فِي المعيّة لَا يعقل الْفرق بَينهمَا.)

وَحَاصِل الْكَلَام وصف الْفرس بلين الرَّأْس وَسُرْعَة الانحراف فِي صدر الْبَيْت وَشدَّة الْعَدو فِي عَجزه. وَقيل: إِنَّه جمع وصفي الْفرس بِحسن الْخلق وَشدَّة الْعَدو ولكونه قَالَ فِي صدر الْبَيْت إِنَّه حسن الصُّورَة كَامِل

ص: 159

النصبة فِي حالتي إقباله وإدباره وكرّه وفرّه ثمَّ شبهه بجلمود صَخْر حطّه السَّيْل من الْعُلُوّ بِشدَّة الْعَدو فَهُوَ فِي الْحَالة الَّتِي ترى فِيهَا لببه ترى فِيهَا كفله وَبِالْعَكْسِ. هَذَا وَلم تخطرهذه الْمعَانِي بخاطر الشَّاعِر فِي وَقت الْعَمَل وَإِنَّمَا الْكَلَام إِذا كَانَ قويّاً من مثل هَذَا الْفَحْل احْتمل لقُوته وُجُوهًا من التَّأْوِيل بِحَسب مَا تحْتَمل أَلْفَاظه وعَلى مِقْدَار قوى الْمُتَكَلِّمين فِيهِ. وَمثله أَيْضا:

(إِذا قامتا تضوّع الْمسك مِنْهُمَا

نسيم الصّبا جَاءَت بريّا القرنفل)

فَإِن هَذَا الْبَيْت اتَّسع النقاد فِي تَأْوِيله: فَمن قَائِل: تضوع مثل الْمسك مِنْهُمَا بنسيم الصِّبَا وَمن قَائِل: تضوع نسيم الصِّبَا مِنْهُمَا وَمن قَائِل: تشوع الْمسك مِنْهُمَا تضوع نسيم الصِّبَا وَهَذَا هُوَ الْوَجْه عِنْدِي وَمن قَائِل: تضوع الْمسك مِنْهُمَا بِفَتْح الْمِيم يَعْنِي الْجلد بنسيم الصِّبَا.

وَقَالَ ابْن الْمُسْتَوْفى فِي شرح أَبْيَات المفصّل: حَدثنِي الإِمَام أَبُو حَامِد سُلَيْمَان قَالَ: كُنَّا فِي خوارزم وَقد جرى النّظر فِي بَيت امْرِئ الْقَيْس: إِذا قامتا تضوع الْمسك مِنْهُمَا

فَقَالُوا: كَيفَ شبّه تضوع الْمسك بنسيم الصِّبَا والمشبّه يَنْبَغِي أَن يكون مثل المشبّه بِهِ والمسك أطيب رَائِحَة وَطَالَ القَوْل فِي ذَلِك فَلم يحققوه وَكَانَ سَأَلَني عَنهُ فأجبت لوقتي أَنه شبه حَرَكَة الْمسك مِنْهُمَا عِنْد الْقيام بحركة نسيم الصِّبَا لِأَنَّهُ يُقَال: تضوع الفرخ أَي: تحرّك وَمِنْه تضوع الْمسك تحرّك وانتشرت رَائِحَته: وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة تُوصَف بالبطء عِنْد الْقيام فحركة الْمسك تكون إِذا ضَعِيفَة مثل حَرَكَة النسيم وانتشاره كانتشاره فالتشبيه صَحِيح.

ص: 160

والنسيم: الرّيح الطّيبَة ونسيم الرّيح أوّلها حِين تقبل بلين. وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن نسيم الصِّبَا وَهِي الرّيح الطّيبَة إِذا جَاءَت برّيا القرنفل وَهِي أَيْضا ريح طيبَة قاربت ريح الْمسك. وَبعد أَن جرى ذَلِك بِمدَّة طَوِيلَة وَقع إليّ كتاب أبي بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الأنباريّ فِي شرح القصائد السبعيات فَوَجَدته ذكر عِنْد هَذَا الْبَيْت قولا حسنا وَهُوَ قَوْله: وَمعنى تضوع أَخذ كَذَا وَكَذَا.

وَهُوَ تفعّل من ضَاعَ يضوع يُقَال: للفرخ إِذا سمع صَوت أمه فَتحَرك: قد ضاعته أمه تضوعه ضوعاً. فَلَا حَاجَة مَعَ قَوْله أَخذ كَذَا وَكَذَا إِلَى تمحل لذَلِك وَيكون التَّقْدِير: تضوّع الْمسك مِنْهُمَا)

تضوّع نسيم الصِّبَا أَي: أَخذ كَذَا وَكَذَا كَمَا أَخذ النسيم كَذَا وَكَذَا. اه.

وترجمة امْرِئ الْقَيْس تقدّمت فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ.

وانشد بعده وَهُوَ

(كأنّ حواميه مُدبرا

خضبن وَإِن لم تكن تخضب)

على أَن مُدبرا حَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ الْهَاء فيحواميه.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة فِي وصف فرس لنابغة الْجَعْدِي. وَقَبله:

(كأنّ تماثيل أرساغه

رِقَاب وعول على مشرب)

كأنّ حواميه مُدبرا

ص: 161

وَبعده:

(حِجَارَة غيل برضراضة

كسين طلاءً من الطحلب)

التماثيل: جمع تِمْثَال بِالْكَسْرِ وَهِي الصُّورَة. والأرساغ جمع رسغ بِالضَّمِّ وَهُوَ من الدوابّ: الْموضع المستدق بَين الْحَافِر وَمَوْضِع الوظيف من الْيَد وَالرجل وَمن الْإِنْسَان: مفصل مَا بَين الْكَفّ والساعد والقدم إِلَى السَّاق والوعول: جمع وعل قَالَ ابْن فَارس: هُوَ ذكر الأروى وَهُوَ الشَّاة الجبلية. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي البارع وَزَاد: وَالْأُنْثَى وَعلة بِكَسْر الْعين وتسكّن فيهمَا. وَالْمشْرَب بِالْفَتْح مَوضِع الشّرْب. وَهَذَا الْبَيْت من التَّشْبِيه البديع الَّذِي لم يسْبق إِلَيْهِ: شبّه أرساغه فِي غلظها وانحنائها وعذد الانتصاب فِيهَا برقاب وعول قد مدّتها لتشرب المَاء. وهذاالبيت من شَوَاهِد أدب الْكَاتِب قَالَ:: وَيسْتَحب أَن تكون الأرساغ غلاظاً يابسة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.

وَقَوله: كأنّ حواميه. . الخ الحوامي: جمع حامية بِالْحَاء الْمُهْملَة وَهِي مَا فَوق الْحَافِر وَقيل: هِيَ مَا عَن يَمِين الْحَافِر وشماله وَلكُل حافر حاميتان قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هما عَن يَمِين السنبك وشماله.

والسنبك بِالضَّمِّ: طرف مقدم الْحَافِر. وتخضب بدل من تكن بدل اشْتِمَال لاشتمال الخضاب على الْكَوْن. وَهُوَ من قبيل بدل الْفِعْل من الْفِعْل وَلِهَذَا ظهر الْجَزْم. وَكسر للقافية.

وَالْحِجَارَة: جمع حجر وَهِي الصخر. والغيل بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة: المَاء الْجَارِي على وَجه الأَرْض. والرضراضة: الأَرْض الصلبة قَالَ ابْن السّكيت

ص: 162

فِي أَبْيَات الْمعَانِي. ورضراضة: أَرض مرصوصة بحجارة بالضاد الْمُعْجَمَة

والمهملة قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب: وَيسْتَحب أَن تكون الحوافر صلاباً غير نقدة والنقدر بِالتَّحْرِيكِ: ان ترَاهَا متقشرة وَتَكون سُودًا أَو خضرًا لَا)

يبيضّ مِنْهَا شَيْء لِأَن الْبيَاض فِيهَا رقة. اه.

شبّه حَوَافِرِهِ بحجارة مُقِيمَة فيماء قَلِيل. وَذَلِكَ أَصْلَب لَهَا يُقَال للصخرة الَّتِي بَعْضهَا فِي المَاء وَبَعضهَا خَارج: أتان الضحل والضحل: المَاء الْقَلِيل وَذَلِكَ النِّهَايَة فِي صلابتها.

وَإِيَّاهَا عَنى المتنبي بقوله:

(أَنا صَخْرَة الْوَادي إِذا مَا زوحمت

وَإِذا نطقت فَإِنِّي الجوزاء)

وَإِذا كَانَت جَوَانِب الحوافر صلاباً على الْوَصْف الَّذِي ذكر وَكَانَت سُودًا أَو خضرًا فمقاديمها أَصْلَب وَأَشد سواداً وخضرة. وكسين بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول من الْكسْوَة. وَالنُّون ضمير الْحِجَارَة.

وَالْجُمْلَة حَال من ضمير الظّرْف أَعنِي قَوْله برضراضة. والطلاء بِالْكَسْرِ: كل مَا يطلى بِهِ وَهُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي لكسا. يُقَال: طليته بِهِ أَي: لطخته بِهِ. والطّحلب بِضَم اللَّام وَفتحهَا مَعَ ضم المَاء فَهُوَ مطحلب بِكَسْر اللَّام وَفتحهَا.

قَالَ ابْن الشجريّ فِي الْمجْلس الثَّالِث من أَمَالِيهِ عِنْد قَول المسيّب بن عَامر فِي مدح عمَارَة بن زباد الْعَبْسِي:

(كسيف الفرند العضب أخْلص صقله

تراوحه أَيدي الرِّجَال قيَاما)

ص: 163

إِن قَوْله قيَاما نصب على الْحَال من الرِّجَال. وَالْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ قَليلَة وَمن ذَلِك قَول الْجَعْدِي: كأنّ حواميه مُدبرا

نصب مُدبرا على الْحَال من الْهَاء

وأنشدوا فِي الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ قَول تأبّط شرا:

(سلبت سلاحي يائساً وشتمتني

فيا خير مسلوب وَيَا شرّ سالب)

وَلست أرى أَن بائساً حَال من الْيَاء فِي سلاحي وَلكنه عِنْدِي حَال من مفعول سلبت الْمَحْذُوف وَالتَّقْدِير: سلبتني بائساً سلاحي. ومثلي قَوْله تَعَالَى: ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا وَقَوله تَعَالَى: أَهَذا الَّذِي بعث الله رَسُولا أَي: خاقته وَبَعثه. وَإِنَّمَا وَجب الْعُدُول إِلَى مَا قُلْنَا لعزة حَال الْمُضَاف إِلَيْهِ. فَإِذا وجدت مندوحة وَجب تَركه. وسلب يتَعَدَّى إِلَى مفعولين يجوز الِاقْتِصَار على أَحدهمَا كَقَوْلِك: سلبت زيدا ثوبا وَقَالُوا: سلب زيد ثَوْبه بِالرَّفْع على بدل الاشتمال وثوبه بِالنّصب على أَنه مفعول ثَان وَفِي التَّنْزِيل: وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ فَيجوز على هَذَا أَن نجْعَل بائساً مَفْعُولا ثَانِيًا بِتَقْدِير حذف الْمَوْصُوف أَي:)

سلبت سلاحي رجلا باائساً كَمَا تَقول: لتعاملن مني رجلا منصفاً.

وَمِمَّا جَاءَت الْحَال فِيهِ من الْمُضَاف إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا قيل: إِن حَنِيفا حَال من إِبْرَاهِيم وأوجه من ذَلِك عِنْدِي أَن تَجْعَلهُ حَالا من الْملَّة

ص: 164

وَإِن خالفها بالتذكير لِأَن الْملَّة فِي معنى الدَّين أَلا ترى أَنَّهَا قد أبدلت من الدَّين فِي قَوْله تَعَالَى: دينا قيمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم فَإِذا جعلت حَنِيفا حَالا من الْملَّة فالناصب لَهُ هُوَ الناصب للملة وَتَقْدِيره: بل نتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا. وَإِنَّمَا أضمر نتبع لِأَن مَا حَكَاهُ الله عَنْهُم من قَوْلهم: كونُوا هوداً أَو نَصَارَى تهتدوا مَعْنَاهُ اتبعُوا الْيَهُودِيَّة أَو النَّصْرَانِيَّة فَقَالَ لنَبيه صلى الله عليه وسلم َ: قل بل نتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا. . وَإِنَّمَا ضعف مَجِيء الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ لِأَن الْعَامِل فِي الْحَال

يَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْعَامِل فِي ذِي الْحَال. اه كَلَامه.

وَقَالَ أَيْضا فِي الْمجْلس الرَّابِع وَالْعِشْرين: وَأما قَوْله: مُدبرا فحال من الْهَاء وَالْعَامِل على رَأْي أبي عليّ مَا تقدره فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ من معنى الجارّ. يَعْنِي أنّ التَّقْدِير كَأَن حوامي ثَابِتَة لَهُ مُدبرا أَو كائنة لَهُ. قَالَ: وَلَا يجوز تَقْدِيم هَذِه الْحَال لِأَن الْعَامِل فِيهَا معنى لَا فعل مَحْض. قَالَ: وَلَا يجوز أَن يكون الْعَامِل مَا فِي كأنّ من معنى الْفِعْل لِأَنَّهُ إِذا عمل فِي حَال لمي عمل فِي أُخْرَى. يَعْنِي أنّ كَأَن قد عمل فِي مَوضِع خضبن النصب على الْحَال فَلَا يعْمل فِي قَوْله مُدبرا. وَهَذَا القَوْل يدلّ على أَنه يُجِيز أَن ينصب حَال الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعَامِل فِي الْمُضَاف. وَإِذا كَانَ هَذَا جَائِزا عِنْده فَإِن جعل خضبن خبر كَأَن فالعامل إِذا فِي مُدبرا مَا فِي كَأَن من معنى الْفِعْل.

وَهَذَا إِنَّمَا يجوز إِذا كَانَ الْمُضَاف ملتبساً بالمضاف إِلَيْهِ: كالتباس الحوامي بِمَا هِيَ لَهُ وَلَا يجوز فِي ضربت غُلَام هِنْد جالسة أَن تنصب جالسة بضربت لِأَن الْغُلَام غير ملتبس بهند كالتباس الحوامي بصاحبها. وَلَا يجوز عِنْدِي أَن تنصب جالسة

ص: 165

بِمَا تقدره من معنى اللَّام فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ فكأنك قلت: ضربت غُلَاما كَائِنا لهِنْد جالسةً لِأَن ذَلِك يُوجب أَن يكون الْغُلَام لهِنْد فِي حَال جلوسها خَاصَّة وَهَذَا مُسْتَحِيل.

وَكَذَلِكَ قَوْله: كَأَن حواميه مُدبرا إِن قدرت فِيهِ: حوامي ثَابِتَة لَهُ مُدبرا وَجب أَن يكون الحوامي لَهُ فِي حَال إدباره دون حَال إقباله. وَهَذَا يُوضح لَك فَسَاد إعمالك فِي هَذِه الْحَال معنى الْجَار المقدّر فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ. وَلَا يجوزإذن ضربت غُلَام هِنْد جالسة لذَلِك وَلعدم التباس الْمُضَاف بالمضاف إِلَيْهِ. وَنَظِير مَا ذَكرْنَاهُ: من جَوَاز مَجِيء الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ)

الْمُضَاف ملتبساً بِهِ قَوْله تَعَالَى: فظلت اعناقهم لَهَا خاضعين أخبر بخاضعين عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ وَلَو أخبر عَن الْمُضَاف لقَالَ خاضعة أَو خضّعاً أَو خواضع. وَإِنَّمَا حسن ذَلِك لِأَن خضوع أَصْحَاب الْأَعْنَاق بخضوع أَعْنَاقهم.

وَقد قيل فِيهِ غير هَذَا وَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي التَّفْسِير من أَن المُرَاد بأعناقهم كبراؤهم.

وَقَالَ أهل اللُّغَة: أَعْنَاقهم: جماعاتهم كَقَوْلِك: جَاءَنِي عنق من النَّاس أَي: جمَاعَة. فَالْخَبَر فِي هذَيْن الْقَوْلَيْنِ عَن الْأَعْنَاق.

وَقَوله: خضبن عِنْد أبي عليّ فِي مَوضِع نصب بِأَنَّهُ حَال من الحوامي وَلم يَجعله خبر كَأَن لِأَنَّهُ جعل خَبَرهَا قَوْله حِجَارَة غيل وَلم يجز أَن يَكُونَا خبرين لكأن: على حدّ قَوْلهم هـ احُلْو حامض أَي: قد جمع الطعمين قَالَ: لِأَنَّك لَا تَجِد فِيمَا أخبروا عَنهُ بخبرين أَن يكون أَحدهمَا مُفردا وَالْآخر جملَة: لَا تقولزيد خرج عَاقل. وَالْقَوْل عِنْدِي: أَن يكون أَحدهمَا مُفردا وَالْآخر جملَة: لَا تَقول زيد خرج عَاقل. وَالْقَوْل عِنْدِي: أَن يكون مَوضِع خضبن رفعا بِأَنَّهُ خبر كَأَن وَقَوله: حِجَارَة غيل خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ حِجَارَة غيل وأداة التَّشْبِيه محذوفة كَمَا

ص: 166

فهنّ إضاء صافيات الغلائل أَي: مثل إضاء والإضاء: الغدران وَاحِدهَا أضاة فعلة جمعت على فعال كرقبة ورقاب: شبّه الدروع فِي صفائها بالغدران.

والنابغة الْجَعْدِي كنيته أَبُو ليلى وَهُوَ كَمَا فِي الِاسْتِيعَاب: قيس بن عبد الله. وَقيل: حَيَّان بن قيس بن عبد الله بن عَمْرو بن عدس بن ربيعَة بن جعدة بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة. وَقيل: اسْمه حَيَّان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس بن ربيعَة بن جعدة.

وَإِنَّمَا قيل لَهُ: النَّابِغَة لِأَنَّهُ قَالَ الشّعْر فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أَقَامَ مُدَّة نَحْو ثَلَاثِينَ سنة لَا يَقُول الشّعْر ثمَّ نبغ فِيهِ فقاله فسمّي النَّابِغَة. وَهُوَ أسنّ من النَّابِغَة الذبياني لِأَن الذبياني كَانَ مَعَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَكَانَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر بعد الْمُنْذر بن محرّق وَقد أدْرك النَّابِغَة الْجَعْدِي الْمُنْذر بن محرق ونادمه.

ذكر عمر بن شبّة أَنه عمّر مائَة وَثَمَانِينَ سنة وَأَنه أنْشد عمر بن الْخطاب رضي الله عنه:

(لبست أُنَاسًا فأفنيتهم

وأفنيت بعد أنَاس أُنَاسًا)

(ثَلَاثَة أهلين أفنيتهم

وَكَانَ الْإِلَه هُوَ المستآسا))

فَقَالَ لَهُ عمر: كم لَبِثت مَعَ كلّ أهل قَالَ: سِتِّينَ سنة.

وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عمّر الْجَعْدِي مِائَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَمَات بأصبهان.

ص: 167

وَلَا يدْفع هَذَا مامرّ فَإِنَّهُ أفنى ثَلَاثَة قُرُون فِي مائَة وَثَمَانِينَ سنة ثمَّ عمّر إِلَى زمن ابْن الزبير وَبعده.

والبيتان من قصيدة سينية. والمستآس: المستعاض مستفعل من الْأَوْس والأوس: الْعَطِيَّة عوضا.

وبعدهما:

(وعشت بعيشين إِن المنو

ن تلقّى المعايش فِيهَا خساسا)

(فحيناً أصادف غرّاتها

وحيناً أصادف مِنْهَا شماسا)

(شهدتهم لَا أرجّي الحيا

ة حَتَّى تساقوا بسمر كئاسا)

وَهُوَ جمع كأس.

قَالَ السجسْتانِي فِي كتاب المعمرين: وَقَالَ حِين وفت لَهُ مائَة واثنتا عشرَة سنة:

(مَضَت مائَة لعام ولدت فِيهِ

وَعشر بعد ذَاك وحجتان)

(فأبقى الدَّهْر وَالْأَيَّام مني

كَمَا أبقى من السَّيْف الْيَمَانِيّ)

(تفلّل وَهُوَ مأثور جراز

إِذا جمعت بقائمه اليدان)

(أَلا زعمت بَنو كَعْب بِأَنِّي

أَلا كذبُوا كَبِير السن فَانِي)

الخنان: مرض أصَاب النَّاس فِي أنوفهم وحلوقهم وَرُبمَا أَخذ النعم وَرُبمَا قتل اه. وَهُوَ بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبعدهَا نون مُخَفّفَة فِي الْقَامُوس:

ص: 168

والخنان كغراب: زكام الْإِبِل وزمن الخنان كَانَ فِي عهد الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَمَاتَتْ الْإِبِل مِنْهُ.

ووفد الجعديّ على النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ مُسلما وأنشده ودعا لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ وَكَانَ من اول مَا أنده قَوْله فِي قصيدته الرائية:

(أتيت رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى

وَيَتْلُو كتابا كالمجرة نيرا)

(وجاهدت حَتَّى مَا أحس وَمن معي

سهيلاً إِذا مَا لَاحَ ثمّت غوّرا)

(أقيم على التَّقْوَى وأرضى بِفِعْلِهَا

وَكنت من النَّار المخوفة أحذرا)

إِلَى أَن قَالَ:

(وَإِنَّا لقوم مَا نعوّد خَيْلنَا

إِذا ماالتقينا أَن تحيد وتنفرا))

(وننكر يَوْم الروع ألوان خَيْلنَا

من الطعْن حَتَّى تحسب الجون أشقرا)

(وَلَيْسَ بِمَعْرُوف لنا ان نردها

صحاحاً وَلَا مستنكراً أَن تعقّرا)

(بلغنَا السَّمَاء مَجدنَا وسناؤنا

وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا)

وَفِي رِوَايَة عبد الله بن جَراد:

ص: 169

فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ: إِلَى أَيْن يَا أَبَا ليلى فَقَالَ: إِلَى الْجنَّة فَقَالَ: نعم إِن شَاءَ الله

(وَلَا خير فِي حلم إِذا لم تكن لَهُ

بَوَادِر تَحْمِي صَفوه أَن يكدّرا)

(وَلَا خير فِي جهل إِذا لم يكن لَهُ

حَلِيم إِذا مَا اورد الْأَمر أصْدرَا)

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ: لَا يفضض الله فَاك فَكَانَ من احسن النَّاس ثغراً وَكَانَ إِذا سَقَطت لَهُ ثنية نَبتَت وَكَانَ فوه كالبدر المتهلّل يتلألأ ويبرق.

وَهَذِه القصيدة طَوِيلَة: نَحْو مِائَتي بَيت وَأنْشد جَمِيعهَا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وأولها:

(خليليّ غضّا سَاعَة وتهجّرا

ولوما على مَا أحدث الدَّهْر أَو ذرا)

وَهِي من أحسن مَا قيل من الشّعْر فِي الْفَخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وحلاوة. وَمِنْهَا:

(تذكرت والذكرى تهيج على الْفَتى

وَمن حَاجَة المحزون أَن يتذكرا)

(نداماي عِنْد الْمُنْذر بن محرّق

أرى الْيَوْم مِنْهُم ظَاهر الأَرْض مقفرا)

(تقضّى زمَان الْوَصْل بيني وَبَينهَا

وَلم ينْقض الشوق الَّذِي كَانَ اكثرا)

(وَإِنِّي لآستشفي بِرُؤْيَة جارها

إِذا مَا لقاؤها عليّ تعذّرا)

(وَأُلْقِي على جِيرَانهَا مسحة الْهوى

وَإِن لم يَكُونُوا لي قبيلاً ومعشرا)

ص: 170

(تردّيت ثوب الذلّ يو لقيتها

وَكَانَ رِدَائي نخوة وتجبرا)

(إِلَى أَن لَقينَا الحيّ بكر بن وَائِل

ثَمَانِينَ ألفا دارعين وحسّرا)

(فَلَمَّا قرعنا النبع بالنبع: بعضه

بِبَعْض أَبَت عيدانه أَن تكسّرا)

(سقيناهم كأساً سقونا بِمِثْلِهَا

ولكننا كُنَّا على الْمَوْت أصبرا)

قَالَ عمر بن شبّة: كَانَ النَّابِغَة الجعديّ شَاعِرًا مقدّماً غلا انه كَانَ إِذا هاجى غلب وَقد هاجى أَوْس بن مغراء وليلى الأخيلية وَكَعب بن جعيل فغلبوه وَهُوَ اشعر مِنْهُم مرَارًا.

لَيْسَ فيهم من يقرب مِنْهُ. وَكَانَ قد خرج مَعَ عَليّ رضي الله عنه إِلَى صفّين فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان فَأخذ أهل النَّابِغَة وَمَاله فَدخل النَّابِغَة على مُعَاوِيَة وَعِنْده مَرْوَان وَعبيد الله بن مَرْوَان)

فأنشده:

(من رَاكب يَأْتِي ابْن هِنْد بحاجتي

على النأي والأنباء تنمي وتجلب)

(ويخبر عني مَا أَقُول النعامر

وَنعم الْفَتى يأوي إِلَيْهِ المعصّب)

(فَإِن تَأْخُذُوا أَهلِي وَمَالِي بظنّة

فَإِنِّي لأحرار الرِّجَال مجرّب)

(صبور على مَا يكره الْمَرْء كُله

سوى الظُّلم إِنِّي إِن ظلمت سأغضب)

ص: 171

فَالْتَفت مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان فَقَالَ: مَا ترى قَالَ: أرى أَن لَا تردّ عَلَيْهِ شَيْئا فَقَالَ: مَا اهون عَلَيْك أَن يقطع عليّ عرضي ثمَّ ترويه الْعَرَب أما وَالله إِن كنت لمّمن يرويهّ أردد عَلَيْهِ كل شَيْء اخذته. . ثمَّ أقحمته سنة فَدخل على ابْن الزبير فِي الْمَسْجِد الْحَرَام يستجديه ومدحه بِأَبْيَات فَأعْطَاهُ من بَيت المَال قَلَائِص سبعا وفرساً رجيلاً: وأوقر لَهُ الرّكاب بّاً وَتَمْرًا وثياباً.

وَفِي تَارِيخ الْإِسْلَام للذهبي أَن النَّابِغَة قَالَ هَذِه الأبيات:

(الْمَرْء يهوى أَن يعي

ش وَطول عمر قد يضرّهُ)

(وتتابع الأيّام ح

تى مَا يرى شَيْئا يسرّه)

(تفنى بشاشته ويب

قى بعد حُلْو الْعَيْش مرّه)

ثمَّ دخل بَيته فَلم يخرج مِنْهُ حَتَّى مَاتَ.

وَفِي الِاسْتِيعَاب: كَانَ النَّابِغَة يذكر فِي الْجَاهِلِيَّة دين إِبْرَاهِيم والحنيفية ويصوم ويستغفر فِيمَا ذكرُوا وَقَالَ فِي الْجَاهِلِيَّة كَلمته الَّتِي أَولهَا:

(الْحَمد لله لَا شريك لَهُ

من لم يقلها فنفسه ظلما)

وفيهَا ضروب من دَلَائِل التَّوْحِيد وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاء وَالْجنَّة وَالنَّار وَصفَة بعض ذَلِك: على نَحْو شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت. وَقد قيل إِن هـ االشّعْر لأمية بن أبي الصلب وَلكنه قد صَححهُ يُونُس بن حبيب وَحَمَّاد

ص: 172

الراوية وَمُحَمّد بن سلاّم وَعلي بن سُلَيْمَان الْأَخْفَش للنابغة الْجَعْدِي.

الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّمَانُونَ بعد الْمِائَة

(عوذ وبهثة حاشدون عَلَيْهِم

حلق الْحَدِيد مضاعفاً يتلهّب)

على أَنه قد جَاءَ فِيهِ الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ: كالبيت الَّذِي قبله. أَعنِي قَوْله: مضاعفاً حَال من الْحَدِيد.

قَالَ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل الشيرازيات: قد جَاءَ الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي نَحْو مَا أنْشدهُ أَبُو زيد:

(عوذ وبهثة حاشدون عَلَيْهِم

حلق الْحَدِيد مضاعفاً يتلهّب)

انْتهى كَلَامه.

