المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة   داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب تأليف: عبد العزيز سيد الأهل بسم - داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز سيد الأهل]

الفصل: ‌ ‌مقدمة   داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب تأليف: عبد العزيز سيد الأهل بسم

تقديم

كانت ثورة الإمام أحمد على ردة المعتزلة والجهمية نابعة من صفوف الأمة ضد ما انحرفت نحوه الدولة ورجالها من الأفكار التي تحطم الدين وتفرق الصفوف. ولم تكن ضد نظام الدولة ولا أمنها ولا مبايعة خلفائها.

وقد كان جديراً برجال الحكم أن يؤيدوها ويعتنقوا مبادءها لأنها كانت في عونهم على النجاة من التفكك والانحدار، غير أنهم عادوها وأخذوا بالتنكيل بها وأسرفوا غاية الإسراف.

ومهما يكن الخليفة المتوكل قد بدأ بإخماد الفتنة وعمل على إحياء السنة فإن الآراء التي تسربت إلى فكر الأمة لم يصبح من اليسير طردها ولا التخفيف من وطأتها، بل إنها لم تلبث أن أصبحت من أفلاذ علوم المسلمين التي اشتغلت بها مدارس علم الكلام.

وسارت الأفكار خليطاً من الصحيح والفاسد والنقي والكدر على مدى أزمنة طويلة فانطبع الناس عليها وصارت في جملتها كأنها دينهم الذي يدينون به. ولم يكن في قدرة الجهل والتأخر أن تعين العقول على التنقية لتسلم المعرفة، فمضى الأمر على سجيته حتى كان القرن السابع الهجري الذي نضجت فيه مدرسة حران.

ص: 7

بسبب التفرق والانقسام العدائي كان خير معوان لحب التجمع مهما حدث من التردد الذي كان الدافع إليه حب الحياة وعزة السلطان، وحيث يكون المجال مفتوحاً لإمكان إقامة منظمة جديدة تلم شمل القبائل تحت عقائد كانت تعرفها وتؤمن بها وليست غريبة عنها فيكون الأمر أقل مشقة وأكثر قبولاً.

أما أن ينسب إلى الحضارة وأدواتها أنها ربما قامت عوائق في طريق الدعوات الدينية والاجتماعية السليمة -ومن أجل ذلك تفاداها ابن عبد الوهاب- فإنه غير صحيح، إذ ربما كانت هذه الحضارة أيسر تسخيراً في التوصيل السريع والنشر العاجل أكثر مما تفعله شواسع الأمكنة وجفوة الطباع في البوادي التي لم تدخلها الحضارات، ولكن لم يوجد من يجسر على التجريب.

وهذا كله لو افترضت نجد بادية كلها، ولكنَّ نجداً كانت ما بين حاضرة كثيرة القرى وبادية ذات عيش رتيب، وكان عيش الحضر رغداً وأدوات الحضارة وألوانها يأتي بها تجارهم من بلاد الترك ومصر والشام وفارس واليمن والهند، وعند أهلها صناعات الأسلحة والحياكة وصياغة المعادن، وكانوا على رفاهية في الطعام والشراب وفي عناية باقتناء الجواهر واختيار الثياب وأثاث البيوت. وأما البدو فكانوا في غنى بأنعامهم وخيامهم وكان لنسائهم شركة مع الرجال في أمور المعيشة وتنظيم الخيام.

وتجارات نجد كان يجلبها أهل نجد لا الغرباء عنهم وهم قوم ذوو طاقة عجيبة على مزاولة الأسفار والأعمال، وقلما يوجد فيهم من هو راكن إلى الكسل والراحة، ولا يستبعد الرحالة السفار منهم أي بلد ولو كان الصين، كما لا يستطيل أي زمن ولو كان دهراً طويلاً. ثم لا يؤوب إلى موطنه في نجد إلا بعد أن يقضي حاجاته من الارتحال.

ص: 8

ولما كانت نجد في قلب الجزيرة العربية وكانت محوطة من كل جهاتها بالقبائل والحواضر المستقلة فقد كلف نجدا في انتصارها على هذه النطاقات المحيطة بها تضحيات كثيرة غالية في الأموال والأرواح. فلم تكن الدعوة أسهل وأيسر بها مما لو كانت في غيرها كما ظن بعض المؤرخين، ولكن هذا التوسط في الجزيرة مكّن نجداً من التحرك القوي للانتصار، إذ لم يكن لهذه الجهات المبعثرة حولها أن تتألف منها وحدة تهاجم نجدا لتحاجزها بعضها عن بعض بهضاب نجد، ولولا الحرب الوهابية التي جاءت من خارج الجزيرة بعدد وعديد لما خمد للوهابية حينا سراج.

