الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بناء الدولة
مقام الأمير
لأول مرة في التاريخ الحديث للجزيرة العربية قامت إمارة لها نظام وطيد يسود فيه القانون وتنتظم العدالة وتنفذ أحكام الدين. وقد عهد إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب أن يضع هذا النظام فتلتزمه الدولة أتم التزام.
ولقد نزل شيخ الإمارة الأول محمد بن سعود عن لقبه وعن قيام الناس له مهابة وإجلالا، ولم يعد من حق أحد أن يحمل لقب الشيخ إلا رجل من رجال الدين، ثم يتساوى في الدولة الغني والفقير، وكما فرض الإسلام من مساواة. وكان نزول الأمير عن لقبه وعن قيام الناس له بداية هذه المساواة، بل هي بداية انحسام داء الرياء الذي هو الشرك الأصغر -كما كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك انسد باب الغلو والإطراء1.
وكان الكبار جميعا من قبل محمد بن سعود يتخذون الحجاب والحراس، فأزال الروح الديني الجديد هذه الأبهة والفخامة- ودام ذلك التقليد طوال أيام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز، فلما صرع عبد العزيز عاد الأمير اضطرارا إلى اتخاذ الحراس والحجاب وتحصنت بيوت الأمراء وفرض الإذن للدخول عليهم.
1 - أسد الغابة 2: 509 - فتح المجيد: 163، 290 في بابي الإطراء والرياء.
والإذن بالدخول كان بادئ ذي بدأة ومن غير هذه الغدرة فريضة الإسلام بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النّور الآيتان: 27-28] .
ولكن الأمراء كانوا قد أمنوا الناس فلم يفرضوا الإذن عليهم، فلما وقعت هذه الغدرة رجعوا إلى الإذن والتحصن والتحجب وأحاطوا منازلهم بحراس الليل1.وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب أحسن حظا من عبد العزيز بن سعود إذ حذر فاحتجب منذ أخطأته طعنة الغادر.
وكان صلاح الدين يدني الناس منه ويتحبب إليهم، وما لبث أن أقلع عن عادته هذه وأقلع عنها مضطرا فامتنع واحتجب ولم يعد يلقى أحدا عن قريب إلا من أراده هو وضرب للقائه موعدا.
وقد وقع منه التمنع والاحتجاب حين اعتدت عليه طائفة الحشاشين مرتين فأخطأه الاعتداء فاحتجب عن العامة احتياطا، إلا في المواقع وقد أمن من حوله فيها، فقد صار يضرب حول سرادقه سرادقات تحميه ويقف عليها الحراس2 وكأنها الأسلاك الشائكة في زماننا.
وإنه لمن الحق على كل زعيم صارت للناس عليه جرأة أو لم يمتنع ويحتجب، ولا سيما حين يصير ملك الناس وحصن آمالهم، وإن ذلك وإن كان يظهر فيه بعض الترفع والكبرياء فإنه من خيرهم وصالح
1 - لمع الشهاب: 56.
2 -
مفرج الكروب 2: 45.
بلادهم ومستقبل أيامهم، وذلك حين يصير أميرهم ملك الأمة وحصن المسلمين1.
وقد أصبح على جلساء الأمير شروط لم تكن هي أيضا بدعة محمد بن عبد الوهاب أو بدعة الأمير، وإنما كانت الشروط التي اشترطها عمر بن عبد العزيز على جلسائه ورآها لخير الوالي ولخير الناس وخير الجلساء أنفسهم، إذ الأمير هو ولي العدل، وولي العدل مشغول عن سوى ما يصلحه ويصلح الرعية. وقد روى الأوزاعي أن " عمر قال لجلسائه: من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي إليه. ويكون لي على الخير عونا. ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدا. ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس. فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج من صحبتي والدخول علي "2.
