الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غاشية الليل
اضطراب الأفكار
منذ خمدت المعركة التي انتصر فيها أحمد بن حنبل وأنصار السنة على المعتزلة والجهمية وأضرابهم من الفرق المنحرفة وتباعدت بالمعركة الأيام رجعت الآراء إلى الاختلاط والامتزاج: آراء أصحاب الرأي وأقوال أهل السنة، وحين كثر أصحاب الرأي واشتطوا وقف لهم أهل السنة يردونهم بمثل أسلحتهم فنتج عن المشاحنات انسياب المياه من هاهنا ومن هاهنا إلى بحيرة واحدة ليس فيها ما يحجز تيارا عن تيار، ووجدت الأمة هذه المياه لجة صاخبة فاغترفت منها دون أن تفصل المزيج فتشرب الرنق الصافي وتلفظ الملح الأجاج.
ومع أن الخليفة المتوكل رفع المحنة وأبطل القول بخلق القرآن وناصر أهل الحديث والسنة1 فإن أثر مناصرته لم يدم طويلا، إذ ارتكب المتوكل نفسه -فيما عمل- كثيرا من الأخطاء، وابتدع أفانين الجور والانتقام من كل من ظن فيه السوء، وضد كل ما لم يرقه من الآراء، فكان أن أكسب كثيرا من القلوب حقدا وخلق فيها النية على كسر ما نصره من الأفكار2.وبسبب غلبة الترك والفرس والمغول على الدولة وعلى الجنس العربي
1 - انظر بابي: فتنة المعتزلة والطود الراسخ، في كتاب شيخ الأمة أحمد بن حنبل.
2 -
تاريخ العرب العام: 228.
منذ تولي المعتصم الخلافة، وبكثرة الفتن والقلاقل والانقسامات، ودخول الأجناس المختلفة في الإسلام -طغت موجات غريبة على الفكر الإسلامي الصافي اضطرت أهل الدين الحنيف إلى الوقوف عن الاجتهاد مخافة الخطأ والذوبان.
واختلف في البلدان الإسلامية وفي أراضيها الواسعة الرحيبة تصوير الإسلام بسبب اختلاف الأجناس والأخلاق والعقول والديانات التي كان يدين بها سكان هذه الأرضين قبل أن يسلموا، فتسربت إلى تصورهم أشكال منها وألوان، ولم تستطع رؤوسهم أن تطرح عنها ما علق بها من الديانات ولا ما لزم نفوسهم من العادات، فنظرت كل أمة إلى الإسلام من خلال تاريخها ونظمها ودياناتها ومن خلال لغاتها وتقاليدها وثقافتها وتربيتها، فاختلطت من كل ذلك الأفكار الدينية وصارت إلى تداخل وتعقد كبير1.
وكان كلما استتب أمر الاختلاط والامتزاج في الأفكار وتقادم عليه الزمن انتشر مبدأ التقديس لهذه الأفكار وما يجري بإيعازها من مظاهر وطقوس، دون تمحيص أو تنقية أو نقد تمشيا مع فكرة التقديس لكل ما هو قديم وتمسكا بما جرت عليه التقاليد2.
ومثل هذا الشعور الذي ينطلق على غير هدى محنة تعتري النفوس فتضعفها فتقبل في أثناء ضعفها التحلل وتفقد الشهوة إلى النهوض والارتقاء، ويستحيل المجتمع بهذه المحنة من رجاله ونسائه إلى عبد راضخ للواقع سليب الإحساس.
وكانت محنة المسلمين في غاشية ليلهم كذلك، أفقدتهم الشعور بأنهم
1 - ضحى الإسلام 1: 365/ 3: 351.
2 -
تاريخ العرب المطول: 873.
يسيرون في ضلالة، ونام الفكر الإسلامي الصافي نومة طويلة تحت غطاء كثيف من الظلام.
ولكن كانت تتخلله أضواء نجوم ولمعات بروق ما تلبث أن تنطفئ وتختفي بعد ومضات قصيرة، وذلك لضآلتها وصغرها بجوار عظيم المحنة، ولضعف أضوائها وسرعة خطفها في ظلمات غامرة؛ ولأن عيون الناس لا تسهر لتكشف مطالعها، وهي إذا استبانت وطلعت لا تعبأ بها لأنها واقفة لا تريد أن تتحرك وعمياء لا تود أن تسري إلى غاية من الغايات.
