الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
الجزء الأول من "مبادئ الفلسفة
":
إن المكان الذي يخص به ديكارت الميتافيزيقا كثير الدلالة على منحى الفيلسوف. كانت الكتب المستعملة في المدارس والمعاهد تضع الميتافيزيقا بعد الفيزيقا، أعني: كانت تضعها آخر الدروس. فمثلا كتاب "الأخ أوستاش دوسان بول" Fr. Eustache de St. Paul المسمى "Summa philosophiae، quadripartita. De rebus Dialecticis، Moralibus، physreis & metaphyaieis.
ظاهر في ترتيبه أن الجزء الأول يشمل المنطق والثاني الأخلاق والثالث الفيزيقا والرابع الميتافيزيقا. فالميتافيزيقا تقع في النهاية في هذا الكتاب وكذلك شأن الفلاسفة الإسلاميين كابن سينا
…
لكن ديكارت قد خالف ذلك مخالفة ظاهرة فبدأ بالميتافيزيقا. وهذا القلب للترتيب التقليدي كان بمثابة ثورة في عهد الفيلسوف، فلم تعد الفلسفة عبارة عن الارتفاع عن الأشياء المشهودة إلى غير المشهودة، ومن العالم إلى الله، باعتبار أن الميتافيزيقا مرتبة عالية لا نجد فوقها إلا العلم الأعلى أو اللاهوت، وإنما الفلسفة تفسير للعالم بواسطة المبادئ التي تكفلها لنا الميتافيزيقا، وليس من الضروري أن تنصرف الفلسفة عن اللاهوت. ولكن تلك المعرفة العالية ليست مع ذلك هي قصد الفلسفة عن اللاهوت، إنما تنزع الفلسفة إلى علم الطبيعة ومقصدها الأكبر أن تعطي لعلم الطبيعة المبادئ التي هو بحاجة إليها.
نجد إذن في الجزء الأول من المبادئ ما كان موضوع كتاب التأملات1. وديكارت يعنون هذا الجزء قصدا "مبادئ المعرفة"، على أن ترتيب الموضوعات لم يتغير إلا في نقطة واحدة؛ فدليل وجود الله من ماهيته لم يعد هنا الدليل الثالث بل الأول، باعتباره أقرب الأدلة إلى الحدس. والدليلان الآخران لا يأتيان
1 راجع ترجمتنا العربية للتأملات، الطبعة الثانية، القاهرة 1956.
إلا بعد ذلك: دليل وجود الله من فكرته في ذهننا، ودليل وجود الله من وجود ذهننا مع فكرة كهذه "المواد 14، 15، 16 الدليل الأول، والمواد 17، 18، 19 الدليل الثاني، والمواد 20، 21، الدليل الثالث".
أما التشبيه المأخوذ من فكرة آلة صناعية، وهي الفكرة التي تحتاج إلى علة تفسرها فلم يكن موجودا إلا في الردود على الاعتراضات لا في التأملات، وأدخله ديكارت في المبادئ "مادة 17"، وفي بقية ذلك اتبع ديكارت في كتاب المبادئ الترتيب الذي اتبعه في كتاب التأملات. وإن بين الكتابين تجاوبا، وعلى الخصوص بين الخاتمة؛ ففي الناحيتين تعالج مسألة الخطأ لا على العموم "فإن نظرية الخطأ في مكانها خلال المناقشة" بل الأخطاء الحقيقية التي نقع فيها أثناء البحث عن الحقيقة، مع إحصائها في البداية وفي النهاية ذكر عللها وعواقبها، وهي إفساد الفلسفة، وآية ذلك التعاليم المدرسية. ومع ذلك، فديكارت يبين هنا بأوضح مما قد بينه في التأملات نصيب الكسب وحرية الاختيار، يفسر الخطأ بضعف الإرادة التي تتراخى، والشك الذي هو كتحرر الذهن هو فعل من أفعال النشاط تمسك به الإرادة زمام نفسها "المواد: 31-44".
