الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة من المؤلف إلى مترجم الكتاب:
وهي بمثابة تقديم له:
سيدي:
إن ترجمة "مبادئ" التي بذلت جهدك في إخراجها قد بلغت من الوضوح والإتقان ما يجعلني أتوقع أن يكون قراء الكتاب في الفرنسية أكثر من قرائه في اللاتينية، ويجعلني آمل أن يكونوا له أحسن فهما. والذي أخشاه هو أن يصدّ العنوان كثيرين ممن لم ينشئوا على الدراسات، أو ممن ساء ظنهم بالفلسفة؛ لأن الفلسفة التي تلقنوها لم تفز برضاهم. وذلك يجعلني أرى أن من الخير أن أضيف إليها تقديما يبين لهم ما هو موضوع الكتاب؟ وما القصد الذي توخيته حين كتبته؟ وما المنفعة التي يمكن أن تنال منه؟
لكن مع أنه قد يكون من شأني أنا أن أكتب تقديما من هذا القبيل، إذ المفروض أني أعرف تلك الأمور خيرا من أي شخص آخر، إلا أني لا أستطيع أن أظفر من نفسي بشيء أكثر من أن أضع هنا موجزا للنقط الرئيسية التي يبدو لي أن من الواجب بحثها في ذلك التقديم، وأترك لحسن تصرفك أن تنشر منها على الجمهور ما تراه ملائما المقام.
كنت أبغي أولا أن أشرح فيه معنى الفلسفة، مبتدئا بأقرب الأشياء إلى فهم الكافة، مثل أن لفظ "الفلسفة" معناه دراسة الحكمة، وأنه لا يقصد بالحكمة التحوط في تدبير الأمور فحسب، بل يقصد منها معرفة كاملة لكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه، إما لتدبير حياته، أو لحفظ صحته، أو لاستكشاف الفنون
جميعا؛ وأن المعرفة التي يتوسل بها إلى هاتيك الغايات لا بد أن تكون مستنبطة من العلل الأولى بحيث يكون من الضروري لاكتسابها "وهو ما يسمى على التحقيق تفلسفا" أن نبدأ بالفحص عن هاتيك العلل الأولى، أي: بالفحص عن "المبادئ"؛ وأن هاتيك المبادئ لا بد أن يتوافر فيها شرطان: أحدهما: أن يكون من الوضوح والبداهة بحيث لا يستطيع الذهن الإنساني أن يرتاب في حقيقتها متى أمعن النظر فيها، والثاني: أن تعتمد عليها معرفة الأشياء الأخرى، بحيث إنها يمكن أن تعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء الأخرى، بحيث إنها يمكن أن تعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء بدونها، ويلزم بعد هذا أن نسعى إلى أن نعرف بدون هذه الأشياء ولا تعرف هذه الأشياء بدونها، ويلزم بعد هذا أن نسعى إلى أن نستنبط من تلك المبادئ معرفة الأشياء المعتمدة عليها بحيث لا يكون في سلسلة الاستنباطات شيء إلا وهو بين كل البيان، والله وحده هو حقا الموجود الذي هو حكيم إطلاقا، أي: المحيط علنه بحقائق الأشياء جميعا. لكنا نستطيع أن نقول: إن مراتب الناس من الحكمة متفاوتة بمقدار تفاوتهم في معرفة أهم الحقائق، وأنا واثق أنه لا شيء مما قد قلته الآن إلا ويقره جميع العلماء.
وكنت أبغي بعد ذلك أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة، وأن أبين أنه ما دامت تتناول كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفه، فيلزمنا أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا من الأقوام المتوحشين والهمجيين، وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها؛ ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين. وكنت أبغي أن أبين فوق هذا أنه بالنسبة إلى الأفراد، ليس فقط من النافع لكل إنسان أن يخالط من يفرغون لهذه الدراسة، بل إن الأفضل له قطعا أن يوجه انتباهه إليها وأن يشغل
بها؛ كما أن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته واستمتاعه عن هذا الطريق بجمال اللون والضوء، أفضل بلا ريب من أن يسير مغمض العينين وليس له من مرشد إلا نفسه. ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما؛ والتلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تتكشف لنا بالفلسفة.