ونفذ الأوزاعي هذه النصيحة فلم يصحب واليا إلا على شرط عمر، ولم يجد بدا من التزامها. ولقد كان أحيان يتردد في أن ينصح أو يصرح بالنصح، ولكنه كان يدفع عنه هذا التردد حين يتمثل وقوفه بين يدي الله فيسأله عن صحبة الولاة. ولذا فقد قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، مهلا فإن مثلك لا ينبغي أن ينام. وإنما جعلت الأنبياء وعاظا لعلمهم بالرعية، يجبرون الكسير ويسمنون الهزيلة ويردون الضالة. وإن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام فقال:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [صّ من الآية: 26] . وقيل إنه أوحى إليه: يا داود،
1 - أيام صلاح الدين: 54.
2 -
الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: 133.
إذا جاءك الخصمان فلا يكونن لأحدهما على صاحبه الفضل فأمحوك من ديوان نبوتي1.
فهذه قولة قالها الأوزاعي لأبي جعفر المنصور، وفيها من العظات ما لم يكن خافيا على أبي جعفر المنصور الذي نشأ وربي في المدينة بين جلة الفقهاء وعلية العلماء، ولكنه رضيها من الإمام إذ كان له فيها ناصحا أمينا.
وكذلك فتح محمد بن عبد الوهاب بين يدي الأمراء باب هذا الأدب الجم للجلساء، وكأنه حدد أصنافهم، فاختار أن يكونوا من أهل العلم والصلاح. وكذلك رحب الأمراء بجلسائهم من هؤلاء، فكان حتما للدولة أن تسلم من عثراتها وأن تقوم بعد هزائمها، إذ تنَزه مقام الأمير عن كل هون إلا ما كان في صلاحه وصلاح الأمة وصلاح الدين.
تنظيم الأمور:
وقد كان للإمارة نظام أشبه بالنظام العسكري أو هو ذاته، تتقلب حياتها فيه، وكان ذلك بسبب العداوات التي منيت بها فاضطرتها إليه، فبنيت الحصون والقلاع وحفرت الخنادق وألفت الحاميات، ودرب الشبان على الفروسية والرمي. وعلى قدر ما تسع موارد البلاد تدفع الأجور.
وجعل شرط انتظام الرجل في الحاميات أن يكون من أتباع مذهب التوحيد عن صدق وإيمان، ويعرف ذلك منه بالممارسة والتجربة والاختبار. وكان من الخير لهذه الدولة بل لمثيلاتها أن تقوم حمايتها على أسس من الخلق والدين، ولا يتسنى لها القيام إلا على أيدي جند من المؤمنين
1 - الإمام الأوزاعي: 150، 164.
المتطوعين، وقد فرض ذلك في الإمارة الجديدة على الجند، وجند الحاميات خاصة، كما كان شرطا أكيدا في اختيار أمراء الجيش فكانوا كلهم من الموحدين.
وانقسمت الإمارة إلى كور يتولى كل كورة منها أمير، يعاونه -إن كانت كورته كبيرة- عالم في درجة المفتين، ويعاونه عالم في درجة القضاة -إن كانت الكورة صغيرة- وكذلك عين في كل كورة إمام للصلاة وعامل على الزكاة. وقد يتعدد العمال إذا اتسعت الكورة على عامل واحد للزكاة.
وقد روعي أن يبقى رؤساء القبائل في البادية كما هم رؤساء على قبائلهم ما لم يتمردوا، فإذا تمردوا خلعوا.
ونصب مع هؤلاء الرؤساء شيوخ من شيوخ الدين على القضاء والإفتاء والصلاة والتعليم وكان الاهتمام بتعليم حدود الله في البوادي والأعراب بالغا مبلغه، لأن أهلها وقعوا في فوضى من العصبية وحميتها أزمنة طويلة، وصاروا عبيدا لعاداتهم الطليقة من الخضوع للشرائع التي تردع عن ارتكاب المظالم وتقيد المعتدين عن العدوان.
ومما لم يكن منه بد أن تتألف قلوب رؤساء البدو رويدا رويدا، فكان يكتفى منهم بإظهار الطاعة، فإن أظهروها تركت لهم الأموال المجبية خراجا من بواديهم، تأليفا لقلوبهم - كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم من ملء جعابهم بالعطايا.
