الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكتاب المبادئ ينقسم إذن أربعة أجزاء: الأول وعنوانه: "مبادئ المعرفة البشرية"، يحوي على التقريب ما يحويه كتاب التأملات لولا أنه بأسلوب آخر، ولولا أن ما وضع في الواحد مطولا وضع في الآخر مختصرا وبالعكس. والجزء الأول هذا، إذا قِيس بالثلاثة الأخرى، وجد عبارة عن نحو عشر الكتاب كله، وهو أقل قدر من الميتافيزيقا لازم لكل فيزيقا في ذلك الوقت.
والجزء الثاني وعنوانه: "مبادئ الأشياء المادية" بيّن ديكارت فيه لِمَ يعتبر الأجسام إلا مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا، ولم يعتبر في تغيراتها المتعاقبة إلا حركات خاضعة لبعض قوانين بسيطة جدا؟
وعنوان الجزء الثالث: "في عالم الشهادة" Du Monda Visible. وهو بحث في الميكانيكا السماوية، يصف ديكارت فيه حركة الأرض والكواكب الأخرى حول الشمس.
وعنوان الجزء الرابع: "في الأرض" ويفسر فيه ديكارت الثقل وظاهرة المد والجزر وخواص المغناطيس
…
إلخ، ويبقى الجذبة بين الأجسام؛ لأن فكرة الجذبة فكرة مبهمة.
2-
ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت:
يرى ديكارت أن الفلسفة هي دراسة الحكمة، والحكمة علم واحد كلي، هي تفسير جامع للكون أو هي نظام شامل للمعرفة البشرية. وليست الفلسفة مجرد مجموعة معارف جزئية خاصة، وإنما هي علم المبادئ العامة، يعني: أنها علم للأصول التي هي أسمى ما في العلوم. وإذن، فالفلسفة عند ديكارت يدخل فيها علم الله وعلم الطبيعة وعلم الإنسان، لكن دعامة الفلسفة عنده إنما هي في الفكر المدرك لذاته، والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل أي: الله منبع كل وجود، والضامن لكل حقيقة.
والفلسفة عند فيلسوفنا نظر وعمل، لكن النظر هو بمثابة الأساس الذي يقوم عليه العمل. ولقد بين ديكارت نفسه ماهية الفلسفة وموضوعها في مقدمة كتاب المبادئ، قال:"لفظ الفلسفة هذا معناه: دراسة الحكمة وليس معنى الحكمة قاصرا على الحيطة والتبصر في الأمور، بل تفيد أيضا معرفة كاملة لجميع الأشياء التي يستطيع الإنسان معرفتها إما لهداية حياته، أو للمحافظة على صحته، أو لاختراع جميع الفنون"1.
وإذن، فليست غاية العلم عند ديكارت مقتصرة على المعركة، بل إن من غاياته أن يكفل للإنسان الراحة والهناء. ولعل فكر ديكارت في هذا الموضوع أقل سموا من فكر أرسطو الذي جعل من براءة النظرة وخلوها من المنفعة طابع الفلسفة. على أننا ينبغي ألا نسرع في الحكم على ديكارت فهو نفسه يضيف إلى ما تقدم قوله: "ينبغي على البشر الذين جزؤهم الرئيسي هو الذهن أن يوجهوا أكبر قسط من عنايتهم إلى طلب الحكمة التي هي غذاؤه الصحيح
…
وليس من النفوس نفس مهما بلغت من قلة النبل تظل متعلقة بأمور الحواس تعلقا كبيرا يحول دون انصرافها عنها أحيانا، مؤملة خيرا آخر أكبر، وإن كانت تجهل في الأغلب ماهية ذلك الخير
…
وهذا الخير الأسمى إذا اعتبر بالنور الطبيعي دون نور الإيمان، لم يكن شيئا آخر غير معرفة الحقيقة بواسطة علتها الأولى، أعني: الحكمة"2.
وكيف الوصول إلى تلك المعرفة ذات القيمة الكبرى؟
يرى عامة الناس، بل أغلب الفلاسفة، أن المعرفة على أربعة ضروب:
"الضرب الأول لا يحوي إلا معاني بلغت من الوضوح بذاتها أن كان تحصيلها ممكننا من غير تأمل" أو لعل ديكارت قد خطر بباله هنا المعاني
1 ديكارت: "مبادئ الفلسفة"، المقدمة "طبع ليار ص7".