قَالَ ابْن الشجري فِي الْمجْلس السَّادِس وَالسبْعين فِي أَمَالِيهِ: الْوَجْه فِي هَذَا الْبَيْت فِيمَا أرَاهُ أَن مضاعفاً حَال من الْحلق لَا من الْحَدِيد لأمرين: أَحدهمَا: أَنه إِذا أمكن مَجِيء الْحَال من الْمُضَاف كَانَ أولى من مجيئها من الْمُضَاف إِلَيْهِ وَلَا مَانع فِي الْبَيْت من كَون مضاعفاً حَالا من الْحلق لأننا نقُول: حلق مُحكم ومحكمة.

وَالْآخر: أنّ وصف الْحلق بالمضاعف أشبه كَمَا قَالَ المتنبي:

(أَقبلت تَبَسم والجياد عوابس

يخببن بِالْحلقِ المضاعف والقنا)

وَيجوز أَن يَجْعَل مضاعفاً حَالا من الْمُضمر فِي يتلهب ويتلهب فِي مَوضِع الْحَال من الْحلق فَكَأَنَّهُ

ص: 173

وَقَالَ فِي الْمجْلس الْخَامِس وَالْعِشْرين مثل هَذَا ثمَّ قَالَ: وَيتَوَجَّهُ ضعف مَا قَالَه من جِهَة أُخْرَى: وَذَلِكَ انه لَا عَامل لَهُ فِي هَذِه الْحَال إِذا كَانَت من الْحَدِيد إِلَّا مَا قدّره فِي الْكَلَام من معنى الْفِعْل بِالْإِضَافَة. وَذَلِكَ قَوْله: أَلا ترى أَنه لَا تَخْلُو الْإِضَافَة من أَن تكون بِمَعْنى اللَّام أَو من.

وَأَقُول: إِن مضاعفاً فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ حَال من الذّكر المستكن فِي عَلَيْهِم إِن رفعت الْحلق بِالِابْتِدَاءِ فَإِن رفعته بالظرف على قَول

الْأَخْفَش والكوفيين فالحال مِنْهُ لِأَن الظّرْف حِينَئِذٍ يَخْلُو من ذكر. اه.

وعوذ بِفَتْح الْمُهْملَة وَآخره ذال مُعْجمَة هُوَ عوذ بن غَالب بن قطيعة بِالتَّصْغِيرِ ابْن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان. وبهثة بِضَم الْمُوَحدَة وَهُوَ بهثة بِمَ عبد الله بن غطفان. فبهثة ابْن عمّ بغيض. وغَطَفَان هُوَ ابْن سعد بن قيس عيلان بن مُضر كَذَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ الْكَلْبِيّ.

وَحلق الْحَدِيد قَالَ صَاحب الْعباب: الْحلقَة بالتسكين: الدّرع وَالْجمع الْحلق بِفتْحَتَيْنِ عيى غير قِيَاس وَقَالَ الْأَصْمَعِي: حلق بِالْكَسْرِ مثل بدرة وَبدر وقصعة وقصع.)

وَفِي الْمِصْبَاح. الْحلقَة: السِّلَاح كُله. ثمَّ أورد الْجمع مثل مَا أرده صَاحب الْعباب وَقَالَ: وَحكى يُونُس عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أنّ الْحلقَة بِالْفَتْح لُغَة فِي السّكُون وعَلى هَذَا فالجمع بِحَذْف الْهَاء قِيَاس مثل قَصَبَة وقصب. وَجمع ابْن السرّاج بَينهمَا وَقَالَ: فَقَالُوا حلق ثمَّ خفّفوا الْوَاحِد حِين ألحقوه الزِّيَادَة وَغير الْمَعْنى. قَالَ: وَهَذَا لفظ سبويه. وَأما حَلقَة الْبَاب فقد قَالَ صَاحب الْعباب والمصباح: هِيَ بِالسُّكُونِ أَيْضا تكون من حَدِيد وَغَيره وحلقة الْقَوْم كَذَلِك وهم الَّذين يَجْتَمعُونَ مستديرين.

وَقَالَ صَاحب الْعباب: قَالَ الفرّاء فِي نوادره: الْحلقَة بِكَسْر اللَّام لُغَة بلحارث بن كَعْب فِي الْحلقَة بِالسُّكُونِ وَالْحَلقَة بِالْفَتْح قَالَ ابْن السكّيت: سَمِعت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ

ص: 174

يَقُول: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب حلفقة بِالتَّحْرِيكِ إِلَّا فِي قَوْلهم: هَؤُلَاءِ حَلقَة للَّذين يحلقون الشّعْر جمع حالق. اه.

فَقَوْل الشَّاعِر: حلق الْحَدِيد المُرَاد من الْحلق الدّروع سَوَاء كسرت الْحَاء أَو فتحت. وإضافتها إِلَى الْحَدِيد كَقَوْلِهِم: خَاتم فضَّة وثوب خزّ. ف المضاعف لَا يكون حَالا إِلَّا من ضمير الْحلق المستقر فِي الجارّ وَالْمَجْرُور الواقعين خَبرا أَو من الْحلق على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ: من تجويزه مَجِيء الْحَال من الْمُبْتَدَأ أَو من ضمير يتلهّب. وَلَا يَصح أَن يكون حَالا من الْحَدِيد إِذْ لَا معنى لَهُ.

فتأمّل.

وَأَيْضًا الدّرع المضاعفة هِيَ المنسوجة حلقتين حلقتين قيل: وَيجوز أَن يُرَاد بالمضاعفة درع فَوق أُخْرَى. ويتلهّب: يشتعل استعير للمعانه. والحشد

يكون لَازِما ومتعدياً يُقَال: حشد الْقَوْم من بَاب قتل وَضرب: إِ ااجْتَمعُوا. وحشدتهم أَي: جمعتهم.

وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات لزيد الفوارس أوردهَا أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي كتاب ضالّة الأديب.

وَهِي:

(دلّهت أَن لم تسألي أيّ امْرِئ

بلوى النقيعة إِذْ رجالك غيّب)

(إِذْ جَاءَ يَوْم ضوءه كظلامه

بَادِي الْكَوَاكِب مقّمطرّ أَشهب)

(عوذ وبهثة حاشدون عَلَيْهِم

حلق الْحَدِيد مضاعفاً يتلهّب)

(ولّوا تكبهم الرماح كَأَنَّهُمْ

أثل جأفت أُصُوله أَو أثأب)

(لد غدْوَة حَتَّى أغاث شريدهم

جوّ العشارة فالعيون فزنقب)

(فَتركت زرّاً فِي الْغُبَار كَأَنَّهُ

بشقيقتي قدمية متلبّب))

قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: كَانَ سَبَب هَذِه الأبيات أَنه أغار زرّ بن ثَعْلَبَة أحد بني عوذ بن غَالب بن قطيعة بن عبس فِي بني عبس وَعبد الله بن غطفان

ص: 175

فَأَصَابُوا نعما لبني بكر بن سعد بن ضبة فطردوهم. فَأَتَاهُم الصَّرِيخ وَرَئِيسهمْ يَوْمئِذٍ زيد الفوارس حَتَّى أَدْركُوهُم بالنقيعة تَحت اللَّيْل فَقتلُوا زرّاً والجنيد بن تيجان من بني مَخْزُوم وَابْن أزنم من بني عبد الله بن غطفان. فَقَالَ زيد الفوارس هَذِه الأبيات فِي ذَلِك. اه.

قَوْله: دلّهت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وخطاب المؤنثة من التدليه وَهُوَ ذهَاب الْعقل من همّ وعشق وَنَحْوه. دُعَاء عَلَيْهَا أَن لم تسْأَل عَنهُ أيّ فَارس كَانَ هُنَاكَ وَأي امْرِئ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أَنا وَيجوز نَصبه على أَنه خبر كَانَ المحذوفة مَعَ اسْمهَا أَي: أيّ امْرِئ كنت وَبهَا يتَعَلَّق الظرفان.

وَإِذ الثَّانِيَة بدل من إِذْ

الأولى. والنقيعة بالنُّون: مَوضِع بَين بِلَاد بني سليط وضبة. واللوى: مَا التوى من الرمل. وَيَوْم مقمطرّ: مشتدّ اقمطرّ أَي: اشتدّ. وَأَشْهَب: من الشهبة وَهُوَ بَيَاض يصدعه سَواد. وَقَوله: ولّوا تكبهم الخ ولّوا: ادبروا وَجُمْلَة تكبهم حَال من الْوَاو كبّه: قلبه وصرعه. والرماح: جمع رمح. وجأفت الشَّجَرَة بعد الْجِيم همزَة أَي: قلعتها. والأثأب بِالْمُثَلثَةِ كجعفر: شجر الْوَاحِدَة أثأبة. والشريد: الطريد الْمَهْزُوم وَهُوَ مفعول. وجوّ العشارة فَاعله وَهُوَ مَوضِع وَكَذَلِكَ الْعُيُون. وزنقب بالزاي وَالنُّون وَالْقَاف.

وَقَول بشقيقتي قدميّة هُوَ مثنى شَقِيقَة والشَّقِيقَة: كلأ مَا انْشَقَّ نِصْفَيْنِ وكلّ مِنْهُمَا شَقِيقَة أَي: كَأَنَّهُ ملفوف بشقتي ثوب قدميّة. وَقدم بِضَم الْقَاف وَفتح الدَّال: حَيّ بِالْيمن وَمَوْضِع تصنع فِيهِ ثِيَاب حمر. ومتلبب

ص: 176

من تلبّب بِثَوْبِهِ: إِذا التف بِهِ وتشمّر. ولبّبته تلبيباً إِذا جمعت ثِيَابه عِنْد نَحره فِي الْخُصُومَة ثمَّ جررته. وزيد الفوارس هُوَ ابْن حُصَيْن بن ضرار الضَّبِّيّ وَهُوَ جاهلي. وَذكره الآمديّ فِي المؤتلف والمختلف وَلم يرفع نسبه وَلَا ذكر لَهُ شَيْئا من شعره.

وَهَذِه نسبته من جمهرة ابْن الْكَلْبِيّ: زيد الفوارس بن حُصَيْن بن ضرار بن عَمْرو بن مَالك بن زيد بن كَعْب بن بجالة بن ذهل بن مَالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مُضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وَضِرَار بن عَمْرو وَكَانَ يُقَال لَهُ: الرّديم لِأَنَّهُ كَانَ إِذا وقف فِي الْحَرْب ردم ناحيته أَي: سدّها وطالت رياسته وَشهد يَوْم القرنتين وَمَعَهُ ثَمَانِيَة عشر من وَلَده يُقَاتلُون مَعَه وَزيد الفوارس كَانَ فارصهم. وَلِهَذَا قيل لَهُ: زيد الفوارس.)

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ بعد الْمِائَة

(وإنّا سَوف تدركنا المنايا

مقدّرة لنا ومقدّرينا)

على أَنه يجوز عطف أحد حَالي الْفَاعِل وَالْمَفْعُول على الآخر كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت. فإنّ مقدرَة حَال من الْفَاعِل وَهُوَ المنايا ومقدرينا: حَال من الْمَفْعُول أَعنِي ضمير الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر. أَي: تدركنا المنايا فِي حَال كوننا مقدّرين لأوقاتها وَكَونهَا مقدّرة لنا.

والمنايا: جمع منيّة وَهِي الْمَوْت وَسمي منية لِأَنَّهُ مُقَدّر من منى لَهُ أَي: قدّر قَالَ أَبُو قلَابَة الْهُذلِيّ:

ص: 177

(فَلَا تقولن لشَيْء سَوف أَفعلهُ

حَتَّى تلاقي مَا يمني لَك الماني)

وه االْبَيْت من معلّقة عَمْرو بن كُلْثُوم التغلبي. وَهَذَا مطْلعهَا:

(أَلا هبّي بصحنك فاصبحينا

وَلَا تبقي خمور الأندرينا)

(مشعشعةً كأنّ الحصّ فِيهَا

إِذا مَا المَاء خالطها سخينا)

(تجور بِذِي اللبانة عَن هَوَاهُ

إِذا مَا ذاقها حَتَّى يلينا)

(ترى اللحز الشحيح إِذا أمرّت

عَلَيْهِ لمَاله فِيهَا مهينا)

(صددت الكأس عَنَّا أمّ عَمْرو

وَكَانَ الكأس مجْراهَا اليمينا)

(وَمَا شَرّ الثَّلَاثَة أمّ عَمْرو

بصاحبك الَّذِي لَا تصبحينا)

وَإِنَّا سَوف تدركنا المنايا

الْبَيْت أَلا: حرف يفْتَتح بِهِ الْكَلَام وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيه. وهبّي: مَعْنَاهُ قومِي مننومك يُقَال: هبّ مننومه يهبّ هبّاً إِذا انتبه وَقَامَ من مَوْضِعه. والصحن: الْقدح الْوَاسِع الضخم.

وَقَوله: فاصبحينا أَي: اسقينا الصبوح وَهُوَ شرب الْغَدَاة يُقَال: صبحه بِالتَّخْفِيفِ صبحاً بِالْفَتْح. والأندرين: قَرْيَة بِالشَّام كَثِيرَة الْخمر وَقيل: هُوَ أندر ثمَّ جمعه بِمَا حواليه وَقيل: هُوَ أندرون. وَفِيه لُغَتَانِ مِنْهُم من يعربه إِعْرَاب جمع الْمُذكر السَّالِم وَمِنْهُم من يلْزمه الْيَاء وَيجْعَل الْإِعْرَاب على النُّون وَقَالَ الزجّاج: يجوز مَعَ هَذَا لُزُوم الْوَاو أَيْضا.

وَقَوله: مشعشعة كَأَن الخ المشعشعة: الرقيقة من الْعَصْر أَو من المزاج

ص: 178

يُقَال: شعشع كأسك أَي: صبّ فِيهَا مَاء مَنْصُوب على أَنه مفعول اصبحينا أَي: اسقينا ممزوجة وَقيل: حَال من)

خمور وَقيل بدل مِنْهَا. والحصّ بِضَم الْمُهْملَة: الورس وَهُوَ نبت أصفر يكون بِالْيمن وَقيل: هُوَ الزَّعْفَرَان.

وَقَوله: سخينا قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: كَانُوا يسخنون لَهَا المَاء فِي الشتَاء ثمَّ يمزجونها بِهِ فَهُوَ على هَذَا حَال من المَاء. وَقيل: هُوَ صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي: فاصبحينا شرابًا سخيناً.

وَفِيه نظر. وَقيل: سخينا فعل أَي: جدنا يُقَال: سخي يسخى من بَاب تَعب وَالْفَاعِل سخ وَفِيه لُغَتَانِ اخريان: إِحْدَاهمَا سخا يسخو فَهُوَ ساخ من بَاب عل وَالثَّانيَِة سخو يسخو مثل قرب يقرب سخاوة فَهُوَ سخيّ. ويروى: شحينا بالشين الْمُعْجَمَة أَي: إِذا خالطها المَاء مَمْلُوءَة بِهِ.

والشحن: الملء وَالْفِعْل من بَاب نفع والشحين بِمَعْنى المشحون.

وَقَوله: تجور بِذِي اللبانة الخ من الْجور وَهُوَ الْعُدُول. واللبانة: الْحَاجة يمدح الْخمر وَيَقُول: تعدل بِصَاحِب الْحَاجة عَن حَاجته وهواه إِذا ذاقها حَتَّى يلين. أَي: هِيَ تنسي الهموم والحوائج أَصْحَابهَا فَإِذا شَرِبُوهَا لانوا ونسوا أحزانهم وحوائجهم.

وَقَوله: ترى اللحز الخ اللحز بِفَتْح اللَّام وَكسر الْمُهْملَة وَآخره زَاي مُعْجمَة: الضيّق الْبَخِيل وَقيل: هُوَ السَّيئ الْخلق اللَّئِيم. وَقَوله: إِذا امرّت عَلَيْهِ أَي: أديرت الكأس عَلَيْهِ. وَالْمعْنَى: أنّ الْخمر إِذا كثر دورانها عَلَيْهِ أهان مَاله وجاد بِهِ.

وَقَوله: صددت الكأس عَنَّا الخ أَي: صرفت الكأس عَنَّا إِلَى غَيرنَا. وَهَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ على أَن قَوْله اليمينا نصب على الظَّرْفِيَّة.

ص: 179

وَفِيه أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون مجْراهَا بَدَلا من الكأس وَهُوَ مصدر لَا مَكَان. وَالْيَمِين: ظرف خبر كَانَ.

الثَّانِي: أَن الْيَمين خبر كَانَ لَا ظرف لَكِن على حذف مُضَاف أَي: مجْرى الْيَمين. الثَّالِث: مجْراهَا مُبْتَدأ وَالْيَمِين ظرف خَبره وَالْجُمْلَة خبر كَانَ. الرَّابِع: ان يَجْعَل المجرى مَكَانا بَدَلا من الكأس وَالْيَمِين خبر كَانَ لَا ظرف. وأمّ عَمْرو منادى.

قَالَ ابْن خلف: هِيَ أمّ الشَّاعِر وَكَانَ هُوَ جَالِسا مَعَ أَبِيه وَأبي أمه وَكَانَت تَسْقِي أَبَاهَا وَزوجهَا وَتعرض عَنهُ استصغاراً لَهُ فَقَالَ لَهَا: إِذا سقيت إنْسَانا كأساً اجعلي الكأس بعده للَّذي على يَمِينه حَتَّى يَنْقَضِي الدّور وَلَا يَنْبَغِي أَن تحقريني فلست بشر الثَّلَاثَة يَعْنِي: نَفسه وأباه وأباها اه وَهَذَا بعيد.

قَالَ شرّاح المعلقات: وبضعهم يروي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لعَمْرو ابْن أُخْت جذيمة الأبرش: وَذَلِكَ أَنه لما)

وجده مَالك وَعقيل فِي البريّة وَكَانَا يشربان وأمّ عَمْرو هَذِه تصد عَنهُ الكأس فَلَمَّا قَالَ هَذَا وَقَوله: إِنَّا سَوف تدركنا الخ معنى هَذَا الْبَيْت فِي اتِّصَاله بِمَا قبله أَنه لما قَالَ لَهَا هبي بصحنك حثها على ذَلِك. وَالْمعْنَى: فاصبحينا من قبل حُضُور الْأَجَل

فَإِن الْمَوْت مقدّر لنا وَنحن مقدّرون لَهُ.

وَهَذِه القصيدة أنشدها عَمْرو بن كُلْثُوم فِي حَضْرَة الْملك عَمْرو بن هِنْد وَهُوَ ابْن الْمُنْذر وَهِنْد امهِ ارتجالاً يذكر فِيهَا أَيَّام بني تغلب

ص: 180

ويفتخر بهم. وَأنْشد أَيْضا عِنْد الْملك يَوْمئِذٍ الْحَارِث بن حلّزة قصيدته الت أَولهَا: آذنتنا ببينها أَسمَاء وَتَقَدَّمت حكايتها. قَالَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: قصيدة عَمْرو بن كُلْثُوم وقصيدة الْحَارِث بن حلّزة من مفاخر الْعَرَب كَانَتَا معلّقتين بِالْكَعْبَةِ دهراً.

قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: قصيدة عَمْرو بن كُلْثُوم من جيّد شعر الْعَرَب وَإِحْدَى السَّبع.

ولشغف تغلب بهَا قَالَ بعض الشُّعَرَاء:

(ألهى بني تغلب عَن كلّ مكرمَة

قصيدة قَالَهَا عَمْرو بن كُلْثُوم)

(يفاخرون بهَا مذ كَانَ أَوَّلهمْ

يَا للرِّجَال لشعر غير مسؤوم)

وَكَانَ سَبَب هَذِه القصيدة مَا رَوَاهُ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ: كَانَت بَنو تغلب ابْن وَائِل من أَشد النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالُوا: لَو أَبْطَأَ الْإِسْلَام قليلاّ لأكلت بَنو تغلب

النَّاس. وَيُقَال: جَاءَ نَاس من بني تغلب إِلَى بكر بن وَائِل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الَّذِي كَانَ بَينهم فَرَجَعُوا فَمَاتَ مِنْهُم سَبْعُونَ رجلا عطشاً. ثمَّ إِن بني تغلب اجْتَمعُوا لِحَرْب بكر بن وَائِل واستعدّت لَهُم بكر حَتَّى إِذا الْتَقَوْا كَرهُوا الْحَرْب وخافوا ان تعود الْحَرْب بَينهم

ص: 181

كَمَا كَانَت فَدَعَا بَعضهم بَعْضًا إِلَى الصُّلْح فَتَحَاكَمُوا إِلَى الْملك عَمْرو بن هِنْد فَقَالَ عَمْرو: مَا كنت لأحكم بَيْنكُمَا حَتَّى تَأْتُونِي بسبعين رجلا من أَشْرَاف بكر بن وَائِل. فأجعلهم فِي وثاق عِنْدِي. فَإِن كَانَ الْحق لبني تغلب دفعتهم إِلَيْهِم وَإِن لم يكن لَهُم حق خلّيت سبيلهم. فعلوا وتواعدوا ليَوْم بِعَيْنِه يَجْتَمعُونَ فِيهِ.

فَجَاءَت تغلب فِي ذَلِك الْيَوْم يَقُودهَا عَمْرو بن كُلْثُوم حَتَّى جلس إِلَى الْملك.

وَقَالَ الْحَارِث بن حلّزة لِقَوْمِهِ وَهُوَ رَئِيس بكر بن وَائِل: إِنِّي قد قلت قصيدة فَمن قَامَ بهَا ظفر بحجته وفلج على خَصمه فروّاها نَاسا مِنْهُم فلمّا قَامُوا بَين يَدَيْهِ لم يرضهم فحين علم انه لَا يقوم)

بهَا أحد مقَامه قَالَ لَهُم: وَالله إِنِّي لأكْره أَن آتِي الْملك فيكلمني من وَرَاء سَبْعَة ستور وينضح أثري بِالْمَاءِ إِذا انصرفت عَنهُ وَذَلِكَ لبرص كَانَ بِهِ غير أَنِّي لَا أرى أحدا يقوم بهَا مقَامي وَأَنا مُحْتَمل ذَلِك لكم. فَانْطَلق حَتَّى أَتَى الْملك فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ عَمْرو بن كُلْثُوم قَالَ للْملك: أَهَذا يناطقني وَهُوَ لَا يُطيق صدر رَاحِلَته فَأَجَابَهُ الْملك حَتَّى أَفْحَمَهُ.

آذنتنتا ببينها أَسمَاء وَهُوَ من وَرَاء سَبْعَة ستور وَهِنْد تسمع فَلَمَّا سَمعتهَا قَالَت: تالله مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ رجلا يَقُول مثل هَذَا القَوْل يكلّم من وَرَاء سَبْعَة ستور فَقَالَ الْملك: ارْفَعُوا سترا ودنا. فمازالت تَقول وَيرْفَع ستر فَستر حَتَّى صَار مَعَ الْملك على مَجْلِسه ثمَّ أطْعمهُ فِي جفنته وَأمر أَن لَا ينضح أَثَره بِالْمَاءِ وجزّ نواصي السّبْعين الَّذين كَانُوا فِي يَدَيْهِ من بكر وَدفعهَا إِلَى الْحَارِث وَأمره أَن لَا ينشد قصيدته إِلَّا متوضياً. فَلم تزل تِلْكَ النواصي فِي بني يشْكر

ص: 182

بعد الْحَارِث وَهُوَ من ثَعْلَبَة بن

غنم من بني مَالك بن ثَعْلَبَة. وَأنْشد قصيدته عَمْرو بن كُلْثُوم. هَكَذَا نقلل الْخَطِيب التبريزي عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ. وَهَذَا مُخَالف لما نَقَلْنَاهُ عَنهُ عِنْد ذكر معلقَة الْحَارِث بن حلّزة وَالله أعلم. وعَمْرو صَاحب هَذِه الْمُعَلقَة هُوَ عَمْرو بن كُلْثُوم بن مَالك بن عتاب بن سعد بن زُهَيْر بن جشم بن بكر بن حبيّب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب بن وَائِل.

قا لأبو عبيد البكريّ فِي شرح نَوَادِر القاليّ عَمْرو بن كُلْثُوم شَاعِر فَارس جاهليّ وَهُوَ أحد فتاك الْعَرَب وَهُوَ الَّذِي فتك بِعَمْرو بن هِنْد. وكنيته أَبُو الْأسود. وَأَخُوهُ مرّة هُوَ الَّذِي قتل الْمُنْذر بن النُّعْمَان. وامه أَسمَاء بنت مهلهل بن ربيعَة. وَلما تزوج مهلهل هنداً بنت عتيبة ولدت لَهُ جَارِيَة فَقَالَ لأمها: اقتليها وغيّبيها فَلَمَّا نَام تف بِهِ هَاتِف يَقُول:

(وَعدد لَا يجهل

فِي بطن بنت مهلهل)

فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: أَيْن بِنْتي فَقَالَت: قتلتها. فَقَالَ: لَا وإله ربيعَة زكان أول من حلف بهَا. ثمَّ ربّاها وسمّاها أَسمَاء وَقيل ليلى. وَتَزَوجهَا كُلْثُوم بن مَالك. فَلَمَّا حملت بِعَمْرو أَتَاهَا آتٍ فِي الْمَنَام فَقَالَ:

(يَا لَك ليلى من ولد

يقدم إقدام الْأسد)

ص: 183

(من جشم فِيهِ الْعدَد

أَقُول قولا لَا فند)

فَلَمَّا ولدت عمرا اتاها ذَلِك الْآتِي فَقَالَ:)

(أَنا زعيم لَك أم عَمْرو

بماجد الجدّ كريم النجار)

(أَشْجَع من ذِي لبد هزبر

وقّاص أَقْرَان شَدِيد الْأسر)

يسودهم فِي خَمْسَة وَعشر وَكَانَ كَمَا قَالَ سادهم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة. وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وَخمسين سنة. اه.

وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء عَمْرو بن كُلْثُوم جاهليّ قديم وَهُوَ قَاتل عَمْرو بن هِنْد الْملك. . وَكَانَ سَبَب ذَلِك أنّ عَمْرو بن هِنْد قَالَ ذَات يَوْم لندمائه: هَل تعلمُونَ أحدا من الْعَرَب تأنف أمّه من خدمَة أمّي قَالُوا: لَا نعلمها إِلَّا ليلى أم عَمْرو بن كُلْثُوم قَالَ: وَلم ذَلِك قَالُوا: لِأَن أَبَاهَا مهلهل بن ربيعَة وعمّها كُلَيْب وَائِل أعز الْعَرَب وبعلها كُلْثُوم بن مَالك بن عتّاب أَفرس الْعَرَب وَابْنهَا عَمْرو بن كُلْثُوم سيّد من هُوَ مِنْهُ فَأرْسل عَمْرو بن هِنْد إِلَى عَمْرو بن كُلْثُوم يستزيره ويسأله أَن يزير أمّه أمّه.

فَأقبل عَمْرو بن كُلْثُوم من الجزيرة إِلَى الْحيرَة فِي جمَاعَة من بني تغلب وَأَقْبَلت ليلى بنت مهلهل فِي ظعن من بني تغلب وَأمر عَمْرو بن هِنْد برواقه فَضرب مَا بَين الْحيرَة والفرات وَأرْسل إِلَى وُجُوه أهل مَمْلَكَته فَحَضَرُوا. وَدخل عمروبن كُلْثُوم على عَمْرو بن هِنْد فِي رواقه وَدخلت ليلى بنت مهلهل

ص: 184

على هِنْد قبّتها وَهِنْد أم عَمْرو بن هِنْد عمّة امْرِئ الْقَيْس الشَّاعِر وليلى بنت مهلهل أم عَمْرو بن كُلْثُوم هِيَ بنت أخي فَاطِمَة بنت ربيعَة أم امْرِئ الْقَيْس فَدَعَا عَمْرو بن هِنْد بمائدة فنصبها فَأَكَلُوا ثمَّ دَعَا بالطرف. فَقَالَت هِنْد: يَا ليلى ناوليني ذَلِك الطَّبَق فَقَالَت: لتقم صَاحِبَة الْحَاجة إِلَى حَاجَتهَا فأعادت عَلَيْهَا. فَلَمَّا ألحّت صاحت ليلى: واذلاّه يَا لتغلب فَسَمعَهَا ابْنهَا عَمْرو بن كُلْثُوم فثار الدَّم فِي وَجهه وَنظر إِلَى

عَمْرو بن هِنْد فَعرف الشَّرّ فِي وَجهه فَقَامَ إِلَى سيف لعَمْرو بن هِنْد معلّق بالرواق وَلَيْسَ هُنَاكَ سيف غَيره فَضرب بِهِ رَأس عَمْرو بن هِنْد حَتَّى قَتله ونادى فِي بني تغلب فانتهبوا جَمِيع مَا فِي الرواق وَاسْتَاقُوا نجائبه وَسَارُوا نَحْو الجزيرة

وَابْنه عتّاب بن عَمْرو بن كُلْثُوم قَاتل بشر بن عَمْرو بن عدس. وَأَخُوهُ

(أبني كُلَيْب إِن عمّيّ اللذا

قتلا الْمُلُوك وفكّكا الأغلالا)

وَالله أعلم.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ بعد الْمِائَة

(كَأَنَّهُ خَارِجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عِنْد مفتأد)

على أَن خَارِجا حَال من الْفَاعِل المعنويّ وَهُوَ الْهَاء. لِأَن الْمَعْنى يشبه خَارِجا. وَقد بيّنه الشَّارِح الْمُحَقق.