وكان للدين شيوخ في كل بلد ولكن لم يصر لأحد منهم من القدر والمكانة ما ينبه النقوس إليه إلا بقدر الحاجة إليه في الدروس أو الأحاديث في المدارس والندوات، وبقدر الرغبة فيه للتسلية أو الفتوى في المسائل والخلافات.
ووجدت الطوائف الباغية سبلا لأفكارها حتى تنتشر وتثبت، ومن ذلك ما وجده الخوارج والقدرية والقرامطة والراوندية وغيرهم من نفوذ بين الجماهير وأحيانا كثيرة بين ذوي العقول والمفكرين.
واصطنعت الطوائف الخارجة عقائدها كما تشاء، ولم تكن تخشى أن تصنعها مضطربة أو متضاربة ما دامت تجتاز السدود إلى مناطق الأوهام، ومن هذه الطوائف طائفة القرامطة فإنهم مع اعترافهم بالوحدانية فقد أنكروا الوحي، ومع نزولهم على كثير من أحكام القرآن فقد أذاعوا الزندقة وقوضوا جميع الحواجز التي تصد العباد عن الشر والفساد1.
نزعات التحلل:
ولقد رفض أحمد بن حنبل كل نزعة للتحلل مما جاءت به نصوص
1 - تاريخ العرب العام: 241.
الدين، فلم يقبل من ذوي الشبه والتخييل العقلي حججهم ليخمدوا بها حجج أهل السنة، ولم يرض طريقة المتصوفة في التأمل والخلوة ولبس الخرقة وحلقات الذكر، ولم ير موجبا لأن يتعرض أئمة الدين بالرد على المبتدعة حتى لا تفشو آراؤهم فتفتن الناس ويصير الأمر -كما يسمى في عصرنا الحديث- بجريان الآراء. فسد كل الأبواب التي تخرج منها الفتن والبدع إلى مشارع النور.
وبرغم ما وقف له الإمام العظيم حياته فإن اختلاط الأمم وامتزاجها اخترق في السدود التي أقامها أهل السنة فجوات تدفقت منها آراء الجهمية ذوي التخييل العقلي، وآراء الصوفية ذوي التزيد على ما أوصى به الدين من الزهد، وآراء الفلاسفة الذين غالوا في تقدير العقل البشري وإخراجه إلى فناء لا حدود له من التخمين، وآراء علماء الكلام الذين قلبوا كل فكر ليصلوا إلى حقائق ترضاها عقولهم في خدمة الدين. وفي الليل الطويل الذي خيم على الأمة الإسلامية استقرت أفكار أولئك وغيرهم مجملة ومفصلة، وصارت عند معظم الناس هي الدين الإسلامي الذي يعرفونه ويدينون به، وصارت من المناسك القديمة المقدسة التي ولدوا أمام هياكلها وعلى أعتابها.
أما هي عند النابهين من ذوي النوايا الطيبة فإنها تحرر فكري، وعند النابهين من ذوي النوايا الخبيثة تحلل من ربقة الأخلاق وربقة الدين.
وفي تقاتل الآراء والمذاهب التي لا تعد لم يكن يقع صريعا إلا العقيدة السليمة والإسلام الصحيح.
وترابطت مهابط النّزول عند هذه الآراء الخبيثة ترابطا يدعو إلى اتهامها بالاتفاق على الخديعة، فبينما يقول محترفو الصوفية قول الغرباء بالاتحاد ووحدة الوجود1 فينْزلون بمقام الألوهية الأعظم عن مكانه العلي فإنهم
1 - تاريخ العرب المطول: 521 - تاريخ العرب العام: 245.
يرتفعون بمقامات الأولياء وصانعي الكرامات وخوارق العادات إلى أماكن من التقديس لا تقبل جدالا.
ووجدت فرقة الراوندية من فكرة تقديس الأولياء طريقها إلى القول بوجوب عبادة الخلفاء كما يعبد الآلهة، وأوجبوا أن يعد بلاط الخليفة كعبة جديدة.
