الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسيرة الدعوة
بدء الدعوة
وبدأ ابن عبد الوهاب دعوته وهو في رعاية أبيه وكنفه، وبدأها في حريملاء، ناهيا عشيرته وأهله الأدنين من بني تميم عن البدع والطقوس التي هي شرك بالله، فلما رآه أبوه فاعلا ما يفعله عن حماسة من الشباب نصح له أن يتمهل في دعوته ويترفق في عظاته مخافة أن يصاب بأذى ممن لا يعرف الحق من الناس1 فترفق ولم يعنف حتى مات أبوه في سنة 1153 هـ - 1740 م وكان قد انتقل إلى الدرعية منذ ثلاث سنوات.
واستمر يدعو وهو يتعالى في سنه ويبلغ أشده ويجد في الدعوة ويجتهد مركزا تعاليمه في بطلان كل عبادة لغير الله. ومن توسل أو أستغاث أو استشفع بكائن -مهما كان قدره ومظهره في الوجود- فقد عبد غيره فكان مشركا. وكل نذر لغير الله أو طواف بغير الكعبة فإنه شرك.
ومن ادعى علما من غيب لا دليل له عليه من كتاب الله وسنة رسوله كسحر أو تنجيم أو كشف فقد أشرك بالله.
وهذه نفسها رؤوس المسائل التي طرحها محمد بن عبد الوهاب على علماء عصره ليذودوا الناس عنها، فقد رآها في كل الأمكنة التي زارها في رحلاته. وفيما كان يدأب على دعوته متكلما واعظا أو كاتبا سائلا ومجيبا كان صيته يعلو في نجد يوما بعد يوم، حتى إذا كان آخر سنة
1 - الوهابية وزعيمها: مقال.
1150هـ جاءه أفذاذ وجماعات من أهل نجد من أهله ومن غير أهله يبايعونه على النصرة والتأييد.
وفي كلمات قليلة كان يصوغ عظاته وتعاليمه، فإذا طلب إليه أو رأى الحال تدعو إلى مزيد زاد كلامه شرحا وإثباتا بالأدلة. ولم يكن معه من قوة تسنده غير حجته وعصبيته في أهله -شأن كل داع في أيامه الأولى.
ولكن كان في أهله -ككل أهل- حساد له وجهلة مدعون، والحسد دنيء -كما قال ابن المقفع- ومن دناءته أنه موكل بالأقرب فالأقرب. فجادله ابن عمه السناني عبد الله بن حسين وجرحه بسيفه، ثم احتشد له شذاذ القبائل فلم يجد بدا من الهجرة إلى تميمي يكون أقوى من هؤلاء فرحل إلى العيينة، واتفق مع حاكمها عثمان بن حمد بن معمر على إقامة الدين علما وعملا، واجتمع إليهما الوجوه والأعيان، وقاموا بأول خطوة عملية في تقويض الطقوس المبتدعة في الدين فهدموا القباب المنصوبة على الأضرحة لمخالفتها لعقيدة التوحيد1.
ووجه الداعية المصلح بكتبه إلى علماء المسلمين في كل مصر يعرفه مبديا لهم ما أصاب الإسلام بين أعينهم، وجعل يحضهم على أن يدخلوا معه في دعوته، وكل في بلده، فتكثر بهم زمرة المصلحين2.
وما لبث مارد الحسد أن انطلق من حبسه مرة أخرى، فرأى شيوخ القبائل أنها دعوة إلى التوحيد والاجتماع، وهم متفرقون أعزة بتفرقهم ولكل منهم سلطان وجاه، وقد صارت الأحكام إلى العرف والعادة وهي مقبولة من المحكومين مهما كانت باطلة أو حراما.
1 - جزيرة العرب: 320 - لمع الشهاب: 28 - الشرق الإسلامي 1: 190 - الوهابية وزعيمها: مقال بمجلة العربي الكويتية.
2 -
جزيرة العرب: 320.
ووكل شيوخ نجد إلى حاكم الأحساء والقطيف وقطر وأطراف عليا من نجد أن يطلب إلى حاكم العيينة أن يجلي محمد بن عبد الوهاب من بلده، أو يمنع تجار العيينة من الطواف في كل بلد تنالهم يده فيه، وتهدد أموال عثمان نفسه وتجارته، وكان في مال ومنعة وجند كثيف مطيع.
وبلغ الطلب عثمان بن معمر فوقع في حيرة بين متعته بجنده وماله وبين حبه لِضَيْفِهِ، ثم ارتكب أخف المحظورين فأبدى رغبته لضيفه في أن يخرج عن العيينة إلى أي بلد شاء، فرضخ الشيخ للأمر، وخرج إلى الدرعية وهو عالم بما انطوى عليه قلب صاحبه الحاكم، فرغب إليه أن يظل على إيمانه وأن يكتمه بين جنبيه حتى يحكم الله بما يريد1.
