المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ضمان الانتصار فضل البادية دعوة نجد الجديدة -أو الإصلاح النجدي- تأثيرا بالغا، - داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز سيد الأهل]

الفصل: ‌ ‌ضمان الانتصار فضل البادية دعوة نجد الجديدة -أو الإصلاح النجدي- تأثيرا بالغا،

‌ضمان الانتصار

فضل البادية

دعوة نجد الجديدة -أو الإصلاح النجدي- تأثيرا بالغا، فأرجع الناس في نجد والجزيرة وفي خارجها من قريب ومن بعيد إلى معرفة وحدانية الله خالصة من شوائب الشركين: الأكبر والأصغر. وسواء في ذلك من قبل الدعوة طائعا ومن عارضها منكرا ومن افترى عليها كاذبا. وقضت الدعوة قضاء مبرما على كل ما كان شائعا في نجد خاصة من خرافة الأغوار والأشجار والرفات المبعثرة في القبور.

وعرف الناس ما صفا من الفكر وما استقام من المناسك والعبادات مما أرشدتهم إليه الدعوة أو نهتهم عنه في العظات والدروس التي ألقاها الإمام، وفي الرسائل التي تركها، وفي الشروح التي صنفها أولاده وأحفاده، وأصبحت صلاة الجماعة الركن الركين في مجتمع الجزيرة لا يتخلف عنها قائم ولا قادم، فتحقق ما أوصى به الإمام أحمد في كتابه "الصلاة" وكان محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من أول المستجيبين.

وفي عهد السعودية الأولى من أيام محمد بن سعود إلى أيام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز كانت نظم الشريعة الغراء أسسا قام عليها البناء وأرسي الحكم في كل مرفق من مرافق الحياة.

وفرض هذا النظام مقاما كريما لعلماء الدين -من غير غلو- لم يحلم به علماء أي مصر من الأمصار- بعد العز بن عبد السلام وابن دقيق العيد

ص: 129

والنووي في عصر المماليك وأول حكم العثمانيين1 -وصار لمن يتولى القضاء أو الإفتاء منهم مكان مرموق. أما آل الشيخ جميعا فقد صار إجلالهم في النفوس إجلال الهداة المرشدين.

واقترن اسم آل الشيخ وآل سعود بعقيدة التوحيد وأعمال التطهير فأطلق عليهم اسم الموحدين واسم المطهرين ولقبوا بأهل السنة وأهل الحديث، وكان جديرا بأن يطلق عليهم أيضا أهل القرآن.

وكان الحماس للمذهب في إقليم العارض باليمامة أشد ظهورا منه في أي جهة من جهات الجزيرة2. وذلك لأمرين متضادين: الأول أنهم كانوا أول من عارض المصلح فعوضوا التأخر في الاتباع بالحماس، والثاني أن الداعية المصلح كان منهم فهو حماس الاعتزاز بالقريب ينهض للحق وينهض أهله معه، وكان حماسا مشكورا لأنه للإسلام الذي يدين به من قديم أهل هذا الحماس.

وهذان الأمران كلاهما لسبب قريب، وربما كان هناك سبب خفي بعيد، ربما كان أثره باقي الوراثة في هذا الإقليم: فاليمامة كانت بلد يحيى بن أبي كثير الذي كان في الطبقة الرابعة من علماء الرواية، ولحق به عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وسمع منه الحديث وأعجب بزهده وتحزنه وعلمه.

ويحيى هذا مات في آخر الأموية أيام مروان بن محمد آخر خلفائها3. وكان العلم والفقه في أيامه قد انتشر في البادية فأينعت منه واخضرت، وصارت فيها مدارس الحديث ومقاصده، ولم ينحصر في المدن التي تكثر فيها الغاشية من العلماء والطلاب وجمهور

1 - ظهر الإسلام 4: 214.

2 -

جزيرة العرب: 231.

3 -

النجوم الزاهرة 1: 310.

ص: 130

الناس، وكان يحيى يلقي دروسه في هذا المنأى عن الحواضر ويراسل بعلمه من أراد من علماء البوادي والأمصار.