فإذا لم يظهر الطاعة رئيس من هؤلاء الرؤساء أدب بالعزل أو الحبس أو أشد منهما حسب درجة التمرد والعصيان، وكان النفي إلى منأى من منائي البادية الفسيحة إحدى عقوبات المتمردين.
وجعل للإمارة بيت مال عام تأتي موارده من عامة كور الدولة وأطرافها
والخاضعين لها في الأطراف، كما تأتي الموارد من أموال الغنائم إذ افترض الموحدون أن البلاد التي لم تدخل في التوحيد الخالص لهم أن يغنموا منها وأن يسبوا ويأسروا. وكذلك أحلت لهم الغنائم، لأن كل الأقاليم التي كان الدين فيها ملتبسا بصور من الكفر والإشراك كانت دار حرب لا دار سلام.
ويتبع بيت المال مراقبة حسابه وموازنة الدخل والخرج فيه، وهو ما أمر به أن يراعى أشد مراعاة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فتتسع النفقات أو تضيق بحسب ما تكون السعة أو يكون الضيق، وعلى حسبها تكثر المشروعات أو تقل، وتعلو الأجور أو تنخفض، وكان صاحب الدعوة وأولاده وذريته يأخذون أرزاقهم ضيقة أو واسعة حسبما يفد إلى بيت المال من أموال أسوة بكل المستحقين فيه1.
وروقبت أسواق البيع والشراء وأقيم عليها محتسبون يتولون الحسبة فيها ويراقبون المعاملات والموازين وتنفيذ شرائع الأموال والتجارات في الإسلام. والحسبة ومراقبة الأسواق كان لها شأن أي شأن في الإسلام يتولاها المحتسب نائبا عن ولي الأمر أو متطوعا.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتولية المحتسبين والمراقبين على الأسواق وكان أن استعمل سعيد بن سعيد بن العاص يوم الفتح على سوق مكة2. " واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سليمان بن أبي حثمة على سوق المدينة ". وكان سليمان معدودا في كبار التابعين3.
1 - لمع الشهاب: 49 إلى 51.
2 -
أسد الغابة 2: 390.
3 -
المرجع السابق: 449.
وقد عني بالحسبة علماء المذهب الحنبلي أشد العناية وصنف في أركانها وأبوابها كثير من علمائهم الأولين والآخرين1
ولم تنس حقوق أهل الصلاح والتعفف والشهداء في الحروب على بيت المال، فوظفت لهم ولأولادهم وذراريهم الوظائف فيه، وجعلت حقوق هؤلاء حقوقا ذات قدسية، فيجب أن تؤدى لهم حتى لو عجز بيت المال، وكان على ذوي اليسار من الناس عند عجز بيت المال أن يسدوا حاجات هؤلاء، وعلى من يطوع فيعطي مع أهل اليسار. وقد سد الأغنياء وذوو المروءات هذه الحاجات عن رضا وطيب خاطر، لا عن خوف أو انقهار.
ولم يكن فرض هذه الأنظمة بمانع من الشر أو قاطع لدابر الأشرار. ومن أجل هذه الطبائع البشرية فرض الثواب وضرب العقاب، ومن ثم فقد كان على هذه الدولة وهي تبذل أقصى جهدها في تسديد خطى الناس وإسعاد حياتهم وقضاء حقوقهم أن تأخذ حقها، وأخذ الحق كثيرا ما يكون بإنزال العقاب.
وقد رأى الإمام محمد بن عبد الوهاب أن ينْزل العقاب خفيفا وثقيلا، ولكنه أنف أن ينْزل عقابا بمذنب غدرا أو سرا، بل أمر أن يؤخذ المذنبون بذنوبهم جهرا حتى يبدي المجرم صفحته وعذره، وحتى يرتدع من تحوم في صدره نية الإثم والتمرد والفساد.
طريق الحاج:
ولقد وقع طريق الحاج في عصور مظلمة استمرت طويلا، فلم يكن
1 - انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية. وانظر فصل الحسبة في باب إحياء السنة بكتاب شيخ الأمة. وفصلها في الأحكام السلطانية لابن أبي يعلى الفراء الحنبلي.