وإذا وزعهم الخلفاء وطردوهم وجب أن يعودوا إلى الظهور والتجمع ليعبدوهم على الرغم منهم. وما هذه إلا نزعة إلى سنة العبودية التي سادت جميع الأجيال.
وقالت طائفة بالإمام أو الولي المعصوم; وجعلت النبي المرسل الذي هو أعلى وسيط بشري بين الله وعباده أدنى درجة من الإمام أو الولي، لأنهم بينما قالوا إن قدرة النبي في تلقي الوحي فحسب قالوا إن الإمام الولي يتلقى الوحي ويبرز في الحكمة النظرية.
وكان هذا هو مذهب السهروردي المقتول، فأصلاه تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية نارا محرقة أتت عليه فجعلته كالرميم1.
وخرجت بعض الطوائف إلى نوع من التأويل سموه باطنيا، فأولوا الصلوات الخمس بأسماء أشخاص إذا ذكرها المصلي أغنت عن الصلاة والطهارة، وأولوا أيام الصيام الثلاثين بأسماء عددها من الأشخاص، ثم قالوا بقدم العالم وتناسخ الأرواح ليخلصوا من ذلك إلى إنكار البعث والنشور وتكذيب الثواب والعقاب2.
ومن هذا وما هو أكثر منه وأشنع يبدو تاريخ هؤلاء الناس وكأنهم أصبحوا بلا عقل ولا دين، وربما كان جائزا للقبائل والأمم أن تفعله في جاهليتها قبل الإسلام لأنه لم يكن لها شرع يحرمه، أما وقد حرمه
1 - انظر الحوار في الإمام المعصوم بالقسطاس المستقيم - هياكل النور: المقدمة: 12.
2 -
كتاب السلوك الجزء الثاني، القسم الثالث:942.
الإسلام فالرجوع إليه ردة تستوجب حربا أشد من وجوبها ضد قبائل الجاهلية أو ضد مانعي الزكاة في الإسلام، إذ لا يوصف المرتد عن الزكاة بأنه مشرك من حيث يوصف المرتد إلى تقديس الأجداث بالإشراك.
وقد أثر هذا التفرق والتخليط في الآراء على وحدة الأمة الإسلامية المشدودة إلى وحدة الاتجاه إلى القبلة عند كل صلاة. ولو كانت وحدة استقبال الكعبة تعد أهم رمز عملي إسلامي لوجوب التوحد في كل شيء فإن الانقسام إلى فرق وآراء وأوطان وقبائل عاد تفريقا للوحدة وتهوينا من شأن الرمز الموجب أن يكون الاتجاه إلى ناحية واحدة مهما اختلفت البقاع وتوزعت القلوب.
وتمزق القبائل في الجزيرة العربية التي خرجت منها أول إشارة برمز التوحيد ما بين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- كان أكبر دلالة على بلوغ التمزق غاية مداه في أرض التوحيد.
ابتداع الطقوس:
وبحسب الأفكار التي تأصلت وثبتت قامت عادات ورسخت تقاليد، فمن آثر العقل وحده كالفلاسفة جعل العبادة للعقل وحده، ومن خاف النفس البشرية كالمتصوفة أدخلها إلى حبس بالغ الضيق وأثقلها بالقيود والتكاليف، ولم يبق رحيما بالعقل والنفس إلا الشريعة التي أخرجتهما كليهما من الضيق ومن الشرود.
وكانت الشريعة الإسلامية قد محت كل الطقوس الدينية الفاسدة من الجزيرة ومن البلاد التي فتحها المسلمون وأنقذت حياة العقل المطمورة في دياجير من مشاعر الأوهام، وخلصت البشر من همجية النفسية الأولى حين ضربت بالخرافات والأساطير وشعوذة السحر عرض الحائط،
وأخرجت من العدم عالما مؤلفا من الحقائق المائلة لا من الأشباح الهائمة في الظلام.