ولم تغب متابعة ابن معمر لمذهب التوحيد وإيمانه به عن عيون أهل العيينة فتربصوا به وقتلوه غيلة، فجرحوا بقتله داعية الإصلاح في مذهبه وأهله إذ كان ابن معمر تميميا، فجعل ابن عبد الوهاب يتهددهم وينذرهم من مهجره الجديد، وكان كلما بلغهم عنه تهديد ووعيد طارت قلوبهم شعاعا، وما فتؤوا يصيبون أنفسهم ويخربون بيوتهم بأيديهم.
فانصرفوا عن الغرس والزرع والكسب فرارا بأنفسهم وخوفا عليها، ثم هربوا بأموالهم في قرى نجد وغير نجد، ثم أتى السيف والنفي عليهم ولم يبق منهم بقية إلا كما بقيت ثمود2.
في الدرعية:
وموضع الدرعية كان اسمه الوادي، فلما عمر بالبيوت والسكان وقامت عليه إمارة قوية أطلق عليه اسم الدرعية تشبيها بالقميص أو درع
1 - لمع الشهاب: 34.
2 -
المرجع السابق: 38 - الوهابية وزعيمها: مقال.
الحرب1. وكان الأمير الحاضر هو محمد بن سعود الذي ينتهي نسبه إلى بكر بن وائل من ربيعة، وهو نسب يلتقي في ذروته العليا بأحمد بن حنبل الإمام.
وقد ذكره النسابون منه إلى ربيعة في عدد كبير من الآباء أقربها له أنه ابن سعود بن محمد بن مقرن بن عمر بن فيصل بن أحمد بن سعدان، وكان أبوه سعود وجده محمد واليين على الدرعية من قبله.
ووقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا لا لما كان عليه من المقدرة والسعة في الرزق والزروع والنخيل والأنعام، بل لما كان عليه من السخاء وحب الخير. وقد عرف من سخائه أنه كان يسد عن الغارم دينه ويعطي صداق الزوجات ومهور الأزواج من بيت ماله - كما كان يفعل عمر بن عبد العزيز2 -ويضمن من النفقة الزوجية ما يقصر عنه الأزواج.
وكان محمد بن سعود ذا رأي في سياسة قومه وذا دين في خاصة نفسه. أما في السياسة فقد أبطل عصبية الجاهلية في الزواج، وزوج الأكفاء من غير تقيد بالنسب وحده، وكانت هذه إحدى التهم التي ارتدت عنه. وكان يهدف بالتزويج المبكر إلى إقامة السنة التي قضت بهذه الحكمة في الزواج على الفساد وأكثرت النسل وقاربت بالمصاهرة بين المتباعدين.
وربما رأى ببصيرته وفهمه غلظة البداوة في أهل ولايته -ومن بدا جفا- فكان يتألف الشارد ويطفئ الفتن ويحارب الخداع والحقد.
1 - لمع الشهاب: 30.
2 -
الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: 164.
وأما في تدينه فقد كان زاهدا كثير التعبد في السر دءوبا على العبادة دون التفاخر بها رياء وسمعة.
وهذه المحاسن في الشيخ ابن سعود رآها الشيخ ابن عبد الوهاب فرآه أصلح الأمراء لقبول مذهبه في تجريد التوحيد من شوائبه كما رآه أهلا للذود عنه والاقتدار على إذاعته ونصرته. وما كاد ابن عبد الوهاب يدخل إلى الدرعية مهاجرا حتى قبل الأمير دعوته، ووشيكا خلع عن نفسه لقب الشيخ وأمر أن لا يطلق إلا على رجل من أهل العلم والدين.
وكان ابن سعود قد سمع بصاحبه وراقت له دعوته إلى الاستقامة والجد وإصلاح المعوج، ومن أجل ذلك هب إليه عجلا في بيت تلميذ من تلاميذه نزل عليه بالدرعية وكان ذلك في سنة 1150 هـ - 1737 م1 فذهب إليه مرحبا به مؤمنا هو وابنه عبد العزيز، وسرعان ما اتفق الرجلان على التعاون فيما بينها؛ الشيخ لدعوته ورعايتها ولزعامة دينية يرثها من بعده أبناؤه وأحفاده وذريته -متى صلحوا لها-. والأمير للرياسة الزمنية ويرثها بنوه وذريته من بعده، ولا تنعقد معاهدات أو تمضي أمور ذات شأن من حرب أو صلح إلا باتفاق منهما. واتفق الرجلان.
وانبرى الشيخ يدرس للأمراء ولمن يحضره كل يوم كتاب التوحيد - ولعله الذي كان أشار إليه وهو في يده يوم اليمامة- وظل يرغب أهل الوادي في اتباع خالص التوحيد لله من غير شائبة من شرك أو شبهة. فلم يمض غير عام واحد حتى صار أهل الوادي كلهم على التوحيد الخالص، سوى أربعة رجال ادعوا أنه مبتدع، فلما رأوا قومهم قد اتبعوه وأحسوا بانفرادهم رحلوا بأهلهم وأموالهم من الدرعية إلى قرية من قرى القصيم2.
1 - جزيرة العرب: 219 - لمع الشهاب: 39 ، 45.
2 -
لمع الشهاب: 31 - وانظر العهد التاريخي في الوهابية وزعيمها: مقال.
