الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مظاهر الانحراف في المحبة
والأمة الإسلامية قد وقعت في كلا طرفي الانحراف، فوجد منها من غلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرجه عن العبودية فجعله إلهاً معبوداً من دون الله تبارك وتعالى، وهذا ماحصل من كثير من الطوائف وحصل حتى مع غيره صلى الله عليه وسلم من عباد الله من الصحابة، كما فعل مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أو الحسين أو من التابعين أو من بعدهم من عباد الله الصالحين، أو من يدعي صلاحهم، فحصل الغلو وفتح هذا الباب الذي هو باب هلاك، كما قال صلى الله عليه وسلم:{إنما هلك الذين من قبلكم بالغلو} لما غلو في الدين وغلو في أنبيائهم فغلت هذه الأمة تبعاً لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:{لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فرفع هؤلاء أنبياءهم فوق حقيقتهم، ورفعت طوائف من هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق حقيقته التي هي معلومة بصريح القرآن وصريح السنة، وهذا ما وقع وعَمَّ به البلاء، وواجب على كل من يؤمن به صلى الله عليه وسلم، ويحبه -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يدافع عن التوحيد ويسد الذرائع المفضية إلى الشرك، بأن يبين للناس منزلة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقية، ويحذرهم من الوقوع في الشرك ومن الغلو فيه.
والجانب الآخر: وقع فيه أكثر المسلمين من العامة، بل حتى من العلماء وغيرهم، وهو أنهم قصروا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدموا أحوال غيره على أحواله صلى الله عليه وسلم، وكانت مصيبة المسلمين في العشرة القرون الماضية أنهم يقدمون أقوال بعض العلماء على قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعصبون لهم، وهذا بخلاف ما أمر به أولئك العلماء الأجلاء أنفسهم، وكان ذلك يُعدُّ -وهو كذلك- تقديماً بين يدي الله ورسوله، وإساءة للأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما ناظر ابن القيم رحمه الله أحد هؤلاء ممن يأتيه الحديث الصحيح فيرده لأن فلاناً قال كذا، فقال له: أرأيت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ الآن يخاطبنا بأمرٍ وقال: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أكنت تأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم أو تقول: أعرض هذا الأمر على قول فلان، أو هذا الأمر يخالف ما قاله فلان من الناس؟ قال: بل أمتثل وأبادر تواً وفوراً، قال: فما الفرق؟ فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى فسنته وأمره بعد وفاته كأمره في حياته صلى الله عليه وسلم، فلا بد من التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأدب مع سنته كما كان التأدب مع شخصه صلى الله عليه وسلم في حياته، بألا يقدم أحد بين يدي الله ورسوله، ولا يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك يجب أن يتأدب معه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بألا يرفع رأياً فوق سنته صلى الله عليه وسلم.
فهذه كانت مصيبة الأمة الإسلامية التي حلت بها إلى أن جاءنا الغزو الفكري الحديث، وجاءنا الضلال الكبير الذي وقعت فيه الأمة في الأزمنة الأخيرة، وهي أنها قدمت القوانين الوضعية والأحكام البشرية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعرضت عما جاء به من الكتاب والسنة والهدي، فحصل بذلك الضلال العظيم، وحصل الكفر المبين لكثير من الناس الذين شَرَّعوا هذه القوانين وسنوها وألزموا الناس بها -نسأل الله العفو والعافية-.
فلم يعد للمسلمين في كثير من البلاد شيء يتمسكون به إلا أنهم يؤدون بعضاًَ من الشعائر التي تشابه ما يؤديه النصارى من الشعائر، أما حقيقة الإيمان والاتباع الكامل وحقيقة الإذعان الذي هو حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أشرك به غيره، وأصبح الاتباع لغيره صلى الله عليه وسلم، فمناهج التعليم، ومناهج الحياة، ومناهج الاقتصاد كل هذه تؤخذ من غير شرعه صلى الله عليه وسلم، ثم مع ذلك يقولون: نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ويوجد فيهم من يقول: إنه يحب الله ورسوله، فيأكل الربا أو يستحله ويزعم أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم! ويوالي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمجوس والبوذيين ويزعم أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم! إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم -مثلاً- التاجر الذي يستقدم العمال الكفرة، هل هذا في الحقيقة محققاً لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم؟! لِمَ لا يأتي بالمسلمين؟ يأتي بمن لو سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقال: دجال كذاب مفتري -والعياذ بالله- فيأتي به ويكرمه ويعطيه المبالغ العظيمة التي ربما كانت أكثر مما يعطي المسلم، ثم يقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل هذا حق؟! وكيف تقرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبغض الزنا، والربا، والنفاق، ثم تأتي ويقع منك الزنا والربا والنفاق والغيبة والنميمة والإساءة إلى الجار والخيانة، كل ذلك مما يتنافى مع دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، ولو رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لغضب أشد الغضب، وتألم أشد الألم، ثم يفعله من يفعله ويقول: أنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فهذا هو المعيار، وبهذا نعرف أين نحن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا حكمنا غير شرعه وأطعنا غير أمره، وصدقنا غير خبره، وعبدنا الله بغير سنته، فماذا بقي لنا من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!! والواقع كثير، وظلامه كثيف، والانحرافات كثيرة، ولكن هذا كله لا يعفينا من أن نقول الحقيقة، وأن ندعو إليها، وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نعرف أين نحن من الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة التي أمرنا الله بها، وهل محبتنا وهوانا وقلوبنا وخيرتنا تبعاً لما يقضيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أم أنها تتبع الهوى وإن ضربنا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم صفحاً؟ فهذا هو المحك، وهذا هو المعيار.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونكتفي بهذا المقدار، وفي أسئلتكم ما يذكرنا بما أنقصنا ولا بد أننا أنقصنا، فالحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم طويل وعظيم، ونحن دون أن نوفيه حقه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين له حق المحبة، المطيعين له حق الطاعة، إنه سميع مجيب.