ولم تكن الدولة التي تشكلت على هذه الصورة النقية كممالك الأباطرة التي سريعا ما تنحل وتزول، بل كانت طليعة مدنية جديدة تسطع منها الأنوار وتتلألأ وتبقى حية مضيئة حتى لو زال سلطانها الحربي ونفوذها السياسي، وذلك لأن العرب قهروا ممالك العالم باسم الدعوة لتوحيد الله ففتحوها فتحا روحيا استمر في التوسع والانتشار بعد توقف الانتصارات المادية في الوقائع والحروب، ووجهت القلوب والوجوه والألسنة لله وحده في النيات وأعمال الجوارح في كل عبادة ولا سيما في الصلاة والحج والدعاء من غير لجوء إلى وساطة نجوم أو كهان أو أصنام، ومن غير استعانة بأبدان أو أرواح، ومن غير مذلة بركوع أو سجود أو تقديم قرابين.
وأمكن للقبائل العربية بفضل التوحيد والوحدة أن تقيم في أقل من خمسين سنة دولة حلي جيدها بقلائد من أعجب المفاخر وآيات الإعجاز.
ولكن سرعان ما انحرف السلوك وأعوج الطريق ورجعت الجاهلية العربية والجاهلية العالمية فزحفت على اللجة الإسلامية تيارات من الجاهليتين ولم تدع قطرا من أقطار المسلمين إلا أغرقته إغراقا، ورجع إيمان القلب من حب وذل وخوف ورجاء وتعظيم وإنابة لغير الله، وصار عمل اللسان من ثناء وحمد ودعاء واستغاثة واستعاذة وحلف معقودا بغيره، واتجهت الأبدان في الصيام والصلاة وأموال الصدقات والنذور والذبائح وحبوس الأوقاف والهبات إلى غير وجهه، وأصبحت القدرة الخارقة مأمولة في التمائم والصيغ السحرية وأجواف الظلمات والكهوف وشياطين الزار1 مما أوجب هلاكا للناس أكثر مما فعلته الأوبئة وقذائف الحروب.
1 - انظر شرح القصيدة النونية: 508.
وصار من الكرامات ابتلاع الحجر والزجاج والأفاعي وتخريق الأجساد بالمسامير والسكاكين، وقامت من ذوي الكرامات حلقات للرقص والزمر والسماع يسمونها التغبير، يعنون به التهليل وترديد الصوت بالألحان في حلقة الذكر مع الضرب والتوقيع بالقضيب وغيره.
وقد فزع الإمام الشافعي من ذلك التغبير فقال رضي الله عنه: وخلفت في العراق شيئا يسمى التغبير وضعته الزنادقة يشغلون الناس عن القرآن.
ومع هذه الفزعة من الشافعي فإن التغبير امتد تقليده في المواضع حتى بلغ الحاج في عرفات، ولم يبطل أمره إلا في عهد صلاح الدين1.
وإثم هذا الانحراف كله عن الجادة المستقيمة واقع على اثنين: أهل الرأي الذين اغتروا بهوس العقل وتخييله فهونوا من شأن النصوص، وأضعفوا الشعور بصحة كثير من الأحاديث.
وأهل النقل الذين قصّر بعضهم في تحصيل النصوص، ولم يقصّر بعضهم ولكنهم جبنوا أن يردوا الأمة إلى حظيرة إيمانها بتكرار النصائح وتثبيت عقائد الناس السليمة باستمرار، وضرورة العناية بها في التعليم، حرصا منهم على الرزق الموصول والمنصب المرموق.
وفي غيبة العقل الراجح المستنير بأضواء الشريعة وغيبة شجاعة المستنيرين بها هامت الجماهير تتخطف من رواسب الديانات والخرافات وتقيم ما اندرس من الطقوس، وذلك إن حسنت النيات والطوايا. أو تقضي على العقائد والأخلاق والأمن والنظام إن ساءت نياتها وفسدت طواياها.
وتبدو الصلات وثيقة بين الدين والأخلاق وإن كان بعض علماء الاجتماع تصوروهما من أصلين مستقلين ولكنهما متصلان، فالديانة تؤثر في الخلق بطريق الإرشاد إلى الاعتدال والإخافة من العقاب والإطماع في الثواب،
1 - تاريخ العرب المطول: 526 - أيام صلاح الدين: 123.
وأعقل الحكماء لا يستطيع أن يخلص آراءه ومعتقداته من تأثير الأخلاق، ولا بد للمتدين أن يكون ذا خلق، لأنه إن كان غفلا منه فإنه يحاول أن يوفق بين غرائزه السيئة وطلب العون من السماء لإتمام منكراته فيكون بلية أسوأ من بلية العاطل من الدين والأخلاق معا.