وعامل الْحَال مَا فِي كَانَ من معنى الْفِعْل قَالَ أَبُو عليّ الفارسيّ فِي الْإِيضَاح الشعري وَقد أورد هَذَا الْبَيْت فِي بَاب الْحُرُوف الَّتِي تَتَضَمَّن معنى الْفِعْل:

ص: 185

الْعَامِل فِي خَارِجا مَا فِي كأنّ من معنى الْفِعْل. فَإِن قلت: لم لَا يكون الْعَامِل مَا فِي الْكَلَام من معنى التَّشْبِيه دون مَا ذكرت مِمَّا فِي كأنّ من معنى الْفِعْل فَالْقَوْل أَن معنى التَّشْبِيه لَا يمْتَنع انتصاب الْحَال عَنهُ نَحْو: زيد كعمرو مُقبلا إِلَّا أَن إِعْمَال

ذَلِك فِي الْبَيْت لَا يَسْتَقِيم لتقدم الْحَال وَهِي لَا تتقدم على مَا يعْمل فِيهَا من الْمعَانِي.

وَالْهَاء فيكانه عَائِدَة على المدرى المُرَاد بِهِ قرن الثور. وَالضَّمِير فِي صفحته رَاجع إِلَى ضمران وَهُوَ اسْم كلب. والسّفود خبر كَأَن بِفَتْح السِّين وَتَشْديد الْفَاء المضمومة وَهِي الحديدة الَّتِي يشوى بهَا الكباب. والشّرب بِالْفَتْح: جمع شَارِب. ونسوه أَي: تَرَكُوهُ حَتَّى نضج مَا فِيهِ. شبّه قرن الثور النَّافِذ فِي الْكَلْب بسفّود فِيهِ شواء. والمفتأد بِفَتْح الْهمزَة قبل الدَّال: المشتوى والمطبخ وَهُوَ مَحل الفأد بِسُكُون الْهمزَة: اسْم فَاعل وَهُوَ الَّذِي يعْمل الملّة. والفئيد على فعيل: كل نَار يشوى عَلَيْهَا.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة للنابغة الذبياني يمدح بهاالنعمان بن الْمُنْذر وَيعْتَذر إِلَيْهِ فِيهَا مِمَّا بلغه عَنهُ. وَقد بينّا سَبَب اعتذاره فِي تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة.

وَهَذِه القصيدة أضافها أَبُو جَعْفَر احْمَد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل النَّحْوِيّ

ص: 186

إِلَى المعلقات السَّبع لجودتها. وَقد أورد الشَّارِح الْمُحَقق فِي شَرحه عدَّة أَبْيَات مِنْهَا.

وَقبل هَذَا الْبَيْت:

(كأنّ رحلي وَقد زَالَ النَّهَار بِنَا

بِذِي الْجَلِيل على مستانس وحد)

(من وَحش وجرة موشي أكارعه

طاوي الْمصير كسيف الصيقل الْفَرد)

(سرت عَلَيْهِ من الجوزاء سَارِيَة

تزجي الشمَال عَلَيْهِ جامد الْبرد)

(فارتاع من صَوت كلاّب فَبَاتَ لَهُ

طوع الشوامت من خوف وَمن صرد))

(فهاب ضمران مِنْهُ حَيْثُ يوزعه

طعن المعارك عِنْد المجحر النجد)

(شكّ الفريصة بالمدرى فأنفذها

شكّ المبيطر إِذْ يشفي من الْعَضُد)

(كَأَنَّهُ خَارِجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عِنْد مفتأد)

(فظلّ يعجم أَعلَى الرّوق منقبضاً

فِي حالك اللَّوْن صدق غير ذِي أود)

(لما رأى واشق إقعاص صَاحبه

وَلَا سَبِيل إِلَى عقل وَلَا قَود)

(قَالَت لَهُ النَّفس: إِنِّي لاأرى طَمَعا

وغن مَوْلَاك لم يسلم وَلم يصد)

(فَتلك تبلغني النُّعْمَان إِن لَهُ

فضلا على النَّاس فِي الْأَدْنَى وَفِي الْبعد)

الرحل: النَّاقة. وَزَالَ النَّهَار أَي: انتصف وَهُوَ من الزَّوَال. وبنا: الْبَاء بِمَعْنى على. والجليل: بِضَم الْجِيم: الثمام وَهُوَ مَوضِع أَي:

بِموضع فِي هَذَا النبت. وَهَذَا النبت لَا تَأْكُله الدَّوَابّ.

والمستأنس: النَّاظر بِعَيْنيهِ.

ص: 187

وَرُوِيَ: مستوجس: وَهُوَ الَّذِي قد أوجس فِي نَفسه الْفَزع فَهُوَ ينظر. والوحد بِفتْحَتَيْنِ: الوحيد الْمُنْفَرد وَهُوَ صَاحبهَا: وعَلى بِمَعْنى مَعَ. وَجُمْلَة وَقد زَالَ النَّهَار الخ حَال. وَهَذِه الْأُمُور مِمَّا يُوجب الْإِسْرَاع فَإِن الْمُسَافِر فِي فلاة يجد يجد فِي السّير بعد الزَّوَال ليصل إِلَى منزل يجد فِيهِ رَفِيقًا وعلفاً لدابته.

وَقَوله: من وَحش شبه نَاقَته بثور وَحشِي مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات الْآتِيَة. وَخص وَحش وجرة لِأَنَّهَا فلاة بَين مران وَذَات عرق سِتُّونَ ميلًا والوحش يكثر فِيهَا وَيُقَال: إِنَّهَا قَليلَة الشّرْب فِيهَا.

والموشي بِفَتْح الْمِيم: اسْم مفعول من وشيت الثَّوْب أشيه وشياً وشية أَي: لونته ألواناً مُخْتَلفَة.

وَأَرَادَ بِهِ الثور الوحشي فَإِنَّهُ أَبيض وَفِي أكارعه أَي: قوائمه نقط سود وَفِي وَجهه سفعة.

وموشي: بِالْجَرِّ صفة وَحش وأكارعه: فَاعله.

وطاوي الْمصير أَي: ضامره والمصير المعى وجمعهخ مصران وَجمع مصران مصارين.

وَقَوله: كسيف الصيقل أَي: يلمع. والفرد بِكَسْر الرَّاء وَفتحهَا وسكونها: الثور الْمُنْفَرد إِن أنثاه وَكَذَلِكَ الفارد والفريد.

وَقَوله: سرت عَلَيْهِ الخ والسارية: السحابة الَّتِي تَأتي لَيْلًا. وَمعنى سرت عَلَيْهِ الخ أَي: مطر بِنَوْء الجوزاء. وتزجى مصدره الإزجاء بالزاي وَالْجِيم وَهُوَ السُّوق. وَالشمَال فَاعله وَهِي ريح مَعْرُوفَة. وجامد الْبرد: مَفْعُوله أَي: مَا صلب من الْبرد.

وَقَوله: فارتاع من صَوت الخ أَي: فزع الثور وَخَافَ. وَالْكلاب بِالْفَتْح: الصياد صَاحب)

الْكلاب. وَله: أَي: للكلاب. وَالْفَاء فِي قَوْله: فَبَاتَ عاطفة. وطوع مَرْفُوع ببات. وَالْمعْنَى عِنْد الْأَصْمَعِي: فَبَاتَ للكلاب

ص: 188

مَا أطَاع شوامته من الْخَوْف والصرد. وَعند أبي عُبَيْدَة: فَبَاتَ لَهُ مَا يسر الشوامت. وَرُوِيَ طوع بِالنّصب فمرفوع بَات ضمير الْكلاب وَله أَي: لأجل الثور

والشوامت: القوائم جمع شامتة. أَي: فَبَاتَ قَائِما بَين خوف وصرد وَهُوَ مصدر صرد من بَاب فَرح: إِذا وجد الْبرد.

وَقَوله: فبثهن عَلَيْهِ الخ بَث: فرق وفاعله ضمير الْكلاب وَضمير الْمُؤَنَّث الْمَجْمُوع للكلاب المفهومة من الْكلاب وَضمير عَلَيْهِ للثور وَكَذَلِكَ ضمير بِهِ. وَأَرَادَ بصمع الكعوب قَوَائِم الْكلاب والصمع: الضوامر الْخفية الْوَاحِدَة صمعاء. والكعوب: جمع كَعْب وَهُوَ الْمفصل من الْعِظَام.

قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني: يَعْنِي بصمع الكعوب أَن قوائمه لَازِقَة محددة الْأَطْرَاف ملس لَيست بهزيلات. وأصل الصمع دقة الشَّيْء ولطافته. وبريئات حَال من الكعوب. والحرد بِفَتْح الْمُهْمَلَتَيْنِ: أَرَادَ بِهِ الْعَيْب وَأَصله استرخاء عصب فِي يَد الْبَعِير من شدَّة العقال وَرُبمَا كَانَ خلقَة وَإِذا كَانَ بِهِ نفض يَدَيْهِ وَضرب بهما الأَرْض ضربا شَدِيدا.

وَقَوله: فهاب ضمران هُوَ بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْم كلب. مِنْهُ أَي: من الثور. وروى الْأَصْمَعِي وَأَبُو عُبَيْدَة: فَكَانَ ضمران مِنْهُ. ويوزعه: يغريه. فِي الصِّحَاح: أوزعته بالشَّيْء فأوزع بِهِ فَهُوَ موزع بِهِ أَي: مغرى بِهِ. أَي: كَانَ الْكَلْب من الثور حَيْثُ أمره الْكلاب أَن يكون. وَطعن

ص: 189

المعارك بِالنّصب أَرَادَ: يطعن طَعنا مثل طعن المعارك. وَرُوِيَ: ضرب المعارك وَهُوَ مثله. والمعارك اسْم فَاعل بِمَعْنى الْمقَاتل. والمجحر: اسْم مفعول من أجحرته بِتَقْدِيم الْجِيم على الْمُهْملَة أَي: ألجأته إِلَى أَن دخل جُحْره فانجحر. والنجد: يرْوى بِفَتْح النُّون وَضم الْجِيم بِمَعْنى الشجاع من النجدة وَهِي الشجَاعَة يُقَال: نجد الرجل بِالضَّمِّ فَهُوَ وصف للمعارك.

وَرُوِيَ النجد بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنى الشجاع فَإِن الْوَصْف من النجدة جَاءَ بِضَم الْجِيم وَكسرهَا وَأما وصف من نجد الرجل من بَاب فَرح أَي: عرق من عمل أَو كرب وَشدَّة وَاسم الْعرق النجد بِفتْحَتَيْنِ وَمِنْه قَوْله فِي هَذِه القصيدة: بعد الأين والنجد. وَقد نجد ينجد بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول نجداً

بِفتْحَتَيْنِ أَي: كرب فَهُوَ منجود ونجيد أَي: مكروب. وعَلى هَذَا فَهُوَ وصف المجحر. وَرُوِيَ أَيْضا النجد بِفتْحَتَيْنِ فَهُوَ على حذف مُضَاف أَي: ذِي النجد.)

وروى أَبُو عُبَيْدَة: حَيْثُ يوزعه طعن بِالرَّفْع وَقَالَ: رفع ضمران بكان وَجعل الْخَبَر فِي مِنْهُ أَي: كَانَ الْكَلْب من الثور كانه قِطْعَة مِنْهُ فِي قربه. وارتفع الطعْن بيوزعه. وَقَالَ: سَمِعت يُونُس بن حبيب يُجيب بِهَذَا الْجَواب فِي هَذَا الْبَيْت.

وَقَوله: شكّ الفريصة الخ فَاعل شكّ ضمير الثور. والفريصة: اللحمة بَين الْجنب والكتف الَّتِي لَا تزَال ترْعد من الدَّابَّة وَهِي مقتل. وَأَرَادَ بالمدرى قرن الثور أَي: شكّ الثور بقرنه فريصة الْكَلْب. وشكّ: مَنْصُوب على الْمصدر التشبيهي أَي: شكّاً مثل شكّ المبيطر وَهُوَ البيطار. ويشفي: يداوي ليحصل الشِّفَاء. والْعَضُد بِفتْحَتَيْنِ: دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فِي أعضادها فيبط تَقول مِنْهُ: عضد الْبَعِير من بَاب فَرح.

ص: 190

وَقَوله: كَأَنَّهُ خَارِجا الخ أَي: كَأَن الْقرن فِي حَال خُرُوجه سفّود. وَمثله قَول أبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ:

(فكأنّ سفّودين لمّا يقترا

عجلا لَهُ بشواء شرب ينْزع)

أَي: فَكَأَن سفودين لم يقترا بشواء شرب ينْزع أَي: هما جديدان. شبّه قرنيه بالسفّودين.

وَقَوله: عجلا لَهُ أَي: للثور بالطعن الْوَاقِع بالكلاب.

وَقَوله: فظلّ يعجم الخ عجمه يعجمه: إِذا مضغه. والرّوق بِالْفَتْح: الْقرن. والحالك: الشَّديد السوَاد. والصدق بِالْفَتْح هُوَ الصلب بِالضَّمِّ. والأود بِفتْحَتَيْنِ: العوج أَي: ظلّ الْكَلْب يمضغ أَعلَى الْقرن لمّا خرج من جَنْبَيْهِ فِي حالك يَعْنِي الْقرن فِي شدّة سوَاده. أَي: تقبّض وَاجْتمعَ فِي الْقرن لما يجد من الوجع كَمَا تَقول: صلّى فِي ثِيَابه.

قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي وَقد شرح أبياتاً خَمْسَة إِلَى هُنَا: من عَادَة الشُّعَرَاء إِذا كَانَ الشّعْر مديحاً وَقَالَ: كَأَن نَاقَتي بقرة أَو ثَوْر أَن تكون الْكلاب هِيَ المقتولة. فَإِذا كَانَ الشّعْر موعظة ومرثية أَن تكون الْكلاب هِيَ الَّتِي تقتل الثور وَالْبَقَرَة: لَيْسَ على أَن ذَلِك حِكَايَة قصَّة بِعَينهَا.

وَقَوله: لمّا راى واشق إقعاص الخ واشق: اسْم كلب. والإقعاص: الْمَوْت السَّرِيع يُقَال: رَمَاه فأقعصه: إِذا قَتله وَأَصله من القعاص بِالضَّمِّ وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْغنم فتموت سَرِيعا. وَالْعقل: إِعْطَاء الدِّيَة. يَقُول: قتل صَاحبه فَلم يعقل بِهِ وَلم يقد بِهِ.

ص: 191

وَقَوله: قَالَت لهالنفس الخ هَذَا تَمْثِيل أَي: حدثته نَفسه بِهَذَا أَي باليأس مِنْهُ. وَالْمولى: النَّاصِر والصاحب وَهُوَ هُنَا الْكَلْب. لم يسلم من الْمَوْت وَلم يصد الثور. وَقيل: الْمولى صَاحب الْكلاب)

لم يسلم من الضَّرَر لِأَن كَلْبه قتل. وَقَوله: فَتلك تبلغني النُّعْمَان الخ أَي: تِلْكَ النَّاقة الَّتِي تشبه هَذَا الثور تبلغني النُّعْمَان. وَقَوله: فِي الْأَدْنَى الخ الْبعد بِفتْحَتَيْنِ قيل: إِنَّه مصدر وَيَسْتَوِي فِيهِ لفظ الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث وَقيل: إِنَّه جمع باعد مثل خَادِم وخدم وعَلى هَذَا اقْتصر صَاحب الصِّحَاح وَأنْشد الْبَيْت أَي: فِي الْقَرِيب والبعيد. وروى ابْن الأعرابيّ وَفِي الْبعد بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جمع بعيد. وروى أَبُو زيد وَفِي الْبعد بِضَم فَفتح وَهُوَ جمع بعدى مثل دنىً جمع دنيا وسفل جمع سفلى.

وَقد لخّصت شرح هَذِه الأبيات مَعَ إِيضَاح وزيادات من شرح ديوَان النَّابِغَة وَمن شرح القصيدة للخطيب التبريزي وَمن أَبْيَات الْمعَانِي لِابْنِ قُتَيْبَة. وَللَّه الْحَمد.

وَأنْشد بعده وَهُوَ وَهُوَ من شَوَاهِد س:

(فأرسلها العراك وَلم يذدها

وَلم يشفق على نغص الدّخال)

على أَن الْمصدر الْمُعَرّف بِاللَّامِ قد يَقع حَالا كَمَا فِي الْبَيْت: فَإِن العراك مصدر عارك يعارك معاركة وعراكاً يُقَال: أورد إبِله العراك: إِذا أوردهَا جَمِيعًا المَاء كَمَا فِي قَوْلهم: اعترك الْقَوْم أَي: ازدحموا فِي المعركة.

ص: 192

وَفِيه مَذَاهِب: الأول مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ: أَنه مصدر وَقع حَالا. الثَّانِي: مَذْهَب أبي علىّ الفارسيّ. وَبَينهمَا الشَّارِح الْمُحَقق. الثَّالِث: مَذْهَب ابْن الطراوة وَهُوَ أَن العراك نعت مصدر مَحْذُوف وَلَيْسَ بِحَال أَي: فأرسلها الْإِرْسَال العراك.

وَزعم ثَعْلَب أَن الرِّوَايَة: وأوردها العراك وَأَن العراك مفعول قان لأوردها. وَأما قَوْلهم: أرسلها العراك فَهُوَ عِنْد الْكُوفِيّين مضمّن أرسلها معنى أوردهَا فَهُوَ مفعول ثَان لأوردها. والإرسال: بِمَعْنى التَّخْلِيَة وَالْإِطْلَاق وفاعله ضمير الْحمار وَضمير الْمُؤَنَّث لأتنه وَهِي جمع أتانة. والذّود: الطَّرْد. وَلم يشفق أَي: الْحمار من أشْفق عَلَيْهِ: إِذا رَحمَه. والنغص بِفَتْح النُّون والغين الْمُعْجَمَة وإهمال الصَّاد مصدر فِي الصِّحَاح: نغص الرجل بِالْكَسْرِ ينغص نغصاً: إِذا لم يتم مُرَاده وَكَذَلِكَ الْبَعِير: إِذا لم يتمّ شربه. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.

وَرُوِيَ: نغض بالضاد الْمُعْجَمَة أَيْضا لكنه بِسُكُون الْغَيْن وَهُوَ التحرك وإمالة الرَّأْس نَحْو الشَّيْء يُرِيد: أَنَّهَا تميل أعناقها إِلَى المَاء بِشدَّة وتعب. قَالَ السيرافي: يُرِيد أَن بَعْضهَا يزحم بَعْضًا حَتَّى لَا)

يقدر أَن يَتَحَرَّك لشدَّة الازدحام فَهُوَ وَاقِف مزحوم لَا يقدر أَن يشرب وَلَا يتَمَكَّن من الْحَرَكَة.

والدّخال بِكَسْر الدَّال: أَن يداخل بعير قد شرب مرّة فِي الْإِبِل الَّتِي لم تشرب حَتَّى يشرب مَعهَا إِذا كَانَ كَرِيمًا أَو شَدِيد الْعَطش أَو ضَعِيفا.

وَقَالَ الأعلم: الدخال: ان يدْخل القويّ بَين ضعيفين أَو الضَّعِيف بَين قويين فيتنغص عَلَيْهِ شربه.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة للبيد بن ربيعَة الصَّحَابِيّ وصف بِهِ حمر وَحش

ص: 193

تعدو إِلَى المَاء. يَقُول: أورد العير أتنه المَاء دفْعَة وَاحِدَة مزدحمة وَلم يشفق على بَعْضهَا أَن يتنغص عِنْد الشّرْب وَلم يذدها لِأَنَّهُ يخَاف الصيّاد. بِخِلَاف الرّعاء الَّذين يدبّرون أَمر الْإِبِل فَإِنَّهُم إِذا أوردوا الْإِبِل جعلوها قطعا قطعا حَتَّى تروي. وَقَبله:

(رفعن سرادقاً فِي يَوْم ريح

يصفّق بَين ميل واعتدال)

أَرَادَ بالسرادق: الْغُبَار. ويصفق يردّد تَارَة مائلاً وَتارَة مستوياً. وَالنُّون ضمير الأتن. وَرَأَيْت فِي ديوانه: فأوردها العراك. وفاعله ضمير العير. وهذهالقصيدة مطْلعهَا:

(ألم تلمم على الدّمن الخوالي

لسلمى بالمذانب فالقفال)

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة هُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: جاؤوا قضّهم بقضيضهم هَذَا مَأْخُوذ من بَيت أوردهُ سِيبَوَيْهٍ.

(أَتَتْنِي سليم قضّها بقضيضها

تمسّح حَولي بِالبَقِيعِ سبالها)

أنْشدهُ على أَن قضهم مصدر وَقع حَالا. وَبَينه الشَّارِح الْمُحَقق بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ. وَقَالَ الأعلم: معنى قضّها بقضيضها: منقضّاً آخِرهم على أَوَّلهمْ وأصل

ص: 194

القضّ

الْكسر وَقد اسْتعْمل الْكسر مَوضِع الانقضاض كَقَوْلِهِم: عِقَاب كاسرة أَي: منقضة انْتهى.

وَالْكَسْر: الْوُقُوع على الشَّيْء بِسُرْعَة.

وَهَذَا الْبَيْت للشماخ. وَبعده:

(يَقُولُونَ لي: يَا احْلِف وَلست بحالف

أخادعهم عَنْهَا لكيما أنالها)

(ففرجت غم النَّفس عني بحلفة

كَمَا قدت الشقراء عَنْهَا جلالها)

فَقَوله: أَتَتْنِي سليم بِالتَّصْغِيرِ وَرُوِيَ بدله تَمِيم وهما قبيلتان. والسبال: جمع سبلة وَهِي مقدم اللِّحْيَة. أَرَادَ أَنهم يمسحون لحاهم وهم يتهددونه ويتوعدونه. وَقَالَ الأعلم: يمسحون لحاهم تأهباً للْكَلَام. وَالْبَقِيع: مَوضِع بِمَدِينَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ.

وَقَوله: يَقُولُونَ لي احْلِف أَي: يَا رجل احْلِف أَو يَا للتّنْبِيه. وَقَوله: أخادعهم عَنْهَا أَي: عَن الحلفة الَّتِي طالبوني أَن أَحْلف بهَا فَأَقُول لَهُم لَا أَحْلف وَأظْهر أَن الْحلف يشق عَليّ حَتَّى يلحوا فِي استحلافي فَإِذا استحلفوني انْقَطَعت الْخُصُومَة بَيْننَا. وَقَوله: لكيما أنالها أَي: أنال الحلفة وَالْيَمِين. وَمثله قَول بَعضهم:

(سَأَلُونِي الْيَمين فارتعت مِنْهَا

ليغروا بذلك الإنخداع)

(ثمَّ أرسلتها كمنحدر السي

ل تَعَالَى من الْمَكَان اليفاع)

وَمثله لِابْنِ الرُّومِي:

(وَإِنِّي لذُو حَلِيف كَاذِب

إِذا مَا اضطررت وَفِي الْحَال ضيق)

(وَهل من جنَاح على مُسلم

يدافع بِاللَّه مَا لَا يُطيق)

ص: 195

إِسْلَام وَقد بِمَعْنى شقّ وَقطع طولا. يُرِيد: كشفت هَذَا الْغم عني بِالْيَمِينِ الكاذبة كَمَا كشفت الشقراء)

ظهرهَا بسق جلها عَنهُ.

وَسبب هَذِه الأبيات على مَا روى مُحَمَّد بن سَلام قَالَ: كَانَت عِنْد الشماخ امْرَأَة من بني سليم إِحْدَى بني حرَام بن سمال فنازعته وَادعت عَلَيْهِ طَلَاقا فَحَضَرَ مَعهَا قَومهَا فأعانوها. فاختصموا إِلَى كثير بن الصَّلْت وَكَانَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قد أقعده للنَّظَر بَين النَّاس فَرَأى كثير أَن لَهُم عَلَيْهِ يَمِينا فالتوى الشماخ بِالْيَمِينِ يحرضهم عَلَيْهَا ثمَّ حلف. وَقَالَ هَذِه الأبيات.

وَعَن الْقَاسِم بن معن قَالَ: كَانَ للشماخ امْرَأَة من بني سليم فأساء إِلَيْهَا وضربها وَكسر يَدهَا ثمَّ لما دخل الْمَدِينَة فِي بعض حَوَائِجه تعلّقت بِهِ بَنو سليم يطْلبُونَ بظلامة صاحبتهم فَأنْكر فَقَالُوا لَهُ: احْلِف فَجعل يغلظ أَمر الْيَمين وشدتها عَلَيْهِ ليرضوا بهَا مِنْهُ حَتَّى رَضوا. فَحلف وَقَالَ:

(أَلا أَصبَحت عرسي من الْبَيْت جامحاً

بِخَير بلَاء أَي أَمر بدا لَهَا)

(على خيرة كَانَت أم الْعرس جامح

فَكيف وَقد سقنا إِلَى الْحَيّ مَالهَا)

(سترجع غَضَبي نزرة الْحَظ عندنَا

كَمَا قطعت عَنَّا بلَيْل وصالها)

أَتَتْنِي سليم قضها بقضيضها وَقيل: سَببهَا أَنه هجا قوما فاستحلفوه فَحلف وتخلص مِنْهُم.

والشماخ اسْمه معقل بن ضرار الْغَطَفَانِي. وَهُوَ مخضرم: أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. وَله صُحْبَة.

وَجعله الجُمَحِي فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة من شعراء الْإِسْلَام

ص: 196

وقرنه بالنابغة الْجَعْدِي ولبيد وَأَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ. وَقَالَ: إِنَّه كَانَ شَدِيد متون الشّعْر وَأَشد كلَاما من لبيد وَفِيه كزازة ولبيد أسهل مِنْهُ منطقاً.

وَقَالَ الحطيئة فِي وَصيته: أبلغوا الشماخ أَنه أشعر غطفان. وَهُوَ أوصف النَّاس للحمير يرْوى أَن الْوَلِيد بن عبد الْملك أنْشد شَيْئا من شعره فِي وصف الْحمير فَقَالَ: مَا أوصفه لَهَا إِنِّي لأحسب أَن أحد أَبَوَيْهِ كَانَ حمارا وَكَانَ الشماخ يهجو قومه وضيفه ويمن عَلَيْهِم بقراه. وَهُوَ أوصف النَّاس للقوس وأرجز النَّاس على البديهة وَشهد الشماخ وقْعَة الْقَادِسِيَّة. قَالَ المرزباني: وَتُوفِّي فِي غَزْوَة موقان فِي زمن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه.

قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: أم الشماخ من ولد الخرشب وَفَاطِمَة بنت الخرشب أم ربيع)

بن زِيَاد وَإِخْوَته العبسيين الَّذين يُقَال لَهُم: الكملة.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة قَول المتنبي: وقبّلتني على خوف فَمَا لفم وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة قَالَهَا فِي صباه مطْلعهَا:

ص: 197

(ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

وَالسيف أحسن فعلا مِنْهُ باللمم)

(ابعد بَعدت بَيَاضًا لَا بَيَاض لَهُ

لأَنْت أسود فِي عَيْني من الظُّلم)

(بحب قاتلتي والشيب تغذيتي:

هواي طفْلا وشيبي بَالغ الْحلم)

(فَمَا أمرّ برسم لَا أسائله

وَلَا بِذَات خمار لَا تريق دمي)

(تنفّست عَن وَفَاء غير منصدع

يَوْم الرحيل وَشعب غير ملتئم)

(قبّلتها ودموعي مزج أدمعها

وقبّلتني على خوف فَمَا لفم)

(فذقت مَاء حَيَاة من مقبّلها

اَوْ صاب ترباً لأحيا سالف الْأُمَم)

قَوْله: ضيف ألمّ برأسي الخ عَنى بالضيف الشيب. والمحتشم: المنقبض المستحي. يُرِيد: أَن الشيب ظهر فِي رَأسه دفْعَة من غير أَن يظْهر فِي تراخ. وَهَذَا معنى قَوْله: غير محتشم. ثمَّ فضل فعل السَّيْف بالشعر على فعل الشيب بِهِ لِأَن الشيب أقبح ألوان الشّعْر. وَهَذَا مَأْخُوذ من قَول البحتريّ:

(وددت بَيَاض السيفيوم لقينني

مَكَان بَيَاض الشيب مِنْهُ بمفرقي)

وَقَوله: ابعد بَعدت بَيَاضًا الخ دُعَاء على الشيب. وَبعد يبعد من بَاب فَرح: إِذا هلك وذلّ.

وَالْبَيَاض الأول: الشيب وَالثَّانِي: الرونق وَالْحسن. وأسود نَا: وَاحِد السود. وَالظُّلم: اللَّيَالِي الثَّلَاث فِي آخر الشَّهْر. يَقُول

ص: 198

لبياض شَيْبه: أَنْت عِنْدِي وَاحِد من تِلْكَ الظُّلم. كَقَوْل أبي تَمام فِيهِ:

(لَهُ منظر فِي الْعين أَبيض ناصع

وَلكنه فِي الْقلب أسود أسفع)

وَقيل: أسود أفعل تَفْضِيل جَاءَ على مَذْهَب الْكُوفِيّين. وَهَذَا من أَبْيَات مُغنِي اللبيب.

وَقَوله: بحب قاتلتي الخ عَنى بقاتلته حبيبته. يَعْنِي: أَن حبها بقتْله. وَالْبَاء من صلَة التغذية.

يَقُول: تغذيت بِهَذَيْنِ: الْحبّ والشيب. ثمَّ فسر ذَلِك بِمَا بعده. يَقُول: هويت وَأَنا طِفْل وشبت)

حِين احْتَلَمت لشدَّة مَا قاسيت من الْهوى: فَصَارَ غذائي. فَقَوله: هواي مُبْتَدأ وطفلاً حَال سدّ مسدّ الْخَبَر وَمثله مَا بعده. وَقد فصّل بِهَذَا ماأجمله أَولا لِأَنَّهُ بيّن وَقت الْعِشْق وَوقت الشيب.

وَقَوله: فَمَا امرّ برسم الخ الرَّسْم من أثر الدَّار: مَا كَانَ ملاصقاً بِالْأَرْضِ.

والطلل: مَا كَانَ شاخصاً. يَقُول: كل رسم يذطّرني رسم دارها فَاسْأَلْهُ تسلّياً وكل ذَات خمار تذكرنيها فتريق دمي وَقَوله: تنفست عَن وَفَاء الخ يَقُول: تنفست يَوْم الْوَدَاع تحسّراً على يَوْم فراقي عَن وَفَاء يَعْنِي عَمَّا فِي قَلبهَا من وَفَاء صَحِيح غير منشق. وَيُرِيد: بِالشعبِ: الْفِرَاق من قَوْلهم: شعبته: إِذا فرقته. وَالْمعْنَى: وَعَن حزن شعب. فَحذف الْمُضَاف.

وَقَوله: قبّلتها ودموعي الخ أَي: بكينا جَمِيعًا حَتَّى امتزجت دموعي بدموعها فِي حَال التَّقْبِيل.

والمزج: المزاج مصدر سمّي بِهِ الْفَاعِل. يَقُول: دموعي مازجت دموعها. وَنصب فَمَا على الْحَال.

قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: قَالَ الفرّاء: أَكثر كَلَام الْعَرَب كلّمته فَاه إِلَى فيّ بِالنّصب وَالرَّفْع صَحِيح وَفِيمَا أشبه هَذَا نَحْو: حاذيته ركبته

ص: 199

إِلَى ركبتي وَالْأَكْثَر فِيهِ بِالرَّفْع. وَإِذا كَانَ نكرَة فالنصب الْمُؤثر الْمُخْتَار نَحْو: كلّمته فَمَا لفم وحاذيته ركبةً لركبة. وَرَفعه وَهُوَ نكرَة جَائِز على ضعف إِذا جعلت اللَّام خَبرا لفم وَإِن وضعت الْوَاو مَوضِع الصّفة فَقلت: كلّمته فوه وفيّ.

وحاذيته ركبته وركبتي فالواو تعْمل مَا تعْمل إِلَى وَالنّصب مَعهَا سَائِغ على غعمال الْمُضمر اه.

كَلَام الفرّاء.

قَالَ أَبُو حَيَّان وَيَعْنِي بقوله: وَالنّصب مَعهَا أَي: مَعَ الْوَاو فِي الثَّانِي. سَائِغ على إِعْمَال الْمُضمر يَعْنِي جاعلاً أَي: جاعلاً فَاه وجاعلاً ركبته. ويقتصر فِي هَذَا على مورد السماع. وَلَو قدّمت حرف الجرّ فَقلت: كلمني عبد الله إِلَى فيّ فوه لم يجز النصب بِإِجْمَاع من الْكُوفِيّين وتقتضيه قَاعِدَة قَول سِيبَوَيْهٍ فِي أَنه لَا يجوز: إِلَى فيّ تَبْيِين كلك بعد سقيا لَك وَتَقْدِيم لَك على سقيا لَا يجوز فَيَنْبَغِي أَن لَا يجوز هَذَا. فَلَو قدّمت فَاه إِلَى فيّ على كَلمته فَقلت: فَاه إِلَى فيّ كلمت

فَلَو قلت: فوه إِلَى فيّ كلمني عبد الله لم يجز ذَلِك عِنْد أحد من الْكُوفِيّين وَلَا أحفظ نصا عَن الْبَصرِيين وَالْقِيَاس يَقْتَضِي الْجَوَاز اه.

وَقَوله: فذقت مَاء حَيَاة الخ جعل رِيقهَا مَاء الْحَيَاة على معنى ان العاشق إِذا ذاقه حييّ بِهِ.)

وَمعنى لَو أصَاب ترباً لَو نزل على تُرَاب: من قَوْلهم: صاب الْمَطَر يصوب صوباً بِمَعْنى أصَاب.

يَقُول: لَو وَقع رِيقهَا على الأَرْض لحيا الْمَوْتَى من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة. وَأول هَذَا الْمَعْنى للأعشى:

(لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها

عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر)

ص: 200

فَنقل أَبُو الطّيب الْإِحْيَاء إِلَى رِيقهَا.

وَمَا شرحت بِهِ هَذِه الأبيات فَهُوَ من شرح الإِمَام الواحديّ لخصته مِنْهُ بِاخْتِصَار: وترجمة المتنبي تقدّمت فِي الْبَيْت الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة.

وَأنْشد بعده:

(وَلَقَد أمرّ على اللَّئِيم يسبذني

فمضيت ثمّت قلت لَا يعنيني)

على أَن اللَّام فِي اللَّئِيم زَائِدَة. قد تقدم الْكَلَام على هَذَا الْبَيْت فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالْخمسين.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة على أَن أَسد العرين واء النجف حالان غما على تَقْدِير مثل وَإِمَّا على تأويلهما بِوَصْف أَي: شجعاناً وضعافاً. وَهَذَا ظَاهر.

وَهَذَا الْبَيْت آخر أَبْيَات أَرْبَعَة لأحد أَصْحَاب عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه وَهِي:

(أيمنعنا الْقَوْم مَاء الْفُرَات

وَفينَا السيوف وَفينَا الحجف)

ص: 201

(وَفينَا عليّ لَهُ صولة

إِذا خوّفوه الردى لم يخف)

(وَنحن الَّذين غَدَاة الزبير

وَطَلْحَة خضنا غمار التّلف)

فَمَا بالنا أمس أَسد العرين ومنشؤها على مَا ذكر فِي كتاب الْفتُوح وَكتاب الرَّوْضَة للحجوريّ: أَن عليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه لما نزل يصفين وصفّين مَدِينَة عتيقة من بِنَاء الْأَعَاجِم على شاطئ الْفُرَات بِالْقربِ من قنّسرين فسبقه مُعَاوِيَة إِلَى الْفُرَات وَمنع عليا وَأَصْحَابه من المَاء فَأرْسل عليّ رضي الله عنه إِلَى مُعَاوِيَة الْأَشْعَث بن قيس وصعصعة بن صوحان وَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى مُعَاوِيَة وقولا لَهُ: خيلك حَالَتْ بَيْننَا وَبَين المَاء وَنحن نكره قتالكم قبل الْإِعْذَار فأبلغاه الرسَالَة وَجرى بَينهم كَلَام: فَقَالَ الْأَشْعَث: إِنَّك إِن تَمْنَعنَا بِالْمَاءِ تَرَ منّا مَا لَا تُرِيدُ فخلّ عَن المَاء قبل أَن تغلب عَلَيْهِ وَقَالَ ابْن صوحان: إِنَّا لَا نموت عطشاً وسيوفنا على عواتقنا فَاسْتَشَارَ مُعَاوِيَة أَصْحَابه)

فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد بن عتبَة وَهُوَ اخو عُثْمَان من امهِ: امنعهم كَمَا منعُوهُ عُثْمَان فَقَالَ عمروب ن الْعَاصِ: مَا أظنّ عليا يظمأ وَفِي يَده أعنّة

الْخَيل وَهُوَ ينظر إِلَى الْفُرَات فخلّ عَنهُ وَعَن المَاء.

وَقَالَ ابْن أبي سرح: أمنعهم المَاء مَنعهم الله إِيَّاه فَقَالَ ابْن صوحان: غنما مَنعه الله الفجرة مثلك وَمثل هَذَا الْفَاسِق: الْوَلِيد. وَبَقِي أَصْحَاب عليّ يومهم وليلتهم عطاشاً. فَسمع عليّ رضي الله عنه صَبيا ينشد: أيمنعنا الْقَوْم مَاء الْفُرَات وَرجع الْأَشْعَث فَقَالَ: أيمنعنا الْقَوْم وَأَنت فِينَا خلّ عني وعنهم غَدا قَالَ عليّ: ذَلِك إِلَيْك.

فَنَادَى مُنَاد لَهُ: من كَانَ يُرِيد المَاء وَالْمَوْت فميعاده

ص: 202

الصُّبْح فَأصْبح على بَاب مضربه أَرْبَعَة عشر ألفا وَسَار الْقَوْم وكلّ يرتجز برجزه ثمَّ قَالَ الْأَشْعَث: تقدّموا فَلَمَّا أشرفوا على المَاء قَالَ لأَصْحَاب مُعَاوِيَة: خلّوا عَن المَاء وَإِلَّا وردناه فَقَالَ أَبُو الْأَعْوَر السّلمِيّ: لَا وَالله حَتَّى تأخذنا السيوف وَإِيَّاكُم فَقَالَ: الْأَشْعَث للأشتر: أقحم الْخَيل فأقحمها حَتَّى غمست سنابكها فِي المَاء وَأخذ الْقَوْم السيوف فولّوا عَن المَاء. اه.

فَقَوله: وَفينَا السيوف وَفينَا الحجف هُوَ جمع حجفة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم يُقَال: للترس إِذا كَانَ من جُلُود لَيْسَ فِيهِ خشب وَلَا عقب: حجفة ودرقة كَذَا فِي الْعباب. وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة: هِيَ جُلُود من جُلُود الْإِبِل يطارق بَعْضهَا على بعض وَيجْعَل مِنْهَا الترسة. وَقَوله: وَنحن الَّذين غَدَاة الزبير يُشِير بِهِ إِلَى وقْعَة الْجمل. والغمار: جمع غمرة بِالْفَتْح وَهِي الشدَّة. وَقَوله: أسسد العرين هُوَ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة.

فِي الصِّحَاح: العرين والعرينة: مأوى الْأسد الَّذِي يألفه يُقَال: لَيْث عرينة وَلَيْث غابة. وأصل العرين جمَاعَة الشّجر. وَقَوله: شار النجف الشَّاء: جمع شَاة فِي الصِّحَاح: الشَّاة من الْغنم تذكر وتؤنث وَالْجمع شِيَاه بِالْهَاءِ فِي أدنى الْعدَد تَقول: ثَلَاث شِيَاه إِلَى الْعشْرَة فَإِذا حاوزت فبالتاء فَإِذا كثرت قيل هَذِه شَاءَ كَثِيرَة. زجمع الشَّاء شويّ. والنجف بِفَتْح النُّون وَالْجِيم قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْحَلب الْجيد حَتَّى ينفض الضَّرع يُقَال: انتجفت

الْغنم: إِذا استخرجت أقْصَى مَا فِي الضَّرع من اللَّبن وانتجفت الرّيح السَّحَاب: إِذا استفرغته وانتجاف

ص: 203

الشَّيْء: استخراجه وَكَذَلِكَ استنجافه. والنجف والنجفة أَيْضا: مَكَان لَا يعلوه المَاء مستطيل منقاد وَالْجمع نجاف.

وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النجفة المسنّاة والنجف: التل. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: النجفة الَّتِي هِيَ بِظَاهِر)

الْكُوفَة هِيَ المسناة تمنع مَاء السَّيْل أَن يَعْلُو منَازِل الْكُوفَة ومقابرها وَفِيه مرقد عليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه. قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الموصلّي يمدح النجف:

(مَا إِن أرى النَّاس فِي سهل وَفِي جبل

أصفى هَوَاء وَلَا أعذى من النجف)

والبال هُنَا بِمَعْنى الشَّأْن وَالْحَال وَهُوَ الْعَامِل فِي أمس وَفِي الْحَال لكَونه بِمَعْنى الْفِعْل. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ عِنْدَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي سُورَة آل عمرَان: مَا باله وَهُوَ آمن قَوْله: وَهُوَ آمن حَال من عَامله مَا فِي بَال من معنى الْفِعْل وَلم نجد فِي الِاسْتِعْمَال هَذِه الْحَال بِالْوَاو قَالَ: مَا بَال عَيْنك مِنْهَا المَاء ينسكب وَاعْلَم ان مَجِيء الْحَال بَعْدَمَا بَال أكثريّ وَقد يَأْتِي بِدُونِهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: فَمَا بَال الْقُرُون الأولى.

وَقد وَردت الْحَال بعده على وُجُوه: مِنْهَا مُفْردَة كبيت الشَّاهِد كَقَوْلِه:

ص: 204

(فَمَا بَال النُّجُوم معلّقات

بقلب الصّبّ لَيْسَ لَهَا براح)

وَمِنْهَا ماضيّة مقرونة بقد كَقَوْل العامري:

(مَا بَال قَلْبك يَا مَجْنُون قد هلعا

من حبّ من لَا ترى فِي نيله طَمَعا)

وبالواو مَعهَا كَقَوْلِه:

(مَا بَال جهلك بعد الْحلم وَالدّين

وَقد علاك مشيب حِين لَا حِين)

وَبِدُون قد كَقَوْلِه أَيْضا:

(فَمَا بَال قلبِي هدّه الشوق والهوى

وَهَذَا قَمِيصِي من جوى الْحزن بَالِيًا)

ومضارعية مثبتة كَقَوْل أبي العتاهيّة: وبالواو كَقَوْلِه:

(فَمَا بَال من أسعى لأجبر عظمه

حفاظاً وَيَنْوِي من سفاهته كسري)

ومنفيّة كَمَا أنْشدهُ ابْن الْأَعرَابِي: وقائلة مَا باله لَا يزورها وَمِنْهَا اسميّة غير مقترنة بواو كَقَوْل ذِي الرمّة: مَا بَال عَيْنك مِنْهَا المَاء ينسكب

ص: 205

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة وَهُوَ من شَوَاهِد س: وَمَا حلّ سعديّ غَرِيبا ببلدة على انه يجوز تنكير صَاحب الْحَال إِذا سبقه نفي: فَإِن غَرِيبا حَال من سعديّ وَهُوَ نكرَة.

وَجَاز لِأَنَّهُ قد تخصص بِالنَّفْيِ. وببلدة مُتَعَلق بقوله جلّ أَي: نزل وَأقَام.

وَهَذَا صدر وعجزه: فينسب إِلَّا الزّبرقان لَهُ أَب قَالَ أَبُو عليّ الفارسيّ فِي التَّذْكِرَة القصرية: قيل: نصب الشَّاعِر غَرِيبا على الْحَال فِي قَوْله فينسب كأنّ قَالَ: وَمَا حلّ سعديّ ببلدة فينسب إِلَى الغربة. وَهَذَا لَا يجوز: أَعنِي نصب غَرِيبا بينسب لتقدّمه عَلَيْهِ لِأَن تَقْدِيم الصِّلَة على الْمَوْصُول لَا يجوز والفرار مِمَّا لَا يجوز إِلَى مَا لَا يجوز مرفوض. وَلكنه حَال من النكرَة. فَاعْلَم ذَلِك. اه.

وَرُوِيَ أَيْضا: وَمَا حلّ سعديّ غَرِيب بِالرَّفْع فعلى هَذَا هُوَ وصف لسعديّ. اسْتشْهد بِهِ سِيبَوَيْهٍ على نصب ينْسب بعد الْفَاء عبى الْجَواب مَعَ دُخُول

إِلَّا بعده للْإِيجَاب لِأَنَّهَا عرضت بعد اتِّصَال الْجَواب بِالنَّفْيِ ونصبه على مَا يجب لَهُ. . وَيجوز الرّفْع أَيْضا.

ص: 206

وَأوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي نواصب الْفِعْل الْمُضَارع أَيْضا على أَن النَّفْي رَاجع إِلَى ينْسب أَي: يحلّ وَلَا ينْسب قَالَ: وَلَوْلَا أنّ مَا بعد الْفَاء منفيّ لما جَازَ الِاسْتِثْنَاء إِذْ المفرغ لَا يكون فِي الْوَاجِب إِذْ التَّقْدِير مَا نسب ذَلِك السَّعْدِيّ إِلَى أحد إِلَّا إِلَى الزبْرِقَان. فالزبرقان مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض وَهُوَ إِلَى وَجُمْلَة لَهُ أَب حَال من الزبْرِقَان أَي: فِي حَال كَون الزبْرِقَان أَبَا لذَلِك السَّعْدِيّ.

والزبرقان سيّد قومه وأشهرهم فَإِذا تغرّب رجل من بني سعد وهم رَهْط الزبْرِقَان فَسئلَ عَن نسبه ينتسب إِلَيْهِ لشرفه وشهرته.

والزبرقان من الصَّحَابَة وَهُوَ حُصَيْن بن بدر بن امْرِئ الْقَيْس بن خلف بن بَهْدَلَة بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَالَ ابْن عبد البرّ فِي الِاسْتِيعَاب: وَفد على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فِي قومه وَكَانَ أحد ساداتهم فأسلموا. وَذَلِكَ فِي سنة تسع. فولاّه صدقَات قومه. وأقرّه أَبُو بكر وَعمر على ذَلِك. وَإِنَّمَا سمّي الزبْرِقَان لحسنه شبّه بالقمر لِأَن الْقَمَر يُقَال لَهُ: الزبْرِقَان. قَالَ الْأَصْمَعِي: الزبْرِقَان: الْقَمَر والزبرقان: الرجل الْخَفِيف اللِّحْيَة. وَقد قيل: إِن)

اسْم الزبْرِقَان الْقَمَر ابْن بدر. وَالْأَكْثَر على أَنه الْحصين بن بدر. وَقيل: بل سمّي الزبْرِقَان لِأَنَّهُ لبس عِمَامَة مزبرقة بالزعفران. وَالله أعلم ا. هـ.

ة هَذَا الْبَيْت من قصيدة للّعين المنقريّ. واسْمه منَازِل بن زمعه. وكنيته أَبُو أكيدر مصّغر أكدر من بني منقر بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْقَاف وَهُوَ

ص: 207

منقر بن عبيد

بِالتَّصْغِيرِ ابْن مقاعس وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.

واللّعين شَاعِر إسلامي فِي الدولة الأموية قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء والمبرّد فِي الاعتنان وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ رَاوِيا عَن أبي عُبَيْدَة: اعْترض لعين بني منقر لجرير والفرزدق فَقَالَ:

(سأقضي بَين كلب بني كُلَيْب

وَبَين الْقَيْن قين بني عقال)

(بِأَن الْكَلْب مرتعه وخيم

وَأَن الْقَيْن يعْمل فِي سفال)

فَلم يجبهُ أحد مِنْهُمَا فَقَالَ:

(فدونكما انظرا: أهجوت أم لَا

فذوقا فِي المواطن من نبالي)

(وَمَا كَانَ الفرزدق غير قين

لئيم خَاله للّؤم تالي)

(وَيتْرك جدّه الخطفى جرير

وَينْدب حاجباً وَبني عقال)

فَلم يلتفتا إِلَيْهِ فَسقط اه.

قَوْله: فَمَا بقيا عليّ الخ البقيا بِالضَّمِّ: الرَّحْمَة والشفقة. وصرد السهْم من بَاب فَرح من الأضداد إِذا نفذ وَإِذا نكل. فَيكون الْمَعْنى على النّفُوذ إنَّكُمَا خفتما نُفُوذ سهامي فيكما أَي: هجائي. وعَلى معنى النّكُول أَي: خفتما أَن لَا تنفذ سهامكما فيّ فعجزتما عني.

وَقد تمثل بِهَذَا الْبَيْت هَارُون الرشيد لما أَرَادَ قتل جَعْفَر بن يحيى الْبَرْمَكِي. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَكَانَ اللعين هجّاء للأضياف قَالَ:

ص: 208

(وَأبْغض الضَّيْف مَا بِي جلّ مأكله

إِلَّا تنفّجه عِنْدِي إِذا قعدا)

(مَا زَالَ ينفج كَتفيهِ وحبوته

حَتَّى أَقُول: لعلّ الضَّيْف قد ولدا)

وَوجه تلقيب اللعين بِهَذَا على مَا رَوَاهُ صَاحب زهر الْآدَاب قَالَ: سَمعه عمر بن الْخطاب ينشد شعرًا وَالنَّاس يصلّون فَقَالَ: من هَذَا اللعين فعلق بِهِ هَذَا الِاسْم.

وَأنْشد بعده وَهُوَ لميّة موحشاً طلل قديم)

على أَنهم اسْتشْهدُوا بِهِ لتقدم الْحَال على صَاحبهَا المنكّر. وَفِيه مَا بيّنه الشَّارِح الْمُحَقق. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ على أَبْيَات المفصّل: يجوز أَن يكون موحشاً حَالا من الضَّمِير فِي لميّة فَجعل الْحَال من الْمعرفَة أولى من جعلهَا من النكرَة مُتَقَدّمَة عَلَيْهَا لِأَن هَذَا هُوَ الْكثير الشَّائِع وَذَلِكَ قَلِيل فَكَانَ أولى.

وَمِمَّنْ اسْتشْهد بِهَذَا الْبَيْت على مَا ذكره الشَّارِح ابْن جني فِي شرح الحماسة عِنْد قَوْله:

(وهلاّ أعدّوني لمثلي تفاقدوا

وَفِي الأَرْض مبثوثاً شُجَاع وعقرب)

قَالَ: من نصب مبثوثاً فلأنّه وصف نكرَة قدّم عَلَيْهَا فنصب على الْحَال مِنْهَا كَقَوْلِه: لعزّة موحشاً طلل قديم

ص: 209

وَمِنْهُم صَاحب الْكَشَّاف أوردهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَجَعَلنَا فِيهَا فجاجاً سبلاً على انّ فجاجاً كَانَ وَصفا لقَوْله سبلاً فَلَمَّا تقدم صَار حَالا مِنْهُ.

وَمِنْهُم الخبيصيّ فِي شَرحه للكافية الحاجبية قَالَ: قدّم الْحَال وَهُوَ موحشاً على ذِي الْحَال وَهُوَ طلل لِئَلَّا يلتبس بِالصّفةِ. . قَالَ شَارِح شَوَاهِد الْكرْمَانِي: هَذَا لَا يصلح لمطلوبه من وُجُوه: الأول أَنه مُحْتَمل غير مَنْصُوص إِذْ لَا نسلّم أَنه حَال من طلل لجَوَاز كَونه حَالا من ضمير الظّرْف الثَّانِي: أَنه لَو تَأَخّر عَن ذِي الْحَال لَا يلتبس بِالصّفةِ لِأَن ذَا الْحَال مَرْفُوع وَالْحَال مَنْصُوب.

الثَّالِث: أَنه لَا يجوز أَن يكون حَالا من كلل لِأَنَّهُ مُبْتَدأ وَالْحَال لَا تكون إِلَّا من الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول أَو مَا فِي قوتهما اه.

وَفِي كل من الْأَخيرينِ نظر ظَاهر.

وَقد تكلم السخاوي على هَذَا الْبَيْت فِي سفر السَّعَادَة بِمَا يشبه كَلَام الشَّارِح

إِلَّا أَن فِيهِ زِيَادَة تتَعَلَّق بِمذهب الْأَخْفَش. وَهَذَا ملخّصه: قَالَ النُّحَاة: انتصب موحشاً على الْحَال من طلل وَالْعَامِل الجارّوالمجرور. وَهَذَا كَلَام فِي نظر لِأَن الجارّ وَالْمَجْرُور إِمَّا أَن يُقَال فِيهِ مَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ أَو مَا قَالَ الْأَخْفَش وَبَين مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَمَا يرد عَلَيْهِ من اخْتِلَاف الْعَامِل فِي الْحَال وذيها ثمَّ قَالَ: وَإِن قُلْنَا بقول الْأَخْفَش فارتفاع طلل على أَنه فَاعل والرافع لَهُ الجارّ وَالْمَجْرُور وَلَا مرية على قَول الْأَخْفَش أَن الْعَامِل فِي الْحَال

ص: 210

هُوَ الْعَامِل فِي ذيها. فَإِذا كَانَ الْعَامِل غير متصرّف لم تتقدم الْحَال عَلَيْهِ وَلَا على صَاحب الْحَال أَلا ترى أَنه لَا يجوز هَذَا قَائِما زيد. وَلَا قَائِما هَذَا زيد.

وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال: الْعَامِل فِي الْحَال الجارّ وَالْمَجْرُور وَصَاحب الْحَال الضَّمِير الَّذِي فِي الجارّ)

وَالْمَجْرُور اه.

وَبعد هَذَا: والطلل: مَا شخص من آثَار الدَّار. والموحش: من أوحش الْمنزل: إِذا ذهب عَنهُ النَّاس وَصَارَ ذَا وَحْشَة وَهِي الْخلْوَة والهمّ كَذَا فِي الصِّحَاح. وعفاه بِمَعْنى درسه وغيّره. وَعَفا يَأْتِي متعدّياً يُقَال: عفت الرّيح الْمنزل وَيَأْتِي

لَازِما يُقَال عَفا الْمنزل: إِذا اندرس وتغيّر. والأسحم: هُوَ الْأسود وَالْمرَاد هُنَا السَّحَاب لِأَنَّهُ إِذا كَانَ ذَا مَاء يرى أسود لامتلائه. والمستديم: صفة كلّ وَهُوَ السَّحَاب الممطر مطر الديمة والديمة: مطرة أقلهَا ثلث النَّهَار أَو ثلث اللَّيْل.

وَهَذَا الْبَيْت من روى أوّله لعزة موحشاً الخ قَالَ: هُوَ لكثير عزة مِنْهُم أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية.

