المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌دعوة التوحيد جوهر الدعوة ولما درس ابن عبد الوهاب علوم الحرب الأصيلة - داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب

[عبد العزيز سيد الأهل]

الفصل: ‌ ‌دعوة التوحيد جوهر الدعوة ولما درس ابن عبد الوهاب علوم الحرب الأصيلة

‌دعوة التوحيد

جوهر الدعوة

ولما درس ابن عبد الوهاب علوم الحرب الأصيلة والدخيلة وغلبت عليه النّزعة الدينية واطلع على أقوال المذاهب واعتنق مذهب الحنابلة وقصد البلدان سائحا، معلما ومتعلما1 أنعم النظر في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: حال المسلمين وبني قومه في غرائزهم وميولهم وطبيعة قواهم وما صاروا إليه من فساد في العقائد وابتداع للطقوس.

والأمر الثاني: علاج هذه الأدواء باستخدام الغرائز والميول والمقدرات، ثم اهتدى إلى الثالث وهو الدواء، ولما كانت قد غلبت عليه النّزعة الدينية فإنه لم ير في غير استقامة الناس على الشريعة دواء ولا شفاء. وأس هذه الشريعة عقيدة التوحيد. وهي في الإسلام موجبة أن يترك الناس آلهتهم المتفرقة إلى إله واحد، إذ كل عابد يتصور إلهه عظيما وأعظم الآلهة، فكل من لا يقبل على عقيدة التوحيد مصغر لآلهته مدن لها من الأرض.. والعقل المسيطر الجبار لا يرضى أن يخضع لإله صغير محدود، بل هو في الملحدين يحاول أن يحطم فكرة غير المحدود.

فالدعوة إلى التوحيد في الإله الأعظم ذي الأسماء والصفات مكمل لعظمة الفكرة مقبول من كل عقل سديد2.

1 - تاريخ العرب العام: 509.

2 -

من حضارة الإسلام 1، 13،14.

ص: 65

والتوحيد الذي يطابق شرف الذات والعقل جاء به الإسلام، فرفع الوجوه عن السجود للأوثان البشرية وغير البشرية من كل كائن مخلوق، وبدأ به أولا لأنه أخطر وأشق، وبغيره لا يكون الانتقال من عبادة إلى عبادة، بل هو بمثابة الإقرار بالحق، وبدونه تكون الاستهانة، وهذا سر أسبقية الشهادتين في الإسلام وكونهما الركن الأول فيه1.

وكان أمرا ضروريا لانتظام الناس في سلك عقيدة موحدة ومساواة عادلة أن تتقدم مرتبة الإيمان فيطلب إليهم قبل كل شيء أن يؤمنوا.

ولو ترك للعقل والعلم ما وكل للإيمان لما استطاعا أن ينظما الناس في سلك واحد، إذ كما يقع الاختلاف بين العالم والجاهل يقع بين العالم والعالم، فلا يمكن جمع العلماء على نظريات علمية يختلفون في إدراكها إلا إذا أصبحت عندهم من البدائه -أي في درجة الإيمان- ولكن العقيدة في إمكانها أن تجمع بين المختلفين مهما اتسعت مسافات الاختلاف بينهم. ولا سيما إذا كانت سهلة ميسرة كالعقيدة الإسلامية التي بدأت بالتوحيد.

وفي الإمكان أن تكون مسؤولية الجميع متساوية أمام العقيدة، من حيث تختلف المسؤولية ولا يمكن أن تتساوى أمام العلم والعمل، لأن إدراكات العقل متفاوتة بنسبة الذكاء وما يدرك من مسائل العلم.

ودرجات العمل متفاوتة بحسب الذكاء والفكر والقوى المبذولة. أما العقيدة فلا تحتاج إلى جهد من عمل أو موفور من عقل وذكاء، بل يكفي فيها صحة العقل وسلامته من الآفة، ولذلك بدئ بالعقيدة لإمكان التساوي فيها بين من يعرف الدليل ومن لا يستطيع أن يتهجى حروف الاستدلال.

وقد بدأ الإسلام بالإيمان وجعله الفرض الأول ليكون حصنا يحمي الحضارة التي تبنيها العقول والجهود من أن تتسلط عليها معاول الهدم التي

1 - المرجع السابق: 21.

ص: 66

هي الأدوات الدائمة في يد الكفر والإلحاد. وليس بدعا ما بدأ به الإسلام، فكل شريعة منظمة تفرض الإيمان بها أول ما تفرض، ثم تطلق الأيدي والأفكار في داخل نظامها، فإذا جاوزت هذا النطاق وتعدت حدوده عدت هدما وتدميرا. ولا يحتاج إدراك هذه الحقائق إلى ذكاء. أما من يطلبون أن يعمل العقل أولا ليدرك من نفسه وجه الإيمان فأولئك دعاة السير في الظلام، وفي الظلام لا يهتدى إلى حق ولا باطل، وهي منْزلة أشد خطرا على الإنسان من انعدام الإيمان.

