المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الهجاء بشرب الخمر في الإسلام: - دور الأدب في مكافحة الخمر بين الجاهلية والإسلام

[محمود محمد سالم]

الفصل: ‌الهجاء بشرب الخمر في الإسلام:

وروي أن عثمان بن مظعون كان قد حرم الخمر في جاهليته. وقال في ذلك: "لا أشرب شرابا يذهب بعقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني، وأزوج كريمتي من لا أريد، فبينما هو بالعوالي إذ أتاه آت، فقال: "أشعرت أن الخمر حرمت وتلا عليه الآية من سورة المائدة فقال: تبا لها، لقد كان بصري فيها نافذا".

والقصص الأدبية المروية عن الخمر تبرز شعور المجتمع الإسلامي بالنفور منها لأنها تفقد شاربيها الغيرة والنخوة، وفقدان الإحساس بنقاء العرض والشرف، ومن ذلك ما ترويه بعض كتب الأدب أن أعرابية سقوها مسكرا فلما أفاقت، سألت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: لئن كنتم صدقتم لا يدري أحدكم من أبوه".

وكان العباس بن مرداس السلمي ممن حرم الخمر في جاهليته. قبل إسلامه وسئل: لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك أو جرأتك.؟ فقال: أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي.

ص: 148

‌الهجاء بشرب الخمر في الإسلام:

لقد تربى الضمير الإسلامي على كراهة الخمر واحتقار شاربيها وذم من اشتهروا بمعاقرتها، ولذلك كثر في الهجاء ذم المهجوين بأنهم مخمورون فكان ذلك من أوجع الذم لمن يراد النيل من عرضه وثلم شرفه، كما امتدح من تنزه عنها وسما عن مقارفتها.

ففي معركة الهجاء التي احتدمت بين شعراء النقائض في العصر الأموي نرى جريرا وقد وجد مغمزه ومطاعنة في كل من الفرزدق والأخطل بما اشتهروا به من معاقرة الخمر. مع عيوب أخرى فيقول للأخطل:

شربت الخمر بعد أبي غويث

فلا تعمت لك النشوات بالا

تسوف التغلبية وهي سكرى

قفا الخنزير تحسبه عزالا

تظل الخمر تخلج أخدعيها

وتشكو في قوائمها أمذلالا

ص: 148

وندرك فظاعة هذا الهجاء في تصوير التغلبية وهي سكرى إذا عرفت أن العرب في جاهليتهم وإسلامهم كانوا يشتدون على النساء فلا يسمحون لهن بشرب الخمر، حتى وإن تعاطاه بعض رجالهم كم يقول ابن قتيبة، لم يحفظ أن امرأة شربت ولا أن امرأة سكرت".

وكذلك يطعن الفرزدق بما يقارف من الزنا والخمر فيقول:

يقول لك الخليل أبا فراس

لحا الله الفرزدق من خليل

وما يخفى عليك شراب حد

ولا ورهاء غئبة الحليل

إذا دخل المدينة فارجموه

ولا تدنوه من جدث الرسول

ويقول له:

إذا ما شربت البابلية لم تبل

حياء ولا يسقى عفيفا عصيرها

رأيتك لم تعقد حفاظا ولا حجى

ولكن مواخيرا تؤدى أجورها

ولولا أن الخمر كانت محقورة في نفوس المسلمين يومذاك لما كان لهجاء جرير خصومة بشربها أدنى أثر في النيل منهم".

ولا عجب – والهجاء بها من أقذع الذم أن نسمع مالك بن أسماء الفزاري يهجو قوما بأنهم أدمنوا الخمر حتى ألفت كلابهم ريحها النتنة، فلا تنبح من يأتيهم وفيه رائحة الخمر وإنما تنبح من تشم فيه رائحة المسك والعنبر، لأنها ألفت من أصحابها نتن ريحها وتأنس إلى من كان مثلهم في القذارة والعفونة، وذلك حيث يقول:

لو كنت أحمل خمرا يوم زرتكم

لم ينكر الكلب أني صاحب الدار

لكن أتيت وريح المسك يفغمني

وعنبر المسك أذكيه على النار

فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني

وكان يعرف ريح الزق والقار

ص: 149

ولا يعدم الباحث في فنون الأدب العربي عبر العصور الإسلامية المختلفة. أن يجد تجارب الشعراء والأدباء الذين وعظتهم السنون وشغلهم الحياء عن معاقرتها بعد أن كانوا من المولعين بها، وممن وعظتهم التجارب فأقلعوا عنها الشاعر المشهور "الأقيشر الأسدي" الذي عمر طويلا إذ ولد في الجاهلية ونشأ في الإسلام، وله في الخمر شعر يصور امتناعه عنها.

وصهباء جرجانية لم يطف بها

حنيف ولم تنغر بها ساعة قدر

أتاني بها يحيي وقد نام صحبتي

وقد غابت الجوزاء وانغمس النسر

فقلت اغتبقها أو لغيري فاهدها

فما أنا بعد الشيب ويبك والخمر

إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن

له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى

وإن جر أسباب الحياة له العمر

وقد احتال بعض المترخصين فابتدعوا النبيذ وادعوا حله وفرقوا بينه وبين الخمر، فزينوه وأغروا به العامة والخاصة، ولكن الفقهاء والصالحين من أئمة المسلمين حاربوا بسلوكهم وأقوالهم هذه البدعة التي ترخص في شرب الأنبذة بضروبها وأشكالها المختلفة، وما لبثت هذه البدعة ومقاومتها أ، وجدت سبيلها على ألسنة الشعراء والأدباء، يقول أبو الأسود الدؤلي:

دع الخمر تشربها الغواة فإنني

رأيت أخاها مجزئا بمكانها

فلما سئل عن نبيذ الزبيب قال:

فإلا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها

ص: 150