وفي المراحل الأولى لغزو القبائل والبلاد كان وجه الدعوة كله وهابياً سوى أن اليد كانت سعودية، فظهر الجد في الدعوة الذي سماه بعضهم عنفاً وسماه الجهلاء بحقائق الدين بدعة. وكان مبعث هذا الجد أو العنف أن الدعوة دينية في أساسها والسياسة تسايرها وتسندها فلم يكن هناك مجال لمراعاة المشاعر المنحرفة مهما كانت هذه المشاعر قد أصبحت من الأمور المقدسة عند أصحابها.

وكانت الوهابية ذات نظرة عامة فلم تفترض المسلمين منقسمين بين الفرق الكبرى والمذاهب التي تتوزع كل فرقة من هذه الفرق، بل افترضت المسلمين وحدة واحدة، ولم يكن يصح أن تتهم الوهابية بأنها كانت ضد الإسلام ولا ضد رسوله العظيم أو آل بيته الأكرمين.

فلما كانت المراحل الأخيرة إبان الحرب العظمى كانت الوهابية قد لبست أثواباً سعودية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وكانت السياسة والدين قد اصطحبا في دولة وسارا معا يراعيان بعض الرفق الذي تعودته مشاعر الناس، وما دامت الأنظمة والقوانين تسير طبقاً لأنظمة الملة الإسلامية وقوانينها فليس من بأس بذلك الرفق بعد أن عرف العالم الإسلامي كله أن الوهابية فيما فعلت لم تكن تريد غير إرجاع الأمة عن الردة التي

ص: 9

خرجت إليها عن التوحيد الصافي.

ومن قبل الوهابية وقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله في عزم وشدة ضد كل عمران يراد به الزينة والأبهة دون الحصب والإنتاج، وكان العدل عنده وإسعاد الناس أولى من هندسة المدن وتنظيمها وترميم المساجد وتذهيبها، فلم يجدد كسوة الكعبة حين بليت وباع سلاسل الذهب من مسجد دمشق وعوضها صفراً وحديداً، وكان يريد طمس كل زينة في المسجد، حتى عرف أنه صار شوكة في عين الروم فتركه باقياً بزينته وغناه.

وكذلك أرادت الوهابية والسعودية، ولكن الأمر حين صار إلى السياسة فعلت كما فعل عمر، وكان حين دخل سعود الأكبر ابن عبد العزيز حاجا إلى مكة لأول مرة في عام 1227 هـ دخل إليها حاملا كسوة الكعبة من العباء الثمين الذي يغزل من الصوف ويجلب من الحساء.

ومحمد علي وتركيا معا قد جنيا الشوك من جراء الحرب الوهابية، فَقَدْ فَقَدَ محمد علي من جنده وماله كثيراً، وأوقع مصر في فقر وضنك وخراب -وسنأتي على وصفه في الباب الأخير بالكتاب من كلام المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي معاصر هذه الحروب- ولم يجد محمد علي ما كان يأمله من ثروة في بلاد العرب في الجنوب الذي كان انصرف إليه حينا، ثم لم تشفع له انتصاراته لدى الباب العالي، بل تعقدت المشاكل بينهما، وبان أن الأتراك أوقعوا والي مصر في مشكلة لا تحل، ولم تكن في صالحهم أو صالحه سواء حلت أو تعقدت، لأنها أعضل من أن تسهل أو تهون. ومن ناحية الفكر فقد صار الجدل في حركة الإصلاح على كفتي

ص: 10

وعلى ضوء ساطع بنظر سليم وحجة راجحة سار بنو تيمية وخفقت في آخر مسيرتهم راية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الذي أفرغ جهده في التنقية والتصفية والتخريج، واعتزم في جد وصرامة أن يبعثر الركام المختلط ليكشف عن حقيقة الشريعة الصافية، فصرخ الناس في وجهه وأصلَوْهُ بنار عداوتهم. وكان حراس هذا الخليط المضطرب من رجال الحكم ورجال الدين، فأصلَوْهُ عداوتهم على سواء.