ولئلا يحس العقل نفسه وحيدا في وحشة الدنيا مضطربا في استبانة الطريق عجل له الإسلام فلقنه الإيمان ليثبته إذا اضطرب ويؤنسه إذا استوحش، ثم يدفعه ليرى في ضوء ساطع ونور واضح.

والقلب لا يندفع إلى حركة عادلة إلا إذا هدأ، ولا يتناول الأفكار والأعمال تناولا قاصدا إلا إذا اطمأن. والإيمان - مع أنه في منْزلة البديهة إذ هو استجابة للشعور بالقوى الجبارة الخفية التي تسير الكون كله -فإنه هيوب- كما قال الرسول الكريم - يمنع صاحبه أن يقدم على الآثام والذنوب إقدام المرتكس الضال1.

والحقيقة الأولى التي هي الإله الواحد الذي ليس كمثله شيء نادى الإسلام أن يستيقظ لها العقل ويتنبه، وكانت دعوته مناسبة لجوهر العقل ذاته، إذ كل ما انحط تحت الحواس فأدركته صورة المادة أو توهمه الخيال صورة منسوجة الخيوط منها أو قعد عن إدراكه الجهل فأطلق لغريزة العناد أن تقابله بالجحود والنكران - كل ذلك حمى الإسلام العقل منه وناداه أن يعبد غير المحدود، فإذا عبد العقل غير الذات المبرأة عن

1 - انظر المجازات النبوية: 174.

ص: 67

الحدود فقد أنكر ذاته أو تدهور، إما إلى دركات الحواس وإما إلى ظلمات الجهل والخيال.

وحين سبق الإسلام بمرتبة الإيمان وعبادة الإله الواحد المنَزه عن الشبيه ترك للعقول أن تتقلب في حدود مقدرتها لتصنع الدليل، وهي رحمة بالعقول ودفع للثقة بما تفعل.

فقد حرّضها على أن ترى الغائب من الشاهد والصانع من الصنعة والوحدانية من اتساق النظام وتناقضه في الكون المخلوق، وإذا لم يفعل العقل ذلك جهل ذاته وجوهره.

ومهما اعتورته في استدلالاته شكوك وريب واعترضته مشاق وجهود فعليه أن يجري في مجراه حتى يأتي اليوم الذي يكون علمه بالله تعالى فيه علم اضطرار غير مشوب بكلفة ولا معقود بمشقة.

ولن يكون ذلك إلا في الدار الآخرة كما ورد في آيات القرآن وأحاديث الرسول1.

وحفاظا على كيان العقل وجوهر ذاته، وتسديدا له ليسير في طريق العلم النافع، وتيسيرا للجهود أن تسلك طريق السلامة -حارب الإسلام السحر والتخرص والتنجيم والأخيلة الكاذبة والخرافات، ولم يرض بغير ما يسمو بالعقيدة ويسدد طريق العبادة ويقوم الخلق ويرقق الطباع ويرهف الملكات وينظم المعاملات ويحسن كل مقومات الحياة2.

وقدم الإسلام دواءه الناجع في تعاليم وأحكام بناها على الحوادث اليومية في مدى ثلاثة وعشرين عاما هي زمن الوحي والنبوة، ولم تجئ تعاليم منقطعة عن الحوادث البشرية فصحت دعوى الإسلام بأنه من بين الديانات

1 - المرجع السابق: 53 - ودليل القرآن قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} سورة القيامة: 22 - ودليل الحديث قوله صلى الله عليه وسلم – "ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" المسند 4: 360 ، 362 - المجازات النبوية:45.

2 -

من حضارة الإسلام 1: 62.

ص: 68

كلها كان حلا لحوادث الأزمنة التي لا بد أن تكون متشابهة مهما تكررت، وليست تعاليمه غريبة عن أي زمن منها، إذ هي الأصل في تلك الحلول.

وهذا كان جوهر الدعوة أول ما جاء الإسلام، وقد رآه محمد بن عبد الوهاب جوهرها في كل مرة نسي فيها الإسلام، ولم ير غيرها صالحا للإصلاح وتسديد خطى المسلمين كلما فسد الزمان واعوج الإنسان.

الأسباب والوسائل:

ولم تهدأ فكرة الإصلاح الديني عند المسلمين يوما ما، وكانت الفكرة تعلو وتشتد كلما فسد المجتمع الإسلامي وضعف وكثرت شروره، لأن المسلمين يشعرون شعورا قويا بأن كل فساد وضعف يصيبهم فإنما مرده إلى الدين.

وقد نهض بنو تيمية في القرن السابع الهجري ينبهون المسلمين إلى ما وقعوا فيه من الانحراف عن الطريق القويم، وأخذ تقي الدين يصلي الحكام علانية تهمة المروق من الدين، ولا يرحم علماء عصره الذين ضلت طرقهم في الإرشاد والإفتاء وأهملوا هداية الناس، وكان في ذلك متبعا لإمامه أحمد الذي أنحا باللائمة على أئمة الأمصار في كتاب الصلاة لتقصيرهم في تعليم الناس.

