المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في مبادئ المعرفة البشرية: - ديكارت مبادئ الفلسفة

[عثمان أمين]

الفصل: ‌في مبادئ المعرفة البشرية:

‌في مبادئ المعرفة البشرية:

1-

"في أنه للفحص عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته إلى أن يضع الأشياء جميعا موضع الشك بقدر ما في الإمكان":

من حيث إننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجلا، وإننا قد أصبنا حينا وأخطأنا حينا آخر في الحكم على الأشياء التي عرضت لحواسنا حينما لم نكن قد استكملنا بعد استعمال عقولنا، فإن أحكاما كثيرة قد تعجلنا في إطلاقها تمنعنا من الوصول إلى معرفة الحقيقة، وتتشبث بنفوسنا تشبثا يلوح لنا معه أن من المحال أن نتخلص منها ما لم نشرع مرة في الشك في جميع الأشياء، التي قد نجد فيها أدنى شبهة من قلة اليقين.

2-

"في أن من النافع أيضا أن نعد جميع الأشياء التي يمكن الشك فيها غير صحيحة":

قد يكون من النافع جدا أن نعد الأشياء التي قد تتخيل فيها أقل شك غير صحيحة، حتى إذا وجدنا أن بعضها رغم هذا الاحتياط، يبدو لنا بجلاء أنه صحيح، واعتبرناه يقينيا جدا، وعددناه أسهل ما يمكن معرفته1.

3-

"في أنه لا ينبغي أن نستعمل هذا الشك في تدبير أفعالنا":

على أن بودي أن نلاحظ أني لا أقصد أن نستعمل الشك على هذا النحو إلا حين نشرع في العكوف على تأمل الحقيقة؛ لأن من المحقق أننا فيما يختص بسلوك حياتنا مضطرون في معظم الأحيان إلى متابعة آراء ليست إلا احتمالية؛

1 يقول ديكارت في "المقال": "وقد بدا لي أنه كان من اللازم

أن أطرح في عداد الخطأ كل ما أستطيع أن أتخيل فيه أقل شك؛ كيما أرى هل يتبقى بعد ذلك شيء في معتقدي لا يرقى إليه الشك أبدًا". ""المقال" القسم الرابع".

ص: 53

ذلك لأن فرص العمل في شئون حياتنا تكاد دائما أن تنقضي قبل أن يتيسر لنا أن نتخلص من جميع شكوكنا، فإذا صادفنا منها آراء كثيرة كهذه في موضوع واحد، ولم نكن نستطيع ترجيح بعضها على البعض الآخر، وكان العمل لا يحتمل أي تأخير، فإن العقل يقضي بأن نختار منا رأيا، وبعد اختياره أن نثابر على اتباعه كما لو كنا قد حكمنا عليه بأنه يقيني جدا1.

4-

"لِمَ يمكن الشك في حقيقة الأشياء الحسية؟ ":

لكن لما كان غرضنا الآن مقصورًا على الانصراف إلى البحث عن الحقيقة، فبوسعنا أن نشك أولا بصدد الأشياء التي وقعت تحت حواسنا، أو التي تخيلناها إطلاقا فنتساءل: هل منها ما هو موجود حقا في العالم؟ وذلك لأن التجربة قد دلتنا على أن حواسنا قد خدعتنا في مواطن كثيرة، وأنه يكون من قلة التبصر أن نطمئن كل الاطمئنان على من خدعونا ولو مرة واحدة، وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما ونحن نائمون.

ويبدو لنا حينذاك أننا نحس بشدة، ونتخيل بوضوح عددا لا يحصى من الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج، ومتى صمم الإنسان على أن يشك في كل شيء لم يعد يجد علامة للتمييز بين الخواطر التي ترد علينا في حال النوم، وتلك التي ترد علينا في حال اليقظة2.

5-

"لِمَ يمكن الشك أيضا في براهين الرياضة؟ ":

وبوسعنا أن نشك أيضا في جميع الأشياء التي بدت لنا من قبل يقينية جدا. بل نشك في براهين الرياضة وفي مبادئها وإن تكن في ذاتها جلية جلاء كافيا.

1 لقد أبعد ديكارت الشك عن مجال الحياة العملية، وقصره على مسائل النظر "انظر:"المقال" القسم الثالث، القاعدة الثانية".

2 انظر ما يقوله ديكارت عن الأحلام في التأمل السادس، إذ بين المحك العملي للتمييز بين مدركات اليقظة، ومدركات النوم ""التأملات"، ترجمتنا العربية ص194".

ص: 54

لأن من الناس من أخطئوا وهم يفكرون في مثل هذه الأمور، وعلى الخصوص لأننا علمنا أن الله الذي خلقنا يستطيع أن يفعل ما يشاء، وما ندري بعد فربما كانت مشيئته أن يجعلنا بحيث نكون دائما على ضلال، حتى في الأشياء التي نظن أننا على بينة منها، فإنه ما دام قد سمح بأن نضل في بعض الأحيان، كما علمنا من ملاحظة الواقع، فلم لا يستطيع أن يسمح بأن نضل على الدوام؟ وإذا افترضنا أن إلها واسع القدرة ليس هو بارئ وجودنا، فبقدر ما نفترض هذا الخالق أقل قدرة يكون لدينا أسباب أدعى إلى الاعتقاد بأننا لم نبلغ من الكمال ما يحول دون تعرضنا للضلال باستمرار.

6-

في أن لنا حرية اختيار تجعلنا نستطيع أن نمسك عن التصديق بالأشياء المشكوك فيها؛ ومن ثم نصون أنفسنا من الوقوع في الضلال:

لكن على فرض أن الذي خلقنا واسع القدرة، وعلى فرض أنه يرضيه إضلالنا، فنحن لا نخلو من أن نجد في أنفسنا حرية نستطيع بها إذا شئنا أن نمتنع عن التصديق بالأشياء التي لا نعرفها حق المعرفة، وبهذا نمنع أنفسنا من الضلال1.

7-

في أننا لا نستطيع أن نشك دون أن نكون موجودين، وأن هذا أول معرفة يقينية يستطاع الحصول عليها:

ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض،

1 إن هذه المقدرة على الإمساك عن الحكم هي الدليل الأكبر على ما أودع الله فينا من حرية. "قارن المادة 39 من "المبادئ"".

ص: 55

وأنه ليس لنا أبدان، لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا؛ لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن ما يفكر لا يكون موجودًا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا، فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذن فأنا موجود1 صحيحة، وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب2.

8-

في أننا نعرف أيضا بعد ذلك التمييز القائم بين النفس والبدن:

ويبدو لي أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس، وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن؛ لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذن ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا. بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم، في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا نفكر.

9-

ما هو الفكر؟:

أقصد بلفظ الفكر كل ما يختلج فينا بحيث ندركه بأنفسنا إدراكًا مباشرًا. ومن أجل هذا لا يقتصر مجال الفكر على التعقل والإرادة والتخيل، بل يتناول الإحساس أيضا؛ لأني حين أقول: أنا أرى وأمشي، وإذن فأنا موجود، وحين

1 هذا الدليل المشهور باسم "الكوجيتو" مبسوط بسطا تحليليا لماحا في التأمل الثاني.

2 انظر ما يقوله ديكارت عن الترتيب، والدور الذي يقوم به في بناء العلم "المقال في المنهج، القسم الثاني، القاعدة الثالثة".

ص: 56

أقصد من الكلام على الرؤية أو المشي عمل عيني أو ساقي، لا يكون استنتاجي استنتاجا يقينيا ينتفي معه كل شك. فقد أظن أني أرى أو أمشي دون أن أفتح عيني أو أبرح مكاني، كما يحدث لي أحيانا وأنا نائم، بل ربما يقع لي هذا الظن نفسه لو لم يكن لي جسم على الإطلاق. ولكن حين أريد أن أتحدث فقط عن عمل فكري أو وجداني، أي: عن المعرفة التي أجدها في نفسي، والتي تخيل لي أني أرى أو أمشي، تكون هذه النتيجة صحيحة لا أستطيع أن أشك فيها؛ لأنها ترجع إلى النفس، التي لها وحدها ملكة الوعي أو التفكير على أي نحو آخر1.

10-

في أن من المعاني ما تكون واضحة كل الوضوح بذاتها، وتصير غامضة متى أريد تعريفها على طريقة المدرسيين، وأنها لا تكتسب بالدرس بل تولد معنا:

لا أفسر هنا ألفاظا أخرى كثيرة قد استعملتها من قبل وسوف أستعملها من بعد؛ لأني لا أظن أن ممن يقرءون كتاباتي من بلغ به الغباء درجة تحول بينه وبين أن يفهم من نفسه معنى هذه الألفاظ. ثم إني لاحظت أن الفلاسفة أرادوا أن يفسروا، وفقا لقواعد منطقهم، أشياء هي في ذاتها جلية واضحة، فلم يستطيعوا إلا أن يجعلوها أشد غموضا. وأنا حين قلت: إن هذه القضية: "أفكر، وإذن فأنا موجود" هي أول وأوثق قضية تعرض لمن يتفلسف على نهج مرتب، لم أنكر أنه يلزمنا أن نعرف أولا: ما هو الفكر؟ وما هو اليقين؟ وما هو الوجود؟ وأنه لكي نفكر يجب أن نكون موجودين وما شبه ذلك، لكن لما كانت هذه معاني

1 يقصد ديكارت بالفكر كل ما يقع في "الوعي" أو "الوجدان" فالتعقل والإرادة والتخيل والشعور كلها وجوه مختلفة للفكر. وهو يقول في التأمل الثاني: "وما الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي ويريد ولا يريد ويتخيل ويحس أيضا""ترجمتنا للتأملات ص67". والفكر هو نقطة البداية وقد نخطئ فيما هو موضوع فكرنا، ولكن هذا لا ينال حقيقة فكرنا، فسواء كان فكرنا خاطئا أو صحيحا فهو ماثل فينا.

ص: 57

بسيطة كل البساطة، ولا تعطينا في ذاتها معرفة لأي شيء موجود، لم أَرَ ضرورة لإحصائها هنا1.

11-

كيف نستطيع أن نعرف نفوسنا معرفة أوضح من معرفتنا لأجسامنا 2؟:

ولكن لكي نعرف كيف أن معرفتنا لفكرنا سابقة على معرفتنا لجسمنا، وأنها أشد منها بداهة، بحيث إنه لو انعدم الجسم لكنا محقين في أن نذهب إلى أن ماهية الفكر لا تخلو من أن تكون موجودة بتمامها، ويجمل بنا أن نلاحظ أنه قد ظهر لنا بنور فطري مودع في نفوسنا أن العدم ليست له صفات ولا خواص، وأنه حيث ندرك بعض هذه الصفات هناك فلا بد من جوهر تعتمد عليه. وكذلك يظهرنا هذا النور عينه على أن معرفتنا للشيء أو للجوهر تكون أشمل بمقدار ما نستكشف فيه من صفات أوفر. ولكننا نقطع بأننا نلاحظ من الخواص في فكرنا ما يزيد بكثير على ما نلاحظ في أي شيء آخر مهما يكن، إذ ما من شيء يثيرنا إلى المعرفة من أي نوع إلا ويكون دفعه لنا على معرفة فكرنا أعظم وأوثق. مثال ذلك: أنني لو أقنعت نفسي بأن هنالك أرضا لأنني ألمسها وأراها، فيلزمني من باب أولى أن أكون مقتنعا بأن فكري كائن أو موجود، إذ إنني ربما ظننت أنني ألمس الأرض مع أنه قد لا يكون هنالك أرض على الإطلاق، ولأنه ليس من الممكن أن تكون إني، أي: نفسي، غير موجودة، بينما يكون لديها هذا الظن.

نستطيع أن نخلص إلى النتيجة عينها في جميع الأشياء الأخرى التي تعرض

1 سيوجه "ليبنتز" اللوم إلى ديكارت؛ لأنه لم يُعرف المعاني الأساسية في فلسفته، وسيشيد بالقاعدة التي جرى عليها "المدرسيون"، وهي أنه لا ينبغي أن نتكلم عن شيء ما لم نضع له تعريفا "من تعليق دوراندان، هامش ص57".

2 "راجع: ديكارت، "التأملات"، التأمل الثاني".

ص: 58

لفكرنا، أعني بذلك: أننا -نحن الذين نفكر فيها- موجودون حتى ولو كانت هذه الأشياء باطلة أو لم يكن لها وجود على الإطلاق.

12-

لِمَ كان الناس جميعا لا يعرفون النفس على هذا النحو؟:

إن من لم يسلكوا سبيل التفلسف المرتب قد أدلوا بآراء أخرى في هذا الموضوع؛ لأنهم يبذلون القدر اللازم من العناية للتمييز بين النفس أو الجوهر المفكر، وبين الجسم أو الجوهر الممتد طولا وعرضا وعمقا. إنهم لم يجدوا غضاضة في الاعتقاد بأنهم هم أنفسهم موجودون، وأن وثوقهم من هذا الوجود أشد من وثوقهم من أي شيء آخر. لكنهم لم يلتفتوا إلى أننا ما دمنا بسبيل اليقين الميتافيزيقي قد كان يتعين عليهم حين استعملوا لفظ "أنفسهم" أن يفهموا منه ههنا فكرهم أو روحهم فقط، ومن حيث إنهم قد آثروا الظن بأن المقصود هو أجسامهم التي يرونها بعيونهم ويلمسونها بأيديهم، وينسبون إليها خطأ ملكة الحس، فقد ترتب على ذلك أنهم لم يعرفوا طبيعة النفس معرفة متميزة.