غير أن مبادئ الثورة التي أشعلها الإمام أحمد وصولة الحق في أصوات المدرسة الحرانية كانت ذات أثر بالغ فحثت قلوب البصراء على البحث والنظر حتى تتكشف حقيقة المبادئ الصافية التي جاء بها الإسلام أول ما جاء وآخر ما ترك. فلما كان محمد بن عبد الوهاب كانت النفوس على استعداد لقبول دعوته تحت ضوء السراج الذي أشعله الإمام أحمد وبنو تيمية، وعلى استعداد أيضاً لردها ومحاربتها رضوخاً للجبال المركومة فوق الرؤوس من الآراء والجهالات.

أما البصراء فقد قبلوا وأما المتلفعون بأردية الباطل فقد رفضوا، ولكن الدعوة وجدت سبيلها- برغم أعدائها ورافضيها -إلى المضي والنفوذ. وكذلك تم بها للحنابلة خط سليم من المنطق والعقل، كانت مقدمته أحمد بن حنبل وكان وسطه بني تيمية وكانت النتيجة محمد بن عبد الوهاب، في قضية مستقيمة لم تتعدد طرقها ولم تنعرج، بل سارت في طريق محكم قويم.

ومما صار علماً لدى الناس تسمية حركة الإصلاح التي قام بها ابن عبد الوهاب بالمذهب الوهابي وإطلاق الوهابية على المذهب وعلى الحروب التي شنت على أهله -ولا سيما حملات محمد علي خاصة- ومن الحق أن تطلق الوهابية على كل الحروب التي جرت في الجزيرة العربية وفي خارجها

ص: 11

منذ بدأت دعوة الإصلاح إلى أن قامت الدولة السعودية الثالثة والقائمة الآن.

وإطلاق الوهابية كما أطلقت على حركة الإصلاح والحروب التي خاضتها كانت من الخصوم لا من الأصحاب، ولكنها مهما كانت تسمية بغيضة إلى نفوس أولئك المصلحين فإنه لقب يبدو في ذاته غير بغيض، إذ هو نسبة إلى الوهاب الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولعل إطلاقه -من غير إرادة الخصوم- كان بشرى انتصار المصلحين بما رزقهم الوهاب من نصر وتأييد.

والوهابية -كما سنظل ندعوها كذلك في كتابنا -لم تكن مذهبا جديدا في الإسلام ولا زائدا على مذهب أهل السنة، وإنما كانت حركة إصلاح ديني دعت إليها سيرة الحنابلة في ثورتهم على ردة المعتزلة والجهمية وفي تنقيتهم ركام الجهالة ومحاربة ما ابتدع في الإسلام من أفكار وطقوس.

وانصب غرض الإصلاح على تنقية العقيدة الإسلامية مما لحق بها من الشبهات فكرا وعملا والرجوع بها إلى أصلها كما كان يعرف السلف الصالح.

أما الفروع فقد أحيت المذهب الحنبلي لمواءمته للأصول، ولكنها وهي دعوة لم تبتدع فقد كانت غريبة على النفوس فكأنها كانت جديدة لم تعرف من قبل، لما غمر الناس من فساد الاعتقاد وانحراف الطباع ومناسك التعبد والتقرب. فلم يكن بد -وهي دعوة قديمة يتجدد إهابها- من أن يعتبرها صاحبها دعوة جديدة فيسلك بها الطريق التي تبدأ من أوله الدعوات حتى يضمن لها الفوز والثبات.

ولم تمس الدعوة جوهر الإسلام، إذ هو لا يقبل إصلاحا يمس جذوره، لأنه واسع حر، وفيه لكل من أراد أن يجد غنى ووفرة وحياة. والقوانين الخلقية والعادات التي أورثها الإسلام بنيه كانت دائما عوامل زاجرة قادرة على ردع الإنسان عن الإذعان لاندفاعات خاطئة.

وعناصر الثبات في هذه الزواجر في قدرتها أن تهيمن على الطباع والعادات

ص: 12

والزي والرأي، وفي مكنونها أن تستيقظ لدفع الانحرافات التي تدخل عناصر السلوك.

