الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إهداء المؤلف
مدخل
…
إهداء المؤلف:
إهداء إلى حضرة صاحبة الشوكة 1 الأميرة إليزابث كبرى بنات فردريك، ملك بوهيميا، وكونت بالاتينا والأمير الناخب للإمبراطورية:
سيدتي:
إن أعظم نفع ظفرت به من المؤلفات التي نشرتها من قبل هو أنني قد نلت بسببها شرف الالتفات إليّ من سموك، وحظيت حينا بالتحدث إلى جنابك، فتيسر لي بهذا أن أتبين في شخصك خصالا قيمة نادرة جعلتني أعتقد أنني أسدي خدمة للجمهور إذا أنا قدمتها إلى الخلف قدوة تحتذى. لا يليق بي أن أتملق أو أن أكتب أشياء ليس لي بها معرفة يقينية، وعلى الخصوص في الصفحات الأولى لهذا الكتاب، الذي قصدت فيه إلى أن أضع مبادئ جميع الحقائق التي يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفها. وإن التواضع الكريم الذي نراه متألقا في جميع أفعال سموك يجعلني على ثقة من أن الكلام البسيط الصريح الذي ينطق به رجل، لا يكتب إلا ما يعتقد، سيلقي لديك من ارتياح أكثر مما تلقي خطب الثناء المنمقة بعبارات التفخيم، التي يعمد إليها من درسوا فن المديح. ولهذا لن أضع في هذه الرسالة شيئا ما لم تكن التجربة والعقل قد جعلاني مستيقنا منه. وسوف أكتب في الديباجة كما في بقية الكتاب على النحو الذي يلائم الفيلسوف.
1 "صاحبة الشوكة""Serenissime" لقب كان يمنح لبعض الشخصيات العالية، ولبعض الولادة.
إن هناك فرقا بين الفضائل الحقيقية والفضائل التي ليست إلا ظاهرية، كما أن هنالك فرقا كبيرا بين الفضائل التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة والفضائل التي تكون مصحوبة بالجهل أو بالخطأ، والفضائل التي أسميها ظاهرية ليست في حقيقة الأمر إلا رذائل.
ولكن من حيث إنها ليست من الشيوع بقدر الرذائل الأخرى التي هي أضداد لها، ومن حيث إنها أبعد عنها من الفضائل التي تشغل منزلة وسطى، فقد جرت عادة الناس أن يقدروها أكثر مما يقدرون من الفضائل؛ ولذلك لما كان عدد من يخافون المخاطر خوفا شديدا جدا أكثر من عدد من يخافونها قليلا جدا، غلب على الناس أن يقابلوا بين التهور والاستحياء كما يقابلون بين فضيلة ورذيلة، وزاد تقديرهم للتهور على تقديرهم للشجاعة الحقيقية. ولذلك أيضا وجدنا المبذرين يمدحون عادة أكثر مما يمدح أهل السخاء، ووجدنا الأخيار المخلصين حقا لا ينالون من الاشتهار بالبر والتقوى قدر ما ينال المخرفون والمنافقون.
وكثير من الفضائل الحقيقية لا تصدر عن معرفة حقيقية، بل إن منها ما يصدر أيضا عن نقص أو خطأ، فغالبا ما تكون البساطة علة لرقة القلب، والخوف علة للتقوى، واليأس علة للشجاعة. والفضائل المصحوبة بنقص يختلف بعضها عن بعض ويسميها الناس أيضا بأسماء مختلفة. أما الفضائل الخالصة الكاملة التي لا تصدر إلا عن معرفة الخير، فهي كلها من طبيعة واحدة، ويمكن أن يشتمل عليها اسم الحكمة؛ لأن كل من صدقت عزيمته وثبتت إرادته على أن يستعمل عقله دوما أحسن ما وسعه من استعمال، وان يتوخى في جميع أفعاله ما يراه أحسن الأشياء، وهو حكيم حقا بقدر ما تهيئه له طبيعته. وبهذا وحده يكون عادلا ومعتدلا، ويكون مالكا لكل الفضائل الأخرى، وتكون كلها مجتمعة فيه بقسطاس مستقيم، فلا تطغى إحداها على الأخرى. وهذا هو السبب في أن هذه
الفضائل مع كونها أكمل جدا من الفضائل التي تلمع وتبرز بسبب امتزاجها ببعض النقص، غير أنه لما كانت العامة أقل التفاتا إليها، لم تجر العادة بأن تنظم لها عقود الثناء1.