وفقدان الأمة الإسلامية لأرضها ومعاركها كان للتعري من الخلق والدين، وليس ذلك وحسب، بل إن الفجرة الكفرة قطعوا أوصال البلدان والقرى والقبائل وسدوا منافذ الطرقات وعطلوا سبيل الحج وخربوا مراكز البريد وهونوا السطو وسفك الدماء ونهب المال. وصيروا البلاد التي كانت قلب الإسلام أكثر من غيرها تحت وطأة المفسدين والأشرار.
وليس في استطاعة أحد من أصحاب الأقلام أن يؤرخ لهذه الحقبة على التفصيل لا في البلاد الإسلامية كلها ولا في بلد إسلامي واحد، إلا ما كان من كتاب اليوميات والرحلات وتدوين الحوادث كالمقريزي والمقدسي وياقوت إذ المشاهدات متراكمة والأحداث منقضة على رؤوس الناس بغير انتظار.
ومن كتب هؤلاء وأمثالهم يظهر صدق هذا القول من وصفهم لتخريب البلاد وقتل النفوس وهياج الفتن وتكفير الناس1.
وقد صنف أبو عبد الله محمد بن العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج كتابه "المدخل" في القرن الثامن الهجري في أربعة أجزاء كبيرة جمع فيه أنواع البدع والمفاسد والطقوس المحرمة التي عم الاعتقاد بها في البلاد الإسلامية، وهي أكثر من أن تحصى وأصعب على الشفاء من أن يصنع لها دواء2.
1 - ظهر الإسلام 4: 103.
2 -
انظر المدخل لابن الحاج.
وما دونه ابن الحاج في كتابه من بدعة القبور وحدها ومخالفة الشرع فيها شيء كثير من فوادح الأخطاء في اختيار أمكنتها وطريقة بنائها وبناء البيوت حولها وانحرافها عن القبلة وأطوال الحفر فيها والدفن بها والقراءة والكتابة عليها ونصب الخيام وإشعال الأضواء والنيران والإقامة أياما وليالي يطهى عندها الطعام ويسقى الشراب1.
ويقول ابن الحاج: وقد صار هذا الحال في هذا الزمان أمرا معمولا به حتى لو تركه أحد منهم لكثر فيه القيل والقال فكيف لو أنكر ذلك! ولم يعلل ابن الحاج لما رآه من أنه أصبح عادة وهي إذا لزمت صار لها سلطان لا يقاوم ويعود البرهان غير مؤثر فيها.
وإذا تنبه فرد وأراد الانفلات من تأثيرها فإنه لا يلبث أن يرى جميع الزمرة التي ينتسب إليها تعاديه.
فإذا ثبت للعداوة ومضى في خلع العادة عد ذا خلق قوي ومزية تفوق المجتمع الذي ينتسب إليه.
وهذا الذي دونه ابن الحاج في بدعة القبور صغير لو قيس بما قاله في السحر والزار والاستشفاع بأجداث الأولياء وغير ذلك من الاعوجاج والفساد.
خفقات النجوم:
ولم يكن ليل المسلمين طامسا بل كانت تتخله خفقات نجوم تضيء وومضات بروق تلمع، ولكنها لم تؤذن بطلوع الصبح من قريب.
وكانت هذه الأضواء والومضات من رجال أتقياء أذكياء أفرغوا جهودهم الفردية في إنارة الطريق للسائرين، وربما لم يسلم واحد منهم من الخطأ والوهم أحيانا لكثرة المنعرجات في الأفكار، ومن هؤلاء أبو الحسن
1 - المدخل لابن الحاج 3: 258 إلى 281.
الأشعري وأبو حامد الغزالي وكلاهما كان نقي النفس مخلصا، ومن أبرز من ظهروا في عهود التفكير الديني في الإسلام.
وترك الأول مذهبا من الجدل ينصر فيه أهل السنة على المعتزلة، وقد كان أبو الحسن درس الاعتزال من قبل فتعرف طريقته وخبر عيوبه.