ولقد حاول كثير من كتاب التاريخ والاجتماع أن يربطوا بين الدعوة الوهابية والبداوة، ولاح لهم أن قسوة الدعوة لم يلائمها إلا البادية الجافة والبداوة القبلية دون المدن وحضاراتها، وهو ربط يبدو أنه خاطئ أو باطل، إذ الدعوة الوهابية هي الدعوة الإسلامية ذاتها والتي نشأت أول ما نشأت في مكة، وكانت مكة والمدينة من بعدها وسطا تجاريا متحضرا ضخم التعقد في حضارته، وكانت الكتل البشرية التي تشترك فيه مؤلفة من أجناس وأديان شتى، ومع ذلك فلم يقل أحد أنه كان أولى بهذه الدعوة أن تنشأ في البادية أولا.

وقد ثبتت صلاحية الإسلام لكل الأمكنة والأزمنة، لا بادعاء الإسلام لنفسه، ولكن بالنظر من أهله وغير أهله في سمو مبادئه وصلاحية نظامه لكل المجتمعات، ومن وراء التجارب السعيدة التي مرت بالشعوب التي اعتقدته صافيا ونفذت مبادءه.

ومن ثم وجب أن لا يقال شيء غير أن محمد بن عبد الوهاب لارتباطه بأهله وتاريخ بيته بالبادية بشكل شعوري أو لا شعوري فجعل موطن ولادته مسرحاً للقيام بدعوته والسهر على تطبيقها لم يجد بداً من أن يبدأ دعوته فيها، ولو كان الوضع مختلفاً وكان هو ابناً من أبناء الحضر لبدأ دعوته به ولكان كأحد الأفذاذ الذين دعوا في الحواضر فنجحوا أو أخفقوا.

وإنما يجوز أن يقال فيما بعد -استنباطاً من النجاح الذي ظفرت به الدعوة -أن التفكك الذي كان بالجزيرة والإحساس بالضعف والهوان

ص: 13

ميزان، وعرف -حين أفصح الصبح- أن اتهام الوهابية ورميها بأنها مبتدعة كان كذباً وتضليلاً، فخسر محمد علي وخسرت تركيا مرة ثانية جانب الحق في التاريخ، ولم يكن رجحان كفة الحق من انتصار السعوديين، ووقوع نجد والحجاز في حوزتهم وقيام وحدة البلاد تحت رايتهم بقدر ما كان هذا الرجحان من الرجوع إلى حقائق الدين ونصوصه المسطورة في القرآن والسيرة والحديث، وفي هدأة للتقدير الحق والوزن السليم.

ويخطئ من يظن أن في قدرة قوة حربية إزالة شكل من التعبير الديني القوي. نعم إنها ستسكته حينا حين تنتصر، ولكنه سيظهر لا محالة عندما يحين له أن تغفل عنه تلك القوة. وقد ظهر أن الوهابية قد عادت إلى الظهور ثانية وثالثة بعد عدوان القوى الحربية عليها، وكان ظهورها الغالب عندما بدأ عبد العزيز الأخير (الملك) حركة من التوسع أضاف خلالها المجاهدون الوهابيون معظم بلاد العرب إلى موطنهم نجد، وظلوا طوال عشرين عاما يضمون البلاد جزءا جزءا حتى قامت المملكة العربية السعودية في سنة 1932 م وأعلنت أن عقيدتها هي عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة ولا خروج عنها قيد شعرة بفضل الله.

وبقيام هذه الدولة ضرب مثل جديد لوجوب الابتعاد عن المغالاة في تقدير أثر العوامل الحربية على نتائج الصراع الديني، فليس في إمكان أي إجراء تتخذه سلطة أن يستبقي أهل العقيدة في حظيرته وحبسه، إذ العقيدة ليست سلعة تجارية تتيسر حيازتها وفقا للطلب عليها وامتلاكها، وإنما هي لو وقعت في اليد فإن بقاءها فيها حتى ينام القابض عليها أو تغفل عينه فيسترخي، وحينئذ تتفلت من يده وهي في كاملها لم تفقد من قوتها شيئا.

ص: 14

والحروب التي شنت على الوهابية بالسلاح والنار لم تكن بأقسى من التهم التي اصطلت بنارها من الألسنة والكلمات، فقد اتهمت بأنها تحط من قدر النبوة وتنَزل من أقدار الأولياء، واتهم الوهابيون -ظلماً- بأنهم حرفوا اسم النبي بحذف ميمه الوسطى، وأشيع في بعض البلدان أنهم هدموا الكعبة بدعوى أنها حجر، كما نسبوا إليهم أنهم يحكمون بكفر كل من عداهم من المسلمين.