ولم يجهل أحد أن اليمامة كان فتحها وقتل مسيلمة الكذاب في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة من الهجرة على يد خالد بن الوليد عنوة، ثم صولحوا1. وهو أمر يبعث على الفخر والدهشة؛ أما الفخر فلأن مكانا من أمكنة الردة والدعوة الكاذبة قد أصبح مكان كثير مشايخ الفقه الإسلامي وأعلامه.

وأما الدهشة فلأنه لم يحدث مثله في عمرنا، ووسائل نقل العلم وغيره قد بلغت شأوا مذهلا، ولم يكن العالم حين ذاك قد كانت فيه وسائل للنقل سوى الإبل والدواب والسير على الأقدام.

وأعظم من الفخر والدهشة أن التعليم بالمراسلة -الذي عظم أمره في عصرنا- كان موجودا، ولم يكن مقصورا على تعليم الحروف والكلمات وأوائل العلم، بل كان قد بلغ القمة وتخرج فيه الأئمة. وهو يبعث على الرضا عن تلك العصور التي لم تأل جهدا في النهوض بالعلم وتيسير وصوله للراغبين برغم المصاعب والأبعاد.

ومن الغريب أن تكون البادية أحد مصادره، والبادية التي عبرت بسرعة مذهلة -لا تكاد تقاسم بالزمن- تاريخها الجامد القديم الذي وقف قبل الإسلام عند الفطرة والأمية والعناد، ثم لم تلبث أن أصبحت هكذا تصدر العلم للقرى والمدائن التي ترفل في المدنية منذ آلاف السنين ومن أمثالها أن صار يحيى بن أبي كثير يعلم عبد الرحمن بن عمرو

1 - معجم البلدان في اليمامة.

ص: 131

الأوزاعي وصارت اليمامة تعلم بيروت1.

فهل يا ترى كان هذا الذي حدث من جديد ومن محمد بن عبد الوهاب وعلماء اليمامة ميراثا باقيا في البادية منذ ذلك العهد القديم؟ لئن كانت وراثة هذا المجد قد بقيت راسخة قي إقليم اليمامة فقد نبتت من بذرتها دوحة مجد طارف من دوحة مجد تليد!

الشجاعة والدين:

ومع الوراثة كانت الشجاعة والدين في رجال الإصلاح من شيوخ وأمراء وأتباع من أسباب دوام النصر والظفر لدعوة التوحيد وتجريده من شوائه، وكذلك كان للعلم واليقظة، كما كان للجهل والغفلة اللذين اتصف بهما الخصوم، وكل اثنين من هذه الصفات: الشجاعة والدين ثم العلم واليقظة ثم الجهل والغفلة -كل اثنين منهما صديقان لا يفترقان.

وليس يطرد نجاح كل اثنين من هؤلاء الإخوة أو يطرد إخفاقهما، ولكنها في تقدير البشر ضمانات النجاح في الصفات الأربع الأولى وضمانات الانخذال في الأخيرين، وكان عدم الاطراد لأن من وراء كل ذلك حكمة الله فقد تكون سرا يجري على حسبها القدر من غير أن تكون أمرا منظورا.

وقد اتصف بالشجاعة والدين والعلم واليقظة -بعد صاحب الدعوة- أمراء كانوا كالعقد النظيم تتساوى حباته في جواهرها وأوزانها، وكان أمراء السعودية الأولى كلهم من هذه الحبات فلم ينَ ِواحد منهم أن ينصر الدين مهما كلفته نصرته وأن يصبر للأذى والانكسار حتى لو اقتحموا بأرواحهم الأوار.

1 - الإمام الأوزاعي: 41: 43.

ص: 132

فلما أبعد عبد الله بن سعود آخر أمراء السعودية الأولى من نجد بعد انتصار إبراهيم بن محمد علي ورجوعه إلى مصر في سنة 1234هـ واختلف أبناؤه فيما بينهم على الإمارة -طمع أمراء العيينة واجترؤوا على الدرعية وصار لهم الأمر في ظاهره، إلا أنه لم يمض غير عام واحد أو أقل من عام حتى انتصر في المصاولة أمير سعودي شجاع هو تركي بن عبد الله الثاني ابن محمد بن سعود.

