الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغلو في المحبة
والمقصود أن الأمر ليس أمر عاطفة، كما يقول صاحب البردة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فهو يقول: لا تقل ابن الله وقل أي شيء، فهذا ليس من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من تعزيره وتوقيره الذي أمر الله به، فكل إنسان إذا أطلق سجيته فقد يشطح ذات اليمين وذات الشمال، ولهذا الغالبية من الناس انحرفوا في محبته صلى الله عليه وسلم، وخاصة في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، إلى أن أصبح الحال أنك إذا قرأت ما كتبوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقارنته بما تعلم وبما يعلمه المسلمون الذين يقرءون سيرته صلى الله عليه وسلم من المصدر الأول للسيرة وهو القرآن الكريم، الذي فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته وكثير من أعماله وأحواله وحدود بشريته وحدود مقامه في القرآن، وأيضاً في الأحاديث الصحيحة، فإذا قارنت ذلك مع ما تقرأه لهؤلاء المتأخرين عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم وطابقته بما تجده في القرآن والسنة تجد الفارق العجيب، تجد أن هؤلاء لا يتكلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان المكرم الذي أوحى الله إليه، وأنزل إليه الروح الأمين، وهدى به العالمين، ونشر به وقوم به الملة المعوجة، وفتح به الآذان الصم، والقلوب الغلف، والأعين العمي و، مما هو معروف من صفاته صلى الله عليه وسلم، بل عن شخصية غريبة أسطورية لا تظن ولا تتوقع أنها وجدت على هذه الأرض أو توجد، فيصفونه بأنه خلق من نور الله، وأنه وجد قبل الكائنات، وأنه حي أبداً، وأنه يحضر كل مكان يقام له فيه محافل بدعية وما أشبه ذلك، وأنه يتكلم ويرى ويسمع ويخاطب، ويُرى في اليقظة، ويأمر وينهى ويشرِّع، ويخاطب الأولياء ويقول لهم أشياء وصفات غريبة، إذا قارنتها بما تعلم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، علمت أن هذا ليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نعرف صفته من القرآن ومن السنة الصحيحة، فبلغ بهم الغلو إلى هذا الحد -نسأل الله العفو والعافية-.
ومع ذلك يزعمون ويدعون أن ذلك محبة واتباع وأن من خالفهم في ذلك فهو عدو للرسول صلى الله عليه وسلم أو مبغض له، وهذا هو المعيار الذي جعلوه، أما ما جعله الله في كتابه فهو قوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فهذا هو الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقال في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] وإن ادعوا الإيمان وإن ادعوا المحبة لا يمكن أن يكونوا مؤمنين ولا محبين إذا خالفوا ما أمر الله به وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعظم ما جاء به المرسلون صلوات الله عليهم هو التوحيد، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فهذا أعظم شيء جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد الناس فيه.
وقد قال له ربه عز وجل وهو المجاهد في التوحيد وللتوحيد، والذي سد كل الذرائع إلى الشرك:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إمام الموحدين، المجاهد في ذات الله، وعمره كله في توحيد الله يقول له ربه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وكما قال من قبل لإبراهيم الخليل، وهو إمام الموحدين قبله صلى الله عليه وسلم:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] فنهاه عن الشرك كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن من بعدهما تبعٌ لهما، فإذا كان هذا أعظم ما أمر الله تعالى به وأعظم ما جاء الأنبياء به وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم يوم القيامة، الذي أظهر الله تبارك وتعالى به الدين القويم، ونشر الله به دينه وأظهره على الدين كله، حتى دانت له الأرض جميعاً إلا ما قل، وإذا كان التوحيد هو أعظم الأمور عند النبي صلى الله عليه سلم فأعدى عدو له هو من يأتي بالشرك، ومن يدعو إلى الشرك، كائناً من كان وزاعماً ما زعم من محبة الله أو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أصحابه أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، مع ما كانوا يقدرونه ويوقرونه ويعزرونه وهم أعرف الناس بذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:[[ما كان أحد أحب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أبداً لا يمكن أن يكون أحد، وقال:- وما كانوا يقومون له لعلمهم أنه كان يكره ذلك]] مع هذه المحبة العظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يتتبعون آثار وضوئه، ويأخذون شعره إذا حلق، ويتمنون أن يصافحوه أو أن يروه، فمجرد رؤيته كانت شيئاً عظيماً بالنسبة لهم، ومع محبتهم العظيمة له كان إذا دخل صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يقوموا له -لأنهم يشعرون بالمحبة- ولكن لا يفعلون ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يكره ذلك، وقد نهاهم عنه، وقال:{إنما هذا فعل الأعاجم مع ملوكهم} فهذا ليس من دين الإسلام، وليس من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يفعلونه مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، تلك المحبة التي كانوا يحتسبونها عند الله على أنها أعظم عمل من الأعمال كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه:{قدم أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب، يقول أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيءٍ يومئذٍ فرحنا بقوله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب فأنا والله أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم} .
فهم كانوا يعرفون المحبة ويحتسبونها كأعظم عمل من الأعمال، ويرجون بها أن يبلغوا من المنزلة والدرجة ما لا تبلغه أعمالهم من المنزلة والدرجة، ولكن مع ذلك ورغم هذه المحبة وعمقها، هل كانوا يخالفون أمره صلى الله عليه وسلم حتى فيما يتعلق بتعظيمه؟ لا، لأنه صلى الله عليه وسلم سد جميع الطرق والذرائع التي تؤدي إلى ذلك.