وأود أن أقول أخيرا: إن هذه الدراسة ألزم لإصلاح أخلاقنا وهداية سلوكنا في الحياة من استعمال عيوننا لهداية خطواتنا. والبهائم العجماوات التي لا هم لها إلا حفظ جسومها، لا تكل عن الدأب والسعي في طلب أقواتها. أما الناس الذين أهم جزء فيهم هو الذهن، فيجب عليهم أن يجعلوا طلب الحكمة همهم الأكبر؛ لأن الحكمة هي القوت الصحيح للعقول. وأستطيع أيضا أن أقنع نفسي أن هنالك كثيرين ما كان يفوتهم هذا الطلب لو أنهم أملوا شيئا من النجاح فيه، وعرفوا مبلغ مقدرتهم عليه. وليس من النفوس نفس مهما تكن من قلة النبل، تظل متعلقة بالحواس تعلقا شديدا فلا تتحول عنها حينا من الدهر، متشوقة إلى خير آخر أعظم وإن تكن في الغالب تجهل ماهية ذلك الخير. والذين آتاهم الله حظا عظيما، فأنعم عليهم بالعافية والمناصب والأموال ليسوا أقل من غيرهم رغبة في ذلك الخير، بل إني لأحسبهم أشد لهفة واشتياقا إلى خير آخر أكمل، وأسمى من كل ما يملكون من خيرات.
وهذا "الخير الأسمى" إذا نظر إليه بالنور الفطري دون نور الإيمان، لم يكن شيئا سوى معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى، أعني: الحكمة التي تدرسها الفلسفة1. ولما كانت هذه الأمور كلها حقا لا مراء فيها، لم يصعب إقناع الناس بها، متى أحسنا عرضها والتدليل عليها.
1 إن فضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف الرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح عقولنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية "الخير الأسمى". والخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير، وما يحدثه ذلك من رضى في النفس. ولست أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدره، ويكون في مقدور كل واحد؛ فإن خيرات البدن والحظ والمال ليست في مقدورنا على الإطلاق؛ والخير الأسمى، كما رأينا في إهداء "المبادئ" إلى الأميرة إليزابث، لا يفترق عن معرفة الحقيقة.
لكن من حيث إنه قد حِيل بيننا وبين أن نعتقد هذه الأمور، بسبب التجربة التي تدلنا على أن محترفي الفلسفة هم غالبا أقل حكمة وأقل اعتصاما بالعقل من غيرهم ممن لم يشتغلوا بتلك الدراسة قط، فيلزمني ههنا أن أشرح بإيجاز: مم تتألف كل المعرفة التي نملكها الآن؟ وإلى أي درجات الحكمة وصلنا؟ الأولى لا تشتمل إلا على تصورات بلغ من وضوحها بذاتها أن أصبح اكتسابها ميسورا دون تأمل، والثانية تشتمل على كل ما تدلنا عليه تجربة الحواس، والثالثة ما نتعلمه من أحاديثنا مع غيرنا من الناس، ويصح أن نضيف إلى ما سبق درجة رابعة، وهي مطالعة الكتب لا أقول جميعا، بل على الخصوص تلك التي كتبها أشخاص قادرون على تزويدنا بإرشادات حسنة؛ لأن مطالعة الكتب ضرب من التحدث مع مؤلفيها. ويبدو لي أن كل الحكمة التي يقع امتلاكها في مألوفنا مكتسبة بهذه الطرق الأربعة فقط؛ لأني لا أضع الوحي الإلهي من بينها؛ إذ إن هدايته ليست على درجات، وإنما يرفعنا دفعة واحدة إلى إيمان لا يتزعزع.