وَمن رَوَاهُ لميّة موحشاً قَالَ: إِنَّه لذِي الرّمة فَإِن عزة اسْم محبوبة كثيّر وميّة اسْم محبوبة ذِي الرمة. وَالشَّاهِد الْمَشْهُور فِي هَذَا الْمَعْنى هُوَ:

(لميّة موحشاً طلل

يلوح كَأَنَّهُ خلل)

وَقد قيل: إِنَّه لكثير عزّة. والخلل بِالْكَسْرِ: جمع خلة قَالَ

ص: 211

الْجَوْهَرِي: الخلّة بِالْكَسْرِ: وَاحِدَة خلل السيوف وَهِي بطائن يغشّى بهَا أجفان السيوف منقوشة بِالذَّهَب وَغَيره.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد السَّادِس وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة على أَن الْحَال تقدّمت على صَاحبهَا الْمَجْرُور بالحرف: فَإِن قَوْله: حرّان صادياً حالان إِمَّا مُتَرَادِفَانِ أَو متداخلتان تقدمتا على صَاحبهمَا وَهُوَ الْيَاء الْمَجْرُور بإلي. وإليّ: بِمَعْنى عِنْد مُتَعَلقَة بقوله حبيباً وَهُوَ خبر كَانَ.

قَالَ ابْن جنّي فِي إِعْرَاب الحماسة: وَقد يجوز فِي هَذَا عِنْدِي وَجه آخر لطيف الْمَعْنى وَهُوَ أَن يكون حرّان صادياً حَالا من المَاء أَي: كَانَ برد المَاء فِي حَال حرّته وصداه حبيباً إليّ وصف المَاء بذلك مُبَالغَة فِي الْوَصْف وَجَاء بذلك شَاعِرنَا

فَقَالَ: وَجَبت هجيراً يتْرك المَاء صادياً وَإِذا صدي فحسبك بِهِ عطشاً فَإِن أمكن هَذَا كَانَ حمله عَلَيْهِ جَائِزا حسنا وَرَأَيْت أَبَا عليّ يستسهل تَقْدِيم حَال الْمَجْرُور فينحو هَذَا عَلَيْهِ وَيَقُول: هُوَ قريب من حَال الْمَنْصُوب اه.

أَقُول: أَرَادَ بشاعره أَي: بشاعر عصره أَبَا الطيّب المتنبي. الْوَجْه

ص: 212

الَّذِي أبداه تخيّل صَحِيح فَإِن الْإِنْسَان يحب أَن يكون المَاء بَارِدًا فِي جال كَونه حاراً. وَلَكِن الْوَجْه الأول أحسن وأبلغ فَإِن المَاء الْبَارِد أحب إِلَى الْإِنْسَان عِنْد عطشه وحرارته من كل شَيْء. وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ المتداول الشَّائِع قَالَ المبرّد فِي الْكَامِل: هُوَ معنى صَحِيح وَقد اعتوره الْحُكَمَاء وَكلهمْ أَجَاد فِيهِ.

وَمثل بَيت الشَّاهِد قَول عمر بن ابي ربيعَة: فَإِن قَوْله: إِذا مَا منعت برد الشَّرَاب يُفِيد مَا أَفَادَهُ قَوْله: إليّ حران صادياً فَإِنَّهُ يُرِيد عِنْد وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ وَبِذَلِك صَحَّ الْمَعْنى.

وَمثله قَول القطاميّ:

(فهنّ ينبذن من قَول يصبن بِهِ

مواقع المَاء من ذِي الغلّة الصادي)

ينبذن: يرمين بِهِ ويتكلمن. والغلّة بِالضَّمِّ: حرارة الْعَطش.

ويروى عَن عَليّ رضي الله عنه أَن سَائِلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: كَيفَ كَانَ حبّكم لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فَقَالَ: كَانَ وَالله أحبّ إِلَيْنَا من أَمْوَالنَا واولادنا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا وَمن المَاء الْبَارِد على الظمأ.

وَالْقَوْل فِيهِ كثير. وَتَعْلِيق كَونهَا حَبِيبَة إِلَيْهِ على كَون المَاء حبيباً إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالة من بَاب التَّعْلِيق على الْمُحَقق. وَقد تعسف بَعضهم فِي جعل الْبرد مصدرا ناصباً لحرّان وصادياً على)

المفعولية بِتَقْدِير الْمَوْصُوف أَي: جوفاً حرّان وأنّ المُرَاد جَوف نَفسه. وَذَلِكَ هرباً من وُقُوع الْحَال فِي مثل هَذِه

ص: 213

الصُّورَة. حَتَّى إِن بَعضهم مَعَ عدم التَّأْوِيل يَقُول: لَا حجَّة فِيهِ لِأَن الشّعْر محلّ الضَّرُورَة.

وَقَوله: لَئِن كَانَ اللَّام هِيَ اللَّام المؤذنة وَهِي الدَّاخِلَة على أَدَّاهُ شَرط للإيذان بِأَن الْجَواب بعْدهَا مبنيّ على قسم قبلهَا لَا على الشَّرْط. وَتسَمى الموطئة أَيْضا لِأَنَّهَا وطأت الْجَواب للقسم أَي: مهدته لَهُ سَوَاء كَانَ الْقسم غير مَذْكُور كَقَوْلِه تَعَالَى: لَئِن أخرجُوا لَا يخرجُون أم كَانَ مَذْكُورا قبلهَا كَمَا هُنَا فَإِن قبل هَذَا الْبَيْت قَوْله:

(حَلَفت بربّ الراكعين لربّهم

خشوعاً وَفَوق الراكعين رَقِيب)

فجملة إِنَّهَا لحبيب جَوَاب الْقسم الْمَذْكُور وَهُوَ حَلَفت. وَقد أَخطَأ من قَالَ: إِن هَذِه الْجُمْلَة جَوَاب الشَّرْط. مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل نقل ضابطة اللَّام الموطئة عَن مُغنِي اللبيب. وَضمير إِنَّهَا لعفراء بنت عَم عُرْوَة بن حزَام والبيتان لَهُ من قصيدة أوّلها:

(وَإِنِّي لتعروني لذكراك روعة

لَهَا بَين جلدي وَالْعِظَام دَبِيب)

(وَمَا هُوَ إِلَّا ان أَرَاهَا فجاءة

فأبهت حَتَّى مَا أكاد أُجِيب)

(وأصرف عَن رَأْيِي الَّذِي كنت أرتئي

وأنسى الَّذِي أَعدَدْت حِين تغيب)

(ويضمر قلبِي عذرها ويعينها

عَلَيْهِ فَمَا لي فِي الْفُؤَاد نصيب)

(وَقد علمت نَفسِي مَكَان شفائها

قَرِيبا وَهل مَا لَا ينَال قريب)

حَلَفت بربّ الراكعين لرَبهم

الْبَيْتَيْنِ

(وَقلت لعرّاف الْيَمَامَة: داوني

فَإنَّك إِن أبرأتني لطبيب)

ص: 214

(عَشِيَّة لَا عفراء دَان مزارها

فترجى وَلَا عفراء مِنْك قريب)

(فلست براءي الشَّمْس إِلَّا ذكرتها

وَلَا الْبَدْر إِلَّا قلت سَوف تؤوب)

(عَشِيَّة لَا خَلْفي مفرّ وَلَا الْهوى

قريب وَلَا وجدي كوجد غَرِيب)

(فوا كبداً أمست رفاتاً كَأَنَّمَا

يلذّعها بالكفّ كفّ طَبِيب)

وَفِي الْبَيْتَيْنِ الْأَخيرينِ إقواء.

وَعُرْوَة بن حزَام هُوَ من عذرة أحد عشاق الْعَرَب الْمَشْهُورين بذلك إسلاميّ: كَانَ فِي مُدَّة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رضي الله عنه.)

قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيديّ فِي رِوَايَته ديوَان عُرْوَة بن حزَام عَن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى ثَعْلَب عَن لَقِيط بن بكير المحاربيّ قَالَ: كَانَ من حَدِيث عُرْوَة بن حزَام وَابْنَة عمّه عفراء ابْنة مَالك العذريين أَنَّهُمَا نشئا جَمِيعًا فتعلقها علاقَة الصبيّ وَكَانَ قَدِيما فِي حجر عمّه وَبلغ فَكَانَ يسْأَله أَن يزوّجه إِيَّاهَا فيسوّفه حَتَّى خرج فِي عير لأَهله إِلَى الشَّام فَقدم على أبي عفراء ابْن عَم لَهَا من أهل البلقاء وَكَانَ حاجّاً فَخَطَبَهَا فزوّجه إِيَّاهَا فحملها. وَأَقْبل عُرْوَة فِي عيره حَتَّى إِذا كَانَ بتبوك نظر إِلَى رفْقَة مقبلة من قبل الْمَدِينَة فِيهَا امْرَأَة على جمل فَقَالَ لأَصْحَابه: وَالله لكأنها شمائل عفراء فَقَالُوا: وَيحك مَا تزَال تذكر عفراء مَا تخلّ بذكرها فِي

ص: 215

وَإِنِّي لتعروني لذكراك روعة ثمَّ أَخذه مرض السلّ حَتَّى لم يبْق مِنْهُ شَيْئا. فَقَالَ قوم: هُوَ مسحور وَقَالَ قوم: بِهِ جنَّة. وَكَانَ بِالْيَمَامَةِ طَبِيب يُقَال لَهُ: سَالم فَصَارَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَهله فَجعل يسْقِيه الدَّوَاء فَلَا يَنْفَعهُ فَخَرجُوا بِهِ إِلَى طَبِيب بِحجر فَلم ينْتَفع بعلاجه فَقَالَ:

(جعلت لعرّاف الْيَمَامَة حكمه

وعرّاف حجر إِن هم شفياني)

(فَمَا تركا من حِيلَة يعلمانها

وَلَا سلوة إِلَّا بهَا سقياني)

(فَقَالَا: شفاك الله وَالله مَا لنا

بِمَا حمّلت مِنْك الضلوع يدان)

قَالَ النُّعْمَان بن بشير: بَعَثَنِي مُعَاوِيَة مصدّقاً على بني عذرة فصدّقتهم ثمَّ أَقبلت رَاجعا فَإِذا أَنا بِبَيْت مُفْرد لَيْسَ قربه أحد وَإِذا رجل بفنائه لم يبْق مِنْهُ إِلَّا عظم وَجلد فَلَمَّا سمع وجسي ترنّم بقوله:

(وعينان: مَا أوفيت نشزاً فتنظرا

بمأقيهما إِلَّا هما تكفان)

(كَأَن قطاة علّقت بجناحها

على كَبِدِي من شدَّة الخفقان)

قَالَ: وَإِذا أخواته حوله أَمْثَال الدمى فَنظر فِي وجوههن ثمَّ قَالَ:

(من كَانَ من أخواتي باكياً أبدا

فاليوم إِنِّي أَرَانِي الْيَوْم مَقْبُوضا

ص: 216

)

قَالَ: فبرزن وَالله يضربن وجوههن وينتفن شعورهن. فَلم أَبْرَح حَتَّى قضى. فهيّات من أمره ودفنته. كَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء.

زحكى هذهالرواية رَاوِي شعره عَن عُرْوَة بن الزبير ثمَّ قَالَ: ومرّ ركب بوادي الْقرى فسألوا عَن الميّت فَقيل: عُرْوَة بن حزَام وَكَانُوا يردون البلقاء فَقَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله لنأتين)

عفراء بِمَا يسوءها. فَسَارُوا حَتَّى مروا بمنزلها وَكَانَ

ليللاً فصاح صائح مِنْهُم وَهِي تسمع فَقَالَ:

(أَلا أَيهَا الْبَيْت المغفّل أَهله

إِلَيْكُم نعينا عُرْوَة بن حزَام)

ففهمت عفراء الصَّوْت وَنَادَتْ بهم:

(أَلا أَيهَا الركب المخبّون وَيحكم

أحقاً نعيتم عُرْوَة بن حزَام)

فَقَالَ بَعضهم:

(نعم قد دفنّاه بِأَرْض نطيّة

مُقيما بهَا فِي سبسب وإكام)

فأجابته وَقَالَت:

(فَإِن كَانَ حَقًا مَا تَقولُونَ فاعلموا

بِأَن قد نعيتم بدر كل تَمام)

(نعيتم فَتى يسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ

إِذا هِيَ أمست غير ذَات غمام)

ص: 217

.

(وبتن الحبالى لَا يرجين غَائِبا

وَلَا فرحات بعده بِغُلَام)

ثمَّ أَقبلت على زَوجهَا فَقَالَت لَهُ: إِنَّه قد بَلغنِي من أَمر ذَلِك الرجل مَا قد بلغك وَالله مَا كَانَ إِلَّا على الْحسن الْجَمِيل وَقد بَلغنِي أَنه مَاتَ فَإِن رَأَيْت أَن تَأذن لي فَأخْرج إِلَى قَبره فَأذن لَهَا فَخرجت فِي نسْوَة من قومه تندبه وتبكي عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَت.

قَالَ: وَبَلغنِي أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قَالَ: لَو علمت بهما لجمعت بَينهمَا.

تَنْبِيه: نسب المبرّد فِي الْكَامِل بَيت الشَّاهِد إِلَى قيس بن ذريح وَذكر مَا قبله كَذَا:

(حَلَفت لَهَا بالمشعرين وزمزم

وَذُو الْعَرْش فَوق المقسمين رَقِيب)

لَئِن كَانَ برد المَاء حرّان صادياً وَنسبه العينيّ إِلَى كثيّر عزّة وَقَالَ: هُوَ من قصيدة أوّلها:

(أَبى الْقلب إِلَّا أم عَمْرو وبغّضت

إليّ نسَاء مَا لَهُنَّ ذنُوب)

(حَلَفت لَهَا بالمأزمين وزمزم

وَللَّه فَوق الحالفين رَقِيب)

لَئِن كَانَ برد المَاء حرّان صادياً وَالصَّحِيح مَا قدمْنَاهُ. والبيتان من شعر غَيره دخيل. وَالله أعلم.

ص: 218

الشَّاهِد السَّابِع وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة

(إِذا الْمَرْء أعيته الْمُرُوءَة ناشئاً

فمطلبها كهلاً عَلَيْهِ شَدِيد)

لما تقدم قبله.

قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: كهلاً حَال من الْهَاء فِي عَلَيْهِ تَقْدِيره: فمطلبها عَلَيْهِ كهلاً شَدِيد. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فهلاّ جعلت كهلاً حَالا من الضَّمِير فِي الْمطلب قيل: الْمصدر الْخَبَر لَا يضمر يه الْفَاعِل بل يحذف مَعَه حذفا. انْتهى.

وهذاالبيت أحد أَبْيَات أَرْبَعَة مَذْكُورَة فِي الحماسة وَهِي:

(مَتى مَا يرى النَّاس الغنيّ وجاره

فَقير يَقُولُوا: عَاجز وجليد)

(وَلَيْسَ الْغنى والفقر من حِيلَة الْفَتى

وَلَكِن أحاظ قسّمت وجدود)

إِذا الْمَرْء أعيته الْمُرُوءَة ناشئاً

(وكائن رَأينَا من غنيّ مذمّم

وصعلوك قوم مَاتَ وَهُوَ حميد)

جملَة وجاره فَقير: من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر حَال من الغنيّ. ويقولوا جَوَاب الشَّرْط. وَقَوله: عَاجز وجليد خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَانِ عَاجز وجليد وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. والجليد: من الجلادة وَهِي الصلابة أَرَادَ الْقُوَّة على السَّعْي وَتَحْصِيل المَال. وَقَوله: وَلَكِن أحاظ قَالَ الأعلم: جمع حَظّ على غير قِيَاس وَيُقَال: هُوَ جمع أحظ وأحظ جمع حَظّ وَأَصله أحظظ فأبدل من إِحْدَى الظاءين يَاء كَرَاهَة التَّضْعِيف. وَيجوز عِنْدِي أَن يكون أحظ جمع حظوة وَهِي بِمَعْنى الْحَظ وفعلها حظيت أحظى فَلَا شذوذ. انْتهى.

والحظّ: النَّصِيب. والجدود: جمع جدّ بِفَتْح الْجِيم وَهُوَ البخت. أَي: أَن الْغنى والفقر مِمَّا قدره الله فَهِيَ حظوظ وجدود خلقُوا لَهَا على مَا علم الله من مصَالح عباده.

وَقَوله: أعيته أَي: أتعبته متعدي عيي بِالْأَمر إِذا عجز عَنهُ

ص: 219

من بَاب تَعب. والمروءة: آدَاب نفسانية تحمل مراعاتها الْإِنْسَان على الْوُقُوف عِنْد محَاسِن الْأَخْلَاق وَجَمِيل الْعَادَات. يُقَال: مرؤ الْإِنْسَان فَهُوَ مريء مثل قرب فَهُوَ قريب أَي: ذُو مُرُوءَة.

قَالَ الْجَوْهَرِي: وَقد تشدّد فَيُقَال مروّة. وَرُوِيَ: أعيته السِّيَادَة. وناشئاً مَهْمُوز اللَّام فِي الصِّحَاح: النَّاشِئ: الْحَدث الَّذِي جَاوز حدّ الصغر وَالْجَارِيَة نَاشِئ أَيْضا. وَهُوَ حَال من مفعول اعيته. وَالْمطلب: مصدر بِمَعْنى الطّلب. والكهل: الرجل الَّذِي جَاوز الثَّلَاثِينَ ورخطه الشيب)

وَقيل: من بلغ الْأَرْبَعين وَالْمَرْأَة كهلة.

وكائن بِمَعْنى كم للتكثير ومذمّم أَي: غير مَحْمُود كثيرا وَالتَّشْدِيد

للْمُبَالَغَة من الذمّ وَهُوَ خلاف الْمَدْح. والصعلوك بِالضَّمِّ: الْفَقِير أَي: كم من غَنِي ساعدته الدُّنْيَا ثمَّ أصبح مذموماً لبخله وَهَذِه الأبيات لرجل من بني قريع بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ قريع بن عَوْف بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم كَذَا فِي حماسة أبي تَمام وحماسة الأعلم. وعيّنه ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة فَقَالَ: هُوَ المعلوط بن بدل القريعيّ.

وَفِي حَاشِيَة صِحَاح الْجَوْهَرِي فِي مَادَّة حَظّ هِيَ للمعلوط السعديّ وتروى لسويد بن خذّاق العبديّ وَكَذَا قَالَ ابْن بري فِي أَمَالِيهِ على الصِّحَاح وَالله أعلم.

ص: 220

والمعلوط اسْم مفعول من علطه بِسَهْم علطاً: إِذا أَصَابَهُ بِهِ. وَهُوَ بِالْعينِ والطاء الْمُهْمَلَتَيْنِ.

ثمَّ رَأَيْت فِي كتاب الْعباب فِي شرح أَبْيَات الْآدَاب تأليف حسن بن صَالح العدويّ اليمنيّ قَالَ: الْبَيْت الشَّاهِد لمخبّل السعديّ من أَبْيَات مَشْهُورَة متداولة فِي أَفْوَاه النَّاس أَولهَا:

(أَلا يَا لقومي للرسوم تبيد

وعهدك مِمَّن حبلهنّ جَدِيد)

(وللدار بعد الحيّ يبكيك رسمها

وَمَا الدَّار إِلَّا دمنة وصعيد)

(لقد زَاد نَفسِي بِابْن ورد كَرَامَة

عليّ رجال فِي الرِّجَال عبيد)

(يسوقون أَمْوَالًا وَمَا سعدوا بهَا

وهم عِنْد مثناة الْقيام قعُود)

(ولاسوّد المَال اللَّئِيم وَلَا دنا

لذاك ولكنّ الْكَرِيم يسود)

(وكائن رَأينَا من غنيّ مذمّم

وصعلوك قوم مَاتَ وَهُوَ حميد)

(وَمَا يكْسب المَال الْفَتى بجلاده

لَدَيْهِ وَلَكِن خائب وَسَعِيد)

إِذا الْمَرْء أعيته الْمُرُوءَة ناشئاً وترجمة المخبّل السَّعْدِيّ تَأتي فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الأربعمائة.

وَأنْشد بعده:

(فَمَا بالنا أمس أَسد العرين

وَمَا بالنا الْيَوْم اء النجف)

ص: 221

. وَتقدم شَرحه قَرِيبا.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة

(بَدَت قمراً ومالت خوط بَان

وفاحت عنبراً ورنت غزالا)

على أَن قمراً وَمَا بعده من المنصوبات أحوالاً مؤولةً بالمشتق أَي: بَدَت مضيئة كَالْقَمَرِ ومالت متثنية كخوط بَان وفاحت: طيبَة النشر كالعنبر ورنت: مليحة المنظر كالغزال.

قَالَ الواحدي: هَذِه أَسمَاء وضعت مَوضِع الْحَال. وَالْمعْنَى: بَدَت مشبهة قمراً فِي حسنها ومالت مشبهة غُصْن بَان فِي تثنّيها وفاحت مشبهة عنبراً فِي طيب رائحتها ورنت مشبهة غزالاً فِي سَواد مقلتها. وَهَذَا يُسمى التدبيج فِي الشّعْر وَمثله:

(سفرن بدوراً وانتقبن أهلّة

ومسن غصوناً والتفتن جآذرا)

انْتهى. فَقَوله: بَدَت يُقَال: بدا يَبْدُو وبدوّاً. أَي: ظهر ظهوراً بيّناً. والخوط بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: الْغُصْن الناعم لسنة. وَقيل: كلّ قضيب.

ص: 222

وفاحت. من فاح الْمسك فوحاً وفيحاً: انتشرت رَائِحَته خَاص فِي الطّيب. ورنا: من الرنوّ كدنو وَهُوَ إدامة النّظر بِسُكُون الطّرف كالرنا وَلَهو مَعَ شغل قلب وبصر وَغَلَبَة هوى والرّنا: مَا يرنى إِلَيْهِ لحسنه. كَذَا فِي الْقَامُوس. وَضمير بَدَت رَاجع إِلَى حبيبته فِي قَوْله قبل هَذَا:

(بجسمي من برته فَلَو أصارت

وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا)

أَي: أفدي بجسمي الحبيبة الَّتِي نحلته وبرته حَتَّى لَو جعلت قلادتي ثقب درّة لجال جسمي فِيهِ لدقّته.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة لأبي الطّيب المتنبي مدح بهَا بدر بن عمار بن إِسْمَاعِيل الْأَسدي.

وترجمة المتنبي تقدّمت فِي الْبَيْت الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ بعد الْمِائَة على أنّ الدأب يعبر بِهِ عَن كل حدث لَازم: كالحسن وَالْجمال. أَو غير لَازم: كالضرب وَالْقَتْل وَلِهَذَا يتَعَلَّق بِهِ الْجَار وَالْمَجْرُور والظرف وَالْحَال. فَقَوله: كدأبك بِمَعْنى كتمتعك. فكنّى وَلم يصرّح.

أَقُول: جعل الدأب هُنَا كِنَايَة عَن التَّمَتُّع لَا وَجه لَهُ كَمَا يعلم قَرِيبا.

ص: 223

وَهَذَا الْبَيْت من معلّقة امْرِئ الْقَيْس الْمَشْهُورَة ومطلعها:

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بَين الدُّخُول فحومل)

(فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل)

(وقوفاً بهَا صحبي عليّ مطيّهم

يَقُولُونَ: لَا تهْلك أسىً وتحمّل)

(وَإِن شفائي عِبْرَة مهراقة

فَهَل عِنْد رسم دارس من معوّل)

(كدأبك من أم الْحُوَيْرِث قبلهَا

وجارتها أمالرباب بمأسل)

والبيتان الْأَوَّلَانِ يَأْتِي شرحهما إِن شَاءَ الله عز وجل ّ فِي أَوَاخِر الْكتاب فِي الْفَاء العاطفة.

وقوفاً بهَا صحبي الخ مُتَعَلق بقوله: قفا نبك فَكَأَنَّهُ قَالَ: قفا وقُوف صحبي بهَا على مطيّهم أَو قفا حَال وقُوف صحبي. وَقَوله: بهَا: مُتَأَخّر فِي الْمَعْنى يُرِيد: قفا نبك فِي حَال وقف أَصْحَابِي مطيّهم عليّ.

وَقَوله: وَإِن شفائي عِبْرَة الخ الْعبْرَة: الدمعة. والمهراقة: المصبوبة وَأَصلهَا مراقة من الإراقة وَالْهَاء زَائِدَة. ومعوّل: مَوضِع عويل أَي بكاءن اَوْ بِمَعْنى مَوضِع ينَال فِيهِ حَاجَة: يُقَال: عوّلت على فلَان أَي: اعتمدت عَلَيْهِ.

قَالَ الباقلاّني فِي معجز الْقُرْآن عِنْد الْكَلَام على معايب هَذِه القصيدة: هَذَا الْبَيْت مختلّ من جِهَة انه جعل الدمع فِي اعْتِقَاده شافياً كَافِيا فَمَا حَاجته بعد ذَلِك إِلَى طلب حِيلَة أُخْرَى عِنْد الرسوم وَلَو أَرَادَ أَن يحسن

ص: 224

الْكَلَام لوَجَبَ أَن يدلّ على أَن الدمع لَا يشفيه لشدَّة مَا بِهِ من الْحزن ثمَّ يسائل هَل عِنْد الرّبع من حِيلَة أُخْرَى وَفِي هَذَا مَعَ قَوْله سَابِقًا لم يعف رسمها تنَاقض الكلامان وَلَيْسَ فِي هَذَا اقْتِصَار لِأَن معنى عَفا ودرس وَاحِد فَإِذا قَالَ: لم يعف رسمها ثمَّ قَالَ: قد عَفا فَهُوَ تنَاقض لَا محَالة. واعتذار أبي عُبَيْدَة أقرب لَو صحّ وَلَكِن لم يرد هَذَا القَوْل مورد الِاسْتِدْرَاك على مَا قَالَه زُهَيْر فَهُوَ إِلَى الْخلَل أقرب. انْتهى.)

وَقَوله: كدأبك من أمّ الخ قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس فِي شَرحه وَتَبعهُ الْخَطِيب التبريزي: الْكَاف تتَعَلَّق بقوله: قفا نبك كَأَنَّهُ قَالَ: قفا نبك كدأبك فِي الْبكاء فَهِيَ فِي مَوضِع مصدر. وَالْمعْنَى بكاء مثل عادتك. وَيجوز أَن تتَعَلَّق بقوله: وَإِن شفائي عِبْرَة وَالتَّقْدِير: كعادتك فِي أَن تشفى من أمّ الْحُوَيْرِث.

وَالْبَاء فِي قَوْله: بمأسل مُتَعَلقَة بدأبك كَأَنَّهُ قَالَ: كعادتك بمأسل. وَهُوَ جبل. وَزَاد الْخَطِيب: وَأم الْحُوَيْرِث هِيَ هرّ أم الْحَارِث بن حُصَيْن بن ضَمْضَم الكلبيّ وَأم الربَاب من كلب أَيْضا. يَقُول: لقِيت

ص: 225

من وقوفك على هَذِه الديار وتذكرك أَهلهَا كَمَا لقِيت من أم الْحُوَيْرِث وجارتها. وَقيل: الْمَعْنى: كَأَنَّك أَصَابَك من التَّعَب وَالنّصب من هَذِه الْمَرْأَة كَمَا أَصَابَك من هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ انْتهى.

وَقَالَ أَبُو عبيد البكريّ فِي شرح أمالي القالي: أم الْحُوَيْرِث الَّتِي كَانَ يشبب بهَا فِي أشعاره هِيَ أُخْت الْحَارِث حُصَيْن بن ضَمْضَم من كلب وَهِي امْرَأَة حجر أبي امْرِئ الْقَيْس فَلذَلِك كَانَ أَبوهُ طرده ونفاه وهمّ بقتْله انْتهى. وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.

وَقَالَ الزوزني: يَقُول عادتك فِي حب هَذِه كعادتك فِي تينك أَي: قلَّة حظك من وصال هَذِه كمعاناتك الوجد بهما. وَقَوله: قبلهَا أَي: قبل هَذِه الَّتِي شغفت بهَا الْآن. والدأب: الْعَادة وأصلهما مُتَابعَة الْعَمَل والجدّ فِي السَّعْي انْتهى كَلَامه.

فَجعل الزوزني قَوْله: كدأبك خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. وَهَذَا أقرب من الْأَوَّلين. فَعلم مِمَّا ذكرنَا أَن الدأب كِنَايَة إِمَّا عَن الْبكاء وَإِمَّا عَن المعاناة وَالْمَشَقَّة. والتمتع لَا مساس لَهُ هَا هُنَا فَتَأمل.

وترجمة امْرِئ الْقَيْس تقدّمت فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ.