يأمن أحد ممن يقصد أداء الفريضة على ماله أو نفسه، وكان إقبال المسلمين من أرجاء الأرض على الموسم برغم ما يتعرضون له من الشر والأذى يزيد كل عام في أعداد الضحايا، فلا المسلمون يمتنعون ولا الأشرار يتوبون.
والحج في الإسلام "أحد الجهادين" كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكثيرا ما اقترنت أحاديثه بأحاديث الجهاد، وكان من حكمته تدريب الأمة على الجهاد، ولزوم الطاعة فيه، فلم تتخلف الأمة قط عن هذا الجهاد مهما أصابها فيه من تضحيات.
وليس من حق دولة تكون الجزيرة والحجاز تحت ولايتها بمستطيعة أن تدعي لها سلطانا عليها ومهابة في أعين المسلمين وكل الناس ما لم تؤمن طريق الحج، فإذا لم تعمل لتأمينه أو لم تستطع لم تكن ولايتها عليها إلا شكلا من أشكال الضعف والمهانة التي تتشبث بهما ليكونا ثوبين من أثواب الزيف والرياء.
وكذلك كانت الدول التي حكمت الجزيرة بعد ضعف الدولة الإسلامية، ثم استمرت الحال كما هي حتى العهد التركي كله في الجزيرة والأشراف في الحجاز، وطالما اعترض شذاذ الأعراب طريق الحاج وفرضوا عليهم المكوس، ولم يكونوا يعفون من المكس عربيا ولا عجميا، وامتد ذلك في طول الجزيرة وعرضها حتى أبواب مكة والمدينة وفي دائرة الحرم كله، وكان أعراب جهينة في جباية هذه المكوس أشد الأعراب.
فلما قام بإصلاحه محمد بن عبد الوهاب رأى تأمين طريق الحاج أول الواجبات، إذ البلاد المقدسة هي قبلة العالم الإسلامي كله. وما جزيرة العرب إلا مكة والمدينة واليمامة واليمن وتهامة كما ذكر في الأحاديث1.
1 - صحيح البخاري 4:85.
فما لم تكن الطريق إلى حرميها ومناسكها آمنة فإنها تكون وصمة عار في جبين المهيمنين على الطريق ووصمة عار في جبين كل مؤمن لا يسعى جهده في تأمينها وتيسير السبيل.
واتفق شيوخ المذهب ورجال الدولة أن تفرض على الفور أحكام الشريعة وتنفذ على اللصوص وقطاع الطريق، ونظر في أمر القبائل التي تفعله، فإن كان ما تفعله عن حاجة عوضت عن حاجتها من بيت المال بعد أن تؤخذ عليها العهود والمواثيق بأن لا تعود إلى فعله، وإن كانت تفعله عن هوى السرقة وحب الأذى فإن أحكام الشرع التي فرضت القطع كفيلة بأن تقضي على السراق واللصوص وتؤمن الطريق.
وكان هذا فرضا فرضه الإمام والأمير معه على كل من أصبحوا تحت سلطانهم من أعراب نجد أو الحجاز، ومن أي قبيلة في الأطراف لهم عليها سلطان أو بينهم وبينها حلف وعهود.
وسرعان ما قضت هذه السياسة على الفوضى والسرقة، ودخلت القلوب في الصدور، وسار الحاج آمنا في الجزيرة العربية وفي أي ناحية منها بادية أو حضرا. فلا يعترضه معترض بأذى، حتى المرأة كانت تسير في أمان في الأسواق وفي البرية وتحمل من حليها ما تشاء نهارا أو ليلا فلا يتعرض لها إنسان1.
ولقد بين رسول الله لعدي بن حاتم فرق ما بين الجاهلية والإسلام في أمن الجزيرة بعد تسعيرها فقال له في بعض حديث له: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قال: لم أرها وقد أنبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. فقال عدي في نفسه: فأين دُعَّارُ طيء
1 - لمع الشهاب: 53.
الذين قد سعروا البلاد؟! ثم عاش عدي وطالت به حياة ورأى ما نبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ماثلا. فقال: رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله " 1.