وترك الثاني جحفلا من الكتب التي يرد فيها مسائل الزهد والتصوف إلى الفقه وشرائع الدين، وكان منها: إحياء علوم الدين، والمنقذ من الضلال ومقاصد الفلاسفة، وتهافتهم. ومع أن الرجلين لم يسلما من النقد والعتب على بعض ما أخطأ فيه، فإنهما قوما منعطفات الطريق وأضاءا منعرجات الظلام.
واتخذ الأشاعرة مقالات أحمد بن حنبل تضيء لهم المسالك وتحل المشكلات كما فعل إمامهم فاقتدوا به، وقد كان من المعتزلة ثم تاب من القول بخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم جمعة، وكان ذلك بأن رقي كرسيا ونادى بأعلى صوته قائلا:
من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرف بنفسي أنا فلان ابن فلان. كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار.. وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم1.
ثم كتب الأشعري في الرد على الملاحدة والمعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة، وكان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم زمانا حتى أظهر الله الأشعري فلاذوا يستخفون في الجحور.
واستقر الأشعري وأصحابه على السنة وإثبات الصفات للذات العلية.
وحين تكلموا عن صفة الكلام قالوا ما قاله الإمام أحمد والأئمة معه ومن
1 - وفيات الأعيان 2: 246.
قبله، قالوا: إن كنه هذه الصفة -كسائر صفات الله عز وجل محجوب عن العقل كالذات العلية، فليس لأحد أن يخوض في كنه ما يجب لذاته أو صفاته سبحانه جل وعلا1.
وكذلك فعل الغزالي، وقد رد على الدهريين الذين، آمنوا بخلود المادة وأنكروا وجود الخالق، ورد على الطبيعيين الذين آمنوا بوجود الخالق ولكنهم أنكروا رجوع الأرواح إلى الأجساد وبعثها من مراقدها للثواب والعقاب. وقد قال الغزالي بكفر الطائفتين جميعا2.
وتمثلت طريقة الأشعري في مكافحة خصومه من المعتزلة والفلاسفة والفرق الضالة بالاستدلال الجدلي والبرهان المنطقي والاعتماد كل الاعتماد على القرآن والحديث.
ولكن أضواء هذه النجوم لم تخترق كل الظلمات ولم تنفذ قوية إلى سطح الأرض كله فتنبه العامة إلى ما هم فيه من جهالة وضياع، فبينما كانت الآراء تتصارع وذوو الأفهام يطلعون فيعرفون أو ينكرون كان سواد الأمة ماضيا في غلوائه من التطبع بأسوأ الطباع والتزام أقبح العادات وتقديس أرذل المعتقدات.
وذلك أن العامة مشحونة على استمرار بالانفعالات المتمردة والمزاج البعيد من العقل والسورة الجامحة، وهي في أشد الحاجة على الدوام إلى من يبصرها ويبعث فيها نخوة الاحتفاظ بمعتقدات سلفها أو الرجوع إليها، فإذا لم نجد هذا الذي يبصرها ليل نهار وفي كل آن ويشدها إليه شدا استسلمت لانفعالاتها وسورتها وتمردها.
ومع أن الغزالي أوضح في كتابه "القسطاس المستقيم" أنه لا يمكن
1 - المدخل لابن بدران: 7.
2 -
روح الإسلام: 323.
لأحد أن يعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية لجميع الخلق فيرفع الاختلافات الواقعة بينهم، فإنه حاول أن يرسم طريق النجاة لكل الخلق، وأرشد إلى أن هذا الطريق قد بينه الله في كتاب بقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد من الآية: 25] .
وقد بينت الآية أن الناس ثلاثة أصناف، وكل واحد من الكتاب والميزان والحديد علاج قوم: فالخواص أهل القريحة النافذة والفطنة القوية الخالية بواطنهم من التقليد والتعصب، فهؤلاء علاجهم بالميزان، وهو ما رسمه القرآن في الجدل الإبراهيمي الذي فيه الحجة البالغة.
والعامة الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق، وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس فيهم داعية الطلب ولا داعية الجدل، وهؤلاء ليس الخوض في الخلافات من عشهم، فهؤلاء لهم الاعتقاد وما في الكتاب من أصول وفروع، من غير أن يشغلوا أنفسهم بمواقع الخلاف، ويكفيهم معرفة الفرائض وما اتفقت عليه الأمة من الحلال والحرام. ومن هؤلاء قوم هم أهل الجدل، فيرى الغزالي علاجهم بالتلطف إلى الحق من غير تعصب عليهم أو تعنيف لهم، وإنما يعالجون بما قال الله سبحانه:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل من الآية: 125] .