13-

على أي معنى يمكن القول بأن من جهل الله، فلن يستطيع أن يعرف شيئا آخر معرفة يقينية؟:

ولكن الفكر، الذي يعرف ذاته على هذا النحو، وإن يكن بعد مقيما على شكله في الأشياء الأخرى، إذا استبصر فيما حوله بغية المضي في توسيع نطاق معارفه، يجد في ذاته أولا أفكارا "أو صورا ذهنية لأشياء عديدة؛ فإذا اقتصر عمله على تأملها دون أن يثبت، أو أن ينفي وجود شيء في الخارج يطابق هذه الأفكار، كان في مأمن من خطر الوقوع في الضلال، والفكر يهدي أيضا إلى بعض المعاني المشتركة، فيؤلف منها براهين يبلغ من قوة إقناعها أنه لا يستطيع الشك في

ص: 59

حقيقتها متى تدبرها وأطال النظر فيها. ذلك أنه يجد في ذاته أفكارا عن الأعداد والأشكال، وهو يملك أيضا من المعاني المشتركة ما نعبر عنه بالمبدأ القائل:"إذا أضفنا كميات متساوية إلى كميات أخرى متساوية، كانت حواصل الجمع متساوية" وكثيرا غيرها لا تقل بداهة عنها، يتيسر بها البرهنة على أن زوايا المثلث متساوية لقائمتين

إلخ.

وما دام الفكر يدرك هذه المعاني، ويدرك المقدمات التي استخلص منها هذه النتيجة أو نتائج أخرى مماثلة لها، فهو واثق كل الثقة من صحتها. ولكن لما لم يكن في وسع الفكر دائما أن يتعقلها بما ينبغي من انتباه، فإنه حين يتذكر نتيجة دون انتباه إلى الترتيب الذي أدى إلى استخلاصها، ويرى مع ذلك أن بارئ وجوده كان في مقدوره أن يخلقه من طبيعة تجعله عرضة للخطأ في كل ما يبدو له في البداهة، يتبين أنه محق في عدم الاطمئنان إلى حقيقة كل ما لا يدركه إدراكا متميزا، وأنه لن يصل إلى علم يقيني ما لم يعرف خالقه.

14-

في إمكان إثبات وجود الله من أن ضرورة الكينونة، أو الوجود متضمنة في تصورنا له:

وإذا عاد الفكر بعد ذلك واستعرض الأفكار المختلفة القائمة فيه، فاكتشف منها فكرة موجود محيط العلم والقدرة، كامل غاية الكمال، تيسر له أن يحكم بما يراه في هذه الفكرة من أن الله، وهو ذلك الموجود الكامل على الإطلاق، كائن أو موجود؛ لأنه وإن يكن لديه أفكار متميزة عن أشياء أخرى كثيرة، لكنه لا يلحظ فيها شيئا يؤكد له وجود موضوعاتها، في حين أنه يدرك في هذه الفكرة أنها لا تتضمن الوجود الممكن فحسب، كما هو الشأن في أفكاره عن الأشياء الأخرى، بل الوجود الضروري الأبدي على الإطلاق.

ص: 60

ومن حيث إن الفكر يرى أنه من الضروري أن يكون متضمنا في الفكرة التي لديه عن المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، فهو راسخ الاقتناع بأن للمثلث الزوايا الثلاث المساوية لقائمتين، كذلك متى تصور الوجود الضروري الأبدي متضمنا في فكرته عن الوجود الكامل إطلاقا، لزم أن يستنتج أن هذا الموجود الكامل بإطلاق موجود حقا.

15-

في أن ضرورة الوجود ليست متضمنة في فكرتنا عن الأشياء الأخرى، بل إن كان الوجود فحسب.

ويستطيع الفكر أن يزداد وثوقا من صحة هذه النتيجة إذا انتبه، لا يجد في ذاته فكرة شيء آخر يتبين فيها وجودا ضرورته على هذا النحو من الإطلاق، وهو يتحقق من ذلك أن فكرة موجود كامل وهما من نسيج الخيال، بل أودعتها فيه طبيعة ثابتة حقيقة موجودة بالضرورة؛ لأنها لا تتصور إلا مصاحبة لوجود ضروري1.

1 يقول ديكارت، القسم الرابع من "المقال في المنهج" ما نصه: "أردت بعد ذلك أن أبحث عن حقائق أخرى، ولما كنت قد اخترت موضوع أصحاب الهندسة الذي كنت أتصوره جسما متصلا أو فضاء لامحدودا طولا وعرضا، وارتفاعا وعمقا، وقابلا للانقسام إلى أجزاء مختلفة يمكن أن تتخذ أصحاب الهندسة يفترضون ذلك كله في موضوع علمهم، فقد تصفحت من براهينهم ما يرونه أبسطها، ولما تنبهت إلى أن هذا اليقين العظيم الذي ينسبه الناس إليها إنما يستند إلى أننا نتصورها تصورا بديهيا وفقا للقاعدة التي ذكرتها من وقت قريب، فقد تنبهت كذلك إلى أنه لا شيء فيها يجعلني مستوثقا من موضوعها؛ لأني تبينت مثلا أني إذا افترضت مثلثا لزم أن تكون زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، ولكن هذا لم يكن من شأنه أن يجعلني مستوثقا من وجود أي مثلث في العالم. هذا في حين أني عندما عدت إلى النظر في الفكرة التي في نفسي عن موجود كامل، وجدت أن الوجود منطوٍ فيها على نحو ما قد انطوى في فكرة المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين أو في فكرة الدائرة أن جميع أجزائها على أبعاد متساوية من مركزها.

ويلزم عن ذلك أن الموجود "وهو الموجود الكامل" هو على الأقل مساوٍ في اليقين لما تستطيع أن تبتغيه براهين الهندسة. "ينظر أيضا ما قاله ديكارت عن هذا الموضوع في التأمل الخامس".

ص: 61

16-

في أن الأوهام تمنع الكثيرين من أن يتبينوا ما يتميز الله به من ضرورة الوجود:

والنفس أو الفكر لا يجد عناء في الاقتناع بهذه الحقيقة لو أنه تحرر من أوهامه. لكن لما كنا قد ألفنا أن نفرق في جميع الأشياء الأخرى بين الماهية والوجود1، وكنا قادرين على أن نتخيل ما طاب لنا من صور ذهنية لأشياء ربما لم توجد قط، وربما لا توجد أبدا، فقد يحدث لنا، حين لا نسمو بأذهاننا كما ينبغي إلى تأمل ذلك الموجود الكامل بإطلاق، أن يساورنا الشك في أن تكون فكرتنا عن الله من قبيل تلك الأفكار التي نتخيلها كما يحلو لنا، أو من تلك الأفكار الممكنة، وإن لم يكن الوجود داخلا بالضرورة في طبيعتها.

17-

في أنه بقدر ما تتصور من الكمال في شيء، ينبغي أن نعتقد أن علته لا بد أن تكون أوفر منه كمالا 2

أضف إلى ذلك أن التأمل في مختلف الأفكار القائمة فينا يعيننا على أن ندرك أن ليس بينها اختلاف كبير، من حيث إننا إنما نعتبرها توابع لنفوسنا أو لفكرنا، ولكن الاختلاف بينها كبير من حيث إن الواحدة منها تمثل شيئا والأخرى شيئا آخر، وهو يعيننا كذلك على أن ندرك أن علة الأفكار لا بد أن تكون أوفر حظا من الكمال، بقدر ما يكون الكمال فيما تمثل من موضوعها. وحالنا هنا

1 "الماهية" عند ديكارت هي "الشيء على نحو ما يكون في الذهن" و"الوجود" هو "الشيء من حيث هو موجود خارج الذهن""ديكارت "رسائل"". ويريد ديكارت هنا أن يقرر التفرقة بين الله وبين أي موجود آخر، ففي أي موضوع آخر يلزم التفرقة بين ماهيته، أي: الفكرة التي تكون في أذهاننا عنه، وبين وحوده، أي: كون هذه الفكرة تحققه في الخارج. أما في الله، فالماهية والوجود متطابقان لا يمكن الفصل بينهما، إذ إن نفس تصورنا لله، من حيث إنه تصور لموجود كامل، متضمن للوجود.

2 يشير ديكارت ههنا إلى مبدأ كان شائعا لدى المدرسيين، وهو أنه ينبغي أن يكون في العلة من الوجود قدر ما في المعلول على الأقل.

ص: 62

شبيه بحالنا حين نسمع أن شخصا لديه فكرة آلة فيها من الحذق والصنعة قسط كبير، فيجوز لنا حينئذ أن نتساءل عن وسيلته في الوصول إلى تلك الفكرة، ترى أجاءته الفكرة لأنه شاهد في مكان ما آلة مثلها صنعها شخص آخر، أم لأنه كان قد تعلم الميكانيكا، أم لأنه قد رُزق من نفاذ الذهن حظا مكنه من أن يبتدعها دون أن يكون قد رأى آلة مثلها في أي مكان آخر؟ وذلك لأن كل الصنعة المتمثلة في فكرة ذلك الشخص، كما تتمثل في لوحة أو صورة فنية، يلزم أن تتحقق في علتها الأولى الأساسية، لا على سبيل التمثيل أو المحاكاة فحسب، بل بالفعل، وعلى ذلك النحو عينه أو على نحو يفوق في الشرف1 ما تمثله الفكرة.

18-

في إمكاننا مرة أخرى إقامة الدليل على وجود الله، استنادا على ما تقدم:

وكذلك ما دمنا نجد في أنفسنا فكرة إله أو موجود كامل على الإطلاق، فيجوز لنا أن نبحث عن العلة التي أوجدت تلك الفكرة فينا، ولكن بعد التفاتنا إلى ما تمثله لنا من عظيم الكمالات نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقرار بأنها إنما جاءت إلينا من موجود كامل جدا، أي: من إله هو موجود حقا؛ لأنه ليس من البين فقط بالنور الفطري أن العدم لا يمكن أن يكون موجدا لشيء مهما يكن، وأن الأكمل لا يمكن أن يكون ناتجا عن الأقل كمالا أو تابعا له2، بل لأننا نرى أيضا بهذا النور نفسه أن من المحال أن يكون لدينا فكرة أو صورة لأي شيء ما لم يكن في أنفسنا أو خارج أنفسنا أصل يحوي بالفعل جميع ما نتمثله بتلك الفكرة من

1 انظر ترجمتنا العربية لكتاب "التأملات" الطبعة الثانية، القاهرة 1956 "التأمل الثالث، ص104".

2 ما يسميه ديكارت "الأكمل" هو "فكرة" الموجود الكامل أو فكرة الله. وواضح من هذا أنه يعتبر الفكرة ذاتها ضربا من الوجود، فليست الفكرة عنده ثمرة من ثمرات الذهن فحسب، بل هي حقيقة يستكشفها الذهن، ومن حيث إن الفكرة هي ذاتها وجود فهي تتطلب علة تفسر وجودها.

ص: 63

كمالات، ولكن من حيث إننا نعلم أننا عرضة لكثير من النقص، وأننا لا نملك هذه الكمالات المطلقة التي نتمثله، فيلزمنا أن نستنتج أنها موجودة في طبيعة مختلفة عن طبيعتنا، بالغة غاية الكمال، أي: هي الله، أو على الأقل أنها كانت في الله من قبل، وبما أنها لامتناهية فلا بد أنها لا تزال قائمة فيه.

19-

في أننا وإن كنا لا نحيط علما بذات الله وصفاته، فما من شيء نعلمه أوضح مما نعلم كمالاته:

إني لا أرى هذا الأمر عسيرا على من راضوا أذهانهم على أن تتفكر في الله، ومن ألقوا بالهم إلى كمالاته اللامتناهية؛ فإننا وإن لم نحط بها خبرا -لأن من طبيعة اللامتناهي أن تعجز الأفكار المتناهية عن الإحاطة به- فإننا نتصورها مع ذلك تصورا أوضح وأشد تميزا من تصورنا للأشياء المادية؛ وذلك لأنها كانت أبسط منها ولا يحدّها حد، فإن ما نتصوره منها يكون أقل اختلاطا. ولذلك لم يكن هنالك تفكر هو أشد عونا لنا على تكميل أذهاننا، وأعظم قدرا من التفكر في الله من حيث إن النظر في موضوع لا حدود لكمالاته يمتلأ نفوسنا رضى واطمئنانا.

20-

في أننا لسنا علة أنفسنا، وإنما الله علتنا، ويترتب على ذلك أن الله موجود:

لكن الناس جميعا لا يلتفتون إلى هذا الأمر الالتفات الواجب، وبما أننا نعلم بما فيه الكفاية كيف حصلنا عن فكرة آلة فيها كثير من الصنعة دون أن نتذكر متى وردت إلينا من الله الفكرة التي لدينا عن الله -لقيام هذه الفكرة فينا على الدوام1- فيتعين علينا أن نستعرض الأمر مرة أخرى، فنتساءل: من هو إذن

1 فكرة الكمال إحدى أفكارنا "الفطرية""انظر كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1957 ص170، 171".

ص: 64

خالق النفس أو الفكر، ذلك الذي يملك في ذاته فكرة الكمالات اللامتناهية الموجودة في الله. فجلي أن من عرف شيئا أكمل من ذاته لم يهب الوجود لذاته؛ إذ إنه لو كان يستطيع ذلك لكان يهب من ذاته كل كمال وصل إلى علمه. ويترتب على ذلك أنه لا يستطيع البقاء في الوجود إلا معتمدا على الموجود الحائز بالفعل على جميع هذه الكمالات، وهو الله1.

21-

في أن آجالنا في حياتنا كافية وحدها لإثبات وجود الله:

ما أظن أن أحد يساوره الشك في حقيقة هذا التدليل إذا التفت إلى طبيعة الزمان أو أجل الإنسان في الحياة؛ ذلك لأنه لما كان من طبيعة الزمان أن لا تعتمد أجزاؤه بعضها على بعض ولا يجتمع بعضها مع بعض أبدا، فليس يلزم من وجودنا الآن أن نكون في الزمان الذي يليه، وما لم تكن العلة نفسها التي أوجدتنا مستمرة في إيجادنا، أي: حافظة لبقائنا2. ومن الميسور أن نعلم أننا لا

1 قارن قول ديكارت: "وأضفت إلى ذلك أنه بما أنني قد عرفت بعض الكمالات التي ليس لي شيء منها، فإنني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود. بل يجب بالضرورة أن يكون هناك كائن آخر أكثر كمالا، أنا تابع له، ومن لدنه حصلت على كل ما هو لي؛ لأنني لو كنت وحيدا ومستقلا عن كل ما هو غيري بحيث كان لي من نفسي كل هذا القليل الذي شارك الذات الكاملة فيه، لكن أستطيع أن أحصل من نفسي للسبب عينه على كل ما هو فوق ذلك مما أعرفه ينقضي، وبذلك أكون أنا نفسي غير متناهٍ وأزليا أبديا وغير متغير، وعالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء. وقصارى القول: أن تكون لي كل الكمالات التي أستطيع أن ألحظ أنها الله". ""مقال عن المنهج" القسم الرابع، ترجمة الأستاذ محمود الخضيري، القاهرة 1930 ص60، 61".