واستنكر تقي الدين ما شاع في زمانه من العادات والطقوس المخالفة للشريعة فحث العامة حثا عنيفا على تركها.

ومع اختلاف الناس في تقدير دعوته ودعوة تلميذه ابن القيم فقد شغلتهم غارات التتر حينا وانصرف تقي الدين نفسه مع العامة إلى القتال والمدافعة باليد واللسان، وحتى لو لم تكن غارات التتر قد صادفت زمانه للقيت ثورته عنتا من

ص: 69

الجامدين والمغرضين، لأن حضارتهم الدينية كانت قد صارت خليطا غير فصيح من الإسلام والإلحاد1.

فلما مضى الزمن واعتنق هذه المبادئ محمد بن عبد الوهاب، استطاع أن يجعل منها برنامجا عمليا ينقذ الناس، ووقع في حسابه أن الدولة العثمانية المسيطرة على بلاد العرب جميعا لم تدع إصلاحا يسير في طريقه خوفا من أن يهدد كيانها ويزيدها مرضا وعناء.

وكانت تجارب ابن تيمية قد أكدت أن لا أمل في عون من رجال الدين الذين تنتظمهم الحواضر الإسلامية والذين تحولوا بفعل الأنظمة السياسية البشرية إلى موظفين رسميين جامدين لا يميلون إلى تغيير أو تبديل بسبب أرزاقهم ومناصبهم، وحتى من كان منهم ذا نفس تواقة إلى الإصلاح فإنه كان يخشى الفشل والإخفاق2.

وأفادت هذه التجارب شيخ نجد فباعد بينه وبين الحواضر، ورأى القدر قد أعانه بأن كان أحد أبناء البادية التي تغرق طبيعتها فيما هو أكثر من الزهد والتقشف، فصمم على أن يبدأ دعوته بها، وكانت أجدر بالدعوة وأولى، إذ كانت هي الأخرى قد صارت مرتعا لفاسد العقائد والطقوس، وقد تمزقت أفلاذا بين القبائل المتعادية المتحاربة، وبات الناس فيها محكومين بأهواء الأمراء والعمال بلا شريعة ولا قانون3 فلعلها -على ما بها من فساد- تقبل الإصلاح وتسرع إليه.

وعاد شيخ نجد من رحلته إلى العارض وبدأ بالاحتجاب عن الناس وانصرف للقراءة والتأمل، وظل على تلك العزلة ثمانية أشهر، حتى إذا

1 - الشرق الإسلامي: 188.

2 -

المرجع السابق: 190.

3 -

جزيرة العرب: 320.

ص: 70

استوى له النظر وصدق العزم خرج إلى قومه بني تميم يحمل في يده كتيبا صغير الحجم -ولعله هو الذي أعده من أصول التوحيد وكتبه واضحا موجزا مجملا- ثم قال: أشهد الله أني مقتف ما في هذا الكتاب، وأنا أقول: إن الذي سُطِّر فيه هو الحق وحده لا غير.

وكان هذا بدءا من الداعية فيه كمال الروعة إذ بدأ بنفسه لتكون قدوة، وأشهد عليها أنه عامل بما في كتابه، ولم يقل كلاما يصح أن يغبر عليه ويتهم بما لم يقله، بل قدمه مدونا مكتوبا لتكون الحجة له فلا يغيَّر قوله ولا يزيَّف، وكأنما كان يحس بما حدث من بعد من اتهامه بالابتداع، فأراد أن يفقأ عيون متهميه بما هو مدون مكتوب.

وتقدم منه كبير من قومه الذين كانوا اجتمعوا له ونظر في الكتاب فإذا هو الحق، إلا أنه لم يرسم فيه طريق الدعوة له وضمان نجاحها فسأله عنهما فقال الشيخ: بالنصيحة فإن لم تجد فإلى السيف1.

وبدت وسائل الدعوة عند الشيخ كلاما وكتابة وسيفا، ومن وراء هذه كلها علم وسياسة وإرادة وتصميم، وسير في حدود الشريعة التي لا ينكرها منكر وركز الشيخ دعوته ودون أركانها في رسائل موجزة مستندة إلى النصوص حتى تكون حجة لا تغلب، فدون ثلاثة الأصول وأدلتها وأربع القواعد وشروط الصلاة وكشف الشبهات ورسالة المغربي وكتاب التوحيد2.

أما ثلاثة الأصول فمعرفة العبد ربه بآياته ومخلوقاته، والله هو مستحق

1 - لمع الشهاب: 27.

2 -

انظر هذه الرسائل في مجموع رسائل المنار المطبوعة بالقاهرة سنة 1340 هـ - ما عدا رسالة المغربي وكتاب التوحيد.