وفي شجاعة وجسارة استطاع تركي أن يهرب من حصار ضربه الأتراك على الرياض، وسرعان ما تحول إلى مهاجمة المحاصرين. وجد في المهاجمة فاسترد الرياض وجعلها مقرا له، وظهر ما كان قد بطن من حب الناس له ولآل الشيخ فدانت له نجد كلها، كما انتصرت مرة أخرى لأحكام الشرع الحنيف.

وما من ريب في أن غزاة البلاد كانوا فيما بين انتصارهم وفك الحصار عن الرياض قد أشاعوا الفوضى وأطلقوا الأشرار وقطعوا الطريق وشجعوا الخلاف بين الرؤساء ليقيموا ملكا على الخرائب، ثم لم يلبثوا أن عجزوا أن يقيموا ملكا على الصالحين أو الطالحين.

وكما استشهد عبد العزيز في السعودية الأولى اغتيالا استشهد تركي في هذه السعودية الثانية اغتيالا، فأعلن فيصل ابنه نفسه إماما وأميرا على نجد، وكان جديرا بهما معا، إذ كان شجاعا لا يهاب، كما كان من أكثر آل سعود تقى وحمية وغيرة على الدين1.

وهكذا في الأنصار والخصوم معا ظهر شرف الدعوة النجدية، فقد رفعت من صفات أتباعها وأخلاقهم في كل سلوك فردي أو جماعي في

1 - جزيرة العرب: 232، 234.

ص: 133

السلم أو الحرب وكانوا إذا شالت بهم كفة الميزان حينا وقعت المحنة على النفوس والبلاد وأهلكت الطريف والتلاد.

وقد وقعت المحنة بفيصل فحاربته تركيا وواليها على مصر إذ رأينا نجدا والجزيرة تكاد تظلهما الوحدة تحت لوائه، فلم يجد مفرا من الاستسلام فحمل إلى مصر وظل بها من سنة 1254هـ إلى 1259هـ. وفي غفلة الرقباء فر الشجاع وعاد إلى بلاده سياسيا حكيما يهادن الأتراك ليفرغ إلى وطنه فأعاد الطمأنينة وأمن الطرق وحمى البلاد.

وبموت فيصل في سنة 1282 – 1866م انتهت السعودية الثانية وتنافس ولداه وتقاتلا، وفي ظل تنافسهما وتقاتلهما استفاد الأعداء من العرب والترك فأجهزوا على الدولة الثانية التي شادها الشجاعان تركي وابنه فيصل الإمام1.

ثم لم يَغِضْ ميراث الشجاعة والإقدام في ذرية فيصل حين استسلم أبناؤه إلى الخلاف والعناد فانتقلت منهم الإمارة إلى غيرهم، وبرز هذا الميراث في عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل الذي قرر أن يُخْطِرَ بنفسه ويمضي من سكناه مع أهله بالكويت إلى الرياض مستحثا آله في نجد وفي بلاد الجنوب.

وبرز الفتى الشجاع ذو الدين إلى أمله في بناء الدولة وتصفية التوحيد ووحدة الجزيرة، ولعله لم يكن يبغي كل ذلك أو يحسبه في قدرته، ولكل حمية الدين والعرق قد دفعت به إلى الاقتحام.

والتقت على صفحتي هذا الرجل المقدام نصائح أبيه عبد الرحمن ومواعظ أمير الكويت وهو الخوف من الترك والعرب والعطش في البادية وقلة

1 - جزيرة العرب: 234 إلى 236.

ص: 134

الأنصار، وكل ذلك على صفحة، وعلى الصفحة الأخرى إرادة وتصميم وحكمة من قائد حكيم.

وفي طريقه إلى المعركة التقى به رجال تبعوه ثم تفرقوا، فلم يبال بأحد غير من خرجوا معه من الكويت من آله ومن حلفائه، ثم جعل يختار منهم كلما تقدم، فيتقدم معه قوم قليلون ويتأخر عنه قوم كثيرون، حتى وقف في الرياض ليلا على قصر الأمير.

وعند الصباح خرج الأمير من قصره إلى مصرعه واستبسل عبد العزيز ورجاله فأزاحوا حرس القصر عن موقفهم.