وانشد بعده وَهُوَ

ص: 226

(وَلَقَد نزلتفلا تظني غَيره مني بِمَنْزِلَة الْمُحب المكرم)

على أَن مَعْنَاهُ نزلت قريبَة مني قرب الْمُحب المكرم. وَإِنَّمَا عدّي بِمن لكَون معنى بِمَنْزِلَة فلَان: قَرِيبا قربه أَو بَعيدا بعده.

وَهَذَا الْبَيْت من معلّقة عنترة العبسيّ. قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس فِي شَرحه وَتَبعهُ الْخَطِيب التبريزي الْبَاء فِي قَوْله: بِمَنْزِلَة مُتَعَلقَة بمصدر مَحْذُوف لِأَنَّهُ لما قَالَ: نزلت دلّ على النُّزُول.

وَقَوله: بِمَنْزِلَة فِي مَوضِع نصب أَي: وَلَقَد نزلت مني منزلَة مثل منزلَة الْمُحب. وَقَالَ الزوزني: يَقُول: وَلَقَد نزلت من قلبِي منزلَة من يحب وَيكرم.)

وَالتَّاء فِي نزلت مَكْسُورَة لِأَنَّهُ خطاب مَعَ مجبوبته عبلة الْمَذْكُورَة فِي بَيت قبل هَذَا. وَقَوله: فَلَا تظني غَيره مفعول ظن الثَّانِي مَحْذُوف اختصاراً لَا اقتصاراً أَي: فَلَا تظني غَيره وَاقعا أَو حَقًا أَي: غير نزولك مني منزلَة الْمُحب.

وَبِه اسْتشْهد شرّاح الألفية وَغَيرهم بِهَذَا الْبَيْت. والمحبّ: اسْم مفعول جَاءَ على أحبّ وأحببت وَهُوَ على الأَصْل وَالْكثير فِي كَلَام الْعَرَب مَحْبُوب.

قَالَ الْكسَائي: مَحْبُوب من حببت وَكَأَنَّهَا لُغَة قد مَاتَت. أَي: تركت. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: تحبّ بِفَتْح التَّاء وَلَا أعرفهُ فِي غير التَّاء وَلَا أعرف حببت. وَحكى أَبُو زيد أَنه يُقَال: حببت أحبّ وَأَنت تحب وَنحن نحب. والمكرم: اسْم مفعول أَيْضا وَالْوَاو

ص: 227

فِي وَلَقَد عاطفة. وَجُمْلَة لقد نزلت الخ جَوَاب اسْم مفعول أَيْضا وَالْوَاو فِي وَلَقَد عاطفة. وَجُمْلَة لقد نزلت الخ جَوَاب قسم مَحْذُوف أَي: وَوَاللَّه لقد نزلت كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلَقَد صدقكُم الله وعده.

وَقَوله: فَلَا تظني غَيره جملَة مُعْتَرضَة بَين الْمَجْرُور ومتعلّقه فَإِن مني متعلّق بنزلت. وَلَقَد خبط هُنَا خبطاً فَاحِشا شَارِح شَوَاهِد الألفية فِي قَوْله: الْوَاو للقسم وَجَوَاب الْقسم قَوْله: فَلَا تظني غَيره ثمَّ قَالَ: قَوْله فَلَا تظني نهي معترض بَين الجارّ وَالْمَجْرُور ومتعلّقه وَالْبَاء فِي بِمَنْزِلَة بِمَعْنى فِي أَي: نزلت مني فِي منزلَة الشَّيْء المحبوب المكرم. هَذَا كَلَامه وَلَا يَقع فِي مثله أصاغر الطّلبَة.

وترجمة عنترة تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّانِي عشر من اوائل الْكتاب وَأنْشد بعد وَهُوَ

الشَّاهِد الْوَاحِد بعد الْمِائَتَيْنِ خرجت مَعَ البازيّ عليّ سَواد هَذَا عجز وصدره: إِذا أنكرتني بَلْدَة أَو نكرتها

على أَن الْجُمْلَة الاسمية الحالية إِذا لم يكن مبتدؤها ضمير صَاحب الْحَال فَإِن كَانَ الضَّمِير فِيمَا صدّر بِهِ الْجُمْلَة فَلَا يحكم بضعفه مجرّداً عَن الْوَاو كجملة عليّ سَواد فَإِنَّهَا جال من التَّاء فِي خرجت.

فِي الْمِصْبَاح: أنكرته إنكاراً: خلاف عَرفته ونكرته مثل تعبت كَذَلِك غير أَنه لَا يتَصَرَّف. أَي: إِذا لم يعرف قدري أهل بَلْدَة

ص: 228

أَو لم أعرفهم خرجت مِنْهُم مبتكراً مصاحباً للبازي الَّذِي هُوَ أبكر الطُّيُور فِي حَال اشتمالي على شَيْء من سَواد اللَّيْل. والبازيّ على وزن القَاضِي فِي الأَصْل: صفة من بزا يبزو: إِذا غلب. ويعرب إِعْرَاب المنقوص. وَالْجمع بزاة.

وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات لبشار بن برد مدح بهَا خَالِدا الْبَرْمَكِي وَكَانَ قد وَفد عَلَيْهِ وَهُوَ بِفَارِس فأنشده:

(أخالد لم أهبط إِلَيْك بذمّة

سوى أنني عاف وَأَنت جواد)

(أخالد إِن الْأجر وَالْحَمْد حَاجَتي

فَأَيّهمَا تَأتي فَأَنت عماد)

(فَإِن تعطني أفرغ عَلَيْك مدائحي

وَإِن تأب لم تضرب عليّ سداد)

(ركابي على حرف وقلبي مشيّع

وَمَا لي بِأَرْض الباخلين بِلَاد)

(إِذا أنكرتني بَلْدَة أَو نكرتها

خرجت مَعَ البازيّ عليّ سَواد)

يُقَال: هَبَط من مَوضِع إِلَى مَوضِع: إِذا انْتقل إِلَيْهِ والهبوط الحدور كرسول فيهمَا. والذمّة هُنَا الْعَهْد وَالْحُرْمَة. والعافيّ: من عفوته: إِذا أَتَيْته طَالبا لمعروفه وَجمعه العفاة وهم طلاب الْمَعْرُوف. وَهَذَا مثل قَول دعبل لما وَقد على عبد الله بن طَاهِر:

(جئْتُك مستشفعاً بِلَا سَبَب

إِلَيْك إِلَّا لحُرْمَة الْأَدَب)

(فَاقْض ذمامي فإنني رجل

غير ملحّ عَلَيْك فِي الطّلب)

فَبعث إِلَيْهِ عبد الله بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وبهذين الْبَيْتَيْنِ:

ص: 229

(أعجلتنا فأتاك عَاجل برّنا

وَلَو انتظرت كَثِيره لم نقلل))

(فَخذ الْقَلِيل وَكن كَأَنَّك لم تسل

ونكون نَحن كأننا لم نَفْعل)

وَقد تداول هذَيْن الْبَيْتَيْنِ كثير من الكرماء فيظن النَّاس أَنَّهُمَا لمن تداولهما.

والحرف: النَّاقة القويّة. والمشيع على وزن الْمَفْعُول: الشجاع كَأَن لَهُ شيعَة أَي: أتباعاً وأنصاراً.

روى الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني أَن بشاراً لما أنْشد هَذِه الأبيات دَعَا خَالِد بأَرْبعَة أكياس فَوضع وَاحِدًا عَن يَمِينه وَآخر عَن شِمَاله وَآخر بَين يَدَيْهِ وَآخر من وَرَائه وَقَالَ: يَا أَبَا معَاذ هَل اسْتَقل الْعِمَاد فلمس الأكياس ثمَّ قَالَ: اسْتَقل وَالله أَيهَا الْأَمِير وبشار بن برد أَصله من طخارستان من سبي المهلّب بن أبي صفرَة وَهِي نَاحيَة كَبِيرَة مُشْتَمِلَة على بلدان على نهر جيحون مِمَّا وَرَاء النَّهر وكنيته أَبُو معَاذ ولقبه المرعّث وَهُوَ الَّذِي فِي أُذُنه رعاث وَجمع رعثة وَهِي القرطة لقّب بِهِ لِأَنَّهَا كَانَت فِي صغره معلّقة فِي أُذُنه.

وَهُوَ عقيليّ بِالْوَلَاءِ نِسْبَة إِلَى عقيل بن كَعْب بِالتَّصْغِيرِ وَهِي قَبيلَة. وَقيل: إِنَّه ولد على الرقّ أَيْضا وأعتقته امْرَأَة عقيليّة. وَولد أكمه جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أَحْمَر. وَكَانَ ضخماً عَظِيم الْخلق وَالْوَجْه مجدّراً. وَهُوَ فِي أول مرتبَة المحدّثين من الشُّعَرَاء المجيدين. وَقد نَشأ بِالْبَصْرَةِ ثمَّ قدم بَغْدَاد ومدح المهديّ بن الْمَنْصُور العباسيّ وَرمي عِنْده بالزندقة: رُوِيَ

ص: 230

أَنه كَانَ يفضل النَّار على الأَرْض ويصوّب رَأْي إِبْلِيس فِي امْتِنَاعه من السُّجُود لآدَم عليه السلام وَنسب إِلَيْهِ قَوْله:

(الأَرْض مظْلمَة وَالنَّار مشرقة

وَالنَّار معبودة مذ كَانَت النَّار)

فَأمر الْمهْدي بضربه فَضرب سبعين سَوْطًا فَمَاتَ من ذَلِك وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة وَقد نيّف على تسعين سنة. وَمن شعره:

(ياقوم أُذُنِي لبَعض الحيّ عاشقة

وَالْأُذن تعشق قبل الْعين أَحْيَانًا)

(قَالُوا: بِمن لَا ترى تهذي فَقلت لَهُم:

الْأذن كَالْعَيْنِ توفّي الْقلب مَا كَانَا)

وَمن هجائه للمهديّ قَوْله:

(أبدلنا الله بِهِ غَيره

ودسّ مُوسَى فِي حر الخيزران)

وَبَينه وَبَين حَمَّاد عجرد أهاج فَاحِشَة وَمن هجوه فِيهِ:

(نعم الْفَتى لَو كَانَ يعبد ربه

وَيُقِيم وَقت صلَاته حمّاد))

(وابيضّ من شرب المدامة وَجهه

وبياضه يَوْم الْحساب سَواد)

وَقتل حَمَّاد عجرد على الزندقة أَيْضا فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة. وَدفن بشار على حمّاد عجرد فِي قبر وَاحِد فَكتب أَبُو هِشَام الباهليّ على قبرهما:

ص: 231

(قد تبع الْأَعْمَى قفا عجرد

فأصبحا جارين فِي دَار)

(صَارا جَمِيعًا فِي يَدي مَالك

فِي النَّار وَالْكَافِر فِي النَّار)

(قَالَت جَمِيع الأَرْض لَا مرْحَبًا

بِقرب حمّاد وبشار)

وترجمته فِي الأغاني طَوِيلَة.

وَأما خَالِد فَهُوَ خَالِد بن برمك الْبَرْمَكِي. وَكَانَ برمك من مجوس بَلخ وَكَانَ يخْدم النوبهار وَهُوَ معبد للمجوس بِمَدِينَة بلختوقد فِيهِ النيرَان. وَكَانَ برمك عَظِيم الْمِقْدَار وساد ابْنه خَالِد ووزر لأبي الْعَبَّاس عبد الله السفاح العباسيّ. وَهُوَ أول من وزر من آل برمك. وَلم يزر وزيراً إِلَى أَن توفّي السفاح ثمَّ وزر لِأَخِيهِ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور إِلَى أَن توفّي فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة.

وَيحيى الْبَرْمَكِي هُوَ أَبُو جَعْفَر وَالْفضل قَالَ المَسْعُودِيّ: لم يبلغ مبلغ خَالِد بن برمك أحد من وَلَده: فِي جوده ورأيه ورياسته وَعلمه وَجَمِيع خلاله لَا يحيي فِي رَأْيه ووفور عقله وَلَا الْفضل بن يحيى فِي جوده ونزاهته وَلَا جَعْفَر بن يحيى فِي كِتَابَته وفصاحة لِسَانه وَلَا مُحَمَّد ابْن يحيى فِي سروه وَبعد همّته وَلَا مُوسَى بن يحيى فِي شجاعته ورياسته.

ص: 232

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الثَّانِي بعد الْمِائَتَيْنِ نصف النَّهَار المَاء غامره هَذَا صدر وعجزه: ورفيقه بِالْغَيْبِ مَا يدْرِي

على أَن ضمير صَاحب الْحَال إِذا كَانَ فِي آخر الْجُمْلَة الحالية فَلَا شكّ فِي ضعفه وقلّته: فَإِن المَاء مُبْتَدأ وغامره خبرهن وَالْجُمْلَة حالمن ضمير نصف الْعَائِد إِلَى الغائص وَالضَّمِير الَّذِي ربط جملَة الْحَال بصاحبها فِي آخرهَا. وَهَذَا على رِوَايَة نصب النَّهَار على أَنه مفعول بِهِ قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: نصفت الشَّيْء نصفا من بَاب قتل: بلغت نصفه وَأما على رِوَايَة رَفعه فالجملة حَال مِنْهُ وَلَا رابط فتقدّر الْوَاو. وَعَلَيْهَا كَلَام صَاحب الْمُغنِي قَالَ: وَقد تَخْلُو الْجُمْلَة الحالية من الْوَاو وَالضَّمِير فيقدّر الضَّمِير فِي نَحْو: مَرَرْت بالبرّ قفيز بدرهم أَو الْوَاو كَقَوْلِه يصف غائصاً لطلب اللُّؤْلُؤ انتصف النَّهَار وَهُوَ غائص وَصَاحبه لَا يدْرِي مَا حَاله: نصف النَّهَار المَاء غامره فَنصف على هَذَا أَيْضا من بَاب قتل قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: إِن بلغ الشَّيْء نصف نَفسه فَفِيهِ لُغَات: نصف ينصف من بَاب قتل يقتل وأنصف بِالْألف وتنصّف وانتصف النَّهَار: بلغت الشَّمْس وسط السَّمَاء وَهُوَ وَقت الزَّوَال.

ص: 233

وَقد أثبت هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف وَالسَّيِّد الجرجانيّ فِي شرح الْمِفْتَاح.

أما العسكري فه اكَلَامه: قَالَ الرياشي: الَّذِي يروي نصف النَّهَار بِالرَّفْع يُرِيد معنى الْوَاو أَي: انتصف النَّهَار وَالْمَاء غامره وَهُوَ تَحت المَاء يَعْنِي الغوّاص وشريكه بِالْغَيْبِ أَي: بِحَيْثُ يغيب عَنهُ وَلَا يدْرِي مَا حَاله وَإِنَّمَا يغوص بِحَبل مَعَه طرفه وطرفه الآخر مَعَ صَاحبه. قَالَ الرياشيّ: الْحَال إِذا لم يرجع إِلَى الأول مِنْهَا شَيْء فَهُوَ قَبِيح فِي الْعَرَبيَّة. قَالَ: وَإِذا صيّرته ظرفا فَهُوَ جيد فِي الْعَرَبيَّة. وَقَالَ المازنيّ: الْجيد نصب النَّهَار على الظّرْف انْتهى.

وَكَون النصب على الظّرْف تجوّز فِي الْكَلَام وَالصَّوَاب على المفعولية.

وَأما السَّيِّد فقد قَالَ: النَّهَار مَنْصُوب من نصفت الشَّيْء: بلغت نصفه. وَالْمرَاد طول مكثه تَحت المَاء. وَفِي الصِّحَاح بِرَفْع النَّهَار من نصف الشَّيْء: بِمَعْنى انتصف. فالجملة الحالية حِينَئِذٍ خَالِيَة عَن الضَّمِير أَيْضا فَاحْتَاجَ إِلَى أَن قدّر الْوَاو محذوفة أَي: وَالْمَاء غامره أَي: ساتره)

انْتهى.

فَعلم من هَذَا أَن من قَالَ بِوُجُود الضَّمِير فِي هَذِه الْجُمْلَة جعل صَاحب الْحَال ضمير الغواص الْمُسْتَتر فِي نصف الناصب النَّهَار. وان من قَالَ بِعَدَمِ الضَّمِير جعل الْجُمْلَة حَالا من النَّهَار الْمَرْفُوع بِنصْف وقدّر الْوَاو للربط وَأما الضَّمِير الْمَوْجُود فَغير رابط لِأَنَّهُ لَيْسَ عَائِدًا على صَاحب الْحَال وَهُوَ النَّهَار بل هُوَ عَائِد على الغوّاص.

وَالْعجب من كَلَام ابْن الشجريّ فِي أَمَالِيهِ فَإِنَّهُ جعل الْجُمْلَة حَالا من النَّهَار الْمَرْفُوع وَقَالَ: الرابط الضَّمِير وه الَا يَصح فَإِن الضَّمِير لَيْسَ للنهار.

ص: 234

وَهَذِه عِبَارَته: وَلَو حذفت الضَّمِير من جملَة الْحَال الْمُبْتَدَأ بِهِ واكتفيت بِالْوَاو جَازَ نَحْو: جَاءَ زيد وَعَمْرو حَاضر. وَلَو حذفت الْوَاو اكْتِفَاء بالضمير فَقلت: خرج أَخُوك يَده على وَجهه جَازَ كَقَوْلِه: نصف النَّهَار المَاء غامره وأعجب مِنْهُ قَول ابْن السَّيِّد فِي شرح شَوَاهِد أدب الْكَاتِب فِي جعله الْجُمْلَة حَالا وَصَاحب الْحَال غير مَذْكُور فِي هَذَا الْبَيْت بل هُوَ فِي بَيت قبل هَذَا بِأَبْيَات. وَهَذَا كَلَامه: جملَة المَاء غامره حَال وَكَذَلِكَ الْجُمْلَة الَّتِي بعْدهَا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَالْمَاء غامره فَيَأْتِي بواو الْحَال وَلكنه اكْتفى بالضمير مِنْهَا. وَلَو لم يكن فِي الجملتين عَائِد إِلَى صَاحب الْحَال لم يجز حذف الْوَاو.

وَأما صَاحب هَاتين الْحَالين فَلَيْسَ بمذكور فِي الْبَيْت وَلكنه مَذْكُور فِي الْبَيْت الَّذِي قبله وَهُوَ:

(كجمانة البحريّ جَاءَ بهَا

غوّاصها من لجّة الْبَحْر. انْتهى)

وَأغْرب من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ صَنِيع ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة فَإِنَّهُ حكم على هَذِه الْجُمْلَة بِأَنَّهُ لَا رابط مَعهَا. ثمَّ نقض كَلَامه بِجعْل الضَّمِير رابطاً للْحَال بصاحبها الْمَحْذُوف. وَهَذَا مَا سطّره: إِذا وَقعت الْجُمْلَة الاسمية بعد وَاو الْحَال كنت فِي تضمينها ضمير صَاحب الْحَال وَترك تضمينها إِيَّاه مُخَيّرا فَالْأول نَحْو جَاءَ زيد وَتَحْته فرس وَالثَّانِي جَاءَ زيد وَعَمْرو يقْرَأ. فَأَما إِذا لم يكن وَاو فَلَا بدّ من الضَّمِير نَحْو أقبل مُحَمَّد على رَأسه قلنسوة. وَإِذا فقدت جملَة الْحَال هَاتين الْحَالين انْقَطَعت مِمَّا قبلهَا وَلم يكن هُنَاكَ مَا يرْبط الآخر بِالْأولِ وعَلى هَذَا قَول الشَّاعِر: نصف النَّهَار المَاء غامره

ص: 235

يصف غائصاً غاص فِي المَاء من أول النَّهَار وَهَذِه حَاله. فالهاء من غامره ربطت الْجُمْلَة بِمَا قبلهَا حَتَّى جرت حَالا على مَا فِيهَا فكأنك قلت: انتصف النَّهَار على الغائص غامراً لَهُ اماء)

كَمَا انك إِذا قلت: جَاءَ زيد وَوَجهه حسن فكانك قلت: جَاءَ زيد حسنا وَجهه. هَذَا كَلَامه وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة للأعشى مَيْمُون مدح بهَا قيس بن معد يكرب الْكِنْدِيّ. وَقد أَجَاد فِي التغزل بمحبوبته فِي أَولهَا إِلَى أَن شبهها بِالدرةِ ثمَّ وصف تِلْكَ الدرة كَيفَ استخرجت من الْبَحْر فَقَالَ:

(كجمانة البحري جَاءَ بهَا

غوّاصها من لجّة الْبَحْر)

(صلب الْفُؤَاد رَئِيس أَرْبَعَة

متخالفي الألوان والنجر)

(فتنازعوا حَتَّى إِذا اجْتَمعُوا

ألقوا إِلَيْهِ مقالد الْأَمر)

(وعلت بهم سجحاء خادة

تهوي بهم فِي لجة الْبَحْر)

(حَتَّى إِذا مَا سَاءَ ظنهم

وَمضى بهم شهر إِلَى شهر)

(ألْقى مراسيه بتهلكة

ثبتَتْ مراسيها فَمَا تجْرِي)

(فانصب أَسْقُف رَأسه لبد

نزعت رباعيتاه للصبر)

(أشفى يمجّ الزَّيْت ملتمس

ظمآن ملتهب من الْفقر)

(قتلت أَبَاهُ فَقَالَ: أتبعه

أَو أستفيد رغيبة الدَّهْر)

(نصف النَّهَار المَاء غامره

وشريكه بِالْغَيْبِ مَا يدْرِي)

ص: 236

(فَأصَاب منيته فجَاء بهَا

صدفيّة كمضيئة الْجَمْر)

(وَترى الصواري يَسْجُدُونَ لَهَا

ويضمّها بيدَيْهِ للتجر)

(فلتلك شبه الْمَالِكِيَّة إِذْ

طلعت ببهجتها من الخدر)

الجمانة بِضَم الْجِيم: حَبَّة تعْمل من فضَّة كالدرة وَجَمعهَا جمان. أَي: هِيَ كجمانة البحريّ.

وصلب الْفُؤَاد بِالضَّمِّ أَي: قويّ الْفُؤَاد وشديده هُوَ صفة لغوذاص. وَرَئِيس أَرْبَعَة بِالنّصب حَال مِنْهُ وَقَوله: متخالفي الألوان: صفة أَرْبَعَة وَالْإِضَافَة لفظية. والنجر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم: الأَصْل. أَي: أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أصلهم مُخْتَلف وَكَذَلِكَ ألوانهم مُخْتَلفَة. والسجحاء بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة: الطَّوِيلَة الظّهْر وَأَرَادَ بهَا السَّفِينَة. والمراسي: جمع مرساة بِالْكَسْرِ وَهِي آلَة ترسى بهَا السَّفِينَة.

وَقَوله: فانصب أَسْقُف الخ. أَي: رمى بِنَفسِهِ فِي الْبَحْر وغاص لإِخْرَاج الدّرّ. والأسقف بِفَتْح الْألف وَالْقَاف من السّقف بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ طول فِي انحناء. ولبد بِكَسْر الْبَاء أَي: متلبد.)

وأشفى فعل مَاض يُقَال: أشفى على الشَّيْء: اي: أشرف عَلَيْهِ. ويمج: يقذف من فِيهِ كَمَا هُوَ عَادَة الغائص. وفاعلهما ضمير أَسْقُف. وملتمس وَمَا بعده من الوصفين نعوت لأسقف.

وَقَوله: قتلت أَبَاهُ الخ أَي: أنّ أَبَاهُ هلك فِي حبّ هَذِه الدرة أَو فِي تَحْصِيلهَا

فَقَالَ

ص: 237

هَذَا الغائص: أتبع أبي فِي الْهَلَاك أَو أستفيد مَالا كثيرا. والرغيبة: الْعَطاء الْكثير.

وَقَوله: نصف النَّهَار. . الخ رُوِيَ ورفيقه بدل وشريكه. ومنيته هِيَ مَا يتمناه. وصدفيّة: حَال من الضَّمِير الْمَجْرُور بِالْبَاء. وَيُعْطى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. ويمنعها أَي: وَيمْنَع الدرة من البيع.

وَقَوله: أَلا تشري: أَي: أَلا تبيعها. والصواري: جمع صَار وَهُوَ الملاّح والبحريّ. وَرُوِيَ الشواري بدله وَهُوَ جمع شار بِمَعْنى المُشْتَرِي. وسجودهم لَهَا لعزتها ونفاستها. والتجر: مصدر تجر تجراً وتجارة من بَاب نصر.

وَمن أَبْيَات المديح:

(أَنْت الرئيس إِذا هم نزلُوا

وتواجهوا كالأسد والنمر)

(أَو فَارس اليحموم يتبعهُم

كالطلق يتبع لَيْلَة البهر)

(ولأنت أَجود بالعطاء من الرّ

يّان لمّا ضنّ بالقطر)

(ولأنت أَحْيَا من مخبّأة

عذراء تقطن جَانب الْكسر)

(ولأنت أبين حِين تنطق من

لُقْمَان لمّا عيّ بِالْأَمر)

(لَو كنت من شَيْء سوى بشر

كنت المنوّر لَيْلَة الْبَدْر)

فَارس اليحموم هُوَ ملك الْعَرَب النعمانبن الْمُنْذر. واليحموم: اسْم فرسه.

ص: 238

والطلق بِالْفَتْح اللَّيْلَة الَّتِي لَا حرّ فِيهَا وَلَا برد. وَلَيْلَة البهر: لَيْلَة الْبَدْر حِين يبهر النُّجُوم أَي: يغلبها بنوره.

وَقيس بن معد يكرب الكنديّ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ الْأَشَج لِأَنَّهُ شجّ فِي بعَ أيامهم. وَله عدَّة أَوْلَاد أكبرهم حجيّة وَبِه كني زَمَانا ثمَّ كني بولده الْأَشْعَث واسْمه معد يكرب وسمّي الْأَشْعَث لِأَنَّهُ كَانَ أبدا أَشْعَث الرَّأْس وَقد أسام وَولده لَهُ النُّعْمَان بن الْأَشْعَث وَقد بشّر بِهِ وَهُوَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فَقَالَ: وَالله لجفنة من ثريد أطعمها قومِي أحبّ إِلَيّ مِنْهُ وَهلك صَغِيرا. وللأشعث عدَّة أَوْلَاد أَيْضا مِنْهُم قيس بن الْأَشْعَث وَأخذ قطيفة الْحُسَيْن رضي الله عنه يَوْم قتل فَكَانَ يُقَال لَهُ: قيس قطيفة.

ولقيس بن معد يكرب بنت اسْمهَا قتيلة تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ فَتوفي قبل أَن)

تصل إِلَيْهِ. وَابْنه سيف بن قيس وَفد على النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ فَأمره أَن يُؤذن لَهُم فَأذن حَتَّى مَاتَ. كَذَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ الكلبيّ.

وأعشى مَيْمُون صَاحب الشّعْر تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين وَقد نقلت شعره هَذَا من ديوانه. وَقد رَوَاهَا أَبُو عُبَيْدَة

ص: 239

وَابْن دُرَيْد وَغَيرهمَا. وَأما الْأَصْمَعِي فقد أثبتها للمسيب بن علس الجماعيّ وَهُوَ خَال الْأَعْشَى مَيْمُون الْمَذْكُور. . وَهُوَ أحد الشُّعَرَاء الثَّلَاثَة المقلي الَّذين فضلوا فِي الْجَاهِلِيَّة.

قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: كَانَ الْأَعْشَى راوية المسيّب بن علس وَالْمُسَيب خَاله وَكَانَ يطرد وَالْمُسَيب: اسْم فَاعل لقّب بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يرْعَى إبل أَبِيه فسيّبها فَقَالَ لَهُ

أَبوهُ: أَحَق أسمائك الْمسيب. فغلب عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي كتاب الِاشْتِقَاق: إِن اسْمه زُهَيْر وَإنَّهُ لقّب بالمسيب لقَوْله:

(فَإِن سركم ألاّ تؤوب لقاحكم

غزاراً فَقولُوا للمسّب يلْحق)

وَهُوَ جاهلي وَلم يدْرك الْإِسْلَام. وَنسبه فِي الجمهرة كَذَا: الْمسيب بن علس بن مَالك بن عمروبن قمامة بن زيد بن ثَعْلَبَة بن عديّ بن مَالك بن جشم بن بِلَال بن جمَاعَة بن جليّ بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعَة بن نزار بن مُضر وعلس بِفَتْح الْعين وَاللَّام مَنْقُول من اسْم القراد. وقمامة بِضَم الْقَاف وَجَمَاعَة بِضَم الْجِيم وروى ابْن السكّيت خماعة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة

ص: 240

المضمومة. وجليّ بِضَم الْجِيم وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة. وأحمس أفعل من الحماسة. وضبيعة بِالتَّصْغِيرِ.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الثَّالِث بعد الْمِائَتَيْنِ

(فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها فِي صرة لم تزيّل)

على أَن قَوْله: ودونه جواحرها جملَة حَالية لَا الظّرْف وَحده حَال وَالْمَرْفُوع بعده فَاعله خلافًا لمن زَعمه فِي نَحْو: جَاءَنِي عَلَيْهِ جُبَّة وشي لِأَنَّهُ لَو كَانَ من الْحَال المفردة لامتنعت الْوَاو فَإِنَّهَا لَا تكون مَعَ الْحَال المفردة فَلَمَّا ذكرت فِي بعض الْمَوَاضِع عرف أَن الْجُمْلَة حَال لَا الظّرْف وَحده. .