نعم، لقد وجد في كل العصور من فطاحل المفكرين من حاولوا في سعيهم إلى بلوغ الحكمة أن يجدوا طريقا خامسا أرفع وأوثق بمراحل من الطرق الأربعة الأخرى؛ ذلك هو البحث عن العلل الأولى والمبادئ الحقة التي يستطيع المرء أن يستنبط منها أسباب كل ما في مقدورنا أن نعرفه، وعلى هؤلاء الذين اشتغلوا بهذا البحث على الخصوص أطلق الناس اسم الفلاسفة1. وأول وأكبر من
1 لقد كان مطمع الفلسفة على الدوام أن تحقق الوحدة بين المعارف الإنسانية المختلفة؛ ولذلك عمدت إلى تفسير الأشياء بواسطة مبدئها الأول. ومثل هذا المقصد يقتضي أن تكون الفلسفة استنباطية، بمعنى أن تكون نسقا واحدا، كل اكتشاف فيه يكون بمثابة مبدأ لتفسير المشكلة التي تليه.
وصلت إلينا مؤلفاتهم هما أفلاطون وأرسطو، ولم يكن بينهما من فرق سوى أن أفلاطون قد سار على آثار أستاذه سقراط، فاعترف في خلوص نية بأنه لم يهتد بعد إلى شيء يقيني، وأنه قد اكتفى بتحرير ما بدا له شيئا محتمل الصدق، وتخيل لهذا الغرض بعض مبادئ حاول بواسطتها أن يفسر الأشياء الأخرى. أما أرسطو فكان أقل صراحة، ومع أنه تتلمذ على أفلاطون عشرين سنة ولم يكن لديه مبادئ غير مبادئ أستاذه، فقد غير طريقة عرضها تغييرا تاما، وقدمها على أنها صحيحة ومؤكدة، ولو أن الأرجح أنها لم تكن قط في تقديره كذلك1.
ولقد أصاب هذان الرجلان من الألمعية والحكمة التي تكتسب بالوسائل الأربع السابقة ما أضفى عليهما سلطانا كبيرا جعل من جاءوا بعدهما يقفون عند متابعة آرائهما أكثر مما يسعون إلى شيء أفضل. والنزاع الكبير الذي نشب بين تلاميذهما إنما كان مداره أن يتبينوا: هل ينبغي أن توضع الأشياء كلها موضع الشك أم أن هناك أشياء يقينية؟ وهو خلاف أفضى بالفريقين إلى ضلال بعيد؛ لأن فريقا ممن ذهبوا إلى الشك قد وسعوا نطاقه وجعلوه يمتد إلى أفعل الحياة،
1 ذهب "ليار" في طبعته لكتاب "المبادئ""الطبعة الرابعة، مارس سنة 1926" إلى أن حكم ديكارت هنا على أفلاطون وأرسطو حكم سطحي وغير دقيق وغير عادل. وقد تابعه "دوراندان" في طبعته لكتاب "المبادئ""باريس 1950" فقال: إن ديكارت لم يكن محقا في اتهام أرسطو بقلة الصراحة. أما نحن، فنرى أنه قد فات كلا الباحثين أن ديكارت لم يكن بصدد حكم عام على فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وإنما الذي كان يعنيه هو مشكلة البحث عن الحقيقة أو مشكلة اليقين، وإذن، فقد جاء حكمه على آرائهما من هذا الوجه فحسب. ويبدو لنا خلافا لليار ودوراندان أن هذا الحكم في غاية النفاذ والسداد؛ فالذي يستخلص من محاورات أفلاطون كلها هو الاعتراف الصريح بأنه ليس لدينا يقين، وإنما الذي نناله من المعرفة هو شيء شبيه بالحق، وحتى محاورة "فيدون" إنما نخرج منها، لا بأدلة يقينية، بل بأسباب تدعونا إلى الاعتقاد بخلود الروح بعد مفارقتها للبدن. أما أرسطو، فبعد مجهود طويل شاق لتفنيد أقوال أفلاطون رجع إلى ما ذهب إليه أستاذه، ولكن في صورة جديدة. وهذا هو الذي جعله يقف في فلسفته مواقف مختلفة ومتعارضة؛ فهو في المنطق صوري، وفي الميتافيزيقا واقعي، وفي الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية "انظر كتابنا:"ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة 1958".