وواصل الشيخ أيامه في نشر الدعوة بالوعظ وكتابة الرسائل لعلماء الأمصار مكتفيا بهذه الوسائل السلمية زمانا1. حتى إذا لمح ببصيرته مستقبل الأيام أخذ يعد للمستقبل من القوة ومن رباط الخيل ما استطاع، وأمر شباب الدرعية أن يتعلموا رمي البندق وتسديد الرمي. والرمي سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض حديثه يحث على الرمي قوله: " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا "2 ومنه في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال من الآية: 60]، قوله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر:" ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي"3. وقد حرص عليه الأئمة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشد الناس حرصا عليه وأجاده الشافعي الإمام حتى قالوا: إنه كان يرمي فيصيب من عشرة الأهداف العشرة بكاملها4.
ولم يقتصر الشيخ على الكلام في التوحيد وتدريب الشباب على الرمي ولكنه دخل في المعركة الحامية قبل أن تبدأ فجعل يحث النفوس على الصبر وتحمل الأذى إذا احتدمت بينهم وبين خصومهم العداوة، ولا بد أن تحتدم، وكان -من قبل- قد رأى الخصومة في اليمامة، وليست البلدان والبوادي أفضل من اليمامة إيثارا للحق وصبرا عليه.
واجتمع الأمير والشيخ وأهل الدرعية ومن والاهم فشادوا مسجدا جامعا5 يؤمه المصلون من رجال ونسوة للصلاة والدرس. وفرش المسجد بالحصباء تشبها بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل التعزير عقوبة مَنْ لا يحضر الجماعة، فلما قويت الدعوة اشتد التعزير6.
1 - جزيرة العرب: 320.
2 -
البخاري: الجهاد والسير (2899) ، وأحمد (4/50) .
3 -
مسلم: الإمارة (1917)، والترمذي: تفسير القرآن (3083)، وأبو داود: الجهاد (2514)، وابن ماجه: الجهاد (2813) ، وأحمد (4/156)، والدارمي: الجهاد (2404) .
4 -
آداب الشافعي ومناقبه: 30 - صحيح البخاري 4: 45 - رياض الصالحين: 504.
5 -
المسجد للصلاة والجامع للدرس والمسجد الجامع لهما كليهما.
6 -
لمع الشهاب: 31، 32.
واحتدمت الخصومة بين الدرعية من جانب وبين الرياض والعيينة من الجانب الآخر، إذ رأى البلدان معونة الدرعية للدعوة قد شددت من أزرها وأعانت على انتشارها، وشن شيخ الرياض الغارة على الدرعية فاستشهد في الغارة ولدان للأمير ابن سعود. فلم يكن من الدرعية إلا أن ساقت عسكرا جرارا من الموحدين المطهرين لتأديب المعتدين، غير أن التناوش ظل بينهما ثمانية وعشرين عاما كان يعلو فيها شأن الشيخ والأمير وينتشر مذهبهما، ويسفل فيها شأن أعدائهما حتى ظفر عبد العزيز بن محمد بعدوه ودانت الرياض له ولأبيه1.
وأما العيينة فلم تزل تطغى حتى قتلت أميرها عثمان بن معمر غيلة فاستفز الغضب أمير الدرعية واستفز أهلها، فنصح الشيخ له ولابنه أن يصبرا، حتى إذا مضت تسع سنوات جهز عبد العزيز جيشا من أربعة آلاف مقاتل ودخل به العيينة عنوة وقوضها تقويضا، فلم يبق بها من أهلها إلا من دخل في الطاعة والمذهب إيمانا أو خوفا. وبفتح العيينة دخلت نجد كلها تحت لواء سياسي واحد ومذهب في الدين صاف سليم2.
القبائل والأطراف:
وحين توحدت نجد تحت راية المذهب والإمارة السعودية قويت الدولة، وسواء أكانت قوتها3 من المذهب أم كانت قوة المذهب منها فقد أقبلت القبائل من حول نجد تدخل في وحدة سياسية دينية كان من شرف القبائل دخولها والسبق إليها، كما كان شرفا لكل سابق إلى الإسلام من الجاهلية القديمة فلا يحسب دخوله فيه ذلة ولا انقهارا.
1 - المرجع السابق: 36.
2 -
المرجع السابق: 38 - الوهابية وزعيمها: مقال.
3 -
لمع الشهاب: 65، 81.
فما لبثت قبائل قحطان أن دخلت في مذهب التوحيد وبالغت فيه كل مبالغة. وكان أكثر القحطانيين يسكن بأطراف العارض من نجد، فأخذوا على أنفسهم عهدا لآل سعود أن يطوعوا تهامة اليمن وأهل حضرموت والشحر وما جاورهم من أرض الحجاز.
واعتنقت زعاب -أهل جزيرة الحمراء- مذهب التوحيد، وكانوا تحت إمرة القواسم أصحاب رأس الخيمة، فلما دخلت زعاب في المذهب كان دخولها سببا في تحررها من إمرة القواسم وظلمهم. فلم يمض غير قليل حتى صاروا أندادا لسادتهم الأقدمين في البر والبحر. وحين قويت زعاب كل هذه القوة أغرى ذلك القواسم فدخلت في المذهب حتى تحتفظ بمكانتها وقوتها1.