وَصَاحب الْحَال الْهَاء فِي قَوْله: فألحقه وَهِي ضمير الْمَفْعُول. وفاعل ألحقهُ ضمير مستتر رَاجع إِلَى الْغُلَام فِي بَيت قبله. وَالْهَاء ضمير الْكُمَيْت. أَي: فَألْحق الْغُلَام الْكُمَيْت بالهاديات وَيجوز الْعَكْس فَيكون فَاعل ألحق ضمير الْكُمَيْت وَالْهَاء ضمير الْغُلَام أَي:

فَألْحق الْغُلَام بالهاديات.

وَأَرَادَ بالهاديات أَوَائِل الْوَحْش ومتقدماتها يُقَال: أَقبلت هوادي الْخَيل: إِذا تقدّمت أوائلها جمع هادية وَالْهَادِي: أول كل شَيْء. وَضمير دونه يعود على مَا عَاد عَلَيْهِ الْهَاء. وجواحرها أَي: متأخراتها وَالْهَاء ضمير الهاديات وَهُوَ جمع جاحرة بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة يُقَال: جُحر فلَان أَي: تَأَخّر. وجواحرها مُبْتَدأ. ودونه الْخَبَر تقدم عَلَيْهِ وَالْجُمْلَة حَال كَمَا تقدم أَي: وَدون مَكَانَهُ أَو وَدون غَايَته الَّتِي وصل إِلَيْهَا أَو دون بِمَعْنى عِنْد وَقيل: دون هُنَا بِمَعْنى أقرب. ورده الزوزني بِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون

ص: 241

دون بِمَعْنى أقرب مِنْهُ إِذْ أُتِي باسمين نَحْو هَذَا دون ذَاك.

والصرة بِفَتْح الصَّاد وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ يجوز أَن يكون هُنَا إِمَّا بِمَعْنى الضجة والصيحة وَإِمَّا بِمَعْنى الْجَمَاعَة وَإِمَّا بِمَعْنى الشدَّة من كرب أَو غَيره وَقيل الصرة هُنَا الْغُبَار فَقَوله: فِي صرة فِي بعض الْوُجُوه حَال من الهاديات وَفِي بَعْضهَا حَال من جواحرها كَذَا قَالَ الزوزني. وَيجوز أَن يتَعَلَّق الْجَار فِي جواحرها. وَجُمْلَة لم تزيل صفة صرة وَأَصله تتزيل بتاءين أَي: لم تتفرق.

وصف بِهَذَا الْبَيْت شدَّة عَدو فرسه يَقُول: إِن هَذَا الْفرس لما لحق أَوَائِل الْوَحْش بقيت أواخرها لم تتفرق فَهِيَ خَالِصَة لَهُ.

وَهَذَا الْبَيْت من جملَة أَبْيَات فِي وصف الْفرس من معلقَة امْرِئ الْقَيْس الْمَشْهُورَة والأبيات هَذِه:

(وَقد أغتدي وَالطير فِي وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل)

(مكرّ مفرّ مقبل مُدبر مَعًا

كجلمود صَخْر حطّه السَّيْل من عل)

(كميت يزلّ اللبد عَن حَال مَتنه

كَمَا زلّت الصفواء بالمتنزّل))

(على الذبل جيّاش كَأَن اهتزامه

إِذا جاش فِيهِ حميه غلي مارجل)

(يزلّ الْغُلَام الخفّ عَن صهواته

ويلوي بأثواب العنيف المثقّل)

(درير كخذروف الْوَلِيد أمرّه

تتَابع كفّيه بخيط موصّل)

(لَهُ أيطلاً ظَبْي وساقا نعَامَة

وإرخاء سرحان وتقريب تَتْفُل)

ص: 242

.

(مسحّ إِذا مَا السابحات على الونا

أثرن غباراً بالكديد المركّل)

(ضليع إِذا استدبرته سدّ فرجه

بضاف فويق الأَرْض لَيْسَ بأعزل)

(كأنّ سراته لَدَى الْبَيْت قَائِما

مداك عروس أَو صلابة حنظل)

(فعنّ لنا سرب كأنّ نعاجه

عذارى دوار فِي ملاء مذيّل)

(فأدبرن كالجزع المفصّل بَينه

بجيد معمّ فِي الْعَشِيرَة مخول)

(فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها فِي صرّة لم تزيّل)

(فعادى عداء بَين ثَوْر ونعجة

دراكاً وَلم ينضح بِمَاء فَيغسل)

(فظلّ طهاة اللَّحْم مَا بَين منضج

صفيف شواء أَو قدير معجّل)

(فرحنا يكَاد الطّرف يقصر دونه

مَتى مَا ترقّ الْعين فِيهِ تسّهل)

(فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجه ولجامه

وَبَات بعيني قَائِما يغر مُرْسل)

قَوْله: وَقد أغتدي الخ تقدم شَرحه قَرِيبا. وَقَوله: مكرّ مفرّ الخ بِكَسْر أَولهمَا وَفتح ثَانِيهمَا وهما بِالْجَرِّ صفتان لقَوْله منجرد وَكَذَلِكَ مقبل ومدبر صفتان لَهُ لكنهما اسْما فَاعل بِضَم أَولهمَا.

قَالَ صَاحب الْقَامُوس: كرّ عَلَيْهِ: عطف وَعنهُ: رَجَعَ فَهُوَ كرّار ومكرّ بِكَسْر الْمِيم. وَقَالَ

ص: 243

الزوزني: مفعل يتَضَمَّن مُبَالغَة كَقَوْلِهِم: فلَان مسعر حَرْب. وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ متضمناً مُبَالغَة لِأَن مفعلاً يكون من أَسمَاء الأدوات كَأَنَّهُ أَدَاة للكرّ والفرّ

وَآلَة لتسعّر الْحَرْب والجلمود بِالضَّمِّ: الصَّخْرَة الملساء. وعل: بِمَعْنى فَوق وَاسْتشْهدَ بِهِ سِيبَوَيْهٍ وَصَاحب مُغنِي اللبيب على أَنه بِمَعْنَاهُ وَأَن قَالَ ابْن رَشِيق فِي بَاب الاتساع من الْعُمْدَة: إِن الشَّاعِر يَقُول بَيْتا يَتَّسِع فِيهِ التَّأْوِيل فَيَأْتِي كل وَاحِد بِمَعْنى وَإِنَّمَا يَقع ذَلِك لاحْتِمَال اللَّفْظ وقوته واتساع الْمَعْنى من ذَلِك قَول امْرِئ الْقَيْس: مكرّ مفرّ مقبل مُدبر مَعًا فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه يصلح للكرّ والفرّ وَيحسن مُقبلا ومدبراً. ثمَّ قَالَ: مَعًا أَي: جَمِيع ذَلِك فِيهِ.)

وشبّهه فِي سرعته وشدّة جريه بجلمود حطّه السَّيْل من أَعلَى الْجَبَل وَإِذا انحط من عل كَانَ شَدِيد السرعة فَكيف إِذا أعانته قُوَّة السَّيْل من وَرَائه وَذهب قوم مِنْهُم عبد الْكَرِيم إِلَى أَن معنى قَوْله: كجلمود صَخْر الخ إِنَّمَا هُوَ الصلابة لِأَن الصخر عِنْدهم كلما كَانَ أظهر للشمس وَالرِّيح كَانَ أَصْلَب.

وَقَالَ بعض من فسّره من الْمُحدثين: غنما أَرَادَ الإفراط: فرزعم أَنه يرى مُقبلا مُدبرا فِي حَال وَاحِدَة عِنْد الْكر والفر لشدّة سرعته وَاعْترض على نَفسه فاحتج بِمَا يُوجد عيَانًا فمثّله بالجلمود المنحدر من قنّة الْجَبَل: فَإنَّك ترى ظَهره فِي النّصبة على الْحَال الَّتِي ترى فِيهَا بَطْنه وَهُوَ مقبل إِلَيْك. . ولعلّ هَذَا مَا مرّ قطّ ببال امْرِئ الْقَيْس وَلَا خطر فِي وهمه وَلَا وَقع فِي خلده وَلَا روعه انْتهى.

وَحَاصِل هَذَا وَصفه بلين الرَّأْس وَسُرْعَة الانحراف فِي صدر الْبَيْت

ص: 244

وَشدَّة الْعَدو لكَونه قَالَ فِي صدر الْبَيْت: إِنَّه حسن الصُّورَة كَامِل النصبة فِي حالتي إقباله وإدباره وكرّه وفرّه ثمَّ شبّهه فِي عجز الْبَيْت بجلمود صَخْر حطّه السَّيْل من الْعُلُوّ لشدَّة الْعَدو فَهُوَ فِي الْحَالة الَّتِي ترى يها لببه ترى فِيهَا كفله. وَبِالْعَكْسِ.

وَقَوله: كميت يزلّ اللبد الخ الْكُمَيْت: الَّذِي عرفه وذنبه أسودان وَهُوَ مجرور صفة منجرد.

وَالْحَال: مقْعد الْفَارِس من ظهر الْفرس. والمتن:

مَا اتَّصل بِالظّهْرِ من الْعَجز. والصفواء: الصَّخْرَة الملساء الَّتِي لَا يثبت فِيهَا شَيْء. والمتنزل اسْم فَاعل: الطَّائِر الَّذِي يتنزّل على الصَّخْرَة وَقيل: هُوَ السَّيْل لِأَنَّهُ يتنزل الْأَشْيَاء وَقيل: هُوَ الْمَطَر. وَالْبَاء للتعدية. يَقُول: هَذَا الْكُمَيْت يزلّ لبده عَن حَال مَتنه لانملاس ظَهره واكتناز لَحْمه وهما يحمدان من الْفرس كَمَا يزلّ الْحجر الأملس النَّازِل عَلَيْهِ فَلَا يثبت عَلَيْهِ شَيْء.

وَقَوله: على الذب جيّاش الخ الذبل: الضمور. والجيّاش: الْفرس الَّذِي يَجِيش فِي عدوه كَمَا تجيش الْقدر فِي غليانها. واهتزامه: صَوته. وحميه: غليه. والمرجل بِكَسْر الْمِيم: كل قدر من حَدِيد أَو حجر أَو نُحَاس أَو خزف أَو غَيره. يَقُول: تغلي حرارة نشاطه على ذبول خلقه وضمر بَطْنه وَكَأن تكسّر صهيله فِي صَدره غليان قدر. جعله ذكي الْقلب نشيطاً فِي الْعَدو مَعَ ضمره ثمَّ شبّه تكسّر صهيله فِي صَدره بغليان الْقدر.

ص: 245

وَرُوِيَ على الْعقب جيّاش. والعقب بِفَتْح فَسُكُون: جري بعد جري وَقيل: مَعْنَاهُ إِذا حرّكته)

بعقبك جاش وَلم تحتج إِلَى السَّوْط فَإِذا كَانَ آخر عدوه على هَذِه الْحَالة فَمَا ظَنك بأوله وجيّاش بِالْجَرِّ صفة منجرد.

وَقَوله: يزلّ الْغُلَام الخفّ الخ يزلّ: يزلق. والخفّ بِكَسْر الْمُعْجَمَة: الْخَفِيف وَسمع أَبُو عُبَيْدَة فتحهَا. والصهوة: مَوضِع اللبد وَهُوَ مقْعد الْفَارِس. وَجَمعهَا بِمَا حولهَا. ويلوي بِالضَّمِّ أَي: يذهبها ويبعدها. والعنيف: من لَيْسَ لَهُ رفق. والمثقّل: الثقيل. قَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ رَاكب الْفرس خَفِيفا رمى بِهِ وَإِن كَانَ ثقيلاً رمى بثيابه. والجيد أَن المعني بأثواب

العنيف نَفسه لِأَنَّهُ غير حاذق بركوبه. وَقيل: مَعْنَاهُ أَنه إِذا رَكبه العنيف لم يَتَمَالَك أَن يصلح ثِيَابه وَإِذا رَكبه الْغُلَام الخفّ زلّ عَنهُ لسرعته ونشاطه وَإِنَّمَا يصلح لَهُ من يداريه.

وَقَوله: درير كخذروف الْوَلِيد الخ درير: مستدرّ فِي الْعَدو. ويصف سرعَة جريه.

والخذروف بِالضَّمِّ: الخرّارة الَّتِي يلْعَب بهَا الصّبيان يسمع لَهَا صَوت. وأمرّه: احكم فتله. يَقُول: هُوَ يدرّ الجري أَي: يديمه ويواصله ويسرع فِيهِ إسراع خذروف الصَّبِي إِذا أحكم فتل خيطه وَتَتَابَعَتْ كفّاه

ص: 246

فِي فتله وإدارته بخيط انْقَطع ثمَّ وصل. وَذَلِكَ أشدّ لدورانه لانملاسه.

وَقَوله: أيطلا ظَبْي الخ الأيطل: الخاصرة. وَإِنَّمَا شبهه بأيطل الظبي لِأَنَّهُ طاو. وَقَالَ: ساقا نعَامَة والنعامة قَصِيرَة السَّاقَيْن صلبتهمت وَهِي غَلِيظَة ظمياء لَيست برهلة. وَيسْتَحب من الْفرس قصرالساق لِأَنَّهُ أشدّ لرميها لوظيفها. وَيسْتَحب مِنْهُ مَعَ قصر السَّاق طول وظيف الرجل وَطول الذِّرَاع لِأَنَّهُ أشدّ لدحوه أَي: لرميه بهَا. والإرخاء: جري لَيْسَ بالشديد. وَفرس مرخاء.

وَلَيْسَ دابّة أحسن إرخاء من الذِّئْب. والسرحان: الذِّئْب. والتقريب: أَن يرفع يَدَيْهِ مَعًا ويضعهما مَعًا. والتتفل: بِضَم التَّاء الأولى وَفتحهَا مَعَ الْفَاء: ولد الثَّعْلَب وَهُوَ احسن الدَّوَابّ تَقْرِيبًا.

وَقَوله: مسحّ إِذا مَا السابحات الخ الْمسْح بِكَسْر الْمِيم: الْفرس الَّذِي كَأَنَّهُ يصبّ الجري صبّاً.

والسابحات: اللواتي عدوهنّ سباحة. والسباحة فِي الجري: أَن تدحو بأيديها دحواً أَي: تبسطها. والونا بِفَتْح الْوَاو وَالنُّون يمدّ وَيقصر: الفتور. والكديد بِفَتْح الْكَاف: الْموضع الغليظ. والمركّل اسْم مفعول: الَّذِي يركّل بالأرجل. يَقُول: إِن الْخَيل السريعة إِذا فترت فأثارت الْغُبَار بأرجلها من التَّعَب جرى هَذَا الْفرس جَريا سهلاً كَمَا يسحّ السَّحَاب الْمَطَر. وعَلى تتَعَلَّق بأثرن وَكَذَلِكَ الْبَاء.)

وَقَوله: ضليع إِذا استدبرته الخ الضليع: الْعَظِيم الأضلاع المنتفخ الجنبين ضلع يضلع ضلاعة.

والاستدبار: النّظر إِلَى دبر الشَّيْء. والفرج هُنَا: مَا بَين الرجلَيْن. والضافي: السابغ. والأعزل: المائل النب. وَيكرهُ

ص: 247

من الْفرس أَن يكون أعزل ذَنبه إِلَى جَانب وَأَن يكون قصير الذَّنب وَأَن يكون طَويلا يطَأ عَلَيْهِ. وَيسْتَحب أَن يكون سابغاً قصير العسيب.

وَقَوله: كَأَن سراته لَدَى الْبَيْت الخ السراة بِالْفَتْح: الظّهْر. والمداك بِالْفَتْح الْحجر الَّذِي يسحق بِهِ والمدوك بِالْكَسْرِ: الْحجر الَّذِي يسحق عَلَيْهِ من الدوك وَهُوَ السحق والطحن. والصلابة بِالْفَتْح: الْحجر الأملس الَّذِي يسحق عَلَيْهِ شَيْء. يَقُول: إِذا كَانَ قَائِما عِنْد الْبَيْت غير مسرج رَأَيْت ظَهره أملس فَكَأَنَّهُ مداك عروس: فِي صفائها وانملاسها. وَإِنَّمَا قيّد المداك بالعروس لِأَنَّهُ قريب الْعَهْد بالطيب. وقيّد الصلابة بالحنظل لِأَن حبّ الحنظل يخرج دهنه فيبرق على الصلابة.

وَرَوَاهُ العسكري فِي التَّصْحِيف صراية قَالَ: وَمِمَّا يرْوى على وَجْهَيْن مداك عروس أَو صراية حنظل: رِوَايَة الْأَصْمَعِي صراية بالصَّاد مَفْتُوحَة غير مُعْجمَة وَتَحْت الْيَاء نقطتان وَهِي الحنظلة الخضراء وَقيل: هِيَ الَّتِي اصفرّت لِأَنَّهَا إِذا اصفرّت برقتْ وَهِي قبل أَن تصفرّ مغبرّة. قَالَ: وَمثله:

(إِذا أَعرَضت قلت دبّاءة

من الْخضر مغموسة فِي الْغدر)

أَي: من بريقها كَأَنَّهَا قرعَة. قَالَ الشَّاعِر: وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة صراية بِكَسْر الصَّاد وَقَالَ: هُوَ المَاء الَّذِي ينقع فِيهِ الحنظل وَيُقَال: صرى يصري صرياً وصراية وَهُوَ أَخْضَر صَاف. وَرَوَاهُ بَعضهم

صرابة حنظل بباء تحتهَا نقطة وَاحِدَة. فَمن قَالَ هَذَا أَرَادَ الملوسة والصفاء. يُقَال: اصرأبّ الشَّيْء أَي: املاسّ. انْتهى.

ص: 248

وَقَوله: كَأَن دِمَاء الهاديات بنحره الخ الهاديات: المتقدمات والأوائل. وَيُرِيد بعصارة الْحِنَّاء مَا بَقِي من الْأَثر. والمرجّل بِالْجِيم: المسرّح والترجيل: التسريح. يَقُول: إِنَّه يلْحق أوّل الْوَحْش فَإِذا لحق أوّلها علم أَنه قد أحرز آخرهَا وَإِذا لحقها طَعنهَا فتصيب دماؤها نَحره. وَقَوله: فعنّ لنا سرب الخ عنّ: عرض وَظهر. والسرب بِالْكَسْرِ: القطيع من الْبَقر والظباء وَالنِّسَاء.

والنعاج: جمع نعجة وَهِي الْأُنْثَى من بقر الْوَحْش وَمن الضَّأْن. ودوار بِالْفَتْح: صنم كَانُوا يدورون حوله أسابيع كَمَا يُطَاف بِالْبَيْتِ الْحَرَام.)

والملاء بِضَم الْمِيم: جمع ملاءة وَهِي الملحفة. والمذيّل: السابغ وَقيل: مَعْنَاهُ لَهُ هدب وَقيل: إِن مَعْنَاهُ لَهُ ذيل أسود. وَهُوَ أشبه بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ يصف بقر الْوَحْش وَهِي بيض الظُّهُور سود القوائم. يَقُول: إِن هَذَا القطيع من الْبَقر يلوذ بِبَعْضِه ويدور كَمَا تَدور العذارى حول دوار. وَهُوَ نسك كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يدورون حوله.

وَقَالَ العسكري فِي التَّصْحِيف: يرْوى دوار بدال مَضْمُومَة ودوار بدال مَفْتُوحَة وَاو مُخَفّفَة.

وَهُوَ نسك كَانَ لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة يدار حوله. ودوّار فِي غير هَذَا بفتحه الدَّال وَتَشْديد الْوَاو سجن فياليمامة. ودوّار مضموم الدَّال مثقّل الْوَاو: مَوضِع انْتهى.

وَقَالَ الزوزني: المذيّل: الَّذِي أطيل ذيله وأرخي. يَقُول: تعرّض لنا قطيع من بقر الْوَحْش كَأَن إناثه عذارى يطفن حول حجر مَنْصُوب يُطَاف حوله فِي ملاء طَوِيلَة الذيل. شبّه الْبَقر فِي بَيَاض ألوانها بالعذارى لِأَنَّهُنَّ مصونات بالخدور لَا يُغير ألوانهن حرّ الشَّمْس وَغَيره وشبّه

ص: 249

طول أذنابها وسبوغ شعرهَا بالملاء المدذيّل. وشبذه حسن مشيها بِحسن تبختر العذارى فِي مشيهنّ.

وَقَوله: فأدبرن كالجزع المفصّل الخ الْجزع بِالْفَتْح: الخرز وَقَالَ

أَبُو عُبَيْدَة بِالْكَسْرِ وَهُوَ الخرز الَّذِي فِيهِ سَواد وَبَيَاض. وبجيد أَي: فِي جيد وَهُوَ الْعُنُق وَمعنى معمّ مخول أَي لَهُ أعمام وأخوال وهم فِي عشيرة وَاحِدَة كَأَنَّهُ قَالَ: كريمالأبوين. وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ خرزه أصفى وَأحسن.

يصف أَن هَذِه الْبَقر من الْوَحْش تفرّقت كالجزع أَي: كانها قلادة فِيهَا خرز قد فصّل بَينه بالخرز وَجعلت القلادة فِي عنق صبيّ كريم الْأَعْمَام والأخوال. شبّه بقر الْوَحْش بالخرز الْيَمَانِيّ لِأَنَّهُ يسود طرفاه وسائره أَبيض وَكَذَلِكَ بقر الْوَحْش يسودّ أكارعها وخدودها وسائرها أَبيض.

شَرط كَونه جيد معمّ مخول لِأَن جَوَاهِر قلادة مثل هذاالصبي أعظم من جَوَاهِر قلادة غَيره.

وَقَوله: فألحقه بالهاديات تقدم شَرحه. وَقَوله: فعادى عداء بَين ثَوْر ونعجة الخ عادى: والى بَين اثْنَيْنِ فِي طلق وَلم يعرق أَي: أدْرك صَيْده قبل أَن يعرق. وَقَوله: فَيغسل: أَي: لم يعرق فَيصير كَأَنَّهُ قد غسل بِالْمَاءِ. ودراكاً بِمَعْنى مداركة فِي مَوضِع الْحَال. وَلم يرد ثوراً ونعجة فَقَط وَإِنَّمَا أَرَادَ الْكثير وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله دراكاً وَلَو أرادهما فَقَط لاستغنى عَنهُ بعاذى. وَفِيه مُبَالغَة لَا تخفى.

وَقَوله: فظلّ طهاة اللَّحْم الخ هُوَ جمع طاه وَهُوَ الطباخ. والصفيف: الَّذِي قد صفّف مرقّقاً)

على الْجَمْر وَهُوَ شواء الْأَعْرَاب. والقدير: مَا طبخ

ص: 250

فِي قدر. وَوصف بمعجّل لأَنهم كَانُوا يستحسنون تَعْجِيل مَا كَانَ من الصَّيْد يستطرفونه. يَقُول: ظلّ المنضجون اللَّحْم وَهُوَ صنفان: صنف ينضجون شوائً مصفوفاً على الْحِجَارَة فِي النَّار والجمر وصنف يطبخون اللَّحْم فِي الْقدر. يَقُول: كثر الصَّيْد فأخصب الْقَوْم فطبخوا واشتووا. وَمن للتفصيل وَالتَّفْسِير نحوهم من بَين عَالم أَو زاهد يُرِيد أَنهم لَا يعدون الصِّنْفَيْنِ. وصفيف: منصوببمنضج وَهُوَ اسْم فَاعل.

وقدير: مجرور بِتَقْدِير مُضَاف مَعْطُوف على منضج وَالتَّقْدِير:

أَو طابخ قدير أَو لَا تَقْدِير لكنه مَعْطُوف على صفيف وخفض على الْجوَار أَو على توهم أَن الصفيف مجرور بِالْإِضَافَة وَعند البغداديين هُوَ مَعْطُوف على صفيف من قبيل الْعَطف على المحلّ وَلَا يشترطون أَن يكون المحلّ وَقَوله: ورحنا يكَاد الطّرف الخ يَقُول: إِذا نظرت الْعين إِلَى هَذَا الْفرس أَطَالَت النّظر إِلَى مَا ينظر مِنْهُ لحسنه فَلَا تكَاد الْعين تستوفي النّظر إِلَى جَمِيعه. وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنه إِذا نظرت إِلَى هَذَا الْفرس لم تدم النّظر إِلَيْهِ لِئَلَّا يصاب بِالْعينِ لحسنه.

وَقَوله: مَتى مَا ترقّ الخ أَي: مَتى نظرت إِلَى أَعْلَاهُ نظرت إِلَى أَسْفَله لكماله ليستتم النّظر إِلَى جَمِيع جسده. أَصلهمَا تترقّ وتتسهّل بتاءين وجزما على أنّ الأوّل فعل الشَّرْط وَالثَّانِي جَوَابه.

وَمَا زَائِدَة وَرُوِيَ: ورحنا وَرَاح الطّرف ينفض رَأسه والطرف بِالْكَسْرِ: الْكَرِيم الطَّرفَيْنِ. وينفض رَأسه من المرح والنشاط.

ص: 251

وَقَوله: فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجه فِي بَات ضمير الْكُمَيْت وَجُمْلَة عَلَيْهِ سَرْجه خبر بَات وَبَات الثَّانِي مَعْطُوف على الأول وبعيني خَبره أَي: بِحَيْثُ أرَاهُ وَقَائِمًا حَال وَغير مُرْسل أَي: غير مهمل.

وَمَعْنَاهُ: أَنه لما جِيءَ بِهِ من الصَّيْد لم يرفع عَنهُ سَرْجه وَهُوَ عرق وَلم يقْلع لجامه فيعتلف على التَّعَب فيؤذيه ذَلِك.

وَيجوز أَن يكون معنى فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجه الخ أَنهم مسافرون كانه أَرَادَ الغدوّ فَكَانَ معدّاً لذَلِك. وَالله أعلم.

وَأنْشد بعده وَهُوَ

الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ

(وغنّ امْرأ أسرى إِلَيْك ودونه

من الأَرْض موماة وبيداء سملق)

لما تقدّم قبله: فَإِن جملَة قَوْله: ودونه من الأَرْض موماة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر حَال لَا الظّرْف وَحده كَمَا بَيناهُ. وَصَاحب الْحَال الْفَاعِل الْمُسْتَتر فِي قَوْله أسرى الْعَائِد إِلَى امْرِئ. وَأسرى: بِمَعْنى سرى قَالَ فِي الصِّحَاح: وسريت سرى ومسرىً وأسريت بِمَعْنى: إِذا سرت لَيْلًا. وبالألف لُغَة أهل الْحجاز وَجَاء الْقُرْآن بهما جَمِيعًا. وَالْكَاف من إِلَيْك مَكْسُورَة لِأَنَّهُ خطاب مَعَ نَاقَته.

وَدون هُنَا بِمَعْنى أَمَام وقدّام. والموماة بِالْفَتْح: الأَرْض الَّتِي لَا مَاء فِيهَا وَفِي الْقَامُوس: الموماء والموماة: الفلاة وَالْجمع

ص: 252

الموامي. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا فوعلة: لِأَنَّهُ ذكرهَا فِي المعتلّ الآخر بِالْوَاو.