وما كاد النهار ينتصف حتى أذن المؤذن أن الحكم لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، فسمع الناس وأطاعوا وقامت السعودية الثالثة على ساعد شجاع ذي دين كانت شجاعته ودينه ضمانا جديدا للفوز ودوام الانتصار1.

غفلة الظلم:

وفيما قاله المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بألفاظه كشف لحقيقة من الحقائق التي عاشها، وكانت السعودية الأولى في ظل مذهب التوحيد يظن أنها ذهبت معه ولن يعودا، ولكنها عادت وعاد المذهب، ولم يذهب إلا الظلم عاضا على نابيه حسرة وندما.

قال الجبرتي: "وفي سابع ذي الحجة الحرام من سنه 1233 هـ وردت البشرى من شرقي الحجاز بكتاب من أمير ينبع أن إبراهيم باشا استولى على الدرعية والوهابية، فسر الباشا الكبير -محمد علي- لهذا الخبر سرورا عظيما وانجلى عنه القلق والضجر وأنعم على من بشر بالخبر.

1 - المرجع السابق: 241 إلى 246.

ص: 135

وعندئذ دوت طلقات المدافع من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية وكلها مواقع بالقاهرة ما عدا الجيزة فإنها على الشاطئ الغربي للنيل ولكنها متصلة بالمدينة -وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان- ومن المسلم به أن يكون هؤلاء الأعيان من الأتراك وغيرهم من رجال الوالي- لأخذ البقاشيش.

وفي اليوم الثاني عشر -وكان اليوم الثالث من أيام التشريق وصل المرسوم بمكاتبات من ينبع ومن السويس، وكان وصوله قبل عصر ذلك اليوم، فهللت المدافع ودوت طلقاتها من كل جهة، واستمر تهليل الطلقات من العصر إلى المغرب، وأطلقت مدافع القلعة وحدها ألف قذيفة وصدر الأمر بإعداد الزينات داخل المدينة وخارجها، وأُمِرَ أن يُعَدَّ مهرجان كبير يسير في موكب من أهل الحرف والصناعات كافة، ونصبت السرادقات خارج باب النصر وباب الفتوح حتى يفد عليها المهنؤون.

فلما كان يوم الثلاثاء السادس والعشرون من هذا الشهر نودي على الناس بأن يزينوا الحوانيت والخانات وأبواب الدور ويشعلوا القناديل أمامها طول الليل، وأن يبذلوا من مظاهر اللعب والفرح والابتهاج ما هو جدير بأن يكافئ هذا الانتصار العظيم.

واستطرد المؤرخ الجبرتي يقول: وكل ذلك مع ما كان الناس فيه من ضيق الحال، وما صاروا إليه من الكد في تحصيل المعاش، ولم يكن عند أحد من العامة ما يسرج به بيته من أي نوع من أنواع الزيت، بل إن السمن شح وجوده وصار سلعة مهربة، لا يبيع منه الزيات أكثر من أوقية لمن لا يستطيع أن يرده من عملائه، أو لمن يغليه عليه وهو آمن.

ص: 136

وأقفلت مخازن القمح أبوابها وامتنع الخبز من الأسواق، فأغاث الوالي الناس بالقمح الذي أكله السوس يباع لهم على مكاييل صغيرة، وحين شكا الشاكون من أنهم لا يجدون زيتا دفع إلى الزياتين بمقادير قليلة منه تباع للناس على قدر ما يشعلون به قناديل الأفراح في الشوارع والبيوت وقدام الحوانيت" 1.

وهذا الذي قاله الجبرتي -وهو شاهد عيان- يصف به للأجيال صورة فرح زائف مفتعل وسط هم ثقيل مقيم. وما من بد في أن يكون الشعب المصري قد لقي فرجا وسط هذا التناقض، بإطلاق النكتة على طبيعته لينفس من كربه ويضحك مما هو فيه. ولكن مما يؤسف له أن المؤرخ الجبرتي لم يذكر شيئا من هذا الباب، ولعله خاف الحساب.

ولقد دكت الدرعية حقا وأخذ أهلها بعقاب أليم، ولكن الذي وقع عليه العقاب فيها كان من المباني والأجساد التي تزول، والزوال من طبعها، وحتى لو لم يكن زوالها بالحديد والنار.