وكان بنو عتبة على خوف دائم من العجم فلم يروا منقذا لهم من هذا الخوف إلا أن يدخلوا في الوحدة العربية الجديدة وتحت راية مذهبها فدخلوا وأخلصوا الدين لله فأمنوا على أنفسهم وسكنوا نواحي البحرين في أقرب جوار للعجم من غير أن يفزعهم عدو أو يقلقهم خوف.
وأقبل بدر حاكم مسقط في أخريات أيامه فاعتنق المذهب وأخلص في اعتناقه، وكان دخوله فيه دخولا مثيرا أكثر من دخول الحكام والقبائل. إذ كان بدر إباضيا من الخوارج وكان مقاتلا شجاعا وطالما ناصب آل سعود العداء. وقد أحسن بدر لاسمه في التاريخ إذ لا يبقى في هذه الحياة إلا الاسم والذكرى، وأحسن إذ دخل في وحدة عربية وحتى لو لم تدم غير أيام ومهما كان جزاؤه ظالما من قومه الإباضية بأن اغتالوه لخروجه
من مذهبهم1 فإنه لم يعمل إلا ما يحسد عليه من تحري الحق ومن الشجاعة والإقدام.
وبلغت الدعوة الطائف فكاتب أهلها الأمير الإمام عبد العزيز على البيعة له والدخول في مذهبه، ثم طلبوا إليه معلمين يعلمونهم المذهب وقضاة يقضون بينهم بأحكامه أصولا وفروعا، وبات المذهب والإمارة الموحدة الجديدة بدخول أهل الطائف في ظلهما يهددان عتبة الحجاز وتقويض حكم أشرافه الذين طالما ردوا سعود ين عبد العزيز عن دخول مكة لأداء الفريضة كلما أراد أن يؤديها2.
ودخل الخوالد في الطاعة والمذهب بعد قتال مرير سنوات طويلة وانقلبوا يعملون على النصرة والتأبيد بعد الحرب والعداوة، ونصبت السعودية حكاما على الخوالد بالتراضي وفتح الطريق إلى الأحساء ففتح سعود بن عبد العزيز شرقيها ودخل قراها.
وحين غلب سعود على البحرين أرسل إلى أهلها معلمين من لدنه يعلمونهم ويرشدونهم إلى طريق الحق والتوحيد الخالص، ويبدو أنه كان لدى البحرين معلمون قد درسوا المذهب ولكن سعودا أصر أن يكونوا من نجد فأرسل عشرين من علماء نجد للتعليم والإرشاد3.
والحق أنه لا يغيب عن ذي وعي من المعلمين المسلمين في كل بقاع الأرض وفي شتى المذاهب أن يعرف الحق من الباطل والصحيح من الزائف متى برئ من التقليد والعناد، وكان مرجعه كتاب الله وحديث رسوله وسنته، فلم يبعد أن تكون دعوى أهل البحرين من المعلمين العارفين
1 - المرجع السابق: 86.
2 -
المرجع السابق: 100.
3 -
لمع الشهاب: 84، 85.
المنصفين صحيحة، ولكن سعودا لحرصه على أن يسير الحق سيرا سليما سريعا أراد أن يرسل هو بالمعلمين الذين يطمئن إليهم والذين خبرهم بنفسه وجربهم، فلم يكن ذلك عنتا منه ولم يكن ضيما لمعلمي البحرين.
ولقد هدأت العداوات بين القبائل من داخلها حين هدأت المنافسات على رياستها، وكان هذا الهدوء بفضل كل ما سن الإمام التميمي من عقوبة قاسية للتقاتل على الرياسات، ولم يجعل حدا لهذه العقوبة، وإنما تتصاعد بقدر البغي والنهم في الباطل، فلم يكن هناك دواء أنجع مما رأى هذا الطبيب وكان في دوائه كل الشفاء1.
ولم تمض سنة 1216 هـ - 1805 م حتى كان شبه الجزيرة العربية بما فيه جزء كبير من اليمن وعمان يخضع لآل سعود ويدخل في مذهب التوحيد2.
ثم رأى سعود بعد أن دخلت الجزيرة - ما عدا الحجاز- تحت لوائه أن يغزو أطراف الشام والعراق فبدأ غزوها، وما لبث أن توغل في الشام حتى بلغ حلب، وكان في دخوله إلى سورية قائدا لبيبا إذ تفادى أن يحارب المدن، بل تركها جيوبا في طريقه يقضي عليها حين يقوى ويشتد عليها الحصار ويطول، وقد تفاداها لئلا يضطر جنده إلى الوقوف أمامها وأمام حصونها، وكان عصره لم يزل عصر الحصون والقلاع.
وحتى يخضع العواصم هدد الطرق بين بغداد ودمشق، وبين دمشق وحلب، وكاد يصل في غزوه إلى أرض القادسية من العراق.
وغزا سعود بنفسه أطراف السماوة ثم سار في عشرين ألفا من جنده ومن انضم إليهم من الأعراب فدخلوا مشهد كربلاء وهدموا طرفا من القبة. ثم قصد
1 - المرجع السابق: 70.