ص: 71

العبادة دون شريك له من مخلوقاته التي هي الكائنات، وأدلة المعرفة وأنواع العبادة مبثوثة في القرآن، ثم معرفة الدين على مراتبه من الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، وكل مرتبة من هذه المراتب الثلاث لها أركان، ثم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بنسبه ونبوته ورسالته التي ختمت بها الرسالات التي بدأت بأبي البشر الثاني نوح عليه السلام1.

وأما أربع القواعد - وقد ساق عليها الأدلة من القرآن - ففيها دراسته التاريخية لدعوة التوحيد حتى صار الأمر إلى ما صار إليه.

وأولها أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون ويقرون بأن الله هو الخالق المدبر، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام حيث جانبوا تقوى الله وإخلاص العبادة له وحده.

وثانيا أنهم لم يدعوا الشركاء إلا ليقربوهم إلى الله زلفى فعد ذلك منهم شركا، فلم يقبل منهم أن يتخذوهم زلفى وشفعاء إليه.

وثالثها أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس تفرقت عباداتهم بين الملائكة والأنبياء والصالحين والكواكب والأشجار والأحجار، وقد قاتلهم الرسول جميعا إذ هم في الضلال سواء.

ورابعها أن مثل هذا الشرك قد صار إلى زماننا الأخير، بل صار أغلظ من شرك الأولين، من أنه طمس الإسلام الصحيح ومن أنه صار شركا دائما يلجأ فيه إلى الشركاء في الشدة والرخاء، بينما كان المشركون قبل الإسلام يلجؤون إلى شركائهم في السراء ويخلصون اللجوء إلى الله في الضراء.

وأما شروط الصلاة فقد أوضح أنها تسعة: الإسلام والعقل والتمييز ورفع الحدث وإزالة النجاسة وستر العورة ودخول الوقت واستقبال القبلة والنية.

وقد فصل في رسالته هذه الشروط وأوضحها وجاء بأدلتها من

1 - وقد نشر سعود بن عبد العزيز في السعودية الأولى هذه الرسالة بمكة ونسب إليه أنه يوضح فيها آراء معلمه. تاريخ العرب العام: 510

"حديث الرسول عن نوح أنه أول الرسل إلى أهل الأرض": انظر البخاري: 4: 164.

ص: 72

القرآن والحديث الصحيح. ثم استطرد ففسر الفاتحة وذكر كثيرا من سنن الأقوال والأفعال.

ورسالة كشف الشبهات فصل فيها ما أثبته في ثلاثة الأصول. ثم استطرد إلى سد أبواب الحيلة لتقديس الموتى مستدلا بما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وما عمله خلفاؤه في البقية التي كانت قد بقيت من الشرك. ثم ختم الرسالة بتعريف التوحيد وبيان حده مبينا أنه يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل من هذه شيء لم يكن العابد مسلما، بل يكون كافرا أو يكون منافقا.

ورسالة المغربي -وقد أرسلها في الموسم إلى شيخ الحاج المغربي- جمع فيها أنواع العبادات الفاسدة كلها، وأرشد إلى وجوب إقامة الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع -ولعله كان تلبية لدعوة إمامه أحمد الذي دعا لكل من يبلغ كتابه في الصلاة إلى الناس1 ثم أوضح في الرسالة فروض الإسلام وأمر الحسبة فيه2.وأما التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فقد صنف فيه كتابا هو أجمع ما كتب.

وقد جعله أبوابا بلغت سبعة وستين بابا تختلف طولا وقصرا مع اتصافها جميعا بالإيجاز والوضوح.

وكل باب منها أسانيد من القرآن أو الحديث أو هما معا على ما يريد أن يثبته من التوحيد الصحيح أو العبادة المشوبة بالشرك. وقد تلقف أهل نجد هذا الكتاب في أيام صاحبه وانتشر سريعا في أرجائها3.

ويبدو أن محمد بن عبد الوهاب كان قد جرد قلمه لكل بدعة يراها

1 - انظر فصل علوم الدين في باب صنوف العلم بكتاب شيخ الأمة.

2 -

انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية وباب الحسبة في الأحكام السلطانية لابن أبي يعلى الحنبلي.

3 -

الوهابية وزعيمها: مقال.

ص: 73

وهو في رحلته، ثم صار يدون من القرآن والحديث ما يبرهن به على كل بدعة ويثبت فسادها، ومن أجل ذلك جاء كتابه في التوحيد حافلا بالكلام عن العبادات والعادات والطقوس الزائفة والبدع التي عمت الأمصار والبوادي، ولم ينس فيه فساد آداب المجتمعات ومغالاة الناس في الهزل وإطلاق الألقاب، كما لم ينس أن يحارب التأويل وجحدان أسماء الصفات وبدع الجهمية في التعطيل، ثم أوضح كراهة الحلف والتصوير والسماع.

وربما جاء في الكتاب ببابين أو أكثر في موضوع واحد كما فعل في السحر، مما يثبت أنه كان يكتب ما يراه ثم يعود إليه فيكمله إذا رأى فيه جديدا ويجعله بابا مستقلا1.