ولكن هل زالت تلك التي سموها بالوهابية عن القلوب؟ وهل تزول حقيقة التوحيد الأبدية من النفوس التي تعرف الله أو يبطل ميراثها من جيل إسلامي بعد جيل، حتى ولو لم تبق إلا في سطور وحروف؟! والعصبية القبلية الضيقة التي تؤلف بين أفراد القبيلة مهما أوغلت عصبيتها في الشر، فهل في الإمكان أن تبيدها من النفوس حملة ظالمة تقهر وتمضي في زمن يجيء ويمضي؟ أو هل في الإمكان أن تبيد الحملات الظالمة عصبية موروثة زادتها العصبية للإسلام قوة وتمكينا؟!

ومن عجيب أحكام القدر أننا نكتب هذا الكتاب في عصر زالت

1 - عجائب الآثار 7: 432.

ص: 137

فيه كل دولة محمد علي وبادت من الوجود ولم تبق غير صفحات يتغير التلفيق فيها بعد التمحيص إلى صدق حقيق فتظهر سوداء كثيرة الأسواء في حين تقوم دولة للتوحيد في الجزيرة العربية ومن الدرعية ونجد ذاتها، تلك التي بدأ فيها دعوته محمد ابن عبد الوهاب، وأمراؤها هم ذرية أولئك السعوديين الذين عاهدوا شيخهم على النصرة ونصروه، وأشياخ الدولة هم ذرية الداعي والعلماء الذين تعلموا منهم حقيقة الإسلام وجوهر الإيمان.

ولو استقامت الطريقة في أوانها لكان أولى الناس بالابتهاج والفرح أهل الدرعية حين قاتلوا لتجريد التوحيد وقتلوا، ولكان أولى الناس بأن يكون مخذولا كسيفا أولئك الذين قاتلوا لينقذوا الرجل المريض فقذفوا به إلى الجفير. وعادت أغاني العرس رجع نواح.

توحيد الجزيرة:

وقد ضمن انتصار مذهب التوحيد حين يوحد القلوب أن يوحد البلدان، ومنذ ظفر المذهب في الدرعية على يد السعودية الأولى بدأت القبائل تجتمع بعد تفرق والبلاد تتصل بعد تمزق، وكان أن توحدت أجزاء كبرى من الجزيرة تحت راية عبد العزيز بن محمد بن سعود ثم تم توحيدها تحت راية ابنه سعود بن عبد العزيز.

ولم يكن في قدرة الغزاة ولا المتألبين أن يمنعوا ميل القلوب إلى التوحد إذا ظفروا حينا بتفريق الرؤساء وتمزيق البلاد، ذلك لأن تجريد التوحيد لم يكن بدعة كما ادعوا، ولكنه كان أمرا قديما في الإسلام، ولو لم يجمع محمد بن عبد الوهاب الأفكار التي نقضها والطقوس التي رفضها لكانت مجتمعة من نفسها في تفاريق القرآن والحديث.

ص: 138

وما جاء الداعي للإصلاح بشيء من عنده، بل جاء بما عند المسلمين، وكان يكتفي في الباب بقليل من السطور ليس فيها كلمة ولا حرف من عنده، وإنما هي آيات أو كلمات من جوامع كلم رسول الله. فلم يكن في استطاعة إمام في الدين أو طالب يشدو في أول طلب العلم أن يرد شيئا مما قال.

ولم تكد تخمد جذوة الحرب الوهابية حتى عادت الجزيرة العربية إلى التجمع والتوحد تحت راية السعودية الثانية، ولولا أن فيصلا الإمام وادع الأتراك واعترف بسيادتهم الاسمية ليتقي شرهم لوثب إلى الحجاز أو وثب إليه الحجاز.

وقد ظهر أن الجيوش الغازية حين أثرت في الجزيرة العربية ونجد والدرعية بالإهلاك والتدمير -لم تستطع أن تجتث جذور الإصلاح ولا أن تذود القبائل عن اعتناق الحق والالتفاف حول آل الشيخ وآل سعود، بل ولا أن تعوق انتشار الحق عن عبور الجزيرة إلى أقصى المشارق وأقصى المغارب.