2 -
جزيرة العرب: 321.
إلى البصرة بعد كربلاء بأربع سنوات فغزاها بنفسه في جند من أربعين ألفا وغزا في طريقه أطراف الكويت ثم رجع إلى الدرعية.
وأعاد سعود الكرة على البصرة بعد ست سنوات في عشرين ألفا، وكانت هذه الكرة عرضا بينما كان راجعا من أطراف السماوة، ولأمر ما لم يدخلها سعود، وقد قيل إنه ارتد عنها لاستبسال أهلها فمنعوه من دخولها، ولعله آثر أن يعود بجنده قويا سليما1.
واستمر سعود يضيق السبل في أطراف الشام والعراق. ثم ابتدأ دور الرجوع عن الأطراف إذ مات سعود ونشطت تركيا لرد الغزاة عن ولاياتها وانتقاص أطرافها2.
إلى الحرمين:
وكان الحرمان الشريفان تحت أشراف من بني حسن منذ زمن بعيد يتوارثون إمارتهما. وفي سنة 1205 هـ قبل موت ابن عبد الوهاب بعام واحد -وكان قد مضى على أحدهم في الولاية أربع سنوات وكان اسمه غالب- حدث أن لجأ قوم من العرب إلى الشريف غالب هربوا من الأمير عبد العزيز حين غزاهم لأنهم نقضوا عهدا كانوا قد عقدوه معه فبدأ الشريف غالب يعد العدة لمقاتلة السعوديين ونجدة اللاجئين.
ولم يكن ذلك من الشريف إلا حين رأى نجدا كلها قد دانت لآل سعود، ثم بدأت الأطراف تدين، فخاف أن تعتدي السعودية على الحرمين فتنتقص الحجاز من أطرافه أو تبتلعه كله، فأخذ يستميل القبائل التي لم
1 - لمع الشهاب: 94.
2 -
المرجع السابق: 89.
تدخل في طاعة نجد أو المعاندة لها حتى يتخذها ردءا له، فعقد حلفا مع بعض بني خالد على مهاجمة الملك النجدي الجديد؛ الشريف من جهة الحجاز والخوالد من الجهة المقابلة، ونصب الشريف أخاه أميرا على الجيش وسيره إلى مكان يقال له تربة وأمره أن يقيم فيه حتى يفد عليه بعسكر آخر يقوده.
وخرج سعود بن عبد العزيز ليرد عسكر الشريف عن بلاده، ولكنه رأى أن يتريث فلا يهاجمه وقدم طلائع من خمسة وعشرين رجلا فنَزلوا حصنا صغيرا كالقصر يقال له الأشيقر، فحمل القائد الحجازي على الحصن ورماه بالمدافع فرمته الحامية من أعلى الحصن بالبندق، وما زال الطرفان يتراميان حتى وهن عسير الحجاز وانكسر فسقطت هيبة الأمير من النفوس حينما أعجزه أن يتغلب على قصر تحميه طليعة من عدد قليل1.
وأسرع الشريف غالب لنجدة أخيه ثم أخذ يبالغ في الحملة على القصر بالمدافع والرجال فلم يستطع التغلب على حاميته وفقد من عسكره وذخيرته كثيرا فارتد هو الآخر عاجزا، وبقيت في قلبه حسرة الانكسار من ضعف التدبير وضياع الأمل عمرا طويلا2.
فلما انكسر الشريف هذه الكسرة الخاذلة تركه حلفاؤه وحالفوا آخرين على حرب سعود، فمال سعود على الحلف الجديد بجيشه تقتيلا وتشريدا، ثم اندفع يسوق فلولهم بخيله ورجله، فانهزمت جموع البوادي وكثر القتلى والجرحى والأسرى وغنم سعود في معاركه معهم غنائم لا تحصى، ومات من رؤسائهم من مات وفر من فر إلى العراق. ولجأت فلول المنكسرين إلى سعود تطلب الأمان فأمن من وثق فيه ورد له ماله، وأما من لم
1 - المرجع السابق: 97، 98.
2 -
المرجع السابق: 98، 99.
يثق فيه فقد رحمه وشاطره المال1.
ومنذ هذا الانتصار على الحليفين أخذ بداة نجد يدقون أبواب الحجاز، وما لبث أن أطاعت عتبته وأطرافه، فلما كان الموسم قدم سعود أميرا للحاج في عهد أبيه عبد العزيز فأباح له الشريف أن يأتي عرفة للوقوف دون أن يدخل مكة للطواف2 وذلك بحجة أن الحج إنما هو عرفة فلا يتهم الشريف بأنه منع سعودا عن أداء الفريضة، فأتى سعود عرفة، ولكنه أضمرها لخصمه وأذاع اتهامه بأنه يصده عن البيت.
وصرع عبد العزيز بعد وفاة الشيخ الإمام بثماني سنوات بيد متطوع شيعي يسمى عليا أغراه وزير الترك في بغداد بمال وعيش رغد له ولأهله من بعده يدوم بدوام الدولة العثمانية.