هذا ولم يغفل محمد بن عبد الوهاب أن يكون من أسباب دعوته ووسائلها الاستعداد والرمي وبناء الجيوش والحصون وموازنة الأموال وإقامة العدالة وتأليف القلوب وتأمين السبل ولا سيما طريق الحج، وباتخاذ الأنظمة التي تكفل قيام الدولة وبقاءها في حدود الشريعة الإسلامية وحمايتها2.

خلق الوفاء:

ولقد كان محمد بن عبد الوهاب وآله أوفياء بكل عقد عقدوه بينهم وبين الله أو بينهم وبين الناس، وهي صفة المؤمن الخالص في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة من الآية: 1] .

أما وفاؤه ووفاء أهله لما عاهدوا الله عليه فإنهم صبروا جميعا

1 - انظر كتاب فتح المجيد ثم انظر بابي السحر: 207 ، 214.

2 -

جزيرة العرب: 220.

ص: 74

لما أصابهم من الأذى في سبيل الله، وكان أول ما لقي شيخهم من الأذى ما أصابه في اليمامة من ابن عمه عبد الله بن حسين من آل سنان حين جادله فيما سماه عبد الله بالابتداع ولوح له بالسيف فجرحه في يده وجمع له بني تميم فأخرجوه، ولم يبد من الشيخ أنه رد على هذه الأذية بعد أن اقتدر، وكأنه اهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا الله لقومه الذين أخرجوه وقاتلوه قائلا:" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "، فلم يقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على السكوت، بل عفا عنهم وأشفق عليهم ثم اعتذر عما جهلوا لتكون الرحمة مرجوة والغفران مقبولا1.

ثم وفَّى محمّد وأهله في بيعتهم لله فصبروا في كال هزيمة نزلت بهم ولم ينكسوا لدعوة راية، ولم يحوروا فيها بالتليين والترقيق لئلا تخرج عن الجادة المستقيمة بل مضوا قدما يحملون الراية واحدا في إثر واحد وهم يؤمنون بنصر الله. وضرب الله وقعة أحد مثلا رائعا لأصحاب الحق إذا انكسروا عن خطأ أو ظلم. فاتخذها ابن عبد الوهاب درسا لنفسه وللأمراء والجند إذا انهزموا في معركة من المعارك، وكان يؤثر الوعظ بها فيؤثر في النفوس تأثيرا بالغا، فترتد القلوب إلى الصدور إذا بلغت الحناجر وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا2.

وحين خرج محمد بن عبد الوهاب من العيينة إلى الدرعية ولقيه أميرها محمد ابن سعود هو وابنه عبد العزيز وكثير من أهل بلده وتلقوه جميعا بالإجلال والترحيب وأنزله ابن سعود في منْزله بعد أن أخلاه له وآثره به، وتبايعا على نشر الدعوة وتقويم الطريقة، وتعاقدا على أن تكون

1 - الشفا 1: 79.

2 -

جزيرة العرب: 220.

ص: 75

إمامة الدين لمحمد بن عبد الوهاب -وهي الإمامة الكبرى- ومعها ما يقيم أمور الدنيا ومصالح المؤمنين من تدبير مال أو شن حرب وعقد صلح. وأن تكون رياسة الدولة لمحمد بن سعود رياسة تحت راية الدين منذ حدث ذلك وفّى كل منهم لصاحبه أو لعقده الذي عقده وصفت قلوبهما عن صدق ظاهر وباطن، ثم انتقل هذا الصدق في الوفاء والصفاء إلى ذريتهما فحلا مقيمين لا يرتحلان من نفوس الأولاد والأحفاد.

وكان مظهر الحب والإخلاص باديا في الدرعية بأجلى المظاهر، فكانت دار الشيخ حافلة بالأمير وآله من آل سعود لا ينقطعون عنها ليلا ولا نهارا، يتلقون عنه دروس التوحيد، ويجلسون بين يديه في حشمة ووقار، فأعادوا هيبة دروس القرآن والحديث وهيبة شيوخ الأمة حيث لم يكن الطلاب يجرؤون أن يسألوهم إلا إذا بدؤوهم بالكلام1.

وكما حدث من محمد بن سعود من الطاعة للشيخ والاهتداء به حدث من ابنه عبد العزيز له، وسار كل منهما وفيّا لصاحبه عاملا بأقصى ما فيه من جهد وإخلاص على تجديد ما اندرس من معالم الدين، وعلى توحيد ما فرق من القلوب والبلدان.

فلما صرع عبد العزيز في سنة 1318 هـ - 1804 م بويع لابنه الأمير سعود، وكان الشيخ الإمام هو الذي أخذ له البيعة بعد أبيه في 1302 هـ أي قبل مصرع أبيه بستة عشر عاما عاشها سعود كلها وليا لعهد أبيه، وقد كان أحق بها لأنه كان أكبر أبنائه سنا وأشدهم بأسا وأنفذهم بصيرة وأكثرهم تفانيا في الدعوة إلى خالص التوحيد2.