وبرغم كل التدابير الإرهابية فإن الجزيرة العربية أصبحت صدرا رحيبا للمضطهدين كما انقلب المغلوبون إلى قوة سياسية عاتية كونت دولة اشتركت في إقامتها القبائل التي وقع فيها القتل والإرهاب، وكان الاضطهاد كالأساس الوطيد الذي بنيت عليه شاهقات الحصون.

ثم كانت آثار العنف في هذه الحروب داعية -في الداخل- إلى الاعتدال في تطبيق المذهب -فيما بعد- تطبيقا رفيقا دون تضييع لحدود الله أو تشويه لخالص التوحيد.

كما كانت داعية -في الخارج- إلى التقرب من الدولة التي جاءت لإصلاح الدين ونصرة المؤمنين.

وعاد التجمع والتوحد سيرته الأولى بعد التفرق الذي حدث فيما بين

ص: 139

السعودية الثانية والسعودية الأخيرة، ولكنه كان هذه المرة شاملا معظم أرض الجزيرة تؤيده الدول وتشد أزره المعاهدات.

ولقد مكث عبد العزيز بن عبد الرحمن -الملك فيما بعد- يغالب خصومه عشرين عاما، وكانوا خصوما ذوي قوة وعناد من العرب وحكام الحرمين والأتراك، ومرة بعد أخرى استطاع أن يقصي الأتراك عن الجزيرة كلها بمعاونة الظروف التي شغلت تركيا في حرب البلقان سنة 1330 - 1913 م.

ثم استدار الملك يقضي على أطماع البدو ويعيد إلى نجد والأقاليم التي استولى عليها أمنها وسكينتها1. غير أن الحجاز ظل يناوؤه ويتربص به الدوائر، ولكن الملك السعودي اجتذب قلوب المسلمين إليه في أنحاء الأرض كافة، إذ أعلن عن تبنيه للأماني التي يرجوها المسلمون لمهبط الوحي والدين.

وفي لقاء بين جنده وجند الحجاز أصيب خصومه بأفدح هزيمة في الطائف كانت بداية استيلائه على الحجاز، وسرعان ما دخل جنده والمطوعة معهم إلى مكة، ودخلوها صلحا لا عنوة، ودخلوها في خشوع، وغنموا ما نالته أيديهم، غير أنهم لم يقتلوا أحدا، ولم يهدروا دماً. وفي الثالث عشر من ربيع الثاني سنة 1343 هـ - والحادي عشر من نوفمبر سنة 1924 م أعلن الملك أنه داخل مكة لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل العباد، وليس دخوله إلى مهبط الوحي إلا لبسط سلطان الشريعة وتأييد أحكامها2.

ودخل الملك مكة في اليوم الثامن من جمادى الأولى- الخامس من ديسمبر في الشهر التالي لإعلانه، ثم دخلها خاشعا خاضعا غير متجبر ولا

1 - جزيرة العرب: 247.

2 -

المرجع السابق 269.

ص: 140

متكبر، ومن ثم دخل الحجاز كله تحت راية آل سعود وفي مذهب التوحيد، ولم يبق لغير الشرع سلطان على البلد الحرام، ووشيكا دخلت المدينة والثغران جدة وينبع فيما دخل فيه أهل جزيرة العرب فيما عدا اليمن وقليل من الأطراف1 امتداد الآمال:

لقد عزي النصر كله في الدول السعودية الثلاث إلى صحة مذهب التوحيد وقوته في القلوب وبركته على العباد، ولم يكن النصر باكتساب المعارك وحسب، ولكنه كان أيضا بالانهزام فيها والصبر على ذلك الانهزام.

وعزي إلى المذهب ائتلاف القلوب بعد تفرقها واجتماع البلاد بعد تمزقها، وعزي إليه رونق الجزيرة الذي عاد لها براقا أخاذا بعد عصور طويلة كانت فيها الجزيرة وأهلها أحاديث مملولة وحكايات تخيف.

وعزي الزيت الذي تفجر تحت الأقدام فأغنى الجزيرة بعد فقرها وعمر البوادي بعد خرابها وشاد الدور والقصور وبنى المدارس والملاجئ والمشافي وأحدث مرافق الحياة -عزي ذلك كله إلى انتصار المذهب واعتناق الناس له، وليس ما عزي إليه بوهم ولا باطل فإن الله سبحانه يقول على لسان نوح عليه السلام:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح الآيتان: 10-12] .