2 يقول ديكارت في التأمل الثالث: "إن من الأمور الواضحة البينة للغاية عند كل من يمعنون النظر في طبيعة الزمان، أن حفظ جوهر ما في كل لحظات مدته، يحتاج إلى عين القدرة وإلى عين الفعل اللازمتين لأحداثه أو لخلقه من جديد، إذا لم يكن بعد موجزا"""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية 1956، ص115".

وواضح هنا أن ديكارت يتصور الزمان منفصلا ومنقسما في الواقع، وإذا كان الأمر كذلك فالقدرة اللازمة لإبقائنا لا بد أن تكون مكافئة للقوة اللازمة لخلقنا في أي برهة من الزمن، ولا شيء يمكن أن يدوم إلا بخلق متجدد.

ومن المعلوم أن "برجسون" سينقد هذا التصور للزمان، ويرى أن "الديمومة" هي الزمان الحي، فهي لا تقبل التجزئة، وما "اللحظات" إلا تجريدات ميتة لا حياة فيها "برجسون:"المعطيات المباشرة للوعي"".

ص: 65

نملك قوة تكفل لنا الاستقرار في الوجود أو حفظه علينا لحظة واحدة، وأن القادر على إبقائنا وحفظ وجودنا خارج ذاته لا بد أنه قادر على حفظ بقائه هو ذاته، وهو خليق أن لا يفتقر إلى من يحفظه ويبقيه، ذلكم هو الله.

22-

في أننا حين نعرف وجود الله على نحو ما أوضحنا ههنا، نعرف أيضا جميع صفاته بقدر ما تستطاع معرفتها بنور الفطرة وحده 1:

ومن فضل هذه الطريق في إثبات وجود الله أننا نعرف بها ماهيته، بقدر ما سمح ما عليه طبيعتنا البشرية من ضعف؛ لأننا متى تدبرنا الفكرة التي لدينا بالفطرة عنه، رأينا أنه سرمدي، وأنه عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء، ومنبع كل خير وحق، وخالق الأشياء جميعا، وأنه آخر الأمر مالك في ذاته كل ما يمكن أن نتبين فيه قسطا من الكمال اللامتناهي، وبعبارة أخرى: لا تشوبه أدنى شائبة من نقص.

23-

في أن الله غير جسماني، وأنه لا يعرف الأشياء بالحواس، على نحو ما نعرفها، وأنه ليس مريدا لحصول الخطيئة والإثم:

ذلك لأن في العالم أشياء هي محدودة وناقصة إلى حد ما، وإن يكن فيها أيضا قدر من الكمال، ومن الميسور أن ندرك أن من المحال أن يكون في الله شيء من تلك، فإنه لما كان الامتداد مقوما لطبيعة الجسم، وكان الممتد ممكن الانقسام إلى أجزاء عديدة -وفي هذا دلالة على النقص- فقد لزم أن الله ليس مجسما، ولئن يكن من فضل البشر على الخلق أنهم قادرون على إدراك الأشياء بحواسهم،

1 بنور الفطرة، أي: بنور العقل البشري وهدايته، دون اعتماد على الوحي والتنزيل.

ص: 66

إلا أنه لما كانت أحاسيسنا متأثرة بانطباعات تأتي من خارج -وهو أمر ينبئ عن اعتمادنا على غيرنا- فقد لزم أن نستنتج أيضا أن الله منزه عن الحواس، ولكنه إنما يعلم ويريد، لا كما نعلم نحن ونريد بأفعال مختلفة متميزة1، بل على الدوام بفعل واحد بسيط يعلم ويريد ويعمل كل شيء، أعني: كل الأشياء الموجودة في الواقع، فإنه لا يريد إثم الخطيئة على الإطلاق، من حيث إنها ليست إلا سلبا للوجود2.

24-

في أنه بعد معرفتنا بوجود الله ينبغي -للانتقال إلى معرفة المخلوقات- أن نتذكر أن أذهاننا متناهية، وأن قدرة الله لامتناهية:

وبعد أن عرفنا على هذا النحو أن الله موجود، وأنه خالق كل ما هو كائن وما يمكن أن يكون، سنتبع قطعا أفضل منهج يستطاع اصطناعه للكشف عن الحقيقة إذا ما انتقلنا من المعرفة التي لدينا عن طبيعته إلى تفسير الأشياء التي خلقها، وإذا ما حاولنا أن نستنبط هذا التفسير من المعاني المفطورة في نفوسنا بحيث يتيسر لنا علم كامل، أعني: بحيث نعرف المعلولات عن طريق عليتها، ولكن لكي يتيسر لنا أن ننهض بهذه المهمة، ونحن أوفر اطمئنانا، يجمل بنا أن نتذكر، كلما أردنا أن نفحص عن طبيعة شيء، أن الله الذي هو خالقه لامتناهٍ، وأننا متناهون تناهيا تماما.

1 سنرى فيما بعد أن العلم والإرادة عند ديكارت هما فعلان متميزان من أفعال النفس الإنسانية.

2 يرى ديكارت أن الله غير مسئول عن خطأ العباد وخطيئتهم؛ لأنهما أمران سلبيان، أو ضرب من الحرمان، وليس قوامهما فعلا إيجابيا هو شر في ذاته، بل ينتجان عن استعمال قاصر للحرية الإنسانية "قارن المادتين 31، 37".

ص: 67

25-

في أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا:

فإذا أنعم الله علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العادي، كأسرار التجسد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أننا قد لا نفهمها فهما واضحا؛ ذلك لأنه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة الله، وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا1.

26-

في أننا لا ينبغي أن نحاول أن نفهم "اللامتناهي" بل حسبنا أن نسلم بأن كل ما لا نجد فيه حدودا فهو عندنا "لامحدود":

بذلك ننأى بأنفسنا دائما عن الخوض في المجالات التي تدور حول اللامتناهي. إن مما لا يقبله العقل أن نتصدى ونحن متناهون، لتحديد شيء عنه، وكأننا بهذا نفترضه متناهيا، إذ نحاول أن نفهمه؛ ولذلك لا نبالي بالرد على من يسألون عما إذا كان نصف الخط اللامتناهي متناهيا كذلك، وعما إذا كان العدد اللامتناهي زوجيا أو غير زوجي وما شابه ذلك. فإن الذين يتوهمون أن عقولهم لامتناهية هم وحدهم فيما يبدو الخليقون بأن يفصحوا عن مثل هذه الصعوبات.

أما نحن، فإذا رأينا أشياء ولم نلحظ فيها حدودا على نحو من الأنحاء، فإننا لا نقطع لذلك بأنها لامتناهية، بل نراها محدودة فحسب2؛ لذلك لما كنا لا

1 ربما بدت هذه التصريحات الديكارتية عن أسرار العقيدة المسيحية مجاوزة بعض الشيء لما ينبغي في كتاب فلسفي وعلمي، يحاول صاحبه أن يبين أن كل ما في العالم يستطاع تفسيره، دون أسرار عن طريق القوانين الطبيعية. ولكن ديكارت كان شديد الفزع من رقابة الكنيسة وغضبها؛ فإنه حين علم بالحكم الذي أصدرته على جاليليو توقف عن نشر كتابه عن "العالم" لما فيه من آراء شبيهة بآراء العالم الطلياني، غير أني أعتقد مع ذلك أن تدين ديكارت وإخلاصه لعقيدته قد بلغا مقاما لا ترقى إليه الشبهات. "انظر الباب الأول في كتابنا عن ديكارت".

2 لم تفرق الفلسفة اليونانية بين "اللامتناهي" و"اللامحدود"، وكان اليونانيون على العموم مولعين بكل ما هو متناهٍ، أما ديكارت فقد فرق بين المعنيين، وكانت التفرقة مألوفة في عهده. وسيقول لنا في المادة التالية: إن الله وحده هو الأحرى بأن يسمى "لامتناهيا".

ص: 68

نستطيع أن نتخيل امتدادا بالغ العظم إلا ونتصور في الوقت نفسه إمكان وجود امتداد أعظم منه، فإننا نقول: إن امتداد الأشياء الممكنة لامحدود، ومن حيث إنه ليس من المستطاع تقسيم جسم إلى أجزاء بالغة الصغر إلا ويستطاع تقسيم كل واحد من أجزائه إلى أجزاء أخرى أصغر، فإننا نرى أن الكم يمكن أن ينقسم إلى أجزاء عددها غير محدود.

ومن حيث إننا لا نستطيع أن نتخيل كثرة من النجوم إلا ويستطيع الله أن يخلق أكثر منها، فإننا نفترض أن عددها لامحدود وكذلك في سائر الأشياء.

27-

ما الفرق بين اللامحدود واللامتناهي؟:

ولسنا نقول عن هذه الأشياء: إنها "لامتناهية" بل هي عندنا أجدر باسم "اللامحدودة"، تخصيصا لله وحده باسم اللامتناهي؛ لأننا لا نلحظ حدودا في كمالاته، ولأننا موقنون جدا بأنه من غير الممكن أن يكون لها حدود.

أما الأشياء الأخرى، فنحن نعلم أنها ليست في هذه المرتبة من الكمال المطلق؛ لأننا وإن نكن نلحظ فيها أحيانا خصائص قد تبدو لنا غير ذات حدود، فلا يخلو الأمر من أن نعلم أن ذلك راجع إلى نقص عقولنا لا إلى طبيعتها.

28-

في أنه لا ينبغي أن نفحص عن الغاية التي من أجلها صنع الله كل شيء، بل حسبنا أن نفحص عن الوسيلة التي أراد أن يكون حدوث الشيء بها:

وكذلك لا ينبغي أن نبحث عن الغايات التي أرادها الله من خلقه للعالم، وكل بحث عن العلل الغائية سننبذه نبذا تاما من فلسفتنا؛ لأننا لا ينبغي أن يبلغ بنا الاعتداد بأنفسنا مبلغا يجعلنا نعتقد أن الله أراد أن يطلعنا على قراراته. ولكن لما كنا نعده خالق جميع الأشياء، فإن قصارانا أن نحاول أن نجد، بملكة

ص: 69

الاستدلال التي أودعها فينا، كيف أن الأشياء التي ندركها بحواسنا قد أمكن إيجادها؛ وعن طريق صفاته التي أراد أن يكون لنا بها شيء من المعرفة نستوثق من أن كل ما يتهيأ لنا أن ندركه مرة في وضوح وتميز منتميا إلى طبيعة هذه الأشياء، حائز على كمال كونه حقا1.

29 -

في أن الله ليس علة لأفكارنا 2:

وأول صفاته التي يبدو من المستحسن النظر فيها ههنا هي أنه حق جدا وأنه منبع كل نور، بحيث إنه من غير الممكن أن يضلنا، أي: إنه يكون علة مباشرة للأخطاء التي نكون عرضة لها والتي نبلوه في أنفسنا. ذلك أنه وإن تكن البراعة في القدرة على التضليل تبدو علامة من علامات الذكاء بين الناس، إلا أن إرادة التضليل لا تصدر أبدا إلا عن خبث أو خوف أو ضعف، ومن ثم لا يمكن نسبتها إلى الله.

30-

ويترتب على ذلك كل ما نعرفه في وضوح على أنه حق فهو حق، وهو أمر يخلصنا من الشكوك التي أثرناها فيما تقدم:

وينتج عن ذلك أن ملكة المعرفة التي وهبنا الله إياها، والتي نسميها بالنور الفطري لا تدرك قط موضوعا لا يكون حقا من حيث هي مدركة له، أعني: من حيث تعرفه في وضوح وتميز3؛ لأنه كان يحق لنا حينئذ أن نصف الله بالتضليل لو كان وهبنا هذه الملكة منحرفة، وعلى نحو يؤدي بنا إلى أن نأخذ

1 إن تصور ديكارت للعالم الفيزيقي يباعد بينه وبين البحث عن العلل الغائية، أي: النظر في الغايات التي ترمي إليها الظواهر

والامتداد عنده هو ماهية الأجسام، وكل شيء في عالم الأجسام يتم بطريقة آلية، والفيزيقا هندسة أو ميكانيكا.

2 انظر المادة الخامسة من هذا الكتاب.

3 انظر تعريف الفكرة الواضحة المتميزة في المادتين 45، 46.

ص: 70

الخطأ بدلا من الصواب، حين استعملناها استعمالا حسنا1. ولهذا الاعتبار وحده قلصنا من ذلك الشك المسرف الذي كنا فيه حين كنا لا نعلم بعد إن كان خالقنا لا يرضيه أن يخلقنا بحيث نضل في جميع الأشياء التي تبدو لنا واضحة جدا. وهذا الاعتبار يجب أن ينفعنا كذلك في دفع جميع الأسباب الأخرى التي كانت تدعونا إلى الشك والتي ذكرناها فيما تقدم؛ وحتى الحقائق الرياضية لن تكون موضع شبهة عندنا؛ لأنها بديهية جدا. وإذا أدركنا شيئا بحواسنا في يقظتنا أو في منامنا2، فمن الميسور لنا أن نكشف عن الحق، على شريطة أن نفرق بين ما يكون واضحا ومتميزا في المعرفة التي لدينا عن ذلك الشيء، وبين ما يكون غامضا ومبهما3. ولا حاجة إلى التوسع في هذا الموضوع هنا؛ لأنني قد تناولته بإفاضة في تأملاتي الميتافيزيقية، وما سأورده قريبا سيكون فيه زيادة إيضاح.