ثم غاب الإسلام عن الجزيرة زمانا طويلا، ولقي الركب من الرجال عنتا وشقاء وقتلا، فما بال أمر النسوة إذا ارتحلن في طريق الحج، وكان أكثر السير بالإبل والدواب والمشي على الأقدام سيرا بطيئا، فلا يستطعن من الأشرار نجاة ولا فرارا؟!
فلما كان أول ما جاء ابن عبد الوهاب وأمن هو وعبد العزيز بن محمد بن سعود طريق الحج وكل طريق، تعرض سارق مقنع لامرأة من بريدة، في طريق البرية، كانت قد خرجت إليها في إهلال الربيع -كعادة العرب في استقباله خارج قراهم- وبينما هي راجعة من البرية اعترضها رجل لمحت فيه سمات الخبث والإثم، فسألها عن اسمها فأجابته في صدق وشجاعة باسمها ونسبها. ثم قالت له: انظر إلى من وراءك! فارتعب الرجل ونظر خلفه فلم ير أحداً. فقال لها: من ذا الذي ترهبيني به؟ قالت: عبد العزيز بن سعود!
ولم يفق الرجل من سكرته ولم يرجع إلى عقله فاندفع غير ناظر إلى عاقبة أمره وكانت عاقبة أمره خسرا.. فطلب إليها أن تنْزع عنها حليها فنَزعتها ليخلي سبيلها، فأخذ الحلي ومضى ورجعت المرأة إلى دارها.
ورفع الأمر إلى عبد العزيز فجعل يسأل ويتفحص ويبحث ويلح في البحث معلنا ومسرا، وكلما مرت الأيام اقتربت منه المعرفة وكشفت الجريمة عن بعض ملامحها. أما السارق الأثيم فكان كلما مرت الأيام
1 - صحيح البخاري 4: 239، 240.
وكرت الشهور والسنين اطمأن وهدأ وأيقن أن الجريمة قد ماتت في أكفان الزمان.
وبعد أربعة عشر عاما من التسآل والفحص عرف عبد العزيز، فأرسل إلى مرتكب الجريمة من يأتي به، فلما جاءه قال له: أتدري ما لنا عليك من الدين؟
قال: أيها الإمام، إني لم أقترض منك دينا!
قال عبد العزيز: بل الحلي التي سلبتها! فإنها دين يجب أن يؤدى فراغ الرجل على الأمير احتيالا على الخلاص وكذبا، فحاصره الأمير بالأدلة، ولم يزل به حتى خارت قواه فأقر بجريمته، فحكم عليه الأمير برد ما لديه من الحلي وضمان ما فقد منها، ثم أوقع به عقوبة الدين1.
وحين يستقر أمن الطريق استقرارا كاملا وتؤدى المناسك كما كانت تؤدى فرض نظام الدولة على أمراء الحج الوافدين من كل أقطار المسلمين أن يمروا بالدرعية، وفرضت لهم الضيافة فيها ثلاثة أيام، وقد أبلغت البلدان كافة بهذا الأمر، فمن خالف وأبى أن يمر كما أُمِرَ أنزل به العقاب والردع على قدر ما أظهر من خلاف.
وفي الظن أنها كانت أيام لا تخلص كلها للضيافة، وإنما يتلقى فيها أمير الحاج التعاليم الإسلامية عرضا وفي رفق عن المناسك التي يجب أن تؤدى وعن الغلو والمبالغات التي يجب أن لا تؤدى، حتى يمر موسم الحج خالصا لله وحده دون شوب من شرك أو رياء، وفي مراقبة ذلك فرض أن يتولى أمير من الدرعية الموسم كله في كل عام. ولكن ذلك لم يتم لهم كاملا حتى فتحوا الحجاز -فيما بعد- فالتزموه.
1 - لمع الشهاب: 54.
التأديب والتعليم:
وسادت بين الناس في هذه الدولة أخلاق وآداب في المبادلات والمعاملات هي أخلاق الإسلام وآدابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الدين المعاملة ". وامتنع الجدال الآثم بين الناس، وما داموا قد رجعوا إلى نصوص الدين وامتنع الرأي والتأويل -كما هو مذهب أحمد وأهل السنة- فقد امتنع ذلك الجدال، وإن كان الرجوع لم يمنع العلماء من الاجتهاد في نطاق النصوص والفروع، وهو مجال الاجتهاد عند أئمة المسلمين.