ويصر فيلسوفنا أكثر مما فعل على فكرة "اللامتناهي" في حين أنه في التأملات قد مال إلى اعتبار الله الموجود الكامل، ومع ذلك فبين الكتابين فرق عظيم، ولو تتبعناه إلى النهاية لأدى إلى توجيه الميتافيزيقا وجهة الأخلاق أكثر من توجيهها وجهة العلم. لكن ديكارت لا يقدر وقوع أمر كهذا، وإنما تقوده فكرة اللامتناهي إلى تفسيرين، كلاهما أدخل في باب العلم: اللامتناهي في العظم
فضاء يضاف إلى فضاء بلا وقوف عند حد، واللامتناهي في الصغر، ومادة تنقسم بلا تناهٍ "المواد 26، 27" فمن الجهتين ينفتح مجال واسع أمام الذهن لمعرفة الكون. ولكن ديكات قد استعمل الحيطة فاستعاض عن "اللامتناهي"
"ذلك اللفظ الخطر" بلفظ "اللامحدود" indefini وهو في هذا لم يفعل أكثر من اتباع ذهنه في ميله الطبيعي، لقد كان يشعر بأن ذهنه متناهٍ. فكل تأكيد سواء كانت الأشياء لامتناهية أو لم تكن، يجعل الذهن متساويا للانهائية الله، وذلك ادعاء باطل. على أن ذلك الموقف المتحوط الحذر كان يلائم أخلاق ديكارت، فهو يتجنب الفصل في ذلك الموضوع الخطر، موضوع لاتناهي العالم، ولا يرد بشأنه على رجال الدين، بل إنه يتفادى كل سؤال مقحم محرج من جانبهم، وبهذا يستبعد الصعوبات العملية التي قد تنجم عن اعتبار العلل الغائبة "مادة 20، 40، 41". إن ذهننا لا يستطيع في تبجح سخيف أن يدعي المقدرة على النفاذ إلى مقاصد الله، وهو يستبعد أيضا كل صعوبة لاهوتية تنتج من سبق التدبير الإلهي، ذلك السابق المتناهي، فيما يظهر، مع الحرية الإنسانية. ولقد نبهه جاسندي إلى ذلك الأمر، ولقد عاد ديكارت إليه في كتاب المبادئ وإن كان قد تعرض لبيان وجهة نظره فيه من قبل.
وربما جاز لنا أيضا أن نعزو إلى حيطة ديكارت منحه التعاليم المدرسية قسطا كبيرا من العناية في الجزء الأول من المبادئ. فهو يعالج مشكلة "الليات" ويعيد الكلام في "التقسيمات الحقيقية والصورية والعرضية"1 التي كان قد تعرض لها من قبل في نهاية رده على كاتيروس2. وكان ديكارت قد أراد أن يبسط فلسفة تعطي الجواب الشافي عن كل مسألة، من أجل ذلك لا نراه يرفض المسائل التي كانت لها منزلة الشرف عند المدرسيين، بل يعالجها على طريقة ما، مبينا أن فلسفته تستطيع أيضا أن تحملها، إذ إن فلسفة جديدة لا تحل محل الفلسفة التي تريد تقويضها إلا إذا استخدمت أنقاضها كمولد وأدوات لمبانيها الخاصة.
1 المبادئ، مواد 51 إلى 65.
2 مؤلفات ديكارت، طبع آدم وتانري م 8، ص24-32.
لم يكن تاريخ الفلسفة في القرن السابع عشر علما وكانت فكرة الناس عن مذاهب القدماء من أبسط الفكرات، إلا أنها صحيحة مضبوطة. ويقسم ديكارت قدماء الفلاسفة شيعتين: الذين يشكون وليسوا بأقل الناس حكمة، والذين يدعون من غير حق أنهم على يقين؛ وعلى هذا النحو يقسم "بسكال" الناس إلى شكاك وقطعيين1.
لم يقتصر ديكارت على أن جعل من الطائفة الأولى الأكاديميين، بل يجعل منهم أيضا أسلاف الأكاديميين حتى أفلاطون وسقراط نفسه. وهو يمتدحهم؛ لأنهم أقروا بسذاجة أنهم ما عرفوا حقا، بل شبيها بالحق، ولا ننسى النصيب الذي جعله ديكارت لهذا المذهب في فلسفته، إذ هو يفتتحها بالشك. وديكارت يؤيد أولا قضية الشك في ظاهر الأمر، ولكنه سرعان ما يرجع ويفارقهم فرقة نهائية لكن الفلاسفة الآخرين أقل صراحة من الشكاك في نظر ديكارت. هم يعلنون أنهم مالكون للحق، ويرون حقا مبادئ ليست كذلك ولعل ديكارت يقصد هنا أرسطو مع أنصاره المحدثين وديمقريطس. وديكارت منصف لتلك الفلسفة الثانية، فإن المبادئ التي يتخذها هو كالامتداد والشكل والحركة توجد من قبل عند ديمقريطس وعند أرسطو نفسه، ولكنها مخلوطة بفروض أخرى تفسد حقيقتها، ويستخلصها ديكارت من تلك اللوثة المنكودة ويجلي ما لتلك المبادئ من بداهة.