31-

في أن أخطاءنا بالنسبة إلى الله ليست إلا أسلوبا، ولكنها بالنسبة إلينا حرمان وعيب 4

1 يقول ديكارت في ردوده على الاعتراضات الأولى: "متى وقع في فكرنا أننا تصورنا حقيقة من الحقائق في وضوح، رأينا أنفسنا ميالين ميلا فطريا إلى التصديق بها".

2 نرى هنا أن ديكارت قد استطاع أن يتخلص من هذه الصعوبة المتمثلة في أوهام الأحلام "قارن المادة الرابعة"، وهو الآن مالك لمعيار للحقيقة كشف له الكوجيتو عنه، وهو أن ما يميز بين الفكرة الحقيقية والفكرة الزائفة إنما هو وضوحها وتميزها.

3 هنا كل منهج ديكارت: التفرقة في كل شيء بين ما هو واضح ومتميز، وبين ما هو غامض ومبهم، ثم الاعتقاد بحقيقة ما هو واضح، والشك فيما هو غامض. ومن الميسور أن نرى الفيزيقا الديكارتية قد خرجت كلها من هذا المبدأ، والتمثلات الحسية التي تكون لدينا من الأشياء الخارجية غامضة ومبهمه، ولكنها تنحل كلها إلى معانٍ واضحة متميزة، أي: إلى أشكال وامتداد وحركات. والامتداد والحركة شيئان واضحان؛ ولذلك فهما الشيئان الحقيقيين أو الشيئان الواقعيان في الأشياء الخارجية، والعالم عبارة عن ميكانيكا هندسية، كل شيء فيه يتم ويفسر "بالشكل والحركة".

4 الساب مجرد خلو. أما الحرمان فهو خلو الكائن من صفة تبدو من لوازم طبيعته، ولكن هذه التفرقة لا قيمة لها إلا من وجهة النظر الإنسانية. والحقيقة أن الله وحده هو الحاكم فيما يجب أن يكون للمخلوق من صفات أو لا يكون.

ص: 71

ولكن من حيث إنه يحدث كثيرا أننا نخطئ أحيانا، وإن لم يكن الله مضلا1، فإننا إذا أردنا أن نبحث عن علة أخطائنا وأن نكشف عن مصدرها لكي نصححها، وجب أن ننتبه إلى أنها لا تعتمد على أذهاننا بقدر اعتمادها على إرادتنا، وأنها ليست أشياء أو جواهر تحتاج إلى تدخل الله بفعله لإحداثها، فهي بالقياس إليه ليست إلا أسلوبا2، أي: إنه لم يعطنا كل ما كان يمكن أن يعطينا، وأننا نرى بذلك أنه لم يكن مضطرا إلى أن يعطينا إياه، في حين أن هذه الأخطاء بالقياس إلينا هي عيوب ونقائص.

32-

في أنه ليس فينا إلا نوعان من الفكر، وهما: إدراك الذهن، وفعل الإرادة:

ذلك أن جميع أنماط التفكير التي نلحظها في أنفسنا يمكن إرجاعها إلى نمطين عامين: أحدهما: الإدراك بالذهن، والآخر: التصرف بالإرادة. وعلى ذلك، فالإحساس والتخيل بل تصور الأشياء العقلية المحضة ليست إلا أنماطا مختلفة للإدراك، ولكن الرغبة والنفور والإثبات والإنكار والشك هي أنماط مختلفة من الإرادة.

33-

في أننا لا نخطئ إلا حين نحكم على شيء لم يعرف لنا معرفة كافية:

1 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "إن من المحال أن يضلني الله، إذ إن في الخداع أو الغش نقصا. ولئن يكن يبدو أن استطاعة المخادعة من علامات البراعة والقوة، فلا جرم أن تعد المخادعة دليلا على الضعف أو على الخبث، وهما أمران لا يمكن أن يوجدا في الله"""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص128".

2 يقول ديكارت في الأمل الرابع: "

إن الخطأ من حيث هو خطأ ليس شيئا واقعيا مرده إلى الله، إنما هو نقص فحسب، فإذا أخطأت لم أكن بحاجة إلى ملكة من عند الله لهذا الغرض خاصة، وإنما مرجع خطئي هذا إلى ما منحني الله من قوة على تمييز الصواب من الخطأ هي عندي قوة متناهية محدودة". "التأملات، ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص129".

ص: 72

حين ندرك شيئا ما، دون أن نحكم عليه بأي صورة من الصور، لا يكون هنالك خطر من وقوعنا في الضلال، بل إننا حتى لو حكمنا عليه فلن نقع في الخطأ كذلك، ما دمنا لا نمنح تصديقنا إلا لما نعرف في وضوح وتميز أنه مفهوم، أو متضمن فيما نحكم عليه؛ ولكن الذي يجعلنا نخطئ عادة هو أننا نحكم غالبا دون أن تتوافر لدينا معرفة دقيقة بما نحكم عليه.

34-

في أن الإرادة لازمة للحكم لزوم الذهن:

إني أقر بأننا لا نستطيع أن نحكم على شيء ما لم يتدخل ذهننا فيه؛ لأنه لا محل للافتراض أن إرادتنا تتصرف فيما لا يدركه ذهننا على أي نحو من الأنحاء. ولكن من حيث إن الإرادة ضرورية إطلاقا؛ لكي نمنح تصديقنا لما أدركنا في أي درجة من الإدراك، ومن حيث إنه ليس من الضروري لتكوين أي حجم من الأحكام أن يكون لدينا معرفة تامة كاملة. فمن هنا يتأتى لنا أننا في كثير من الأحيان نمنح تصديقنا لأشياء لم تكن معرفتنا بها إلا معرفة مبهمة جدا1.

35-

في أن الإرادة أوسع نطاقا من الذهن، وأنها لذلك مصدر لأخطائنا:

يضاف إلى ذلك أن إدراك الذهن إنما يتناول القليلة المعروضة له، فمعرفته دائما محدودة جدا؛ بينما الإرادة على نحو ما، تبدو لامتناهية؛ لأننا لا ندرك شيئا يمكن أن يكون موضوعا لإرادة أخرى، حتى ولو كانت هي إرادة الله الضافية، إلا وتستطيع إرادتنا أن تمتد إليه، وهذا هو السبب في أننا نحملها

1 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "نظرت حينئذ إلى نفسي نظرة تعمق واستقصاء، وأخذت أتحرى عن خطئي الذي يدل وحده على أن فيّ نقصا، فوجدت أنه يعتمد على اشتراك علتين، هما قدرتي على المعرفة، وقدرتي على الاختيار، أو حرية الحكم، أعني: ما لدي من قوة الفهم والإرادة معا""التأملات، ترجمتنا العربية، ص133".

ص: 73

عادة إلى نطاق يجاوز الموضوعات التي نعرفها بوضوح وتميز، فإذا تمادينا بها إلى هذا الحد لم يكن عجيبا أن نقع في ضلال1.

36-

في أن أخطاءنا لا يصح نسبتها إلى الله:

ولكن مع أن الله لم يهبنا ذهنا محيطا بكل شيء، فلا ينبغي لنا من أجل ذلك أن نعده مسئولا عن أخطائنا؛ لأن كل ذهن مخلوق متناهٍ، ومن طبيعة الذهن المتناهي أن لا يكون تام المعرفة.

37-

في أن أعلى مراتب الكمال عند الإنسان هو أنه حر الاختيار، وهو الأمر الذي يجعله خليقا بالمدح والذم:

أما الإرادة فلما كانت بطبيعتها رحيبة جدا2، فقد فزنا عن طريقها بميزة عظيمة، وهي أن نتصرف بحرية بحيث نكون مستقلين بأفعالنا استقلالا يجعلنا

1 انظرالتأمل الرابع حيث يقول: "اتضح لي من هذا كله أن ما أقع فيه من خطأ ليس ناشئا من قوة الإرادة ذاتها التي أنعم الله بها علي؛ لأنها رحيبة جدا وكاملة جدا في نوعها، ولا من قوة التعقل أو التصور؛ لأني كما قلت لا أتصور شيئا إلا بواسطة هذه القوة التي منحني الله إياها لهذا الغرض، فكل ما أتصوره إنما أتصوره بلا شك كما ينبغي، ولا يمكن أن أكون في هذا ضالا أو مخدوعا، وإذن فما منشأ الخطأ عندي؟ إنه ينشأ من أن الإرادة أوسع من الفهم نطاقا، فلا أبقيها حبيسة في حدوده، بل أبسطها أيضا على الأشياء التي لا يحيط بها فهمي. ولما كانت الإرادة من شأنها أن لا تبالي، فمن أيسر الأمور أن تضل، وتختار الزلل بدلا من الصواب، والشر عوضا عن الخير، مما يوقعني في الخطأ والإثم""التأملات، ترجمتنا العربية، ص135، 136".

2 يقول ديكارت في التأمل الرابع: "ولا يصح كذلك أن أشكو بأن الله لم يهبني حرية اختيار أو إرادة ذات حظ كافٍ من الرحابة والكمال، فالواقع أن تجارب وجداني تشهد بأن لي إرادة ضافية مترامية لا تحصرها حدود ولا تحبسها قيود. ومما يبدو لي هنا جديرا بالملاحظة أنهما من قوة أخرى من قوى نفسي مهما تبلغ من كمال وعظمة، إلا وأتبين أنه كان من الممكن أن تكون أكمل وأعظم مما هي. فإذا نظرت مثلا إلى ما لدي من قوة التصور وجدت أن نطاقها ضيق محدود جدا، وتمثلت في الوقت نفسه فكرة أخرى أوسع منها كثيرًا بل غير متناهية ولا محدودة. وكوني أرى أنه بمقدوري أن أتمثل هذه الفكرة يجعلني أتبين في غير عناء أنها صفة من الصفات التي اختصت بها الذات الإلهية، طبيعة الله. أما الإرادة أو حرية الاختيار فقد خبرتها في نفسي فوجدتها كبيرة للغاية، بحيث لا أتصور غيرها أوسع وأرحب منها. ولما كانت إرادتي بمثل هذه القوة فهي على وجه الخصوص الأمر الذي يجعلني أحكم أنني على صورة الله ومثاله""التأملات، ترجمتنا العربية ص133، 134".

ص: 74

جديرين بالثناء إذا أحسنا التصرف، فكما أن المرء حين يرى الماكينات تتحرك على صور كثيرة مختلفة وتدور على أفضل ما يمكن من الدوران، لا يوجه إليها الثناء؛ لأنها إنما تقوم بهذه الحركات عن طريق ما وضع فيها من لوالب، في حين يوجه الثناء إلى الصانع الذي صنع هذه الماكينات لما لديه من قدرة وإرادة استطاع بهما أن يبرع في تركيبها، كذلك شأننا إذا اخترنا ما هو حق بعد تمييزه من الباطل بفعل إرادتنا نكون أكثر استحقاقا للثناء مما لو كنا مجبرين ومرغمين على التصرف، ومتأثرين بمبدأ غريب عنا.

38-

في أن أخطاءنا هي عيوب في تصرفنا لا في طبيعتنا، وأن أخطاء الناس يمكن في أكثر الأحيان أن تنسب إلى الفاعلين الآخرين لا إلى الله:

إن من أحق الأمور أننا كلما أخطأنا يكون هناك عيب في تصرفنا أو في استعمال حريتنا. ولكن هذا لا يعني أن هناك عيبا في طبيعتنا؛ لأنها هي بعينها دائما سواء كانت أحكامنا صحيحة أو فاسدة1. وإذا كان في مقدور

1 انظر التأمل الرابع حيث يقول صاحبه: "وفي هذا الاستعمال السيئ لحرية الاختيار يقع الحرمان الذي هو قوام صورة الخطأ. أقول: إن الحرمان يقع في الفعل من حيث إنه صادر مني، ولكنه غير موجود في القوة التي أنعم الله بها علي، ولا في الفعل من حيث إنه يتوقف عليه فلا ريب أنه ليس لدي من داعٍ للشكوى من أن الله لم يهبني ذكاء أوفى أو نورا فطريا أكمل مما وهبني ما دام من طبيعة الذهن المتناهي أن لا يكون محيطا بأشياء كثيرة، ومن طبيعة الذهن المخلوق أن يكون متناهيا ولكن الخليق بي من كل وجه أن أشكره تعالى على نعمائه؛ إذ رزقني كل ما اتصفت به من كمالات يسيرة دون أن يكون لي عليه فضل. وينبغي أن أباعد بين نفسي وبين أن أتوهم أنه ظلمني، فانتزع مني أو منع عني الكمالات الأخرى التي لم ينعم بها علي""التأملات، ترجمتنا العربية ص137-139".

ص: 75

الله أن يهبنا معرفة واسعة تبعد بنا عن الوقوع في الخطأ، إلا أنه لا حق لنا أن نشكو منه لذلك؛ لأنه سبحانه ذو سلطان على الكون مطلق حر، فلا يسأل عما يفعل، بخلاف البشر إذ جعل لبعضهم سلطانا على من دونهم لمنعوهم من فعل الشر، فمن استطاع منهم أن يعرف الشر ولم يمنعه كان ملوما ومشاركا في الإثم؛ ولذلك ينبغي أن نحمد الله على ما أنعم به علينا، وينبغي أن لا نشكو من أنه لم يعطنا ما ينقصنا، وكان في قدرته أن يهبه لنا.