وبقي الحديد الذي فيه بأس شديد، وهو علاج الصنف الثالث، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
ورغم كل علاج فإن الخلاف لم يرتفع بين الخلائق، ولم تزل
الإشكالات عن القلوب1 لأن اختلاف الخلائق حكم ضروري أزلي بينه قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود من الآيتين: 118-119] ؛ فالناس دائما في حاجة لرحمة الله في مطلع فجر جديد.
مطلع الفجر:
وطلع الفجر عندما استيقظت حران المسلمة العريقة في المعرفة فولدت أضواء صبح مستعرض. هم بنو تيمية، وكان أقربهم إلى أضواء النهار تقي الدين أحمد بن عبد الحليم وتلميذه الفذ شمس الدين محمد بن قيم الجورية2.وعلى رغم ما لقيه هذان الرجلان في نفسيهما وفيما رزقهما الله من علم وتقوى فإنهما تركا من بعدهما تراثا وقادا ما يكاد ينهتك عنه ستر الليل ويسفر صبحه حتى تبزغ الشمس عن نور منتشر مستفيض.
وقد نشأت ببني تيمية مدرسة عقلية لا تقول بالرأي، وإنما تبحث عن الأدلة القاطعة التي يقدر عليها العقل الراشد والميزان السليم لإثبات أحكام الشرع.
وقد فرغت هذه المدرسة من أن الأحكام الواردة في نصوص الشريعة الإسلامية لا بد أن تكون عن إرادة من الشارع الحكيم لمنفعة الناس.
وتوسعت هذه المدرسة في الرد على كل مخالف لطريق السنة ولا سيما الجهمية القائلين بخلق القرآن، وتعطيل الباري جل وعلا عن صفاته،
1 - القسطاس المستقيم: 69.
2 -
كني شمس الدين بابن القيم لأن أباه كان قيما على مدرسة يقال لها الجوزية.
وإنكار رؤية المؤمنين له في القيامة. والقائلين من الصوفية بوحدة الوجود والمفرطين في الإيمان بالذوق والشطح الصوفي.
وكان من وصايا الإمام أحمد رضي الله عنه في زمانه الأول أن لا يشغل أحد من أهل السنة نفسه بالرد عليهم، ثم عاد هو فرد عليهم، فلما استفحل الأمر من بعده وسال الناس فيه سيل الماء أو سيل البحر لم تجد مدرسة بني تيمية بدا من الرد والعنف فيه.
واتجه البحر الزاخر تقي الدين اتجاهين:
اتجاه نظري يرد فيه على المؤولين والمخرجين ابتغاء إحياء السنة والرجوع في الأحكام إلى النصوص والوقوف عن التأويل.
واتجاه عملي حرم فيه البدع كافة. وقصد قصد العامة التي هلعت نفوسها وراء كل ما هو مبتدع بلا علم منها ولا شعور وكأنه صار قدسا لا ينال بكيد ولا تجريح1.
واتخذ تقي الدين من لسانه وقلمه سلاحا للجدال والمناظرة والوعظ والتدوين، ومن سيفه للجهاد والمدافعة، وكان في سلاحه البياني بليغا عنيفا يحامي به عن أفكار الإسلام النقية كارها أشد الكره ما فعله القرامطة والباطنية من التأويلات الكاذبة بدعوى أنه علم الباطن، وهو أمر لم يقفوا فيه عند حد من الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف كلم القرآن والحديث عن مواضعه، ولم تكن لهم غاية من باطنهم إلا إنكار الإيمان ومحو شرائع الإسلام2.
ثم كان تقي الدين في سلاحه القتالي جنديا مخلصا وزعيما متحمسا يدافع عن أرض المسلمين ويدعو أهلها لرد التتر الغزاة.
1 - دائر المعارف 2: 368.
2 -
كتاب السلالة 1: 945.