وعلى هذا النحو يستعمل فيلسوفنا من المذاهب القديمة القسم القطعي والقسم الارتيابي، ويدخلهما في مذهبه فيعطيهما بطابع جديد. ذلك أننا نجد ديكارت يأخذ أسباب الشك فيبررها هذه المرة ويحملها إلى القمة، ولكن ينتهي الأمر بأن تتعارض تلك الأسباب من نفسها. ومن جهة أخرى نجد أسباب القسمين تكتسب قوة لم تكن لها قط من قبل. من أجل هذا، تجيب فلسفة ديكات عن التعريف
1 "حديث بسكال مع مسيو دوساسي".
الذي كان أطلقه عليها أولا، والذي وضح شرطين كافيين: الموضوع الكامل وبداهة المبادئ ثم إمكان استخلاص جميع المعلومات التي توجد في الطبيعة، وبعبارة أخرى: هي مزج موفق بين الفيزيقا والرياضة.
وههنا نجد الإصلاح الكبير بل الثورة التي قام بها فيلسوفنا؛ فهو لم يكف عن التصريح بذلك في كتاب المبادئ في خاتمة الأجزاء الأربعة، وفي كل لحظة في صلب الكتاب. وهنالك شخص على الأقل قد فهم ذلك، وبين بوضوح مدى ذلك العمل وهو الأب "بيكو"1، وهو يذكر بحق أن الفيزيقا كانت إلى عهده هي علم الطبيعة كله، وأن الرياضة لم تكن إلا جزءًا منها بين أجزاء أخرى كبيرة، ولكن ديكارت قد قلب ذلك النظام، فالرياضة أصبحت على يديه كل شيء ولن تكون الفيزيقا إلا جزءًا.
والموضوعات التي تدرسها الرياضة تشمل عددا لامتناهيا من الممكنات. والعالم الحقيقي الواقع إنما هو أحد هذه الممكنات وهو خاضع لنفس القواعد ولنفس القوانين التي تخضع لها جميع العوالم الأخرى. وإذن فلكي نفهم العالم الواقع جيدا ينبغي أولا أن نعرف قوانينه، وهكذا تستعاد حقوق الرياضة وامتيازاتها، وبفضل الرياضة تستطيع الفيزيقا -إذ ترضى بأن تصبح تابعة لها- أن تدعي لنفسها شرف العلم الصحيح. وقبل ذلك قال غاليليو بأن الرياضة تعطينا المفتاح، أو هو مكتوب بحروف جفرية والرياضة تعطينا الجفرة؛ ولكن أهي الجفرة الصحيحة الحقيقية الواقعية؟ ما علينا بعد هذا إذا كنا بها نستطيع أن نترجم عن الأشياء أو أن نفسرها. أجل، إن الآثار التي نشاهدها في هذا العالم يمكن أن تتحقق بوسائل غير ما نظن، ولكن هذه معقولة لنا، وتلائم حاجاتنا. وإذن فهي لنا كالوسائل الصحيحة، وتحل عندنا محل الوسائل الحقيقية
1 ديكارت "رسالة الانفعالات" المقدمة.
التي لا نعرفها. بل إذا استطعنا يوما أن نعرف الوسائل الحقيقية لو صح أنها موجودة وليست خرافة، فلسنا نكسب من ذلك شيئا لا للنظر -ما دمنا قد كسبنا بدونها من قبل معرفة للأشياء صحيحة واضحة متميزة- ولا للعمل ما دامت تلك المعرفة تمكننا من أن نؤثر على الطبيعة1. فالواقع هو كله عندنا في الفكرة الواضحة المتميزة، وهي ماهية الحقيقة وجوهرها. والكلمة الأخيرة في تلك الفيزيقا -كما كان الحال في الميتافيزيقا عند ديكارت- هي "المثالية الجوانية". وفيلسوفنا يريد اليقين المطلق التام، فهو يستدل تبعا لذلك، وهو أخيرا يلتجئ إلى الموجود الكامل كما لو كانت قضيته خاسرة، قال:"إن الشك في عقلنا، أو في فكرنا بمثابة العيب في حق الله"2.
هذا، وقد راعيت في الترجمة على العموم أن تكون مطابقة لأصلها اللاتيني الذي كتبه ديكارت، وإن كنت قد رجحت في بعض المواضع صياغة الترجمة الفرنسية التي راجعها الفيلسوف قبل نشرها.
ولا يفوتني ههنا أن أنوّه بطبعتين للمبادئ بالفرنسية، انتفعت بهما في تعليقاتي على الكتاب: الأولى طبعة "لوي ليار" والثانية طبعة "دور إندان".
القاهرة إبريل 1959
عثمان أمين
1 "مؤلفات ديكارت" طبع آدم وتانري م 3، ص327.
2 "مؤلفات ديكارت" م 3 ص99، وم 9 "القسم الثاني" ص123، مادة 7، 22.