39-

في أن حرية إرادتنا لا تعرف بالدليل، وإنما تعرف بتجربتنا لها:

وبديهي أن لنا إرادة حرة توافق أو لا توافق كما يحلو لها، وهذا يمكن أن يعد من أكثر المعاني المفطورة شيوعا. وقد رأينا فيما تقدم دليلا على ذلك واضحا جدا؛ لأننا حين كنا نشك في كل شيء بل حين ذهبنا إلى افتراض أن خالقنا استعمل قدرته لإضلالنا من جميع الوجوه، أدركنا في أنفسنا من حرية بلغ في عظمها أن استطعنا أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بما لم نكن نعرفه بعد معرفة كاملة1. غير أن ما أدركناه إدراكا متميزا ولم نكن نستطيع أن نشك فيه إبان تعليقنا للحكم حينذاك، كان يقينه مساويا ليقين أي شيء آخر تيسر لنا أن نعرفه من قبل.

40-

في أننا نعلم أيضا بعلم يقيني جدا أن الله قدّر الأشياء جميعا تقديرا سابقا على حصولها:

ولكن بما أن ما قد علمناه عن الله من قبل يؤكد لنا أن قدرته قد بلغت من العظمة مبلغا يجعلنا من الآثمين لو خطر لنا أنه كان بمقدورنا أن نعمل شيئا لم

1 يقول ديكارت في بعض رسائله: "إنك محق في قولك: إننا واثقون من حرية اختيارنا وثوقنا من أي معنى فطري شائع. فإن هذا المعنى واحد منها حقا".

ص: 76

يقدره من قبل. فمن الميسور أن نتورط في صعوبات عويصة جدا لو أردنا أن نوفق بين حرية إرادتنا وبين أوامر الله، وحاولنا أن نفهم هاتين الحقيقتين، وكأن عقولنا تستطيع أن تتناول حرية اختيارنا وتقدير العناية الأزلية فتحيط بهما إحاطة1.

41-

كيف يمكن التوفيق بين الحرية الإنسانية، وبين سبق التقدير الإلهي:؟

في حين أننا لن نجد عناء في التخلص من تلك الصعوبات إذا التفتنا إلى أن فكرنا متناهٍ، أن قدرة الله الشاملة -تلك القدرة التي علم بها كل ما هو كائن أو ما يمكن أن يكون، بل أراده منذ الأزل- هي قدرة لامتناهية. والحاصل أننا نملك من العقل ما يكفي لأن نعرف بوضوح وتميز أن تلك القدرة في الله؛ وليس لدينا منه ما يكفي لأن نفهم مدى تلك القدرة إلى الحد الذي نعلم معه كيف تأذن بأن تكون أفعالنا بتمامها حرة غير مقيدة، وإننا من جهة أخرى لواثقون من الحرية وعدم التقيد القائمين فينا بحيث لا نعرف شيئا بوضوح أكثر مما نعرفهما؛ ولذلك لا ينبغي أن تكون قدرة الله الكاملة مانعة لنا من هذا الاعتقاد، فإن من الخطأ أن نشك فيما ندركه "جوانب" ونعلم بالتجربة وجوده في أنفسنا؛ لأننا لا نفهم شيئا آخر نعلم أنه ممتنع على الفهم بطبيعته.

42-

كيف أننا، وإن لم نكن نريد قط أن نخطئ، إنما نخطئ مع ذلك بإرادتنا:؟!

ولكن بما أننا نعلم أن الخطأ متوقف على إرادتنا، وأن أحدا لا يريد أن يخطئ فقد يعجب المرء لوقوع الخطأ في أحكامنا، ولكن يحسن أن نلاحظ أن

1 انظر كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة 1957، ص192 وما بعده، وقارن ما يقول ديكارت بما قاله الإسلاميون "الإيجي:"المواقف"".

ص: 77

هنالك فرقا بين أن يريد المرء أن يخطئ، وبين أن يريد التصديق على آراء هي العلة في أننا نخطئ أحيانا. ذلك أنه وإن لم يكن يوجد أحد يريد أن يخطئ عمدا، فإنه ربما لا يوجد واحد إلا ويريد أن يصدق على أشياء لا يعرفها معرفة متميزة، بل كثيرا ما يحدث أن الرغبة في معرفة الحقيقة هي التي تفوت على من لا يعلمون الترتيب الواجب التزامه للبحث عنها أن يهتدوا إليها، وتجعلهم يخطئون لأنها تدفعهم إلى التعجل في أحكامهم، وإلى أخذ الأشياء التي ليس لديه عنها معرفة كافية ظانين أنها حقائق1.

43-

في أننا لن نخطئ إذا ما التزمنا أن لا نحكم إلا على أشياء ندركها إدراكا واضحا متميزا:

ولكن الأمر المستيقن أننا لن نأخذ الخطأ بدلا من الصواب قط، ما دمنا لا نحكم إلا على ما ندركه في وضوح وتميز. فمن حيث إن الله ليس مضلا، فملكة المعرفة التي وهبنا الله لا يمكن أن تخطئ، وكذلك ملكة الإرادة، حين لا تتعدى بها مجال الأشياء التي نعرفها. وهذه الحقيقة وإن لم يتيسر إقامة الدليل عليها، فإن نفوسنا ميالة بالفطرة إلى التصديق على الأشياء التي ندركها إدراكا جليا إلى الشعور باستحالة الشك في حقيقتها.

44-

في أننا لا نستطيع إلا أن نحكم حكما فاسدا على ما لا ندركه إدراكا واضحا، وإن تصادف أن كان حكمنا صحيحا، وكثيرا ما تكون ذاكرتنا سببا في ضلالنا:

ومن الأمور اليقينية جدا أننا كلما صدقنا على رأي لا نعرفه معرفة دقيقة، فإما أننا نخطئ، وإما أننا نهتدي إلى الحقيقة بمحض المصادفة فلا نكون مستوثقين

1 إننا قد نرغب رغبة صادقة في معرفة الحقيقة، ولكننا نقع في الضلال أحيانا، وفي هذا دلالة على أن الإرادة الطيبة وحدها لا تكفي، وأن المنهج السليم أمر في غاية الأهمية.

ص: 78

منها ولا نعلم عن يقين أننا غير مخطئين. وإني أقر أنه يندر أن نحكم على شيء ونحن نلاحظ أننا نعرفه معرفة متميزة بالقدر الكافي؛ لأن العقل يملي علينا أننا لا ينبغي أن نحكم أبدا إلا على ما نعرفه معرفة متميزة قبل حكمنا عليه، ولكننا كثيرا ما نخطئ لأننا نفترض أننا قد عرفنا من قبل أشياء كثيرة، وأننا ما نكاد نتذكرها حتى نمنحها تصديقنا وكأننا اختبرناها اختبارا كافيا مع أنه لم يكن لدينا عنها في الواقع معرفة صحيحة.

45-

ما هو الإدراك الواضح المتميز؟:

بل إن من الناس من لم يدركوا في حياتهم كلها شيئا كما ينبغي أن يدركوه ليحكموا عليه حكما يقينيا صحيحا؛ لأن المعرفة لا بد أن تكون واضحة ومتميزة معا. والمعرفة الواضحة عندي هي المعرفة الحاضرة الجالية أمام ذهن منتبه؛ وعلى ذلك نقول: إننا نرى الموضوعات بوضوح حين تكون ماثلة أمام أبصارنا، فتؤثر عليها تأثيرا قويا وتجعلها مستعدة لرؤيتها. والمعرفة المتميزة هي المعرفة التي بلغ من دقتها واختلافها عن كل ما عداها أنها لا تحتوي في ذاتها إلا على ما يبدو بجلاء لمن ينظر فيها كما ينبغي1.

46-

في أن الإدراك يمكن أن يكون واضحا، دون أن يكون متميزا، ولكن العكس ليس صحيحا:

ولنضرب لذلك مثل الشخص الذي يحس ألما شديدا:

إن معرفته هذا الألم معرفة واضحة بالقياس إليه، وليست من أجل ذلك متميزة دائما؛ لأنه يخلط بينها عادة وبين الحكم الخاطئ الذي يطلقه على

1 "ينظر فيها كما ينبغي" أي: ينظر فيها بعناية. إن من الميسور أن نلاحظ هنا المنزلة الممتازة التي جعلها ديكارت للنظر المنهجي المنظم الذي تعتمد عليه "الأذهان المنتبهة" في سعيها إلى الحقيقة. وههنا سمة من سمات "الجوانية" الأصيلة في فلسفه ديكارت.

ص: 79

طبيعة ما يظنه موضع الألم الذي يحسبه شبيها بالألم الذي هو في فكره، مع أنه في الواقع لا يدرك بوضوح إلا الشعور أو الفكر المبهم الموجود في نفسه1. فالمعرفة يمكن أن تكون أحيانا واضحة دون أن تكون متميزة، ولكنها لا يمكن إطلاقا أن تكون متميزة دون أن تكون بهذا واضحة.

47-

في أننا لكي نطرح الأوهام والأحكام المبتسرة التي كسبناها في طفولتنا يجب أن ننظر في كل فكرة من أفكارنا الأولى؛ لنتبين ما هو واضح منها:

في أيام طفولتنا رانت على عقولنا من الجسم غشاوة، فلم تكن تعرف شيئا معرفة متميزة وإن كانت تدرك أشياء كثيرة إدراكا فيه بعض الوضوح، ولكن من حيث إننا حتى في ذلك الحين لم نكن نخلو من أن نفكر في الأمور التي كانت تعرض لنا ونحكم عليها أحكاما يشوبها التهور، فقد ملأنا ذاكرتنا بأوهام وأحكام مبتسرة كثيرة ربما لم نحاول أبدا أن نتخلص منها، وإن يكن من المستيقن جدا أننا لا نستطيع أن نمحصها بغير العقل تمحيصا دقيقا. ولكن لكي يتيسر لنا الآن أن نتخلص منها دون عناء كبير، سأعدد هنا جميع المعاني البسيطة التي تتألف منها خواطرنا، وسأميز كل ما هو واضح واحد منها، وما هو غامض أو ما يمكن أن نخطئ فيه.

48-

في أن كل موضوعات معرفتنا ننظر إليها إما على أنها أشياء أو حقائق؛ إحصاء الأشياء:

أميز في كل ما تتناوله معرفتنا ضربين: الأول يحتوي على جميع الأشياء التي ليست شيئا خارج فكرنا، أما الضرب الأول فيتناول المعاني العامة التي تنطبق على جميع أنواع الأشياء كالمعاني التي لدينا عن الجوهر، والمدة

1 "المبهم" يقابل "المتميز" ولا يقابل "الواضح"، فقد ندرك بوضوح فكرا مبهما.

ص: 80

والترتيب، والعدد، وربما أيضا بعض معانٍ أخرى. ثم لدينا أيضا معانٍ أخص تصلح للتمييز بينها، والتمييز الأكبر الذي ألحظه بين جميع الأشياء المخلوقة هو أن بعضها عقلية، أي: جواهر عاقلة، أو خواص لهذه الجواهر، والأخرى جسمانية أي: هي أجسام أو خواص للجسم. ولذلك فالذهن والإرادة هي من شأن الجوهر المفكر، والعظم أو الامتداد طولا وعرضا وعمقا، والشكل والحركة ووضع الأجزاء وما لها من استعداد للانقسام وغير هذه الخواص متعلقة بالجسم. وفضلا عن ذلك هناك أشياء نبلوها في أنفسنا ولا يمكن أن تنسب إلى النفس وحدها ولا إلى الجسم وحده، بل إلى الاتحاد الوثيق بينهما على نحو ما سأشرحه بعد قليل. ومن قبيل هذه الأشياء شبهة الشرب والأكل

إلخ، وكذلك انفعالات النفس وخوالجها التي لا تعتمد على الفكر وحده، مثل الانفعال عند الغضب والابتهاج والحزن والحب

إلخ، وكذلك المشاعر كالألم والدغدغة والضوء والألوان والأصوات والروائح والطعوم والحرارة والصلابة وجميع الصفات التي لا تقع تحت حاسة اللمس.

49-

في أن الحقائق لا يمكن تعدادها، وأنه لا حاجة إلى ذلك:

لقد أحصيت كل ما نعرفه من قبيل الأشياء، وقد بقي علي أن أتحدث عما نعرفه من قبيل الحقائق. فمثلا حين نرى أنه لا يمكن إيجاد شيء من العدم لا نعتقد أن هذه القضية شيء له وجود في الخارج أو خاصية لشيء، ولكننا نأخذها حقيقة أبدية قائمة في فكرنا، ونسميها معنى شائعا بين الناس أو مبدأ بديهيا.

وإذا قلنا: إن من المحال أن يكون الشيء ولا يكون في وقت واحد، وأن ما كان لا يمكن ألا يكون قد كان، وأن من يفكر لا يمكن أن يخلو من الوجود حين يفكر، وقضايا أخرى كثيرة من هذا القبيل، وكانت هذه حقائق فحسب وليست أشياء موجودة خارج فكرنا، وقد بلغت هذه الحقائق حدا جعل من العسير تعدادها،

ص: 81

ولكن هذا التعداد ليس بضروري؛ لأننا نخلو من أن نعرفها حين تعرض الفرصة للتفكير فيها، وحين لا يكون لدينا من الأوهام ما يعمي أبصارنا عنها1.

50-

في أن هذه الحقائق جميعا يمكن أن تدرك بوضوح، لكن إدراكها ليس ميسورا لجميع الناس بسبب ما يغشى عقولهم من أوهام شائعة، وأحكام مبتسرة:

أما الحقائق التي تسمى معاني شائعة، فمن المستيقن أنها يمكن معرفتها لدى الكثيرين بغاية الوضوح المتميز؛ لأنها إن لم تكن كذلك لما استحقت أن تسمى بهذا الاسم، ولكن من الحق أيضا أن منها ما يستحق هذا الاسم في نظر البعض الآخر؛ لأنها ليست لديهم بديهية بداهة كافية. وليس معنى هذا أني أعتقد أن ملكة المعرفة الموجودة عند بعض الناس هي أبعد مدى مما هي عليه عند جميعهم، ولكني أريد أن أقول بأن هنالك أشخاصا قد طبعوا في معتقداتهم منذ زمن طويل آراء مخالفة لبعض هذه الحقائق، فكانت مانعا لهم من أن يدركوها وإن تكن جلية جدا لدى من لم يشغلوا أنفسهم على ذلك النحو2.