وفي الآداب العامة اختفي السب والشتم، وكان قد صار أقل ما يرمى به خصم من خصمه عند النّزاع أو بغيره، وقد كانت المساواة التي فرضت بين الأفراد عامة سببا في ارتفاع السب والشتم من الأسواق.
ومع هذا الارتفاع فقد كان الإمام يعظ أن يرتفع دائما، وكان الأمير يراقبه فلا يقع بين الخصوم على سبيل الجد أو سبيل المزاح1.
فإذا وقع فيه آثم رفع أمره إلى الحاكم الشرعي فإن ثبت أنه ارتكبه حكم عليه بالتعزير2. وكما حرم السب والشتم على الناس عامة حرم على الأمير، أليس الناس متساوين؟!
وارتكب الأمير عبد العزيز الذنب أو هفا الهفوة فسب رجلا لعله أضجره في مجلسه، ولكنه لم يقترف ما يدعو إلى أن يخرج الأمير عن وقاره فلما انقضى المجلس مضى الرجل إلى محمد بن عبد الوهاب فشكا إليه الأمير، فأرسل إليه الشيخ أن يأتيه، فلما جاءه أجلسه مع خصمه ولم يفرق بين مجلسيهما وقال: إن الدين لا يسعه إلا هذه المساواة. ثم تخاصما، فاعترف الأمير بذنبه، وعرض على خصمه أن يشتري
1 - وانظر السب والهزل المحرم في أبواب مختلفة بفتح المجيد: 338 ، 345 ، 373 -.
2 -
لمع الشهاب: 55.
المسبة بالفداء، فأبى الرجل، فعزز حاكم الشرع -وكان هو الإمام محمد بن عبد الوهاب- أن يؤدب المذنب بالعصا ككل الناس، وتلقى الأمير الضرب وهو يقول: سمعا وطاعة لما يحكم به الشرع الحنيف.
وسرى الخبر إلى آل سعود وإلى الرعية، فحمد جميع الناس هذه العدالة التي تنتمي إلى الفضل والنبل، وصارت سابقة في الحكم أقرها من بعده ولده سعود وحفيده عبد الله بن سعود1.
وأما في التعليم فقد حرص محمد بن عبد الوهاب على نشر العلوم المرغوبة، وحث أن يتعلم الناس ما تعلمه هو من قبل، من علوم الآلات: آلات العربية من نحو وشعر وبلاغة وبيان، وحض على أن يتعلم المتعلمون في مدارسهم وبيوتهم ومجتمعاتهم شعر الحماسة، والشعر الذي يحث على التخلق بالمكارم والاستمساك بأهداب الدين.
وهذا الباب في لغتنا أهملته الدول العربية فلم يعد له من ظهير يشد ظهره ويقوي شأنه، وأطلقوا للمعلمين وطلبة العلم أعنة البرامج، يعرفون من الشعر ما يسلك بهم كل سبيل إلا سبيل الجد، وشاعت في فصول الدراسة القاعدة التي تقول "إذا سلك الشعر سبيل الخير لان" 2، وفي ذلك إطلاق للغرائز وتحسين للشر ومخالفة لآداب الدين وسنة الأولين.
ولكن ابن عبد الوهاب لم يفته ذلك، وكأنه وحده الذي بقي على القويم من دينه والإخلاص لأمته، ففرض أن يكون الشعر الذي يقبل عليه المتعلمون هو شعر الحماسة وشعر الدين، وكان ذلك منه اقتداء بإمامه أحمد بن حنبل الذي كانت له قصة في هذا الشأن مع أبي العباس ثعلب نضو أبي العباس المبرد -وكانا معا إمامي العصر العباسي كله في اللغة والأدب والشعر-:
1 - المرجع السابق والصفحة نفسها.
2 -
لان = ضعف.