ويقول سبحانه على لسان هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً

1 - المرجع السابق: 275.

ص: 141

وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] .

وقوله تعالى في أهل الكتب السماوية جميعا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة من الآية: 66] .

ولقد استوى لأهل نجد كافة حين انتصروا بإخلاصهم للدين وتفانيهم في نصرته والاستشهاد في سبيله أن الله لم يمكن لهم من الملك إلا بما أخلصوا وعملوا، وقد تمت لهم الثقة بأنه لن يدوم لهم هذا النصر والتمكين إلا إذا جعلوا للتوحيد سلطانه الأقوى دون أن يشاب بشرك كبير أو صغير.

وما من نصر فازوا به منذ محمد بن سعود إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن وفيما بينهما ومن بعدهما إلا أشاروا إلى سببه الديني في كل خطبة وكتاب وكل تقرير. ويرون أن الله1 لم يصب آباءهم وبلادهم بما كان من عذاب وشقاء إلا من التهاون في أمر الدين، ومن أجل ذلك مكن الأمراء لشيوخ الدين من حولهم، وسمعوا لنصائحهم وأصغوا لوصاياهم ونفذوا ما يشيرون به ما وجدوا لتنفيذه سبيلا، يسدون بذلك كل ثلمة، ويفتحون به كل باب لإعلاء كلمة الله.

ولم يقتصر نفع الرزق الذي فاض في الجزيرة على أهل الجزيرة بل تعداها إلى المواطن العربية والإسلامية، فانتفع به المعلمون والأطباء والخبراء من كل صنف، وكان مال الجزيرة عدة في كثير من النكبات التي تصيب العرب أو المسلمين، فلم تتأخر عنهم يد المعونة لمسح الدموع والأحزان، وبذلك باتت الأرض السعودية أملا ومقصدا دنيويا كما كانت الحجاز أملا ومقصدا أخرويا.

1 - جزيرة العرب: 328.

ص: 142

والأمل الذي تحقق من دعوة التوحيد في داخل الجزيرة ما لبث أن امتد واستعرض فلم يقتصر عليها بل عبروا إلى معظم أقطار المسلمين في الشرق وفي الغرب، وكان موسم الحج في إبان الدعوة وبعدها سوقا رائجة لعرض الدعوة على حجاج الآفاق فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا الناس إليها.

وبرغم ما دس على الدعوة من التشويه فقد صارت الأيام تفصح عن حقيقتها بأنها إنما قامت لرتق الفتوق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام1.

وبهذه القوة المدخرة فيها والمنبثقة عنها أمكنها أن تشعل ثورات أخرى للإصلاح في معظم البقاع.

ففي جبهات الشرق قامت دعوة شريعة الله وسيد أحمد في بنجاب الهند ضد المغول والسيخ والبريطانيين، وكان هذا الزعيم الأخير قد أتى موسم الحج في سنة 1822 م وسمع صوت الدعوة فاستجاب له وعاد إلى بلاده حربا عوانا على البدع والخرافات والتقليد، وأنشأ في البنجاب شبه دولة وهابية لم تنقرض حتى تعرض لها الإنجليز فأخضعوها بعد جهد جهيد، ثم استمرت الدعوة في الذين سموا أنفسهم أهل الحديث، والذين ساهم أعداؤهم هناك بالوهابيين لتشابه الدعوتين2. كما امتد نفوذ الحركة الوهابية إلى قلب سومطرة3.

وفي باكستان قامت حركة (إقبال) التي دعا فيها إلى الإصلاح والتجديد والسير في ركاب العلم من غير خروج عن إطار الدين، بل الدين يحوي في داخله كل ما يحث على العلم ويحض على تحصيله والتوسع فيه. ولم تتعرض دعوة محمد بن عبد الوهاب إلا للبدع والأوهام التي شغلت الناس عن العلم وأبعدتهم من الحقائق. ومحمد إقبال وإن كان في تفاصيل دعوته

1 - محمد بن عبد الوهاب: 124 من حاضر العالم الإسلامي 1: 264.