1 تتجلى هنا إحدى سمات "الجوانية" في الفلسفة الديكارتية: لا يريد ديكارت أن يحصي الحقائق؛ لأن كل إنسان يستطيع استكشافها بنفسه ما دام منتبها واعيا منهجيا، ولأن خصوبة الحقائق لا تكون في حفظها وتجميدها، بل في معاناتها والانفعال بها، وكل فكرة جاهزة منقولة فهي هامدة لا حياة فيها.

2 ويقول ديكارت في بداية "المقال عن المنهج": "العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة. وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه الآخر"""المقال عن المنهج" ترجمة الأستاذ محمود الخضيري ص3، 4".

ص: 82

51-

في ماهية الجوهر، وفي أنه اسم لا يمكن نسبته إلى الله وإلى المخلوقات بمعنى واحد:

أما الأشياء التي نرى لها شيئا من الوجود فنحتاج إلى بحثها ههنا واحدا بعد الآخر؛ لكي نميز ما هو غامض مما هو بديهي في الفكرة التي لدينا عن كل منها. إننا حين نتصور الجوهر إنما نتصوره موجودا غير مفتقر إلا إلى ذاته في وجوده، وقد يكون في تفسير قولنا:"غير مفتقر إلا إلى ذاته" بعض الغموض؛ لأن الأصح أن يقال: إنه لا أحد سوى الله يكون هذا شأنه، وما من شيء مخلوق يستطيع أن يوجد لحظة واحدة إلا وقدرة الله تسنده وتحفظه1. ولذلك صح للمدرسيين أن يقولوا: إن لفظ "الجوهر" لا يدل على معنى واحد إلى الله وإلى المخلوقات، أي: إن اللفظ ليس له معنى يمكن تصوره تصورا متميزا، ويكون دالا عليه وعليها دلالة واحدة، ولكن من حيث إن بعض الأشياء المخلوقة لا يمكن بطبيعتها أن توجد إلا بواسطة البعض الآخر، فإننا نميزها من الأشياء التي لا تحتاج إلا إلى عون عادي من الله2، فنسمي هذه جواهر، ونسمي تلك "صفات" أو "خواص" لهذه الجواهر.

52-

في أن لفظ الجوهر يمكن نسبته إلى النفس وإلى الجسم بمعنى واحد، وكيف يعرف الجوهر نفسه:؟

والفكرة التي تكون لدينا عن الجوهر المخلوق تنطبق على الجواهر اللامادية انطباقها على الجواهر المادية أو الجسمانية؛ لأنه لا يلزمنا لكي نفهم أنها جواهر إلا أن ندرك أنها يمكن أن توجد دون اعتماد على أي شيء مخلوق. ولكن حين

1 "انظر المادة 21 من هذا الكتاب".

2 هو الفعل الذي به يحفظ الله العالم وفقا لقوانينه وسننه، بخلاف الفعل الخارق للعادة كالمعجزات؛ لأن فيه خروجا على سنن الطبيعة.

ص: 83

نكون بسبيل أن نعرف هل أحد هذه الجواهر موجود حقا؟ أعني: هل هو موجود؟ المتقوم بذاته لا تنكشف معرفته لنا، بل إن من الميسور لنا أن نهتدي إلى الجوهر ذاته من أية صفة من صفاته نستطيع أن نلحظها فيه، وما من صفة منها إلا وتكون كافية لتحقيق الإدراك إذ إن من المعاني الشائعة لدى الناس جميعا أن العدم لا يمكن أن تكون له محمولات ولا خواص أو صفات؛ ولذلك نكون محقين إذا أدركنا صفة من الصفات قائمة، فاستنتجنا أنها صفة لجوهر ما وأن هذا الجوهر موجود.

53-

في أن كل جوهر له صفة أولى، وأن صفة النفس هي الفكر، كما أن الامتداد صفة الجسم:

ولكن مع أن كل صفة تكفي لتعريفنا بالجوهر، إلا أن في كل جوهر صفة تقوم طبيعته وماهيته وتعتمد عليها جميع الصفات الأخرى، وأعني بذلك: أن الامتداد في الطول والعرض والعمق هو المقوم لطبيعة الجوهر الجسماني، وأن الفكر هو المقوم لطبيعة الجوهر الذي يفكر؛ لأن كل ما يستطاع نسبته إلى الجسم يفترض وجود الامتداد من قبل، ولا يعدو أن يكون اعتمادا على ما هو ممتد1 وكذلك جميع الخواص التي نجدها في الشيء الذي يفكر ليست إلا أنحاء مختلفة من الفكر. وعلى ذلك فنحن مثلا لا نستطيع أن نتصور شكلا ما لم يكن في شيء ممتد، ولا حركة إلا في فضاء هو ممتد. وكذلك الخيال والشعور والإرادة تعتمد على الشيء المفكر بحيث لا نستطيع أن نتصورها بدونه، ولكننا بالعكس نستطيع أن نتصور الامتداد دون شكل أو دون حركة، ونتصور الشيء الذي يفكر دون خيال أو شعور.

1 قارن هذا بما قاله ديكارت في التأمل الثاني في المثل المشهور عن قطعة الشمع ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ص77-79".

ص: 84

54-

كيف نستطيع الحصول على أفكار متميزة عن الجوهر المفكر، وعن الجوهر الجسماني، وعن الله:؟

في استطاعتنا إذن أن نحصل على معنيين أو فكرتين واضحتين ومتميزتين، إحداهما: فكرة جوهر مخلوق يفكر، والأخرى: فكرة جوهر ممتد، على شرط أن نحرص كل الحرص على أن نفصل بين جميع صفات الفكر وبين صفات الامتداد، فنستطيع أن نحصل أيضا على فكرة واضحة متميزة عن جوهر غير مخلوق يفكر ومستقل عما عداه، أعني: عن الله، على شرط أن لا يظن أن هذه الفكرة تمثل لنا كل ما هو فيه1، وأن لا نخلط شيئا بوهم من أوهام أذهاننا، بل أن ننتبه إلى ما هو مفهوم حقا في المعنى المتميز الذي نعرف أنه يخص طبيعة موجود كامل كمالا مطلقا؛ لأنه ما من واحد يستطيع أن ينكر أن هذه الفكرة عن الله موجودة فينا، إذا لم يرد أن يعتقد بلا مسوغ أن الذهن الإنساني لا يستطيع الحصول على أي معرفة لله.

55-

كيف نستطيع أيضا أن نحصل على أفكار متميزة عن المدة والترتيب والعدد:؟

ويمكن أن يكون لدينا تصورات متميزة جدا عن المدة والترتيب والعدد إذا كنا لا نخلط في فكرتنا عنها ما هو خاص بفكرة الجوهر، ونقتصر على أن نرى أن مدة كل شيء إنما هي حال أو نحو من الأنحاء ننظر منه إلى ذلك الشيء من حيث إنه مستمر في الوجود، وكذلك الترتيب والعدد لا يختلفان في الواقع عن الأشياء المرتبة والمعدودة، وإنما هما وجهان مختلفان لاعتبارنا هذه الأشياء.

56-

ما هي الكيفيات والصفات والوجوه والأحوال:؟

حين أتحدث هنا عن الوجوه أو الأحوال، لا أعني شيئا سوى ما سميته في موضع آخر بالصفات أو الكيفيات. ولكني حين أجعل في الاعتبار أن الجوهر

1 لدينا عن الله فكرة واضحة ومتميزة، ولكنها ليست فكرة تامة.

ص: 85

متأثر ومتغير بها أستعمل لفظ "الأحوال" أو "الوجوه" وحين يكون هذا التأثير أو التغير داعيا إلى تسمية الجوهر جوهرا، أطلق اسم الكيفيات على الوجوه المختلفة التي تجعله خليقا بهذا الاسم. وأخيرا حين أرى بوجه عام أن هذه الأحوال أو الكيفيات قائمة في الجوهر، دون أن أنظر إليها إلا باعتبارها متعلقات لذلك الجوهر، حينئذ نسميها صفات. ومن حيث إنه لا ينبغي أن أتصور في الله أي اختلاف أو تغير، فإني لا أقول بأن فيه أحوالا أو كيفيات بل فيه صفات وحتى في الأشياء المخلوقة أطلق لفظ الصفات للأحوال أو الكيفيات على ما يكون فيها دائما على نحو بعينه، مثل الوجود والمدة في الشيء الموجود والذي يبقى في الزمان.

57-

في أن بعض الصفات موجود في الأشياء التي توصف بها، وفي أن بعضها موجود في الفكر فقط:

وهذه الكيفيات أو الصفات منها ما هي موجودة في الأشياء ذاتها، ومنها ما لا وجود له إلا في فكرنا. فمثلا الزمان الذي نميزه عن المدة بالمعنى العام -ذلك الزمان الذي نقول عنه: إنه عدد الحركة- ليس إلا نحوا من الأنحاء التي نتعقل المدة عليها؛ لأننا لا نتصور أن مدة الأشياء المتحركة هي شيء آخر غير مدة الأشياء غير المتحركة، وذلك واضح من أنه إذا تحرك جسمان ساعة من الزمان وتحرك أحدهما حركة سريعة والآخر بطيئة، فإننا لا نحسب في أحدهما زمانا أكثر مما في الآخر وإن كنا نفترض في أحد الجسمين حركة أكثر مما في الآخر، ولكن لكي نفهم مدة جميع الأشياء بمقياس واحد، نستعمل عادة مدة بعض الحركات المطردة التي هي الأيام والأعوام، ونسميها بالزمان، بعد أن نكون قد قارناها بعضها ببعض، وإن يكن ما نسميه زمانا ليس في الواقع شيئا خارج المدة الحقيقية للأشياء، سوى وجه من وجوه الفكر.

ص: 86

58-

في أن الأعداد و"الكليات" إنما وجودها في فكرنا:

وكذلك العدد الذي ننظر فيه بوجه عام، دون تفكير في أي شيء آخر مخلوق ليس له وجود خارج فكرنا، كما لا وجود في الخارج لجميع تلك الأفكار العامة الأخرى التي يسميها "المدرسيون" باسم الأمور الكلية أو "الكماليات"1.

59-

ما هي الكليات:؟

الكليات هي الأفكار التي تقوم في أذهاننا حين نستعمل فكرة واحدة نعقل بها أشياء كثيرة جزئية بينها علاقة معينة. وحين نحيط بجميع الأشياء التي تمثلها لنا هذه الفكرة تحت اسم واحد، يكون هذا الاسم كليا كذلك، فمثلا حين نرى حجرين، ونلاحظ فقط أن هنالك حجرين دون تفكير منا في طبيعتهما، حينئذ نكون في أنفسنا فكرة عدد معين أسميه عدد الاثنين. فإذا رأينا بعد ذلك عصفورين أو شجرتين، ولاحظنا -دون تفكير في طبيعتهما- أن هنالك اثنين، عدنا إلى نفس الفكرة التي ذكرناها من قبل وجعلناها كلية، وكذلك نعطي هذا العدد نفس الاسم الكلي وهو العدد اثنين. وكذلك حين نلاحظ شكلا ذا ثلاثة أضلاع نكون قد تمثلنا فكرة معينة نسميها فكرة المثلث ونستخدمها بعد ذلك على العموم لجميع الأشكال التي ليس لها إلا ثلاثة أضلاع. ولكنا حين نلاحظ بوجه أخص أن الأشكال ذات الأضلاع الثلاثة منها ما هو قائم الزاوية، ومنها ما ليس كذلك، نكون في أنفسنا فكرة كلية عن المثلث القائم الزاوية، فإذا ارتبطت بالفكرة السابقة التي هي أعم وأشمل وأمكن أن تسمى "نوعا" وتكون الزاوية القائمة هي "الفصل" الكلي الذي يميز المثلثات القائمة الزوايا من غيرها من المثلثات

1 الكليات هي الأفكار أو المعاني العامة التي تصدق على الأنواع والأفراد الكثيرة، وقد احتدم النزاع في القرون الوسطى بين العلماء حول هذه الكليات: هل هي موجودة "في الأعيان"؟ أم أن وجودها "في الأذهان" فقط؟

ص: 87

الأخرى، ثم إذا لاحظنا أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، وأن هذه الخاصية إنما تلائم هذا النوع من المثلثات، استطعنا أن نسميها الخاصة الكلية للمثلثات القائمة الزوايا. وأخيرا إذا فرضنا أن هذه المثلثات القائمة الزاوية منها ما يتحرك، ومنها ما لا يتحرك اعتبرنا ذلك "عرضا" كليا في هذه المثلثات. وهكذا جرت العادة بأن تقسم الكليات خمسة أقسام: الجنس والنوع، والفصل والخاصة، والعرض1.

60-

في التمييز الواقعي:

أما العود الذي نلاحظه في الأشياء ذاتها، فيأتي من التمييز الواقع بينها. غير أن التمييز على ثلاثة ضروب: الأول: التمييز الواقعي، والثاني: من حيث الحال، والثالث: التمييز العقلي، أي: الذي يكون من عمل الذهن.

والتمييز الواقعي يوجد في الحقيقة بين جوهرين أو أكثر؛ لأننا نستطيع أن نستنتج تميز جوهرين، أحدهما عن الآخر؛ لأننا مستوثقون بمقتضى ما نعرفه عن الله من أنه قادر على أن يحقق كل ما لدينا عنه فكرة واضحة ومتميزة؛ لذلك نستطيع أن نستخلص من أن لدينا الآن مثلا فكرة جوهر ممتد أو جسماني، وإن كنا لا نعرف بعد على وجه اليقين إذا كان شيء كهذا موجودا الآن في العالم، غير أنه ما دامت لدينا فكرة عنه، فإننا نستطيع أن نستخلص أن من الممكن وجوده، وأنه متى كان موجودا فإن جزءا معينا منه نستطيع أن نحدده بالفكر يجب أن يكون متميزا بالفعل عن أجزائه. وكذلك لأن كل واحد منا يدرك في ذاته أنه يفكر، وأنه يستطيع وهو يفكر أن يبعد عن ذاته أو عن نفسه كل جوهر مفكر أو ممتد. نستطيع أن نستخلص أيضا أن كل واحد منا إذا نظر إليه من هذه

1 ذكر ديكارت هنا مصطلحات الفلسفة "المدرسية"، ولكنه قلما يستعملها في فلسفته.