سمع ثعلب من الإمام أحمد شعرا أملاه أحمد عليه، وروى في شأنه ثعلب قال: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه فرأيت رجلا كأن النار توقد بين عينيه، فسلمت عليه فرد وقال: من الرجل؟ قلت: ثعلب. قال: ما الذي تطلب من العلم؟ قلت: القوافي والشعر ونحو العربية، ولقد وددت أني قلت غير ذلك -فلعله رأى الإمام قد تغير- فقال أحمد: اكتب، ثم أملي علي:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
…
خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
…
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعتْ
…
ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى
…
ويأذن في توباتنا فنتوب1
وهكذا ضرب أحمد بن حنبل لمعلم عصره مثل الشعر الذي يجب أن يستمليه وأن يعلمه. وقد تأثر ثعلب فكان له شعر في الباب الذي علمه إياه الإمام يقول فيه:
رب ريح لأناس عصفت
…
ثم ما إن لبثت أن ركدت
وكذاك الدهر في أفعاله
…
قدم زلت وأخرى ثبتت
وترى الأيام من عاداتها
…
أنها مفسدة ما أصلحت
ثم تأتيك مقادير لها
…
فترى مصلحة ما أفسدت2
وأوصى محمد بن عبد الوهاب أن يتعلم المتعلمون جميعا السير والتاريخ إذ لا غنى عنها لأمير أو معلم أو فقيه أو متعظ. ثم أوصى بإيثار علوم
1 - تاريخ بغداد 5: 205 - طبقات الحنابلة 1: 83 - مناقب الإمام أحمد: 205.
2 -
الذيل على طبقات الحنابلة 1: 68.
الدين والتفرغ لها، ولن يكون أئمة في هذه الملة إلا إذا تفرغوا لهذه العلوم.
وقد حسب بعض الأتباع -فيما بعد- أن الإمام كان خصما لما عدا علوم الدين من علوم، ولكن أحدا منهم لم يدل بحجة في أن الإمام منع الناس أن يتعلموا ما ينفعهم ويرفع شأنهم في دنياهم من علوم الدين وعلوم الدنيا، وقد تعلم هو منها حتى ارتوى، فمضى أمر التعلم على سجيته السمحة في الدولة الأخيرة، وكان الفضل لذوي العلم البصراء من آل الشيخ الإمام.
وقد تشبثت الإمارة السعودية الأولى في نجد بأن ترسل معلميها إلى النواحي لئلا يقتصر التعليم الديني على نجد ففرض أيضا على القبائل والبلدان التي تطلبه والتي لا تطلبه، لأن علماء نجد درسوا على الشيخ الإمام وكانوا من أهله ومن غير أهله، فصاروا أوسع الناس معرفة بحدود التوحيد وبكل ما يخرجه عن هذه الحدود.
مطاردة الأوهام:
ولقد يكون في الإمكان أن تنشأ دولة قد انتظمت فيها الأمور وتحددت الحدود وعني فيها بالتعليم واستقرار الأمن من حيث تكون دولة كافرة بالألوهية أو وثنية مشركة، ولا تكون دولة إسلامية إلا إذا برئت عقيدتها من الكفر وتنَزهت هي وطقوسها عن عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء، وصار مآل أنظمتها كلها في خدمة عقيدة التوحيد.
وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران من الآية 110] ، إنما هو تقرير بأن الأمة الإسلامية هي الوسط
أو هي خير أمة أخرجت للناس، وكان ذلك لأن الإسلام افترض على متبعيه أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، فلا يميل بهم الجور على أنفسهم ولا على الناس، وهذا خلق الأمة الإسلامية والذي لم يزل يميزها فلا يشتط لها هوى ولا يمتد منها أذى.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا شيئا واحدا، وإنما هما قسيمان، وأولهما أيسر من ثانيهما، والأمر بالمعروف أيسر من الائتمار به فقد يأمر به آمر ولا يعمل به، لأن العمل أثقل على النفس من القول، ولأن العمل عبئه على النفس لا على الغير. والنهي عن المنكر أيسر من الانتهاء عنه، إذ النفس لو وقعت في عادة من عادات السوء كرهت من ينهاها عنها، وهي أشد كرها لمن يعمل على انتزاعها منها.