وخلف ابن تيمية من الكتب والرسائل في الخلافات الجارية ما لم يبلغ مبلغه أحد من مصنفي المسلمين، تنقية وجدالا ومحاجة وتقريرا، وصارت كتبه ورسائله ينابيع ثرة يردها كل ذي غلة ويصدر عنها راويا، وأضواء ساطعة يسير فيها كل من أراد الهداية من الحيرة والسير في الطريق المستقيم.
وقد تبعه في علمه ومزاجه وطريقته ابن القيم فوسع وأكمل وحرر، ثم خلف مثل شيخه كتبا ذات قيمة نفيسة في اللغة والحديث والسنة والسيرة والفقه والتفسير، لا يستغني عنها وارد ماء ولا راشف دواء.
وليس من غارة شنت على آراء جهم بن صفوان المنحرفة عن جادة الحق بعد الظاهرية أشد من الغارة التي شنها تقي الدين وصاحبه شمس الدين، وقد رد هؤلاء جميعا استدلالات الجهمية وغيرهم، بالعقل والنقل، حتى كسروا جيوشهم وردوها فلولا وأشلاء1.
وشيخ الظاهرية كان داود الأصفهاني، حارب القياس الباطل وأظهر أن في الكتاب والسنة ما يفي بمعرفة الواجبات والمحرمات، وقدم ظواهر آيات القرآن والحديث على التعليل الفعلي للأحكام، وكانت وفاته في سنة 270 هـ2 قريبا من وفاة شيخ الأمة أحمد بن حنبل الذي توفي في سنة 241 هـ.
وآخر أعلام الظاهرية علي بن أحمد بن حزم القرطبي الذي قال ببطلان القياس ورد على أتباع المذاهب المقلدين وصنف في الصحاح وفتاوى الصحابة والتابعين وأقضيتهم، وذاد عن الإسلام ذودا شديدا وتوفي في سنة 456 هـ3.
1 - المدخل لابن بدران: 14، 41.
2 -
ظهر الإسلام 1:223.
3 -
الإحكام في أصول الأحكام: 1171.
أما الشاميان الحنبليان فمع تقديمهما لظواهر القرآن والحديث فقد خالفا الظاهرية بأن بحثا عن التعليل العقلي لأحكام الشرع، معتقدين أنه لا بد أن يكون الشّارع الحكيم فرضها لخير النّاس، وكان من فضلهما أن صيّرا المعتقدات إلى معارف تبرّرها العقول ليتمّ رسوخ الإيمان.
وحارب الفقيهان الحيلة على الدين وعدوها -كإمامهم أحمد- جبنا وغشا لتغطية الحق عن الناس، كما شجبا الإلهام الصوفي الذي سرى من جهة غلاة المتصوفة، واعتبره بعض المتأخرين منهم مسانيد لها قوة النصوص.
وقد أقفل الحنابلة هذا الباب لأنهم رأوه مدخلا للمفاسد والشرور وطريقا واسعا للكذبة والمدلسين على الدين، وخافوا أن يدعي المدعون إثبات ما يلذ لهم بحجة الالهام والذوق والكشف، فيكون وحيا زائدا على وحي النبوات.
وكذلك الرؤى والأحلام لا تكون حجة ولا تلزم العمل بها، ولا يثبت بها حكم شرعي -وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا حق- ولكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لانعدام قدرته على الحفظ، ومن أجل ذلك يسقط عنه التكليف1.
والشريعة الإسلامية قد تمت واكتملت فلا تزيدها الإلهامات والرؤى والكشوف أحكاما، وقد منع هذه الزيادات وغيرها على الشريعة قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة من الآية: 3] .
وولد في مطلع هذا الفجر إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي نضو
1 - المدخل لابن بدران: 138.
ابن القيم في صحبته لتقي الدين ابن تيمية، وقد كان سلفي النّزعة سني المذهب، تبع شيخه في طريقته، فكان أحد الأعلام الذين نقوا الحديث ووضعوا علومه.
وأزاحوا عنه الغيوم، وأما في تفسير القرآن فقد آثر أن لا يرجع إلى رأي وإنما يدون فيه ما ورد من أقوال السلف، من الصحابة والتابعين لئلا يكون هناك منفذ لرأي أو تأويل1.
1 - انظر تفسير القرآن العظيم وتعريف الحافظ ابن كثير بمقدمته.