2 مبادئ الفلسفة، المقدمة "طبع ليار ص9".
الرياضية، "والثاني يشمل كل ما توقفنا عليه تجربة الحس. والثالث ما تفيدنا إياه المحادثة مع غيرنا من الناس، والرابع مطالعة الكتب"1.
ويلاحظ أن ديكارت لم يضمن في إحصاء عملية الاستدلال. على أن من الصعب علينا أن نقبل ذلك التقييم الذي يضع محادثة الناس ومطالعة الكتب في مستوى واحد مع حدس المعاني الرياضية والتجربة، ولكن تلك الأضرب ليست إلا لصور الدنيا للمعرفة. فلكي تكون المعرفة كاملة ينبغي أن تكون مستنبطة من العلل الأولى. ومهمة الفيلسوف هي البحث عن تلك العلل أو المبادئ:"لقد وجد في كل زمان رجال عظماء حاولوا أن يجدوا مرتبة خامسة لبلوغ الحكمة، هي أسمى وأوثق ولا يعدلها شيء من المراتب الأربع الأخرى، وهي طلب العلل الأولى للمبادئ الحقة التي بها يكون بمقدور الإنسان أن يستنبط أسباب كل ما يستطيع أن يعرف. وأولئك الذين جدوا في هذا المطلب هم الذين سماهم الناس فلاسفة".
وما شرائط تلك المبادئ الأولى؟
ينبغي أن يتوافر في تلك المبادئ شرطان: الأول: أن تكون من الوضوح والبداهة بحيث لا يشك الذهن في حقيقتها إذا جد في النظر فيها. والثاني: أن تعتمد عليها معرفة الأشياء الأخرى، فلا تتم تلك المعرفة بدونها، في حين أن المبادئ يمكن معرفتها بدون تلك الأشياء:"ينبغي أن نستنبط من تلك المبادئ الأولى معرفة الأشياء التي تعتمد عليها بحيث لا يكون من سلسلة الاستنباطات التي تقوم بها شيء إلا وهو شديد الجلاء"2.
وعلى ذلك يكون منهج الفلسفة هو المنهج الاستنباطي، ومعيارها الوضوح والتميز وربط المعاني.
1 مبادئ الفلسفة، المقدمة "طبع ليار ص10".
2 المبادئ، المقدمة ص15.
ب- والفلسفة عند ديكارت واحدة، ولكنها لسهولة التعليم تنقسم عدة أجزاء:
"الجزء الأول هو الميتافيزيقا التي تشمل مبادئ المعرفة، التي بينها تفسير أهم صفات الله، ولامادية نفوسنا، وجميع المعاني الواضحة البسيطة التي هي فينا، والثاني الفيزيقا التي ينظر فيها على العموم بعد إيجاد المبادئ الصحيحة للأشياء المادية؛ كيف نشأ الكون كله؟ ثم علي الخصوص ما طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي توجد عليها كالهواء والماء والنار والمغناطيس؟ وبعد ذلك نحتاج إلى أن نفحص أيضا على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان، وبالأخص عن طبيعة الإنسان لكي نستطيع بعد ذلك أن نجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له؛ ولذلك كانت الفلسفة كلها كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي جميع العلوم الأخرى التي ترجع إلى ثلاثة علوم كبرى، هي: الطب والميكانيكا والأخلاق، وأقصد الأخلاق الأرفع والأكمل التي تفيد معرفة تامة بالعلوم الأخرى؛ ولذلك كانت هي أقصى مرتبة من مراتب الحكمة"1.
فلنلاحظ أن ديكارت قلب النظام المعهود في المعرفة البشرية، وجعل من الميتافيزيقا مدخلا إلى الميكانيكا وإلى الطب وإلى الأخلاق. فالميتافيزيقا عند ديكارت إنما تمدنا بالمبادئ الأولى للأشياء، ويشتق من الفيزيقا علمان عمليان، أو فنان هما: الميكانيكا والطب، وأخيرا يشتق من الفلسفة كلها علم الأخلاق الصحيح الذي هو آخر مراتب الحكمة، والذي هو عبارة عن الحياة على وفاق مع نظام العالم وإخضاع إرادتنا لنظام الأشياء.
جـ- ارتاع ديكارت لما شاهد من عقم الفلسفة المدرسية وبعدها عن الحياة العامة، وأيقن أن الفلسفة يجب أن يكون لها غرض عملي، يجب أن يفيد منها
1 المبادئ، المقدمة "طبع ليار ص20، 21".