وذهب الرجل إلى الدرعية في ثياب ناسك وأظهر أنه راغب في مذهب التوحيد، وكان داهية فصيحا جذابا فلما اطمأن له الناس وملكهم الإعجاب بخلابته ومظهره وتفانيه انقض على فريسته فأرداه.
ففي يوم الجمعة وكان الأول من رجب لسنة 1220 هـ أقدم الآثم على غدرته فاستل خنجره وانسل بين صفوف المصلين وأغمده في الأمير فخر من فوره صريعا. وانهال أهل الدرعية على الغادر فقطعوه إربا إربا. ثم طار الخبر إلى بغداد فبلغها بعد شهر، فوفى الوزير لأهله بما وعدهم من مال3. ثم جرت الأحداث فلم تدم العثمانية ولم يدم العطاء!
وتولى سعود بعد مصرع أبيه إمرة نجد والأطراف، وفي سنة 1222 هـ. وبعد عامين من ولايته سار إلى الحج في جيش جرار من مائة وعشرين
1 - المرجع السابق: 99، 100.
2 -
المرجع السابق: 100، 101.
3 -
المرجع السابق: 104.
ألف مقاتل ومدافع محمولة على ظهور الإبل، كان بدأ إعداده من أربعة أعوام1 -وأعلن أنه يريد أداء الفريضة وتأدية المناسك كلها فإذا منع وقسر على الموقف وحده في عرفات دخل مكة قهرا وعنوة.
ولم يكن في مذهبه ولا في الإسلام كله ما يرده عن القتال في الحرم إذا منع من دخوله حاجا، فإذا كان دخوله إلى مكة لإنقاذ أهلها من الضيم والخسف الذي هم فيه كان دخولها واجبا حتى يرد عليها من هجرها من أهلها يطلبون العيش في ظلال الأمن والعدل في شتى البلدان.
فلما كان سعود على فرسخين من مكة أرسل بكتابين مع عشرين فارسا من فرسانه، أحدهما لغالب الشريف وثانيهما لأهل مكة كافة. وكتب لغالب أن الجدال معه على دين الحق قد طال، وأنه لم يعد كفئا ليقاتل الجند الكثيف السائر إليه، وخيره بين التسليم بدخول مكة صلحا أو بترك الحكم للسيف.
أما كتابه لأهل مكة ففيه أن غالبا قد عصى الله ورسوله، ومنع المسلمين من أداء الفريضة، وليس يرضى المسلمون أن يصد أحد منهم عن المسجد الحرام، وأنه قد كتب له ليؤوب إلى الحق ولكنه لم يؤب وليس بآيب. وذكر له أنه يريد دخول الحرم، ولن يتردد في دخوله. وترك لأهل مكة الخيار، فمن دخل في عهده صار آمنا في دمه وماله، ومن اعترض طريقه صار دمه هدرا2.
وأتى الكتاب غالبا فأخذه الرعب فركب من فوره بحاشيته وأهله وماله إلى جدة وترك على مكة نائبا له، فكتب النائب إلى سعود يخبره خبر الشريف فكتب إليه سعود يقول: ما كان على الشريف ضرر منا
1 - جزيرة العرب: 225.
2 -
المرجع السابق: 106.
لو بقي، وكيف ونحن ضيوف الله وهو جار بيته! وإننا سندخل البلدة بعد الوقوف بعرفات1.
ووقف سعود ونائب الشريف وأهل مكة مع الناس على عرفات في يوم التاسع. فأما أهل مكة فقد أقبل كثير منهم يعاهدون سعودا. وأما النائب فأخذ للشريف الأمان.. وأما سعود فمضى بعد الإفاضة من عرفات إلى مكة يطوف بالبيت ويؤدي المناسك. وبقي فيها كل أيام التشريق.
ورأى سعود كثرة ما بمكة من فقير فمد إليهم يد معونته وسد حاجاتهم، ثم مضى إلى المدينة تاركا للشريف كتابا يقول له فيه:
إن هذه مكة، وأنت صاحبها، وقد عملنا فيها ما هو الحق. وإن شئت -حسبما أخبرنا وليك الذي جعلته مكانك- فأرسل إلينا من نأخذ العهد عليه ويأخذ العهد علينا نائبا عنك.
ورد شريف مكة يد الرجل العظيم وسماحته وخاشنه قائلا: ليس بيني وبينك عهد ولا صداقة. فإن سلمت لي جميع البلاد التي أخذتها من ملك الحجاز عاهدتك، وإلا فلا، واصنع ما بدا لك.
ووصل رد الشريف وسعود على باب المدينة عند الثنية يريد دخولها. وكأنما عرف أهل المدينة برد الشريف فتألبوا على سعود ووقفوا لرده ونكثوا عهده وكانوا قد عاهدوه على نصرته قبل عامه هذا بثلاث سنوات، فحمل عليهم سعود حملة قاسية استمرت خمسة وعشرين يوما ثم دخل المدينة فاستباح دماء الناكثين2.
وكان نكث أهل المدينة سببا في عنف سعود فاستنقذ منهم أموال المسجد والتحف والقناديل والجواهر، وهدم قباب البقيع وأحد، وولى
1 - المرجع السابق: 107.