ص: 88

الجهة كان متميزا تميزا واقعيا من كل جوهر آخر مفكر، ومن كل جوهر جسماني. ومع أننا نفترض أن الله قد جمع بين جسم ونفس جميعا يستحيل معه أن يتحدا اتحادا أوثق، فجعل من ذلك كلا مؤلفا، فالجوهران يظلان متميزين تميزا حقيقيا على الرغم من هذا الاتحاد؛ لأنه مهما جعل بينهما من وشائج لم يكن في وسعه أن يخلي ذاته مما يملك من قوة الفصل بينهما أو حفظ أحدهما بمعزل عن الآخر، والأشياء التي يقدر الله على الفصل بينها أو حفظها منفصلة هي متميزة في الواقع.

61-

في التمييز من حيث الحال:

التمييز من حيث الحال على ضربين: أحدهما: بين التي سميناها وجها والجوهر الذي تعتمد الحال عليه وتجعله متنوعا، والثاني: بين وجهين لجوهر واحد. والأول يمكن ملاحظته من حيث إننا نستطيع أن ندرك الجوهر إدراكا واضحا بدون الوجه الذي يختلف عنه على ذلك النحو. ولكن بالعكس لا نستطيع أن نحصل على فكرة متميزة عن وجه بعينه دون أن نفكر في جوهر بعينه، فمثلا هناك تمييز في الحال بين التأكيد أو التذكر وبين الشيء الذي يفكر. أما النوع الآخر من التمييز القائم بين وجهين مختلفين لجوهر واحد، فيلاحظ من أننا نستطيع أن نعرف أحد هذين الوجهين بدون الآخر، كالشكل بدون الحركة والحركة بدون الشكل، ولكننا لا نستطيع أن نفكر بتمييز لا في أحدهما ولا في الآخر إلا ونعرف أنهما يعتمدان جميعا على جوهر واحد. فمثلا إذا تحرك حجر وكان مربعا، نستطيع أن نعرف شكله المربع دون أن نعرف أنه تحرك؛ وبالعكس نستطيع أن نعرف أنه متحرك دون أن نعرف إذا ما كان مربعا، ولكنا لا نستطيع أن نحصل على معرفة متميزة عن هذه الحركة وعن هذا الشكل إذا لم

ص: 89

نعرف أنهما جميعا في شيء واحد، أعني: في جوهر ذلك الحجر. أما التمييز الذي يختلف فيه وجه من وجوه الجوهر عن جوهر آخر أو عن وجه من وجوه جوهر آخر، كما تكون حركة جسم مختلفة عن جسم آخر أو عن شيء يفكر، أو كما تكون الحركة مختلفة عن الشك، فيبدو لي أن الأحرى أن نسميه تمييزا واقعيا من أن نسميه تمييزا من حيث الحال.

62-

في التمييز المنطقي "التمييز بالفكر":

التمييز بالفكر عبارة عن أننا نميز أحيانا الجوهر من صفة من صفاته، بدونها لا يكون من الممكن أن يكون لنا به معرفة متميزة، أو أن نحاول الفصل بين صفتين من صفات جوهر واحد، حين نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر. وهذا الفصل بيّن بسبب أننا لا نستطيع الحصول على فكرة واضحة متميزة عن ذلك الجوهر إذا جردناه من تلك الصفة، أو بسبب أننا لا نستطيع الحصول على فكرة واضحة متميزة عن صفة أو أكثر من تلك الصفات إذا فصلناها عن الصفات الأخرى. فمثلا من حيث إنه لا يوجد جوهر ينقطع عن الدوام دون أن ينقطع عن الوجود، فالدوام لا يتميز عن الجوهر إلا بالفكر، وعلى العموم جميع الصفات التي تجعلنا حاصلين على أفكار مختلفة عن شيء واحد، مثل امتداد الجسم وخاصيته في أن يكون منقسما إلى أجزاء كثيرة، لا تختلف إحداها عن الأخرى إلا بسبب أننا نفكر أحيانا في إحداها دون أن نفكر في الأخرى على صورة مبهمة، وإني لأذكر أني قد خلطت بين التمييز من حيث الحال، في آخر ردودي على الاعتراضات الأولى التي أوردت على "تأملات" ميتافيزيقاي. ولكن ذلك لا يتنافى مع ما أكتبه هنا؛ لأني لم أكن أقصد هنالك أن أخوض في ذلك الموضوع، فاكتفيت بالتفرقة بينها وبين التمييز الواقعي.

ص: 90

63-

كيف نحصل على أفكار متميزة عن الامتداد وعن الفكر، من حيث إن أحدهما هو طبيعة الجسم، وإن الثاني هو طبيعة النفس:؟

نستطيع كذلك أن نعتبر أن الفكر والامتداد هما الشيئان الأساسيان اللذان يقوّمان طبيعة الجوهر العاقل والجوهر الجسماني؛ ولذلك لا ينبغي أن نتصورهما إلا باعتبار أنهما الجوهر نفسه الذي يفكر والذي هو ممتد، أي: إنهما هما النفس والجسم؛ لأننا نعرفهما على هذا النحو معرفة متميزة جدا، بل إن معرفة جوهر يفكر أو جوهر ممتد أسهل من معرفة الجوهر فقط بمعزل عن أنه مفكر أو ممتد؛ لأن من الصعب أن نفصل معنى الجوهر لدينا عن معنى الفكر أو معنى الامتداد، إذ إنهما لا يفترقان عن الجوهر إلا من جهة أننا قد نعتبر الفكر أو الامتداد دون أن نفكر في الشيء نفسه الذي يفكر، أو الذي هو ممتد. وليس تصورنا أكثر تميزا لأنه يتضمن أشياء قليلة، بل لأننا نتبين ما يتضمنه، ولأننا نحرص على أن لا نخلط بينه وبين معانٍ أخرى قد تحيله أشد غموضا.

64-

كيف نستطيع أيضا أن نتصور الفكر والامتداد تصورا متميزا، على أنهما حالان أو صفتان لذينك الجوهرين:؟

نستطيع أيضا أن نعتبر الفكر والامتداد حالين أو وجهين مختلفين قائمين في الجوهر، أعني: أننا متى اعتبرنا أن الذهن الواحد يمكن أن يكون له أفكار مختلفة وأن الجسم الواحد يمكن دون أن يتغير حجمه أن يمتد على أنحاء عديدة، تارة يكون أكثر طولا وأقل عرضا، وتارة أخرى يكون أكثر عرضا وأقل طولا، وأننا لا نميز الفكر والامتداد عما هو مفكر وما هو ممتد إلا من حيث إنهما عرضان تابعان لجوهرين، فإننا نعرفهما بوضوح وتميز يعادل معرفتنا

ص: 91

بالجوهرين ما دمنا لا نعتبرهما جوهرين متقومين بذاتهما، بل إن كلا منهما حال من أحوال الجوهر أو وجه من وجوهه. ذلك أننا متى اعتبرناهما خاصتين للجوهرين اللذين عليهما اعتمادهما تيسر لنا أن نميزهما من الجوهرين، وأن نأخذهما على ما هما عليه في الحقيقة، في حين أننا إذا أردنا أن نعتبرهما بدون الجوهر فربما كان ذلك سببا في أن نأخذهما على أنهما شيئان متقومان بذاتهما، وترتب على ذلك أن نخلط بين الفكرة التي ينبغي أن تكون لدينا عن الجوهر وبين الفكرة التي ينبغي أن تكون لدينا عن خواصه وأحواله.

65-

كيف نتصور أيضا خواص الفكر والامتداد، أو صفاتهما المختلفة:؟

على هذا النحو نستطيع أن ندرك بغاية الوضوح أنحاء كثيرة مختلفة للفكر، كالفهم والإرادة والتخيل وما إلى ذلك، وندرك أنحاء كثيرة مختلفة للامتداد أو ما يتعلق بالامتداد كالأشكال جميعا بوجه عام، ووضع الأجزاء وحركاتها، على شرط أن ننظر إليها فقط على أنها أحوال قائمة في الجوهر هي تابعة له، وكالحركة من حيث هي، بشرط أن نقتصر على النظر في الحركة من مكان إلى مكان دون أن نبحث عن القوة التي تحدثها، وهي القوة التي سأحاول مع ذلك أن أبينها في موضعها.

66-

كيف أن أحاسيسنا وانفعالاتنا وشهواتنا يمكن معرفتها بوضوح، مع أننا كثيرا ما نخطئ في أحكامنا عليها:؟

لم يبق إلا أحاسيسنا وانفعالاتنا وشهواتنا، ونستطيع أن نعرفها أيضا معرفة واضحة متميزة، إذا ما حرصنا على أن لا ندخل في الأحكام التي نطلقها عليها إلا ما يتيح لنا وضوح إدراكنا أن نعرف معرفة محددة وما تعدنا أذهاننا

ص: 92

لأن نكون على ثقة منه. ولكن في مراعاة ذلك مشقة كبيرة، وعلى الأخص فيما يتعلق بالأحاسيس، ومرجع ذلك إلى أننا منذ بداية حياتنا قد أدخلنا في اعتقادنا أن جميع الأشياء التي كنا نحسها موجودة خارج فكرنا وأنها مشابهة تمام المشابهة لما كان لدينا عنها من أحاسيس وأفكار. فإذا رأينا مثلا لونا معينا خلنا أننا رأينا شيئا له وجود خارج أذهاننا وظنناه شبيها بالفكرة التي كانت في أذهاننا عنه. وعلى هذا النحو كانت تجري أحكامنا على الأشياء في مواطن كثيرة، وكان يبدو لنا أننا نرى ذلك بغاية الوضوح والتميز بسبب أننا قد تعودنا إطلاق الأحكام على هذا النحو تعودا طويلا؛ فلا عجب بعد ذلك أن نجد من الناس من يظل متشبثا بهذه الأوهام تشبثا لا يخطر بباله معه أن يشك فيها.

67-

في أن كثيرا ما نخطئ، إذ نحكم بأننا نحس ألما في بعض أجزاء جسمنا:

ويقع هذا الوهم نفسه في سائر أحاسيسنا، حتى في إحساس الدغدغة والألم، إذ إننا وإن لم نعتقد أن في الأعيان خارج أذهاننا أشياء مشابهة لما جعلنا نحسه من دغدغة أو ألم، إلا أننا لم نعتبر هذه الأحاسيس أفكارا قد انحصر وجودها في أذهاننا، بل اعتقدنا كذلك أنها في أيدينا وفي أقدامنا وفي سائر أجزاء بدننا دون أن يكون هنالك سبب يحملنا على أن نعتقد أن الألم الذي نحسه في القدم مثلا هو شيء موجود خارج فكرنا ومكانه في قدمنا، ولأن الضوء الذي نظن أننا نراه في الشمس هو موجود في الشمس كما هو موجود فينا. وإذا كان من الناس من لا يزالون مقتنعين بهذا الرأي الخاطئ فما ذلك إلا لشدة تشبثهم بما أطلقوا من أحكام على الأشياء في مقتبل حياتهم، فلم يستطيعوا أن يتخلوا عنها إلى أحكام أمتن منها، كما سيتضح لنا مما يلي.

ص: 93

68-

في ضرورة وجوب التمييز في هذه الأشياء بين ما يمكن أن نخطئ فيه، وبين ما نعرفه في وضوح:

ولكن لكي يتيسر لنا أن نميز في أحاسيسنا بين ما هو واضح، وما هو غامض نستطيع أن نلاحظ أولا أن في إمكاننا أن نعرف الألم واللون والأحاسيس الأخرى معرفة واضحة متميزة إذا ما التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ولكن إذا أردنا أن نحكم بأن اللون أو الألم شيء قائم خارج فكرنا لم نستطع أن نتصور أي شيء يكون هذا اللون أو هذا الألم. فلو أن قائلا قال: إنه يرى لونا في جسم أو إنه يحس ألما في عضو من أعضاء بدنه، فكأنه قال: إنه رأى أو أحس شيئا ولكنه يجهل طبيعته جهلا تاما، أو إنه لم يعرف ما رأى أو ما أحس. فمع أن الشخص الذي لم ينظر في أفكاره نظر الفاحص قد يوهم نفسه بأنه على إلمام بها، ما دام يفترض أن اللون الذي يظن أنه يراه في شيء من الأشياء يشابه الإحساس الذي يحسه في نفسه، إلا أنه إذا ما تدبر ما يمثله له اللون أو الألم من حيث إنهما موجودان في جسم ملون أو في موضع مجروح، وجد أنه ليس له معرفة به على الإطلاق.

69-

في أن معرفتنا للعظام والأشكال وما إليها مختلفة عن معرفتنا للألوان والآلام وغيرها:

إذا ما اعتبرنا العظم في الجسم الذي نشاهده أو الشكل أو الحركة "الحركة المكانية على الأقل؛ لأن الفلاسفة حين تخيلوا أنواعا أخرى من الحركة دلوا على أنهم لا يعرفون طبيعتها الحقيقية"1 أو وضع الأجزاء أو الدوام أو العدد

1 جعل أرسطو الحركة على أنوع:

أ- حركة هي انتقال من العدم إلى الوجود "الكون".

ب- حركة هي انتقال من الوجود إلى العدم "الفساد".

جـ- حركة هي انتقال من الوجود إلى الوجود "التغير".

د- حركة هي الانتقال من مكان إلى مكان "النقلة".

أما ديكارت، فلا يسلم إلا بالحركة المكانية أو حركة النقلة؛ لأنها في نظره هي الحركة بمعناها الدقيق.