ومن بعد الشيخ كان حسين وعلي وعبد الرحمن وعبد اللطيف ومن

1 - لمع الشهاب: 35.

2 -

جزيرة العرب: 222.

ص: 76

بعدهم ذريتهم، كانوا هم الهداة والأئمة.

وكانت لهم المنْزلة الأولى في الدين والثانية في الدولة بعد الأمراء، ولم يبد من واحد من هؤلاء أو هؤلاء طمع أو بغي، بل ساروا صفا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

ولقد كان لهذا الوفاء المخلص المتبادل بين الجانب الديني والجانب السياسي أثر عظيم في نفوس القبائل قريبها وبعيدها حبيبها وعدوها، وفي نفس الأحداث التي وقعت من هزائم وانتصارات، فسارت فتوح آل سعود في الجزيرة قدما تحت راية الوهابية، وكان على من لم يطع الدعوة الخالصة عن رضا أن يطلبها عن هيبة أو رهبة، وتوحدت الجزيرة بعد زمان طويل تلقت آلامه وتشبثت بآماله الأسرتان العربيتان المجيدتان.

سواعد الأنصار:

منذ انتهى عصر الخلفاء الراشدين انفصلت قوة الدولة الدينية عن قوتها السياسية وصار الأمير العباسي صاحب السلطان الأول بل المطلق في الدولة الإسلامية. أما رجال الدين فصاروا بين اثنين، واقف على باب السلطان وممتنع أبي على السلطان. وقد ثبت أن الأئمة الأباة قد اكتسبوا مجد السيرة وإكبار الأجيال. ومع رفعة مقاماتهم في النفوس وانعطاف القلوب عليهم في الحياة والموت وبعد الموت أكثر مما نال الملوك والأمراء فإنه يعز على الباحث أن يجد أميرا قد اشتهى أن يكون إماما من أئمة الدين ويبيع به منصب الأمير.

ولو أنه حدث حينا فإنه لا يتم، كما حدث من المأمون العباسي في أول عهده بالخلافة. إذ أحب أن يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث مجلسا واحدا ثم انقطع، لأنه لم يجد في حديثه لذة في نفسه، ولأنه حدث حاشيته المشغولة بالمناصب العليا ولم يحدث أهل الخلقان والمحابر،

ص: 77

ولأنه لم يكن منصرفا حقا إلى أن يكون أحد أئمة الحديث1.

ومضى الأمر في الدول الإسلامية على طراز واحد أو متقارب حتى جاء محمد بن عبد الوهاب وتعاقد مع الأمراء السعوديين فأقبل كثير منهم على الإمامة مع الإمارة، ولم يأنف واحد منهم أن يتلقى دروسه ومواعظه على الشيخ وأن يبلغ في العلم والعمل والحرص على معرفة التوحيد والدعوة إليه كما حرص عليه وعرفه الإمام.

وفي السعودية الأولى بلغ عبد العزيز بن محمد بن سعود درجة الإمامة لما اتصف به في ظاهره وباطنه من التواضع والإخلاص والبعد عن زخارف العيش ورافه الملبس والمأكل، وقد تشدد في الدين ونفذ أحكامه وواصل عمل أبيه في القضاء على البدع والخرافات والمفاسد، ونشر راية التوحيد الخالص، ثم قسا كل القسوة على قطاع الطرق في البادية والعابثين بالأمن في البلاد وجعل عقوبة هؤلاء وهؤلاء في الأبدان والأموال حتى يرتدعوا2.

وقد حدثوا عن إمامته بأحاديث لم ينسب أمثالها إلا للخلفاء الأولين، فقد سلبت امرأة من أهل بريدة ذات ليل وغاب السالب، وبعد أربعة عشر عاما جاء به الأمير مكبولا وغرمه المال ونكل به أشد تنكيل. ولو وقع مثل هذا الحادث في أشد البلاد ضبطا وغاب السارق كل هذه الأعوام لغابت المعالم واطمأن السارق، ولكنها لم تغب عن الأمير الإمام بعد أن كانت المعالم القوية قد اختفت في طيات الأزمان3.

وحدث أن سب الأمير رجلا من جلاسه، وكان هو قد حرم

1 - انظر فصل رحبات الحديث في باب فتنة المعتزلة بكتاب شيخ الأمة.

2 -

جزيرة العرب: 221.

3 -

لمع الشهاب: 53 وتفصيل القصة يأتي في باب بناء الدولة.

ص: 78

الشتم والسب على الناس، فشكا الرجل أميره إلى الإمام الذي أمر بإحضار أمير المسلمين. ومثل الأمير وخصمه بين يدي الشيخ وأقر الأمير بذنبه وأبدى رغبته بأن يفدي الشتم بالمال فأبى الشاكي، فما كان من محمد بن عبد الوهاب إلا أن نال الأمير بعصا التأديب1.