2 -
المرجع السابق: 108.
على المدينة سعوديا من أهله، وبعد أربعة أيام أقامها عند أحد وقف خطيبا في جنده، فحمد الله وبشر قومه والمسلمين بالفتوح، ثم فرق من الغنائم على جنده بقدر المنازل والدرجات1.
ولم يقف الأمر عند فتح الحرمين والحجاز فتحا عسكريا، وإنما كان وراء هذا الفتح أن يدخل الناس في التوحيد الخالص ويتركوا الأرباب والطقوس المبتدعة في الإسلام، فدخل الناس وصاروا جميعا من أنصار التوحيد وأتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب وأخلصوا العبادة لله ودام اتباعهم وانقيادهم ثمانية أعوام امتدت من سنة 1220 إلى سنة 1228 هـ حيث بدأت تركيا في محاربة المذهب وأتباعه بأقصى ما لديها ولدى ولاتها من عسف وحديد2.
الحرب الوهابية:
لم يقع اختيار أتباع محمد بن عبد الوهاب على لقب الوهابية ولم يرضوا بإطلاقه عليهم. ولكنه أطلق من قبل خصومهم إرادة تنفير الناس منهم وإيهاما بأنهم ابتدعوا مذهبا جديدا يزيد على مذهب أهل السنة. وإنما هم يرضون لأنفسهم بلقب السلفيين أو المحمديين3 وكذلك سموا بالموحدين والمطهرين، ثم أطلق على أتباعهم وأمثالهم في الهند لقب أهل الحديث4.
وسواء رضوا باللقب أو لم يرضوا به فإن نسبته إلى اسم الوهاب سبحانه -وإن كان خصومهم لم يتنبهوا له- فيه ضد ما أراد خصومهم، إذ كانت بشرى بأنهم موهوبون نصرا مؤزرا قريبا.
1 - لمع الشهاب: 109.
2 -
جزيرة العرب: 225.
3 -
الوهابية وزعيمها: مقال.
4 -
دائرة المعارف 5: 144.
أما الحرب الوهابية فإن تركيا كلفت واليها على مصر "محمد علي" بمحاربة الوهابيين بعد أن لم تتمكن من إخضاعهم أو إيقافهم عن التوسع في الجزيرة وتهديد مقام الخلافة ومهابتها بانتقاص أرضها وكسر جيوشها وتعلل محمد علي في أول الأمر باشتغاله بتصفية المماليك، ثم لم يجد مفرا من تنفيذ الرغبة حتى تتجدد ولايته ويتمكن سلطانه ويرتفع شأنه.
ويبدو أنه كان متيقنا من النصر لقوة سلاحه ولاستطاعته أن يسخر مصر كلها رجالا ومالا، فمضى إلى الحرب بعد أن تلكأ عن الإجابة ثلاث سنوات، ثم خاضها بحجة استرداد الحرمين وتأمين سبيل الحاج، وسير جندا كثيفا خليطا من الفلاحين والأتراك والمرتزقة وشذاذ الأعراب إلى أرض الجزيرة1.
وجهز محمد علي أول حملة بقيادة ابنه أحمد طوسون وكان لم يزل بعد في السابعة عشرة من عمره فسارت الحملة برا وبحرا في قسمين يلتقيان في ينبع. وقد حانت الفرصة لمحمد علي فاتخذها تكأة ليبني له أسطولا ودور تجارة وصناعة لجلب مواد البناء والتشييد والإصلاح، وخبأ القدر عن تركيا أن هذا الأسطول سيتوجه إلى شواطئها وشواطئ ولاياتها في مستقبل الأيام.
واستخدم محمد علي في الحملة طوائف الصناع من كل الحرف كما استخدم عددا من العربان الذين خبروا البادية وعرفوا مواقعها وطرق السير فيها. ولم يفته أن يوهم بأنه مهتم بالفكر والدين، فزود الحملة بأربعة من أئمة مذاهب أهل السنة- حتى المذهب الحنبلي مذهب الوهابيين، ساق إمامه أيضا ليكون قوله حجة أقوى على الوهابيين في نظر الناس واعتذر عن الذهاب شيخان من رشيد ودمياط فأعفيا من السفر2.
ووقف الجيش المصري موقفا ضنكا أمام صلابة سعود بن عبد العزيز
1 - عصر محمد علي: 123.
2 -
عصر محمد علي: 132 - وانظر فصل تهافت الخصوم في الباب السابق من هذا الكتاب.
الذي التزم خطة الدفاع، واستطاعت حملة طوسون أن تحتل ينبع وأن تتقدم في البر فتحتل موقع بدر المشهور. وفي وادي الصفراء انهالت القذائف من القمم على جيش طوسون وهو يمر بجنده في أسفل الوادي فهلك الجيش وتراجعت فلوله إلى ساحل البحر1.