يضاف إلى هذا أن من بين الأمرين المطلوبين للحكمة على نحو ما وصفنا -أعني: إدراك الذهن لما هو خير، واستعداد الإرادة لأن تتبعه على الدوام- أن هنالك أمرا هو مناط الإرادة وحده يمكن أن يملكه الناس جميعا على السواء؛ نظرا إلى أن قرائح بعض الناس أقل جودة من قرائح غيرهم2. ولكن مع أن من لم يرزقوا جودة القريحة يستطيعون أن يبلغوا من الحكمة ما تؤهلهم له
1 في هذه الفقرة الموجزة فرّق ديكارت بين الفضائل الظاهرية والفضائل الحقيقية. وفي الفضائل الحقيقية ميز بين تلك التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة وتلك التي تكون مصحوبة بجهل أو خطأ، والفضائل الظاهرية هي رذائل يظنها العوام فضائل كالتهور والتبذير. ومن الفضائل الحقيقية ما ينشأ أحيانا من عيب أو خطأ؛ فالبساطة يمكن أن تكون علة لرقة القلب، واليأس علة للشجاعة. أما الفضائل الكاملة فمصدرها معرفة الخير، ويرى ديكارت أن الخير لا يفترق عن الحق؛ فإنه "لما كانت إرادتنا لا تتجه إلى الإقدام على شيء أو تجنب شيء إلا حسبما يقدمه الذهن لنا على أنه حسن أو سيئ، فيكفي أن نحكم حكم حسنا لكي نعمل عملا حسنا". فلا فرق عند ديكارت بين حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية؛ لأن الإرادة تتوجه بالأفكار، وهي تعمل حسنا حين تسترشد بأفكار واضحة متميزة، وتعمل سيئا حين تترك زمامها لأفكارها غامضة مبهمة. وإذن فالعلم والفضيلة شيء واحد، وكذلك الخطأ والرذيلة لا يفترقان، ودستور إرادتنا هو أن نريد أن نظلم العالم:"فليس هنالك أمر هو كله في مقدورنا إلا خطرات نفوسنا". وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نسعى إلى تغيير رغباتنا بدلا من أن نفكر في تغيير نظام العالم. وينتج من ذلك أن الفضيلة واحدة لا تتجزأ، فمن ملك فضيلة واحدة فقد ملك الفضائل جميعا، ونتبين في هذا العرض الموجز للأخلاق الديكارتية أثر المذاهب الأخلاقية عند سقراط والرواقيين. "انظر كتابنا "الفلسفة الرواقية"، الطبعة الثانية، القاهرة 1959، وأيضا: كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1957".
2 لكل إنسان ذهن، أي: ملكة يتصور بها الأفكار الواضحة المتميزة، لكن طاقة هذه الملكة ليست بدرجة واحدة عند الناس جميعا. غير أن هذا لا يعني أن بين الناس اختلافا في الماهية؛ لأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
طبائعهم، وأن ينالوا رضى الله بفضائلهم، ما داموا مستمسكين بعرا العزيمة الصادقة مصممين على أن يعملوا كل ما يرونه خيرا، وأن لا يدخروا جهدا في تعلم الواجبات التي يجهلونها. بيد أن من يقصدون إلى فعل الخير بعزم صادق، ويبذلون في تثقيف أنفسهم عناية خاصة، ويملكون أيضا قريحة نفاذة، لا جرم يصلون إلى مرتبة من الحكمة أرفع من مرتبة غيرهم. وإني لأرى أن هذه الأمور الثلاثة قد اجتمعت في سموك بغاية الكمال، فعنايتك بتثقيف نفسك تتجلى في أنه لا شيء من ملهيات البلاط ولا الأسلوب المألوف في تربية الأميرات، ذلك الأسلوب الذي يصرفهن عادة عن الدرس والتحصيل، قد استطاع أن يحول بينك وبين أن تدرسي بمزيد من العناية أحسن ما في العلوم، ونفاذ قريحتك الذي لا نظير له يتبين من أنك نفذت إلى أسرار العلوم وأحطت بها إحاطة دقيقة في زمن وجيز جدا. ولكن عندي دليل يخصني أنا، وهو أنني لم ألق قط شخصا قد استطاع أن يفهم، بمثل ما بلغت من إحاطة وإتقان، كل ما تشتمل عليه مؤلفاتي؛ فإن هنالك كثيرين، حتى من بين ذوي الأذهان الفذة والعلم الغزير، يجدونها غامضة جدا. وقد لاحظت عند جمهرة المتبحرين في الرياضيات أنهم غير مستعدين إطلاقا لهم مباحث الميتافيزيقا، ولاحظت من جهة أخرى أن من يستسهلون هذه لا قدرة لهم على أن يفهموا تلك؛ ولهذا أستطيع أن أقول محقا: إنني لم ألق قط إلا ذهن سموك وحده الذي يستسهل هذه وتلك على السواء، ولهذا يحق لي أن أصفه بأنه ذهن لا نظير له. ولكن الشيء الذي يزيد من إعجابي هو أن هذه الإحاطة بجميع العلوم على هذا النحو من التنوع والكمال، لم أجدها عند عالم من الشيوخ أنفق سنوات عديدة في الدرس والتحصيل، بل عند أميرة ما زالت شابة محياها أقرب إلى أن يمثل محيا إحدى
ربات الجمال1 اللواتي يتحدث عنهن الشعراء، من أن يمثل محيا إحدى ربات الشعر2 أو محيا العالمة "مينرفا"3.
وختاما، ألاحظ في سموك كل ما هو مطلوب من جانب الذهن للحكمة الكاملة الفائقة، وليس هذا فحسب، بل كل ما يمكن أن يكون مطلوبا من جانب الإرادة أو الأخلاق، وفيها نرى علو الهمة والرقة، ملتئمتين مع الجلالة التئاما جعل صروف الدهر -مع أنها وجهت إليك ضرباتها المتواليات، ومع أنها بدت وكأنها قد بذلت كل ما في وسعها لتحويلك عن طبعك الرضي- لم تستطع قط أن توغر صدرك أو تكسر قلبك. وقد تضطرني هذه الحكمة الكاملة إلى إكبارك إكبارا يجعلني لا أقتصر على الاعتقاد أنك صاحبة الفضل في هذا الكتاب، إذ يبحث في الفلسفة التي هي دراسة الحكمة، بل يجعلني أشعر بأن حرصي على التفلسف، أي: السعي إلى تحصيل الحكمة، ليس أشد من حرصي على أن أكون يا سيدتي، لسموك،
الخادم المتواضع جدا،
والمطيع المتواضع جدا،
ديكارت
1 ربات الجمال Les Graces هن في أساطير اليونان ثلاث ربات يمثلن أفتن ما في جمال المرأة.
2 ربات الشعر Les Muses تسع أخوات يمثلن ربات الشعر، والفنون عند اليونان.
3 مينرفا Minerve من آلهة الرومان تمثل ربة الحكمة، وراعية للفنون والصناعات.