والبيداء: القفر فعلاء من باد يبيد: إِذا هلك. والسملق: الأَرْض المستوية. وبيداء مَعْطُوف على موماة وسملق صفته. وَجُمْلَة أسرى إِلَيْك صفة امْرِئ. وَخبر إِن المحقوقة فِي بَيت بعده وَهُوَ:

(لمحقوقة أَن تستجيبي لصوته

وَأَن تعلمي أَن المعان موفّق)

وَقد أنْشد الْمُحَقق الشَّارِح هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي بَاب الضَّمِير على أَن الْكُوفِيّين استدلوا بِهَذَا على أَنه يجوز ترك التَّأْكِيد بالمنفصل فِي الصّفة الْجَارِيَة على غير من هِيَ لَهُ عِنْد امن اللّبْس وَالْأَصْل لمحقوقة أَنْت. وَهَذِه مَسْأَلَة خلافية بَين الْبَصرِيين والكوفيين يَأْتِي الْكَلَام فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي بَاب الضَّمِير.

ومطلع هَذِه القصيدة:

(أرقت وَمَا هَذَا السهاد المؤرّق

وَمَا بِي من سقم وَمَا بِي معشق)

قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: سمع كسْرَى انوشروان يَوْمًا الْأَعْشَى يتَغَنَّى بِهَذَا الْبَيْت فَقَالَ: مَا يَقُول هَذَا العربيّ قَالُوا: يتَغَنَّى بِالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: فسّروا قَوْله. قَالُوا: زعم أَنه سهر من غيرمرض وَلَا عشق. قَالَ: فَهَذَا إِذا لصّ.

وَبعد هَذَا المطلع بِأَبْيَات فِي وصف الْخمْرَة وَهُوَ من أَبْيَات الكشّاف وَالْقَاضِي:

(تريك القذى من دونهَا وَهِي دونه

إِذا ذاقها من ذاقها يتمطّق)

ص: 253

وَهَذَا وصف بديع فِي صفاء الْخمْرَة. والتمطّق: التذوّق. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: أَرَادَ أَنَّهَا من صفائها تريك القذاة عالية عَلَيْهَا والقذى فِي أَسْفَلهَا فَأَخذه الأخطل فَقَالَ:

(وَلَقَد تباكرني على لذّاتها

صهباء عالية القذى خرطوم))

اه وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله عز وجل بعض هَذِه القصيدة فِي بَاب الضَّمِير وَبَعضهَا فِي عوض من بَاب الظروف.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الْخَامِس بعد الْمِائَتَيْنِ كَمَا انتفض العصفور بلّله الْقطر هَذَا عجز وصدره: وَإِنِّي لتعروني لذكراك هزّة على ان الْأَخْفَش والكوفيين استدلوا بِهَذَا على أَنه لم تجب قد مَعَ الْمَاضِي الْمُثبت الْوَاقِع حَالا فَإِن جملَة بلّله الْقطر من الْفِعْل وَالْفَاعِل حَال من العصفور وَلَيْسَ مَعهَا قد لَا ظَاهِرَة وَلَا مقدرَة.

وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا خلافية: ذهب الْكُوفِيّين إِلَى أَن الْمَاضِي الْمُثبت

ص: 254

بِدُونِ قد يَقع حَالا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ فحصرت حَال بِدَلِيل قِرَاءَة الْحسن الْبَصْرِيّ وَيَعْقُوب والمفضل عَن عَاصِم: أَو جاؤكم حصرةً صُدُورهمْ وَقَول أبي صَخْر الْهُذلِيّ: كَمَا انتفض العصفور بلّله الْقطر وَقَالَ البصريون: لَا يجوز وُقُوعه حَالا بِدُونِ قد لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: انه لَا يجوز يدلّ على الْحَال وَالثَّانِي: أَنه إِنَّمَا يصلح أَن يوضع مَوضِع الْحَال مَا يصلح أَن يُقَال فِيهِ الْآن نَحْو: مَرَرْت بزيد يضْرب وَهَذَا لَا يصلح فِي الْمَاضِي وَلِهَذَا لم يجز مَا زَالَ زيد قَامَ لِأَن مَا زَالَ وَلَيْسَ يطلبان الْحَال وَقَامَ مَاض وَلَا يلْزم على كلامنا إِذا كَانَ مَعَ الْمَاضِي قد لن قد تقرّب الْمَاضِي من الْحَال.

وَأما الْآيَة وَالْبَيْت فقد فيهمَا مقدرَة وَقَالَ بَعضهم: حصرت صفة لقوم الْمَجْرُور فِي أول الْآيَة وَهُوَ: إِلَّا الَّذين يصلونَ إِلَى قوم وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض وَيُؤَيِّدهُ أَنه قرئَ بِإِسْقَاط أَو. وعَلى ذَلِك يكون جاؤكم صفة لقوم وَيكون حصرت صفة ثَانِيَة. وَقيل: صفة لموصوف لمَحْذُوف أَي: قوما حصرت صُدُورهمْ.

قَالَ صَاحب اللّبَاب: وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَهُوَ ضَعِيف لِأَنَّهُ إِذا قدّر الْمَوْصُوف يكون حَالا موطّئة وَصفَة الموطئة فِي حكم الْحَال فِي إِيجَاب تصدّرها بقد وَهُوَ يمْنَع حذف قد لَا سيّما والموصوف مَحْذُوف فّن الصّفة تكون فِي صُورَة الْحَال فالإتيان بقد يكون أولى.)

ص: 255

وَقَالَ المبرّد: جملَة حصرت إنشائية مَعْنَاهَا الدُّعَاء عَلَيْهِم فَهِيَ مستانفة. وردّ بِأَن الدُّعَاء عَلَيْهِم بِضيق قُلُوبهم عَن قتال قَومهمْ لَا يتجّه. وَقيل: حصرت بدل اشْتِمَال من جاؤكم لِأَن الْمَجِيء مُشْتَمل على الْحصْر. وَفِيه بعد لِأَن الْحصْر من صفة الجائين لَا من صفة الْمَجِيء.

وَقد بسط ابْن الْأَنْبَارِي الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب الْإِنْصَاف فِي مسَائِل الْخلاف.

وَاسْتشْهدَ ابْن هِشَام بِهَذَا الْبَيْت فِي شرح الألفيّة على أَن الْمَفْعُول لَهُ يجرّ بِاللَّامِ إِذا فقد بعذ شُرُوطه فَإِن قَوْله هُنَا لذكراك مفعول لَهُ جرّ بِاللَّامِ لِأَن فَاعله غير فَاعل الْفِعْل المعلّل. وَهُوَ قَوْله لتعروني فَإِن فَاعله هزة وفاعل ذكراك الْمُتَكَلّم فَإِنَّهُ مصدر مُضَاف لمفعوله وفاعله مَحْذُوف أَي: لذكري إياك.

والهزة بِفَتْح الْهَاء: الْحَرَكَة يُقَال: هززت الشَّيْء: إِذا حركته وَأَرَادَ بهَا الرعدة. وَرُوِيَ بدلهَا رعدة.

وروى القاليّ فِي أَمَالِيهِ فَتْرَة. وَسُئِلَ ابْن الْحَاجِب: هَل تصح رِوَايَة القاليّ فَأجَاب: يَسْتَقِيم ذَلِك على مَعْنيين: احدهما أَن يكون معنى لتعروني لترعدني أَي: تجْعَل عِنْدِي العرواء وَهِي الرعدة كَقَوْلِهِم: عري فلَان: إِذا أَصَابَهُ ذَلِك لِأَن الفتور الَّذِي هُوَ السّكُون عَن الإجلال والهيبة يحصل عَنهُ الرعدة غَالِبا عَادَة فَيصح نِسْبَة الإرعاد إِلَيْهِ فَيكون كَمَا انتفض مَنْصُوبًا انتصاب

ص: 256

قَوْلك: أخرجته كخروج زيد إِمَّا على معنى كإخراج زيد وَإِمَّا لتَضَمّنه معنى خرج غَالِبا فَكَأَنَّهُ قيل خرج فصحّ لذَلِك مثل خُرُوج زيد وَحسن ذَلِك تَنْبِيها على حُصُول المطاوع الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فِي مثل ذَلِك فَيكون أبلغ فِي الِاقْتِصَار على المطاوع إِذْ قد يحصل المطاوع دونه مثل أخرجته فَلَا يخرج.

وَالثَّانِي: أَن يكون معنى لتعروني لتَأْتِيني وتأخذني فَتْرَة أَي: سُكُون للسرور الْحَاصِل من الذكرى وعبّر بهَا عَن النشاط لِأَنَّهَا تستلزمه غَالِبا تَسْمِيَة للمسبّب باسم السَّبَب كَأَنَّهُ قَالَ: ليأخذني نشاط كنشاط العصفور. فَيكون كَمَا انتفض إِمَّا مَنْصُوبًا نصب لَهُ صَوت صَوت حمَار وَله وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون التَّقْدِير يصوّت صَوت حمَار وَإِن لم يجز إِظْهَاره اسْتغْنَاء عَنهُ بِمَا تقدم.

وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْصُوبًا بِمَا تضمنته الْجُمْلَة من معنى يصوّت وَإِمَّا مَرْفُوعا صفة لفترة أَي: نشاط مثل نشاط العصفور. . وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي الْوَجْه الثَّانِي فِي إِعْرَاب كَمَا)

انتفض تجْرِي على تَقْدِير رِوَايَة رعدة وهزّة. وروى الرمّاني عَن السكرِي عَن الْأَصْمَعِي:

(إِذا ذكرت يرتاح قلبِي لذكرها

كَمَا انتفض العصفور بلّله الْقطر)

وَهَذَا ظَاهر. اه.

وانتفض بِمَعْنى تحرّك يُقَال: نفضت الثَّوْب وَالشَّجر: إِذا حركته ليسقط مافيه. وبلّه يبلّه بلاًّ: إِذا ندّاه بِالْمَاءِ وَنَحْوه. والقطر: الْمَطَر.

وَفِي شرح بديعيّة العميان لِابْنِ جَابر: أَن هَذَا الْبَيْت فِيهِ من البديع صَنْعَة الاحتباك وَهُوَ أَن يحذف من الأول مَا أثبت نَظِيره فِي الثَّانِي ويحذف

ص: 257

من الثَّانِي مَا أثبت نَظِيره فِي الأول فَإِن التَّقْدِير فِيهِ. وَإِنِّي لتعروني لذكراك هزة وانتفاضة كهزة العصفور وانتفاضته. فَحذف من الأول وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة لأبي صَخْر الْهُذلِيّ. أورد بَعْضهَا أَبُو تَمام فِي بَاب النسيب من الحماسة وَكَذَلِكَ الْأَصْبَهَانِيّ بَعْضهَا فِي الأغاني وَرَوَاهَا تَمامًا أَبُو عليّ القالي فِي أَمَالِيهِ عَن ابْن الأنباريّ وَابْن دُرَيْد. وَهِي هَذِه:

(لليلى بِذَات الْجَيْش دَار عرفتها

وَأُخْرَى بِذَات الْبَين آياتها سطر)

(كَأَنَّهُمَا ملآن لم يتغيرا

وَقد مرّ للدارين من عهدنا عصر)

(وقفت بربعيها فعيّ جوابهافقلتوعيني دمعها سرب همر

أَلا أَيهَا الركب المخبّون هَل لكم)

(فَقَالُوا: طوينا ذَاك لَيْلًا وَإِن يكن

بِهِ بعض من تهوى فَمَا شعر السّفر)

(أما وَالَّذِي أبكى وأضحك وَالَّذِي

أمات وَأَحْيَا وَالَّذِي أمره الْأَمر)

(لقد كنت آتيها وَفِي النَّفس هجرها

بتاتاً لأخرى الدَّهْر مَا طلع الْفجْر)

(فَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فجاءة

فأبهت لَا عرف لديّ وَلَا نكر)

(وأنسى الَّذِي قد كنت فِيهِ هجرتهَا

كَمَا قد تنسّي لبّ شاربها الْخمر)

(وَمَا تركت لي من شذىً أهتدي بِهِ

وَلَا ضلع إِلَّا وَفِي عظمها كسر)

(وَقد تَرَكتنِي أغبط الْوَحْش أَن أرى

قرينين مِنْهَا لم يفزّعهما نفر)

ص: 258

.

(مَخَافَة أَنِّي قد علمت لَئِن بدا

لي الهجر مِنْهَا مَا على هجرها صَبر)

(وَأَنِّي لَا أَدْرِي إِذا النَّفس أشرفت

على هجرها مَا يبلغن بِي الهجر)

(أَبى الْقلب إِلَّا حبها عامريةً

لَهَا كنية عمر وَلَيْسَ لَهَا عَمْرو))

(تكَاد يَدي تندى إِذا مَا لمستها

وينبت فِي أطرافها الْوَرق الْخضر)

(وَإِنِّي لتعروني لذكراك فَتْرَة

كَمَا انتفض العصفور بلله الْقطر)

(تمنيت من حبي علية أننا

على رمث فِي الْبَحْر لَيْسَ لنا وفر)

(على دَائِم لَا يعبر الْفلك موجه

وَمن دُوننَا الْأَعْدَاء واللجج الْخضر)

(فنقضي هموم النَّفس فِي غير رَقَبَة

ويغرق من نخشى نميمته الْبَحْر)

(عجبت لسعي الدَّهْر بيني وَبَينهَا

فَلَمَّا انْقَضى مَا بَيْننَا سكن الدَّهْر)

(فيا حب ليلى قد بلغت بِي المدى

وزدت على مَا لَيْسَ يبلغهُ الهجر)

(وَيَا حبها زِدْنِي جوىً كل لَيْلَة

وَيَا سلوة الْأَيَّام موعدك النَّضر)

(هجرتك حَتَّى قيل: مَا يعرف الْهوى

وزرتك حتي قيل: لَيْسَ لَهُ صَبر)

(صدقت أَنا الصب الْمُصَاب الَّذِي بِهِ

تباريح حب خامر الْقلب أَو سحر)

(فيا حبذا الْأَحْيَاء مَا دمت حَيَّة

وَيَا حبذا الْأَمْوَات مَا ضمك الْقَبْر)

فَقَوله: ملآن أَصله من الْآن. وَقَوله: أما وَالَّذِي أبكى وأضحك

ص: 259

الخ هُوَ من أَبْيَات الْكَشَّاف وَمُغْنِي اللبيب أنْشدهُ فِي أما. وَقَوله: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فجاءة الخ هُوَ من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وَيَأْتِي شَرحه إِن شَاءَ الله عز وجل فِي نواصب الْفِعْل. وَقَوله: وَمَا تركت لي من شذى هُوَ بِفَتْح الشين والذال المعجمتين بِمَعْنى الشدَّة وَبَقِيَّة الْقُوَّة. والضلع بِكَسْر الضَّاد وَفتح اللَّام.

وَقَوله: تمنيت من حبي علية أناا على رمث هُوَ بِفَتْح الرَّاء وَالْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة قَالَ القالي: أَعُود يضم بَعْضهَا إِلَى بعض كالطوف يركب عَلَيْهَا فِي الْبَحْر. وَقَوله: مَا أبرم السّلم النَّضر يُقَال: أبرم السّلم: إِذا خرجت برمتِهِ وَهِي ثَمَرَته. قَالَ فِي الصِّحَاح: الْبرم محركة: ثَمَر العضاه الْوَاحِدَة برمة وبرمة كل العضاه صفراء إِلَّا العرفط فَإِن برمتِهِ بَيْضَاء وبرمة السّلم أطيب الْبرم ريحًا.

حكى الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني عَن أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ: دخلت على الْهَادِي فَقَالَ: غنني صَوتا وَلَك حكمك فغنيته:

(وَإِنِّي لتعزوني لذكراك هزة

كَمَا انتفض العصفور بلله الْقطر)

فَقَالَ: أَحْسَنت وَالله وَضرب بِيَدِهِ إِلَى حبيب دراعته فشق مِنْهَا ذِرَاعا ثمَّ قَالَ: زِدْنِي فغنيته:

ص: 260

(هجرتك حَتَّى قيل: لَا يعرف الْهوى

وزرتك حَتَّى قيل: لَيْسَ لَهُ صَبر))

(فيا حبها زِدْنِي جوىً كل لَيْلَة

وَيَا سلوة الأحباب موعدك الْحَشْر)

فَقَالَ: أَحْسَنت وشقّ بَاقِي درّاعته من شدَّة الطَّرب ثمَّ رفع رَأسه إليّ وَقَالَ: تمن واحتكم فَقلت: أَتَمَنَّى عين مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: فرأيته قد دارت عَيناهُ فِي رَأسه فخلتهما جمرتين ثمَّ قَالَ: يَا ابْن اللخناء اتريد أَن تشهرني بِهَذَا الْمجْلس وتجعلني سمراً وحديثاً يَقُول النَّاس أطربه فوهبه عين مَرْوَان. أما وَالله لَوْلَا بادرة جهلك الَّتِي غلبت على صِحَة عقلك لألحقتك بِمن غبر من اهلك. وأطرق إطراق الأفعوان فخلت ملك الْمَوْت بيني وَبَينه ينْتَظر أمره. ثمَّ رفع رَأسه وَطلب إِبْرَاهِيم بن ذكْوَان وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم خُذ بيد هَذَا الْجَاهِل وَأدْخلهُ بَيت المَال فَإِن أَخذ جَمِيع مَا فِيهِ فَدَعْهُ وإياه قَالَ: فَدخلت وَأخذت من بَيت المَال خمسين ألف دِينَار. وأَبُو صَخْر الْهُذلِيّ هُوَ عبد الله بن سَالم السَّهْمِي الْهُذلِيّ شَاعِر إسلامي من شعراء الدولة الأموية. كَانَ متعصباً لبني مَرْوَان موالياً لَهُم وَله فِي عبد الْملك بن مَرْوَان وأخيه عبد الْعَزِيز مدائح كَثِيرَة. ولمّا ظهر عبد الله بن الزبير فِي الْحجاز وَغلب عَلَيْهَا بعد موت يزِيد بن مُعَاوِيَة وتشاغل بَنو أُميَّة فِي الْحَرْب بَينهم فِي مرج راهط وَغَيره دخل عَلَيْهِ أَبُو صَخْر الْهُذلِيّ فِي هُذَيْل ليقبضوا عطاءهم وَكَانَ عَارِفًا بهواه فِي بني أُميَّة فَمَنعه عطاءه فَقَالَ: تمنعني حَقًا لي وَأَنا امْرُؤ مُسلم مَا أحدثت فِي الْإِسْلَام حَدثا وَلَا أخرجت من طَاعَة يدا قَالَ: عَلَيْك ببني أُميَّة اطلب مِنْهُم عطاءك قَالَ: إِذا أجدهم سبطة أكفهم سَمْحَة أنفسهم بذلاً لأموالهم وهّابين لمجتديهم كَرِيمَة

ص: 261

أعراقهم شريفة أصولهم زاكية فروعهم قَرِيبا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ نسبهم وسببهم لَيْسُوا إِذا نسبوا بأذناب وَلَا وشائظ وَلَا أَتبَاع وَلَا هم فِي قُرَيْش كفقعة القاع لَهُم السودد فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْملك فِي الْإِسْلَام لَا كمن لَا يعدّ فِي عيرها وَلَا نفيرها وَلَا حكم آباؤه فِي نقيرها وقطميرها لَيْسَ من أحلافها المطيّبين وَلَا من ساداتها المطعمين وَلَا من هاشمها المنتخبين وَلَا عبد شمسها المسوّدين وَكَيف تقاس الأرؤس بالأذناب وَأَيْنَ النصل من الجفن وَأَيْنَ السنان من الزجّ والذنابى من القدامى وَكَيف يفضل الشحيح على الْجواد والسوقة على الْمُلُوك والجائع بخلا على الْمطعم فضلا فَغَضب بن الزبير حَتَّى ارتعدت فرائصه وعرق جَبينه واهتز من قرنه إِلَى قدمه وامتقع لَونه ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا ابْن البوّالة على عقبيها يَا جلف يَا جَاهِل أما وَالله لَوْلَا الحرمات الثَّلَاث: حُرْمَة الْإِسْلَام وَحُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام وَحُرْمَة الْحرم لأخذت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك ثمَّ أَمر بِهِ إِلَى سجن عَارِم فحبس فِيهِ مدّة ثمَّ استوهبته هُذَيْل وَمن)

لَهُ فِي قُرَيْش خؤولة فَأَطْلقهُ بعد سنة وَأقسم أَن لَا يُعْطِيهِ عَطاء مَعَ الْمُسلمين أبدا.

فَلَمَّا كَانَ عَام الْجَمَاعَة وَولي عبد الْملك

ص: 262

بن مَرْوَان وحجّ لقِيه أَبُو صَخْر فقرّبه وَأَدْنَاهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّه لم يخف عليّ خبرك مَعَ الملحد وَلَا ضَاعَ لديّ هَوَاك وَلَا موالاتك. فَقَالَ: إِذا شفى الله مِنْهُ نَفسِي ورأيته قَتِيل سَيْفك وصريع أوليائك مصلوباً مهتوك السّتْر مفرّق الْجمع فَمَا أُبَالِي مَا فَاتَنِي من الدُّنْيَا ثمَّ استأذنه فِي مديح فأنشده قصيدة وَأمر لَهُ عبد الْملك بِمَا فَاتَهُ من الْعَطاء وَمثله من مَاله وَحمله وكساه. كَذَا فِي الأغاني.

وَأنْشد بعده:

(يَقُول وَقد ترّ الوظيف وساقها

أَلَسْت ترى أَن قد أتيت بمؤيد)

تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد السَّادِس بعد المائنين وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ:

(أَفِي السّلم أعياراً جفَاء وغلظة

وَفِي الْحَرْب أشباه النِّسَاء العوارك)

على أَن أعياراً وَأَشْبَاه النِّسَاء منصوبان على الْحَال عِنْد السيرافي وَمن تبعه وعَلى الْمصدر عِنْد سِيبَوَيْهٍ.

قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: هَذَا الْبَيْت لهِنْد بنت عتبَة قالته

ص: 263

لفلّ قُرَيْش حِين رجعُوا من بدر. يُقَال: عركت الْمَرْأَة: إِذا حَاضَت. وَنصب أعياراً على الْحَال وَالْعَامِل فِيهِ مختزل لِأَنَّهُ أَقَامَ الأعيار مقَام اسْم مُشْتَقّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي السّلم بلداء جُفَاة مثل الأعيار. وَنصب جفَاء وغلظة نصب الْمصدر الْمَوْضُوع مَوضِع الْحَال كَمَا تَقول: زيد الْأسد شدّة أَي: يماثله مماثلة شَدِيدَة فالشدة صفة للمماثلة كَمَا أَن المشافهة صفة للمكالمة إِذا قلت: كلّمته مشافهة فَهَذِهِ حَال من الْمصدر فِي الْحَقِيقَة. وتعلّق حرف الجرّ من قَوْلهَا أَفِي السّلم بِمَا أدّته الأعيار من معنى الْفِعْل فَكَأَنَّهَا قَالَت: أَفِي السّلم تتبلدون. وَهَذَا الْفِعْل المختزل الناصب للأعيار وَلَا يجوز إِظْهَاره اه.

وَزعم الْعَيْنِيّ أَن قَوْله: جفَاء مَنْصُوب على التَّعْلِيل أَي: لأجل الْجفَاء والغلظة. وَلَا يخفى سُقُوطه. والهمزة لللاستفهام التوبيخي. وَالسّلم بِكَسْر السِّين وَفتحهَا: الصُّلْح يذكّر وَيُؤَنث.

والأعيار: جمع عير بِالْفَتْح: الْحمار أهلياً كَانَ ام وحشياً وَهُوَ مثل فِي البلادة وَالْجهل. والجفار)

قَالَ فِي الْمِصْبَاح: وجفا الثَّوْب يجفو: إِذا غلظ فَهُوَ جَاف وَمِنْه جفَاء البدو وَهُوَ غلظتهم وفظاظتهم. والغلظة بِالْكَسْرِ: الشدذة وضد اللين والسلاسة.

وَرُوِيَ أَمْثَال بدل قَوْله أشباه. والعوارك: جمع عارك وَهِي الْحَائِض من عركت الْمَرْأَة تعرك كنصر ينصر عروكاً أَي: حَاضَت. وبّختهم وَقَالَت لَهُم: أتجفون النَّاس وتغلظون عَلَيْهِم فِي السّلم فَإِذا أَقبلت الْحَرْب لنتم وضعفتم كالنساء الْحيض حرّضت الْمُشْركين بِهَذَا الْبَيْت على الْمُسلمين. والفلّ بِفَتْح الْفَاء: الْقَوْم المنهزمون.

وَهِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف القرشية العبشمية وَالِدَة مُعَاوِيَة بن ابي سُفْيَان اخبارها قبل الْإِسْلَام مَشْهُورَة. وَشهِدت أحدا وَفعلت مَا فعلت بِحَمْزَة ثمَّ كَانَت تؤلّب وتحرض على الْمُسلمين إِلَى أَن جَاءَ

ص: 264

الله بِالْفَتْح فَأسلم زَوجهَا ثمَّ أسلمت هِيَ يَوْم الْفَتْح.

كَذَا فِي الْإِصَابَة لِابْنِ حجر.

وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد السَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ من شَوَاهِد س:

(أَنا ابْن دارة مَشْهُورا بهَا نسبي

وَهل بدارة يَا للنَّاس من عَار)

على أَن قَوْله مَشْهُورا حَال مُؤَكدَة لمضمون الْخَبَر. ومضمونه هُنَا الْفَخر وَرُوِيَ: أَنا ابْن دارة مَعْرُوفا بهَا نسبي.

وَقَوله: نسبي نَائِب الْفَاعِل لقَوْله مَشْهُورا. وَالْبَاء من بهَا مُتَعَلقَة بِهِ للا نَائِب الْفَاعِل كَمَا وهم الْعَيْنِيّ. وَهَذِه الْحَال سَبَبِيَّة. وَهل للاستفهام الانكاري. وَمن زَائِدَة وعار مُبْتَدأ من رَفعه حَرَكَة حرف الْجَرّ الزَّائِد. وبدارة خَبره. وَيَا للنَّاس اعْتِرَاض بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. وَيَا للنداء لَا للتّنْبِيه ولناس منادى لَا ان المنادى مَحْذُوف تَقْدِيره: قومِي. وَاللَّام للاستغاثة وَهِي تدخل ودارة اسْم أمّ الشَّاعِر وَهُوَ سَالم بن دارة قَالَ ابْن قُتَيْبَة:

ص: 265

وَهِي من بني أَسد وَسميت بذلك لِأَنَّهَا شبهت بدارة الْقَمَر من جمَالهَا.

وَقَالَ الْحلْوانِي فِي كتاب أَسمَاء الشُّعَرَاء المنسوبين إِلَى أمهاتهم: دارة لقب بِأُمِّهِ وَاسْمهَا سيفاء كَانَت أخيذة أَصَابَهَا زيد الْخَيل من بعض غطفان منبني أَسد وَهِي حُبْلَى فَوَهَبَهَا زيد الْخَيل لزهير بن أبي سلمى. فَرُبمَا نسب سَالم بن دارة إِلَى زيد الْخَيل اه.)

وَقَالَ أَبُو رياش فِي شرح الحماسة والأصبهاني فِي الأغاني: دارة لقب جدّه واسْمه يربع. وعَلى هَذَا قد رُوِيَ: أَنا ابْن دارة مَعْرُوفا بِهِ نسبي وَرُوِيَ أَيْضا: مَعْرُوفا لَهُ نسبي.

وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة طَوِيلَة لسالم بن دارة هجا بهَا زميل بن أبير أحد بني عبد الله بن منَاف الْفَزارِيّ مِنْهُ:

(بلغ فَزَارَة إِنِّي لن أسالمها

حَتَّى ينيك زميل أم دِينَار)

(لاتأمنن فزارياً خلوت بِهِ

بعد الَّذِي امتلّ أيّر العير فِي النَّار)

(وغن خلوت بِهِ فِي الأَرْض وحدكما

فاحفظ قلوصك واكتبها بأسيار)

(أَنا ابْن دارة مَعْرُوفا لَهُ نسبي

وَهل بدارة يَا للنَّاس من عَار)

(جرثومة نَبتَت فِي الْعِزّ واعتزلت

تبتغي الجراثيم من عرف وإنكار)

(من جذم قيس وأخوالي بَنو أَسد

من أكْرم النَّاس زندي فيهم واري)

وأمّ دِينَار هِيَ أمّ زميل. وَقَوله: بعد الَّذِي امتلّ أيّر العيل الخ العير

ص: 266