ووصلت الأمداد إلى طوسون الذي غير خطته فبذل صناديق الأموال والكسى للقبائل التي في طريق مكة والمدينة فمهدت خطته لاستيلائه على الحرمين ثم على جدة والطائف. ولكن سعودا تربص بجيش الغزاة وظل يرقب سيره ويدرسه أساليبه، حتى إذا احتل طوسون الطائف وأغفلته سكرة الانتصار غافله سعود قبل أن يصحو من سكرته ولم يدعه يلتقط أنفاسه، فزحف على رأسه جيش يقوده هو، وجيش آخر يقوده ابنه فيصل في اتجاه الحرمين.
وفي مكان يقال له تربة التقى الخصمان فلقي جيش طوسون قتلا وهلاكا فارتدت فلوله إلى الطائف تاركة سلاحها وذخيرتها في أرض المعركة غنيمة للوهابيين الذين كانوا في هذه المعركة أكثر حمية وأشد حماسا، لأن امرأة من نبلائهم "عالية" تولت إثارة الحمية في نفوس الموحدين2.
وأخذ موقف طوسون يتحرج، ودبت الأمراض في جنده ففتكت بهم فتكا ذريعا، فاعتصم طوسون بالحرمين وثغريهما جدة وينبع وأرسل يطلب مددا من أبيه، فقاد محمد علي بنفسه حملة جديدة وركب من السويس إلى جدة فمكة فحصنها واحتمى بها وأرسل ابنه طوسون ليهاجم خصومه فلم يزد طوسون إلا هزيمة وانكسارا.
وبانهزام محمد علي نفسه في بعض المواقع أرسل يطلب المدد من مصر
1 - المرجع السابق: 135.
2 -
المرجع السابق: 126 إلى 140.
فجاءه مدد من أخلاط الناس والمرتزقة محملا مصر تضحيات جديدة -وكانت في كل حملة تضحيات من النفوس والأموال- وشكا الناس واستغاثوا بمشايخ العلماء فلم تجد الشكاوى ولم يقف سيل التضحيات1.
ومات سعود فوافى الحظ والي مصر إذ لم يجد الوهابيون بدا من فك حصارهم للطائف وكانوا قد حاصروها، وحان لمحمد علي أن يكسب معركته عند سبل، ثم توالت مكاسبه، فطلب عبد الله بن سعود الصلح -وكان قد تولى الإمارة بعد أبيه- فأجيب إلى طلبه وتهادن الطرفان، ورجع محمد علي إلى مصر ليراقب مؤامرة توشك أن تنصب له2.
ولم تنفذ شروط الصلح من الطرفين فانتهت الهدنة واستؤنف النّزاع، وقاد الحملة الجديدة إبراهيم بن محمد علي.
وبعد معارك طويلة مريرة انتهى الأمر بإبراهيم إلى احتلال الدرعية مكان انبثاق الدعوة والتعاقد على نصرتها. وقد بذل أهل الدرعية جهد ما فوق الطاقة دفاعا عن بلدهم مما استوجب عنف الغازي عليهم بعد هزيمتهم عنفا بالغ الجسارة. وسلم الأمير عبد الله نفسه ووقف القتال بعد حرب دامت سبع سنوات.
وقد انتهى هذا النّزاع الأول بأن تصور محمد علي أنه بسط نفوذه على بلاد العرب، ولكنه كان واهما، إذ سرعان ما تقلص ظل الوهم وتبين له خطأ تصوره، وتحققه قبل أن يموت، فتنازل عن الحرمين منصرفا لأمر علاقاته مع الباب العالي، بعد أن كلفته هذه الحملات ثمنا باهظا أثمن ما فيه سخرية التاريخ3.
ولقد كثرت نتائج الحروب الوهابية وآثارها وشملت الأمكنة التي وقع فيها القتال والتي حشدت له والتي لم تحشد، وتناولت العباد والعتاد والأفكار.
1 - عصر محمد علي: 140 إلى 144.
2 -
المرجع السابق: 145 إلى 148.
3 -
المرجع السابق: 158 إلى 164.
أما في مصر فمع ما تحمله سكانها جميعا من تضحيات وأعباء فإن الحكومة لم تكتف بالضرائب والإتاوات، فاحتكرت الأرزاق وصادرت الأراضي الزراعية والممتلكات، وجعلت حياة الناس كلها ضنكا وذلا وبؤسا.
ومذ موهت انتصارات محمد علي عليه مضى مغترا بقوته إلى حروبه في السودان والمورة، ثم عادى الباب العالي طمعا في سورية، وكانت النهاية الأليمة إغراق أسطوله الذي كلفه غاليا في وقعة "نافارين".
وقد نتج عن إنشاء دور الصناعة والتجارة أن نشأت طائفة من الفلاحين اتجهت إلى الصناعات وكانت نواة التحول في مصر للصناعة التي خمدت في آخر العصر العلوي ولا سيما بعد دخول الإنجليز إلى البلاد في عهد توفيق، ثم استيقظت بعد زوال ذلك العصر كله.
وفي أثناء هذه الحرب أنشئت في الجزيرة العربية حصون وحفرت خنادق وعبدت طرق وحفرت آبار، ثم نظر في تجديد السلاح واستخدام المدافع وقذائف البارود. ثم رئي أن تقام دولة دينية تقوم على مذهب التوحيد ووحدة البلاد1.
1 - تاريخ الشعوب الإسلامية 3: 24.