ولم ينكسر طوق العدالة في أيام السعودية الأولى وفي حياة الإمام ومن بعد موته حتى انتهت بعبد الله بن سعود، ومرت أيامها عدالة ومساواة برغم ما أصيبت به دولتهم بحروب طاحنة من قبائل الجزيرة ومن الغرباء.

وانفتحت أبواب العلم الديني والتاريخ والأدب وشعر الحماسة فولجها الأمراء وبنوهم. ولم يقف الإمام سدا أمام أي من العلوم إلا إذا كان محظورا من الدين2.

وانتقلت الإمامة والإمارة في هذه الدولة من عبد العزيز إلى ابنه سعود فكان أكثر حظا من العلم بأصول الدين والفقه والحديث. وقد أعانه على هذا التوسع العلمي أن كان الشيخ جده لأمه، فكان الشيخ إذا ألقى دروسه على أفراد الأسرة لقي منه إقبالا أكثر، فآثره بالعناية والزيادة مما يرغب فيه3.

وألغى سعود الألقاب وبدأ بنفسه فلم يحفل بلقب الأمير فتنادى الناس فيما بينهم بالأسماء والكنى، ولم يفرق بين أمير ومأمور ورئيس ومرؤوس، ولكنه أبقى على لقب الشيخ للأئمة من أهل العلم، كما لبس من الزي ما يلبسه الناس ولم يميز نفسه عن قومه بإشارة ولا لباس4.

1 - المرجع السابق: 54.

2 -

المرجع السابق: 56.

3 -

المرجع السابق: 35 - جزيرة العرب: 222.

4 -

جزيرة العرب: 223 - لمع الشهاب: 45.

ص: 79

وامتدت قوة الإمامة وبقيت آثارها في أبناء الشيخ وأحفاده فلم يسيروا على غير الجادة، ومن ثم طلب فيصل بن تركي في السعودية الثانية مكان الإمامة مع مقام الإمارة. ومع أنه لم يخرج بالدعوة عن نجد والأحساء وعمان وقطر وعسير مسالمة للأتراك فإنه أدنى منه حفيد الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن فكان في الدولة في المكان الذي يليه1.

وعني الإمام فيصل بمظهر التواضع وإشاعة العدل وكفالة الأيتام وإعادة الطمأنينة للقلوب ونشر الأمن، فاستمتعت نجد والبلاد التي امتد إليها ملكه - وهي أرض السعودية الأولى ما عدا الحجاز - بالهدوء والرخاء.

وفيما بين سنة 1259 هـ وسنة 1281 هـ التي تولى فيصل فيها الإمامة والإمارة وهي مدة تربو على عشرين عاما خضعت قبائل وبلاد شتى، وما لم يدخل تحت رايته وظله أدى إليه ضريبة الخضوع. أما مذهب التوحيد فقد ظفر ظفرا كبيرا ودخل فيه الناس أفواجا2.

ولم يقف معظم الأمراء بعيدا عن العلم وتحصيله أو الدعوة والجهاد في سبيلها، بل اجتمعوا على نصرتها، ومن لم يكن له حظ واسع من العلم كان له حظ واسع من الجهاد، فكان لهم جميعا سواعد قوية في نصرة مذهب التوحيد.

تهافت الخصوم:

ولقد كان لاجتماع شيوخ الموحدين والأمراء السعوديين على الوفاء للعهود ونصرة التوحيد أهداف تحققت وآثار بقيت. ومهما اجتمعت نواحي

1 - جزيرة العرب: 235.

2 -

المرجع السابق: 234، 236.

ص: 80

الجزيرة وقبائلها في أيام الدولتين الأوليين وتفرقت فإن مذهب التوحيد الخالص قد عرف وتجاوز الجزيرة كلها إلى خارجها ودق أسماع الناس في سائر البلدان.

وإذا كانت سياسة القمع والاضطهاد من الترك وعمالهم على الأقاليم قد أنزلت بأرباب الدعوة ضربات، وحشدت من علماء الأمصار وكل المذاهب عملة منافقين يرمون الدعوة بأنها بدعة، والجد فيها بأنه عنت، والأمل بأنه طمع، فإن حجة الدعوة قد قامت وتعلقت بضمير التاريخ الذي حكم عليها -فيما بعد- بأنها كانت حقا ظلم ونصرا مني بالهزيمة، وضوءا ألقيت عليه ستائر الظلمات.

ونفوس المسلمين التي أرهقتها الشروح المطولة والمقالات الغامضة فلعبت بها الحيرة والضياع كانت كالأرض الخصبة التي سيبوا عليها سيلا من الماء كالطوفان رجاء أن يرويها فأغرقها -هذه النفوس حين أضاءت لها مبادئ التوحيد التي نشرها الشيخ المعلم في كلمات موجزة واضحة ما لبثت أن عرفت أنها غرقى في طوفان من الآراء المقلقة والطقوس المريبة، وحتى لو كانت من بينها نفس تهوى ما يسمى بحرية الرأي وسعة آفاق العلم فإنها من داخل وجدانها كانت قلقة ضائعة لا ترى طريقا قويما تسير فيه.