ص: 94

والخواص الأخرى التي ندركها بوضوح في جميع الأجسام كما بينّا من قبل، اتضح أننا نعرفها على نحو يختلف كل الاختلاف عن النحو الذي نعرف عليه ما هو اللون في الجسم نفسه أو الألم أو الرائحة أو الطعم أو أيا من الخواص التي قلت بوجوب نسبتها إلى الحواس. فمع أن تأكدنا من وجود الجسم حين نرى شكله ليس أقل من تأكدنا من وجوده حين نرى لونه، إلا أن معرفتنا لخاصية الشكل فيه معرفة أكثر وضوحا من معرفتنا للخاصية التي بها يبدو لنا ملونا1.

70-

في أننا نستطيع أن نحكم بوجهين على الأشياء المحسوسة، بأحدهما نقع في خطأ وبالآخر نتجنبه:

واضح إذن أننا إذا قلنا لشخص: إننا ندرك ألوانا في الأجسام، فكأننا قلنا له: إننا ندرك في هذه الأجسام شيئا نجهل طبيعته، ولكنه يحدث فينا إحساسا واضحا جليا يسمى بإحساس الألوان. ولكن هنالك اختلافا كبيرا في أحكامنا؛ لأننا ما دمنا نكتفي بالحكم بأن هنالك شيئا لا ندري ما هو في الأجسام "أي: في الأشياء كما هي" يحدث فينا هذه الأفكار المبهمة التي تسمى أحاسيس، فإننا نباعد بين أنفسنا وبين مواطن الخطأ ونجعلها بمأمن من المزالق التي قد توقعنا في الضلال، من حيث إننا لا نتعجل في الحكم على شيء لا نأنس في أنفسنا أننا نعرفه معرفة تامة، ولكن حين نظن أننا نرى لونا معينا في جسم ما، وإن كنا غير عارفين حق المعرفة بما نسميه بهذا الاسم، وكنا عاجزين عن تصور أي مشابهة بين اللون الذي نفترض وجوده في الأشياء وبين اللون الذي هو في فكرنا، إلا أننا لما كنا لا نلتفت إلى هذا الأمر وكنا نلاحظ في تلك الأجسام عينها

1 فكرتنا عن الشكل فكرة واضحة ومتميزة، في حين أن فكرتنا عن اللون فكرة غامضة ومبهمة. فاللون ليس في الأجسام على ما يبدو لنا، وإنما هو مجموعة من الحركات الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة، فهي حركات نتصورها ولا نتمثلها. وديكارت يفرق بين الصفات الأولى "الامتداد والشكل والحركة" وهي صفات موجودة في الأشياء ذاتها، وبين الصفات الثانية وهي معتمدة على الأشياء وعلى الذات المدركة في آن واحد.

ص: 95

خواص عديدة، كالجسم والشكل والعدد وما إليه، وهي موجودة فيها على نحو ما تتيح لنا حواسنا أو بالأحرى أذهاننا أن ندركها، فمن الميسور أن نتوهم أن ما يسمى باللون في جسم ما، هو شيء موجود في ذلك الجسم ومشابه تمام المشابهة للون الذي هو في فكرنا، ونظن بعد ذلك أن لدينا إدراكا واضحا لأمر لم ندرك طبيعته على الإطلاق.

71-

في أن العلة الأولى الكبرى لأخطائنا هي الأحكام المبتسرة التي اتخذناها في مقتبل عمرنا:

نستطيع أن نلاحظ هنا علة أخطائنا؛ ففي مقتبل عمرنا كانت النفس مرتبطة بالجسم ارتباطا يجعلها لا تهتم بشيء إلا ما يثير فيها انطباعات حسية؛ لأنها لم تكن تفكر بعد فيما إذا كانت تلك الانطباعات حادثة من أشياء موجودة في شيء نافع للجسم، أو عندما يتأثر الجسم تأثرا رقيقا بحيث لا يصيبه منفعة أو مضرة، وتشعر النفس بالأحاسيس التي نسميها طعوما وروائح وأصواتا وحرارة وبرودة وضوءا وألوانا وما شابهها، وهي في الحقيق لا تمثل شيئا موجودا خارج النفس، ولكنها تتنوع بحسب تنوع المواضع والأحوال التي يتأثر الجسم فيها، فيصل تأثره إلى موضع المخ الذي اتصلت به اتصالا وثيقا، وكذلك كانت النفس تدرك العظام والأشكال والحركات التي لم تكن تعرض لها على أنها أحاسيس بل على أنها أشياء أو خواص أشياء تبدو لنا موجودة أو على الأقل ممكنة الوجود خارج الذات، وإن لم تكن قد التفتت بعد إلى هذا الفرق ولكن حين يتقدم بنا العمر قليلا، وتدور آلة البدن في كل اتجاه بما في قوى أعضائه من استعداد طبيعي للدوران يصادف أشياء نافعة ويتجنب أخرى مؤذية، فإن النفس التي كانت شديدة الارتباط به تلحظ أولا حين تتأمل هذه الأشياء التي تصادفها أو التي تتجنبها أنها موجودة في الخارج، ولا تقتصر على أن تنسب إليها العظام والأشكال والحركات وسائر الخواص التي تخص الجسم وحده والتي تتصورها

ص: 96

إما على أنها أشياء أو لواحق لأشياء، بل تنسب إليها كذلك الألوان والروائح وسائر أشباهها من أفكار أدركتها في حينها. ولما كانت تغشاها غاشية الجسم ولا تنظر إلى الأشياء الأخرى إلا من حيث منفعتها له، فقد تفاوت تقديرها لوجود الحقائق في الموضوعات تبعا للتفاوت في قوة ما تحدثه فيها من انطباعات؛ ومن ثم اعتقدت بأن للحجر أو المعادن نصيبا من الجوهرية أو الجسمانية أوفر من نصيب الهواء أو الماء؛ لأنها أحست في الحجر والمعادن زيادة في الصلابة والثقل، ولم تكن ترى في الهواء ما يزيد على العدم إذا لم يتحرك بالريح أو لم يبد لها حارا أو باردا. ولما كانت النجوم لا تجعلها تحس من الضوء أكثر مما يكون من الشمعة المضيئة، فإنها لم تتصور أن كل نجمة أكبر من الشعلة التي تبدو في طرف الشمعة المحترقة. ولما كانت النفس لم تدرك بعد أن الأرض يمكن أن تدور حول محورها وأن سطحها منحنٍ كسطح الكرة فقد حكمت أول الأمر بأنها ثابتة وأن سطحها منبسط. وقد وصلنا من هذا الطريق إلى آلاف أخرى من الأحكام المبتسرة، وجعلناها معتقدات لنا حتى حين أصبحنا قادرين على استعمال عقولنا. وبدلا من أن نسلم بأن هذه الأحكام قد انعقدت في أذهاننا حين كنا عاجزين عن الإصابة في الحكم، وأنها تبعا لذلك يمكن أن تكون أدنى إلى الزيف منها إلى الحق، تلقيناها على أنها يقينية وكأننا عرفناها معرفة متميزة عن طريق حواسنا، كما أننا بعدنا عن الشك فيها بعدنا عن الشك في المعاني الشائعة.

72-

في أن العلة الثانية لأخطائنا هي أننا لا نستطيع نسيان هذه الأحكام المبتسرة:

فإذا بلغنا أخيرا مرحلة نستعمل فيها عقولنا استعمالا تاما وحاولت نفوسنا، بعد أن زال عنها خضوعها للبدن، أن تحكم على الأشياء حكما سديدا، وأن تعرف حقائقها معتبرة في ذاتها، فإننا على الرغم من ملاحظتنا أن الأحكام

ص: 97

التي أطلقناها في طفولتنا مملوءة بالخطأ، فإننا مع ذلك نجد بعض المشقة في التخلص منها تخلصا تاما، ولكن مما لا ريب فيه أننا إذا لم نتخلص منها ولم نعدها باطلة ومزعزعة، فإننا نكون على الدوام في خطر الوقوع في أحكام فاسدة.

وهذا صحيح إلى حد كبير: نجد مثلا أننا لا نستطيع التخلص من تخيلنا النجوم صغيرة جدا، بسبب ما ألفناه من تخيل لها إبان طفولتنا، مع أننا نعرف بأدلة علم الفلك أنها كبيرة جدا، فما أعظم ما للفكرة الأولى من سلطان علينا!

73-

في أن العلة الثالثة هي أن ذهننا يعتريه التعب من إطالة الانتباه إلى جميع الأشياء التي نحكم عليها:

وأيضا لما كانت نفوسنا لا تستطيع أن تطيل النظر إلى شيء واحد بانتباه دون أن يعتريها التعب والألم، فإنه ما من شيء يشق عليها أكثر مما تشق عليها الأشياء العقلية المحضة التي لا تكون حاضرة أمام الحواس ولا أمام الخيال، إما لأنها قد خلقت على هذا النحو بطبيعتها بسبب اتحادها بالبدن، وإما لأننا في السنوات الأولى من حياتنا قد رسخت فينا عادة الإحساس والتخيل رسوخا يسر لنا أن نفكر على ذلك النحو؛ ومن ثم وجدنا كثيرين من الناس لا يستطيعون الاعتقاد بوجود جواهر ما لم تكن متخيلة أو جسمانية بل محسوسة. ذلك أن الإنسان لا يلتفت عادة إلى أن الأشياء التي هي عبارة عن امتداد وحركة وشكل هي وحدها التي يمكن تخيلها، وأن هنالك أشياء أخرى كثيرة متعقلة، ومن هنا أيضا كان أغلب الناس مقتنعين بأنه لا تقوم لشيء بدون جسم وأنه لا يوجد جسم لا يكون محسوسا. ومن حيث إن حواسنا ليست هي التي تكشف لنا طبيعة أي شيء، بل عقلنا وحده عند إعماله في الأشياء المحسوسة، فلا غرابة في أن معظم الناس لا يدركون الأشياء إلا مشوشة تشويشا شديدا؛ نظرا لأن قليلين منهم يعرفون السبيل إلى قيادة العقل قيادة صحيحة.

ص: 98

74-

في أن العلة الرابعة لأخطائنا هي أننا نربط أفكارنا بألفاظ لا تعبر عنها تعبيرا دقيقا:

وأخيرا لأننا نربط جميع تصوراتنا لكي نعبر عنها باللسان، ولأننا نتذكر الكلام أكثر مما نتذكر الأشياء التي يدل عليها بالألفاظ، فمن العسير علينا أن نتصور أي شيء تصورا متميزا من شأنه أن يفصل فصلا تاما بين ما نتصوره عن الكلمات التي اختيرت للتعبير عنه. ومن هنا كان أكثر الناس يوجهون نظرهم إلى الألفاظ أكثر من الأشياء، وهذا يؤدي بهم غالبا إلى الموافقة على ألفاظ لا يفهمونها ولا يشغلون أنفسهم بفهمها، إما لاعتقادهم بأنهم قد فهموها، أو لأنه قد بدا لهم أن من لقنوهم إياها يعرفون معناها، وأنهم قد تعلموها بالطريقة نفسها. ومع أننا لسنا هنا بصدد البحث في هذه المسألة؛ لأنني لم أثبت بعد وجود أي جسم في العالم، فيبدو لي مع ذلك أن ما ذكرته عن هذا الأمر يمكن أن يفيدنا في التمييز بين تصوراتنا الواضحة المتميزة، وبين تصوراتنا الملتبسة علينا وغير المعروفة لنا.

75-

موجز لكل ما ينبغي مراعاته في التفلسف الصحيح:

لذلك إذا أردنا أن نفرغ لدراسة الفلسفة دراسة جدية، وللبحث عن جميع الحقائق التي في مقدورنا معرفتها وجب علينا أن نتخلص أولا من أحكامنا السابقة، وأن نحرص على اطّراح جميع الآراء التي سلمنا بها من قبل، وذلك ريثما تنكشف لنا صحتها بعد إعادة النظر فيها. وينبغي أيضا أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات، وأن لا نصدق منها إلا التصورات التي ندركها في وضوح وتميز، وبهذه الطريقة نعرف أولا أننا موجودون باعتبار أن طبيعتنا هي التفكير، ونعرف في الوقت نفسه وجود إله نعتمد عليه. وبعد أن ننظر في صفاته

ص: 99

نستطيع أن نبحث عن حقيقة الأشياء الأخرى جميعا نظرا إلى أنه هو عليها. وبالإضافة إلى المعاني التي لدينا عن الله وعن فكرنا، نجد أيضا في أنفسنا معرفة بقضايا كثيرة هي صحيحة على الدوام، مثل القضية التي تذهب إلى أن العدم لا يمكن أن يكون علة لأي شيء

إلخ. وسنكتشف أيضا فكرة طبيعية جسمانية أو ممتدة يمكن أن تتحرك وأن تنقسم

إلخ، ونجد أحاسيس تؤثر فينا مثل الألم والألوان

إلخ. فإذا قارنا بين ما تعلمناه حين فحصنا عن هذه الأشياء بترتيب وبين أفكارنا عنها قبل أن نقوم بذلك الفحص اكتسبنا عادة تحصيل تصورات واضحة ومتميزة عن كل ما نحن قادرون على معرفته. ويبدو لي أن هذه القواعد القليلة تشتمل على أعم مبادئ المعرفة الإنسانية وأهمها.

76-

في أننا ينبغي أن نفضل الأحكام الإلهية على استدلالاتنا، ولكن فيما عدا الأشياء المنزلة ينبغي أن لا نعتقد شيئا لم ندركه إدراكا واضحا جدا:

ينبغي قبل كل شيء أن نستمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل، وهي أن ما أنزله الله هو اليقين الذي لا يعدله يقين أي شيء آخر. فإذا بدا أن ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بشيء يخالف ذلك، وجب أن نخضع حكمنا لما يجيء من عند الله. أما الحقائق التي لم يرد عنها شيء في التنزيل فليس مما يتفق مع طبع الفيلسوف أن يسلم بصحة شيء لم يتحقق منه، ولا أن يركن إلى الثقة بالحواس، أي: أن يكون اطمئنانه إلى ما تلقاه في طفولته من أحكام هو جاء أكثر من اطمئنانه لما يقتضي به العقل الناضج.

ص: 100