وهذه الحال الأخيرة من النهي عن المنكر والانتهاء عنه هي التي تعرض لها محمد بن عبد الوهاب حين جاء بإصلاحه لتجريد التوحيد، فكان إصلاحه كله قولا بالنهي وعملا للانتزاع، فبدا الأمر بالغ الصعوبة عصيا على الإصلاح، ولكنه لم يأبه بصعوبة ولا عصيان.
وكانت أوهام العادات قد سيطرت على الناس رؤوسا وأوساطا وأذنابا، فالأمراء والرؤساء غارقون في أوهام الألقاب والمناصب والشهوات، والأوساط غارقون في أوهام الرياء والنفاق للتقرب إلى الرؤساء والتغلب على الأذناب، وخشاش الناس غرقى في أوهام الذل لرؤسائهم يستشفعون بالأوساط لديهم لعلهم يرحمون. وعمل ابن عبد الوهاب على إنقاذ الغرقى جميعا من أوهامهم وانتزاعهم من الأعماق التي غاصوا إليها، ولم يفرق بين ذنب ووسيط ورئيس، إلا بقدر الصورة التي غشيته من الوهم والخداع.
أما الرؤساء فبأن ينخلعوا عن الألقاب والتعالي على الناس وجحدان
أحكام الشرع وتسمية الضعفاء بالعبيد والإماء1.
وأما الأوساط فبأن ينخلعوا عن التشبه بالأمراء والرؤساء فيسمي الرجل منهم نفسه برئيس الرؤساء وسلطان العلماء وقاضي القضاة، أو يحاول ذو العقل الواهم منهم أن يتألى2 على الله أو يشتط في التأويل أو ينكر القدر أو يجحد أسماء الله وصفاته، أو يدعي الكهانة أو السحر أو التنجيم.
وأما عامة الناس فبأن ينخلعوا عن الذل والخوف والجهل فلا يعبدوا غير الله وحده ولا يستشفعوا بسواه ولا يتقربوا إلا له، وأن يطرحوا عنهم كل وهم في ند أو شريك أو وسيلة من الوسائل تستجلب نفعا أو تدفع ضرا غير الدعاء الخالص والعمل الصالح الذي يكون لوجه الله وحده وباسمه وحده3.
وانتزاع العادات السيئة من هذه الطوائف الثلاث التي تكون الأمة جميعها قد تعرض لها محمد بن عبد الوهاب ثلاث مرات: مرة بالنصح، ومرة بالكتابة والتدوين اللذين يدل عليهما كتاب التوحيد، ومرة ثالثة بالتنفيذ حينما تولى إدارة شؤون الدولة هو ومحمد بن سعود حينا، وحينا ثانيا مع عبد العزيز بن محمد بن سعود.
وعلى طريق واحد اجتمعت الأمة في الجزيرة العربية في الفهم والوعي والقصد، واتجهت الأفئدة والأبصار، وتيقظت المشاعر والعقول، واحتشدت الأبدان والجهود في الطريق الواحد الذي يخلو من أهواء الشبع والجشع والرغبة في الثراء والجاه وحب التحكم والسلطان، كما تحررت نفوس الضعفاء من الخوف ومن المذلة والهوان.
1 - فتح المجيد: 362.
2 -
يتألى = يقسم ويحلف أنه يقول حقا وليس كذلك.
3 -
انظر رءوس الأبواب في كتاب التوحيد وفتح المجيد.
وظهرت لعيون المسلمين - بعد طمس دامس في زمان طويل- صورة زاهية لمحاسن دينهم الكريم، وما صوره الدين للحياة الشريفة والموت الشريف، وما رسمه من القول المسموع والعمل المقبول.
وفي طريق واحد ذي تيار واحد اختلطت حبات مياهه فصارت لجة واحدة وبحرا هادرا وسلوكا قويما من إخلاص وصدق وعمل حق، وتصاعدت به القوة كل يوم وكل ساعة، وما لبثت الدولة أن عوضت ما فات الناس في أزمنة الجهل والضياع، إذ رجعت إلى البداية الكريمة التي بدأ عندها الإسلام فانتظم البلاد والأقوام.