وجزيرة العرب التي رضخت زمانا لوطأة القرامطة الذين تذرعوا بأسوأ المناحي ولم يبالوا بغير قضاء المآرب العاجلة والشهوات الفانية أفاقت على حركة مطهرة تدعو إلى الفضيلة ولا تتذرع إلى قضاء مأرب، وإنما تشيع مبادئ الرسالة التي هجرها أهلها فوطئ أرضهم قرامطة الفكر والطمع والفساد1.

وأول ما اكتسبت الدعوة آل سعود كان إيذانا باجتماع قبائل نجد

1 - تاريخ العرب العام: 511.

ص: 81

المتفرقة المتحاربة تحت قيادة واحدة ومذهب ذي حدود من الشريعة الغراء، واستطاع مقاتل باسل هو محمد بن سعود أن يقضي على مقاومة شيوخ العروض والأحساء ويصل بفرسان التوحيد إلى حدود الحجاز وإلى صحارى الشام وأطراف العراق مبلغين الأعراب الضاربين في تلك الصحارى والأطراف أن جزيرة العرب قد استيقظت من النوم1 فعليهم هم أيضا أن يستيقظوا.

وكثيرا ما رمي العرب بأنهم أهل فرقة واختلاف ولم تزل فيهم طباع القبلية الجاهلية وهم إذا اجتمعوا لا يلبثون أن يتفرقوا ويختلفوا. وجاء الموحدون حجة تبطل هذه الدعوى، إذ الأمة التي لم تزل قبائل في مساكن جافة متباعدة وطباع قاسية جافية تقبل على الوحدة وتتوحد وتطيع الوعظ حينا وتخضع للقوة حينا، بينما الأمصار التي ترفل في المدنية، تخضع منها أقطار واسعة تحت حكم مدني موحد، تظل قلقة متفرقة تعشق التميع باسم الحرية، وقلوب سكانها متفرقة بعدد البيوت والأفراد.

وظهرت العداوة الحقة والخصومة المريرة من الأنظمة المدنية القائمة في تركيا وولاياتها، وتهيبت السلطة السياسية لآل عثمان وعيا دينيا لو اعتنقته لكان شفاء للرجل المريض الذي كان يطلق لقبا عليها، ولكنها حاربت هذا الوعي وسلطت عليه من فورها ولاة البصرة وبغداد وجدة ومصر والشام، وحضت أشراف مكة أن لا يألوا جهدا في استئصال ما دعوه بالإلحاد الخطر، وفي ضرورة المحافظة على الحرمين الشريفين لما سيكون من امتلاك الوهابية لهما من النفوذ البعيد المدى2.

وثارت ثائرة الصوفية وأرباب الطرق وأهل الفلسفة والكلام والمناصب فأوغروا الصدور وصوروا الدعوة خطرا داهما على الدولة والفكر وبدعة في الإسلام.

1 - المرجع السابق: 512.

2 -

تاريخ العرب العام: 513.

ص: 82

ولو كان من حق تركيا السياسي أن تغضب لسلطانها فما لهؤلاء العلماء من رجال الدين والمذاهب يتهمون المبادئ السامية الواضحة بأنها بدعة ويرضى بعضهم أن ينتظم في حملات الحرب عليها ليوهموا الجند المحاربين أنهم على حق ديني في محاربة الوهابية المبتدعة في الدين؟! لقد ساق محمد علي مع ابنه أحمد طوسون أربعة من أئمة مذاهب أهل السنة، حتى المذهب الحنبلي ساق إمامه أيضا، ليوهم بأنه مهتم بحرية الفكر وسلامة الدين، وليتخذهم حجة أكبر في الحرب على الوهابيين في نظر عامة الناس، ولكن كان من الشيوخ أئمة أفذاذ، فقد اعتذر عن الذهاب شيخان من رشيد ودمياط فأعفيا من السفر فاكتسبا لثغريهما تاريخا مجيدا1.

وبمسوق هؤلاء الأئمة أثبت محمد علي لابن تيمية حجته على علماء الأمصار الذين رآهم ابن تيمية في زمانه لا يصلحون لدعوة إصلاح خوفا على أرزاقهم الموصولة ومناصبهم المرموقة، فجاء أمثالهم بعد زمانه، ويجيؤون في كل زمان، وتبقى حجة ابن تيمية ثابتة على الدوام.

وبامتناع شيخي دمياط ورشيد أثبت الإمام أحمد وأتباعه من الحنابلة أن التعفف في رجال الدين يمنحهم الحرية التي تصرفهم عن الذل إن أريد بهم، ثم لا يكون في غير ذوي العفة الأحرار أمل في إصلاح ولا رجاء.

1 - عصر محمد علي: 132.

ص: 83