وكل ذلك بهتان وزور، وقد شهدت بأنه إفك -قبل كل شاهد- كتب محمد ابن عبد الوهاب ورسائله، وأهم هذه الكتب (كتاب التوحيد) الذي شرحه حفيده عبد الرحمن بن حسن ابن الإمام وسماه (فتح المجيد) ثم رسالة كشف الشبهات وثلاثة الأصول وأدلتها، وشروط الصلاة، وأربع القواعد، ورسالة المغربي. وقد طبعت هذه كلها ونشرت في القاهرة التي سخرت برغم مشيئتها في محاربة الوهابيين فكانت شهادة صدق من أهلها لدعوة التوحيد.

وتصدت الدعوة لكل المظاهر التي تسيء إلى الإسلام وجوهره النقي الطاهر، ولكل ما دخل على أفكاره من غريب دخيل.

واتهام الداعي بأنه اعتبر كل من لم يأخذ بتعاليمه كافراً مشركاً بالله ضرب من التخليط. بل إن ابن عبد الوهاب بين طريق الشرك الأكبر وطرائق الشرك الأصغر، واستمد كل أدلته من نصوص القرآن والحديث الصحيح، وفي هذه النصوص قول الله سبحانه:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُون} [يوسف من الآية106] ، فلم يفصل الحق سبحانه الشرك بعد الإيمان عن الشرك الذي كان قبله إذا دخل علي التوحيد ما يجعله كدراً مدخولاً.

بل إن من المشركين قبل الإيمان من كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون التوحيد في الشدة ويلجؤون إلى الله وحده فيها، ويشهد القرآن لهم بذلك

ص: 15

فيقول سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] . أما من أشركوا بعد أن آمنوا فقد صارت دعوتهم لشركائهم في الشدة والرخاء والسراء والضراء.

وحتى لا يستطرد الكتاب فيخرج عن مدار فلكه الذي رسم له من إظهار سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب ومذهبه وأثره في قيام دول دينية أقواها وأبقاها السعودية الثالثة الأخيرة، فقد رأينا أن نحيد عن التوسع والإطالة في الأسماء والأمكنة ومواقع الحروب وتفاصيلها وكثير من أمور السياسة والمواثيق والمعاهدات التي تكفلت بنشرها كتب كثيرة، ورأينا أن نقصر البحث فيما نحن بسبيله على سيرة الإمام المصلح وسيرة مذهبه -قدر المستطاع- حتى لا يضل المراد في ثنايا أمور أخرى تغلبت في أحيان خيلت للمطلع أن الوهابية صارت أمراً ثانوياً، وربما كان لها أن تتغلب حتى ولو لم تكن الوهابية قد أعانها قوم وحاربها آخرون من العرب المتخاصمين.

وقد تسنى أن يكون هذا الكتاب من ستة أبواب: الباب الأول كالمقدمة الثانية أو المدخل إلى عصر ابن عبد الوهاب. والباب الثاني في داعية الإصلاح. والثالث في بيان الدعوة. والرابع في مسيرتها. والخامس في أنظمتها. والسادس في نتائجها التي انتهت بالفوز وقيام دولة التوحيد.

وكل باب من هذه الأبواب يحوي خمسة فصول تتناسب وتتقارب فيه، وتتبين عنواناتها وما تحويه في أثناء الكتاب.

ولما كان من الحق أن ينسب الفضل إلى أهله فإن الشيخ الجليل وزير التعليم العالي بالمملكة السعودية الشيخ

ص: 16

حسن عبد الله آل الشيخ قد أبدى ملاحظات على ما جاء في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكان مصدر ذلك الذي أبديت عليه الملاحظات من الكتب المتأخرة المؤرخة لداعية التوحيد ولا سيما كتاب لمع الشهاب الذي جهل مؤلفه، وكان من الفضل الذي يذكر أن ينبه إليه رجل من أسرة الشيخ ومن الحريصين على الحق وقول الصدق فنشكر له هذا الجميل.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى أقوم سبيل.

عبد العزيز سيد الأهل

بيروت في 1398 هـ - 1978 م

ص: 17