الإنسان في إصلاح معاشه. وقد تبدو لأول وهلة على فلسفة ديكارت صبغة نظرية بحتة، لكن الحقيقة أن ديكارت لم تفارقه المشاغل العملية أبدا؛ فقد أراد أن يقيم علما طبيا مؤسسا على العقل، وكان دائم العناية بالأخلاق. كتب إلى شانو:"إن أمثل السبل لكي نعرف كيف ينبغي أن نحيا هو أن نعرف أولا من نحن؟ وما العالم الذي نعيش فيه؟ ومن هو خالق هذا الكون الذي فيه مقامنا؟ ".
ولقد أصر ديكارت في القسم السادس من كتاب "المقال في المنهج" على ذلك الاتجاه العملي الذي يجب أن توجه إليه الفلسفة، وبين هذه الأفكار وأفكار "بيكون" مشابهة عجيبة:"بدلا من تلك الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، يمكن أن نجد فلسفة عملية نستطيع بها إذا عرفنا قوة الهواء وفعله، وفعل النجوم والسموات وجميع الأجسام الأخرى التي تحيط بنا، وكذلك الحال في جميع المهن التي يمارسها صناعنا، نستطيع أن نستعملها على ذلك النحو في جميع الاستعمالات التي اختصت بها، فنجعل بها أنفسنا سادة لها مسيطرين عليها"1.
وفضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف المرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح أخلاقنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية الخير الأسمى. وديكارت يميز هنا -كما فعل الرواقيون- نوعين من الخيرات: خيرات ليس أمرها بأيدينا، وخيراتهي في مقدورنا، والخيرات من النوع الأول ليست هي الخير الحق، وقد قال ديكارت:"الخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير، وما يحدثه ذلك من رضى في النفس، ولا أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدرة، ويكون بمقدور كل واحد، فإن خيرات البدن والحظ واليسار ليست على الإطلاق في مقدورنا"، ولا
1 ديكارت، "المقال في المنهج" القسم السادس.
يرى ديكارت فرقا بين الخير الأسمى وبين معرفة الحق. قال في المقال: "إرادتنا لا تتجه إلى الإقبال على شيء، أو الانصراف عنه إلا بقدر ما يمثله لنا ذهننا حسنا أو قبيحا. ويلزم عند ذلك أنه يكفي أن نحكم على الأشياء حكما حسنا ليكون فعلنا حسنا" وإذن فليس هنالك حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية. فالإرادة توجهها الأفكار، وهي تحسن حين تدبرها أفكار واضحة متميزة، وتسيء حين تتجه بأفكار غامضة مبهمة. وإذن، فالعلم والفضيلة شيء واحد، والخطأ والرذيلة أمران متماثلان. إنما قاعدة إرادتنا هو أن نريد نظام العالم" "ولا شيء هو في تمام استطاعتنا إلا أفكارنا". فإذا صح ذلك وجب أن نسعى لتغيير رغباتنا بدلا من محاولة تغيير نظام العالم. ويترتب على ذلك أن الفضيلة واحدة، وأن من كان له فضيلة فله جميع الفضائل.
ونحن نتبين في نظرات ديكارت هذه مشابهة للنظرات الأخلاقية التي عرفناها عند سقراط والرواقيين.
والواقع أن النظرة الديكارتية إلى الفلسفة إنما هي في صميمها نظرة قدماء الفلاسفة وأغلب فلاسفة القرون الوسطى، وديكارت في هذا كله ما زال يمت إلى الماضي بسبب وثيق. وكل ما هنالك من فرق عميق بين القديم والحديث إنما نجده في المنهج الفلسفي الجديد؛ ومن ثم في النتائج التي نتجت عنه. وفلسفة ديكارت قد اتخذت أيضا صورة استدلالية استنباطية، فسنرى أنه من المبدأ الأول للأشياء تستخرج الأشياء بحركة متصلة من حركات الفكر، لكن ديكارت إنما وضع نصب عينيه أن لا يستخدم إلا مبادئ هي من البداهة والوضوح، بحيث لا يستطيع العقل أن يشك في صحتها. وهذه البداهة والوضوح سيذيعان بالضرورة في سلسلة الأشياء التي تستخلص من تلك المبادئ.