2 -

دائرة المعارف 5: 143.

3 -

الاتجاهات الحديثة في الإسلام: 54.

ص: 143

لم يكن كالوهابيين فإنه لم يخرج عما أراده ابن عبد الوهاب من النور الذي يبدد الظلمات.

ثم كانت في الشرق كله دعوة جمال الدين الأفغاني، وهي إن لم تكن وليدة الوهابية فإن الوهابية مهدت لها وشجعت النفوس. وكذلك كانت الأفغانية في تفاصيلها غير الوهابية ولكنها في طبيعتها لم تخرج عنها، بل رجعت مثلها إلى عوالي الدين وانحصرت في إطار الفكر السامي للإسلام.

ومن بعد جمال الدين قام تلميذه محمد عبده ومن حوله تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو فنبهته إلى الرجوع إلى بداية الإسلام، ثم أداه اجتهاده إلى أن يسير في طريق ابن عبد الوهاب فيحارب البدع وفساد العقيدة ثم يفتح باب الاجتهاد ويحل الفكر من التقليد والجمود في دائرة المعارف السلفية، وعمل على إصلاح الأساليب الغريبة في التحرير، ثم كان من دعاة التأليف بين الحاكم والمحكوم فللحاكم الطاعة وللمحكومين العدالة، ولا يسود المجتمع إلا بهما1.

وفي اليمن ظهر أعلم أئمته الإمام الشوكاني المولود في سنة 1172 هـ والمتوفى سنة 1250 هـ فكانت حياته في إثر الدعوة الوهابية واشتعالها فسار على نهج التوحيد الخالص وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب2.

وأما في إفريقية الغربية فقد قامت حركات للإصلاح تأثرت بالفكر الوهابي وبما تأثر به المذهب من مدرسة ابن تيمية وابن القيم، وكان منها حركة الإصلاح التي قام بها عثمان بن محمد بن فودي حيث أسس نهضة دينية في القرن الهجري الثالث عشر وهو القرن الذي اشتدت فيه حركة التوحيد، وبلغت آثار الوهابية إلى نيجريا.

1 - أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث: 157.

2 -

زعماء الإصلاح: 18 إلى 22.

ص: 144

وقد صنف ابن فودي نحوا من نيف وعشرين كتابا كان منها كتاب "إحياء السنة وإخماد البدعة" وقد أوجب هذا المصلح في كتابه هذا فصل الآراء الدخيلة على الإسلام عن آرائه الأصيلة فسلك طريقا ميسرة واضحة، فبين للناس حقيقة السنة وباطل البدعة في كل باب من أبواب الفقه كاشفا عن الأصل الذي هو السنة وما طرأ عليه من الابتداع1.

وبانتشار المبادئ التي قامت بالدعوة إليها هذه الحركات الإصلاحية نشط زعماء المذهب السلفي في بلاد الأمة الإسلامية كلها في آسيا وإفريقية.

وقد لقيت كل هذه الحركات اضطهادا وعنادا من المسلمين ومن أعدائهم، ولكنها ما لبثت أن انتصرت وقامت عليها دول وأشباه لها من قوة الرأي وسداد الحكم وحسن السلوك.

وقد امتاز بعض هذه الدعوات بامتشاق الحسام، وذلك من شدة تأثيره وامتلاكه للنفوس والتقائه بالأقوياء الذين استطاعوا أن يبسطوا أيديهم لنصرة الحق وتأييد الدين، بل ربما كان السلاح أحيانا نوعا من الرفق إذا ما حصل به الداعي نصرا للحق وإزهاقا للباطل2.

ولم تنته بعد آمال النفوس في أن ينتصر الدين وينتصر أهله حتى يعود للمسلمين ما كانوا فيه من قوة ومنعة، وليس بعد الإسلام من دين تحق له النصرة، وليس بعد إسعاده للناس من يد تمتد للخير والنفع والإسعاد، لكل العباد.

1 - انظر كتاب إحياء السنة وإخماء البدعة - الاتجاهات الحديثة في الإسلام: 55.

2 -

انظر فصل البعث الجديد في إحياء السنة بكتاب شيخ الإسلام أحمد بن حنبل.

ص: 145