بحيث إنهم أهملوا استعمال الحيطة والتبصر في سلوكهم، أما من ناصروا مذهب اليقين فقد افترضوا أنه يعتمد على الحواس، فاطمأنوا إليها كل الاطمئنان، حتى إنه يقال: إن "أبيقور" بلغت به الجرأة في أقواله أن صرح، خلافا لجميع استدلالات علماء الفلك، بأن الشمس ليست أكبر حجما مما تبدو لنا.
وهناك عيب يمكن أن يلاحظ في جميع المنازعات، وهو أنه لما كانت الحقيقة وسطا بين الرأيين المتقابلين، فإن كل طرف يبعد عنها بمقدار ما يكون ميله إلى معارضة الطرف الآخر.
لكن خطأ من مالوا كل الميل إلى جانب الشك لم يجد من تابعه زمنا طويلا. أما خطأ الفريق الآخر فقد تيسر تصحيحه شيئا ما، حين تبين أن الحواس تخدعنا في كثير من الأشياء.
غير أني لا أحسب أن ذلك الخطأ قد زال زوالا تاما؛ لأن أحدا لم يبين أن اليقين ليس في الحواس بل في الذهن وحده حين يكون لديه مدركات بديهية، وأنه حين لا يكون لدينا إلا معارف اكتسبناها عن طريق درجات الحكمة الأربع الأولى، حينذاك لا ينبغي أن نشك في الأشياء التي تبدو لنا حقيقة إذا كانت متصلة بسلوكنا في الحياة، ولكن لا ينبغي كذلك أن نعدها يقينية يقينا يمتنع معه أن نغير رأينا فيها، إذا اضطرتنا إلى ذلك بداهة من بداهات العقل1.
1 أراد ديكارت هنا أن يقسم الفلسفة فريقين: فريق من رأوا الصعوبة في إقامة علم أكيد، لكنهم لم يحاولوا أن يتغلبوا عليها، فوقفوا عند الشك وقفة نهائية، في حين أن الشك ما هو إلا مرحلة يتلوها مراحل. وفريق من لم يروا الصعوبة، ووثقوا بوسيلة للمعرفة سهلة لكنها خداعة، وهي الحواس، والعيب المشترك عند الفريقين، أنهم لم يقدروا على مجاوزة مرتبة المعرفة الحسية، ولم يروا أن هنالك ضربا من المعرفة صعبا لكنه أكيد وهو الفهم.
وقد نشأ عن الجهل بهذه الحقيقة، أو عن عدم استعمالها ممن عرفوها أن معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء، حتى إنهم كثيرا ما أفسدوا معنى كتاباته، ناسبين إليه آراء مختلفة ما كان ليقر نسبتها إليه لو أنه عاد إلى هذه الدنيا. أما من لم يتابعوه -ومنهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة1- فلم يبرءوا من التشبع بآرائه في شبابهم؛ لأنه لا يعلم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلا حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة. ومع أني أقدرهم جميعا ولا أريد أن أعرض نفسي للخزي بتوجيه اللوم إليهم، فإني أستطيع أن أقدم على قولي دليلا لا أظن أن منهم من ينكره، وهو أنهم قالوا بشيء لم يكونوا على معرفة كاملة به وافترضوه مبدأ. فأنا مثلا لا أعرف منهم من يفترض الثقل في الأجسام الأرضية، ولكن مع أن التجربة تدلنا بوضوح على أن الأجسام التي تسمى ثقيلة تهبط نحو مركز الأرض، فإننا لا نعلم مع ذلك ما هي طبيعة ما يسمى ثقلا، أي: طبيعة العلة أو المبدأ الذي يجعلها تهبط على هذا النحو، وعلينا أن نستقي معرفتنا بذلك من مصدر آخر. ويمكن أن يقال مثل هذا عن الخلاء والذرات، وعن الحار والبارد، وعن الجاف والرطب، وعن الملح والكبريت والزئبق وما شابه ذلك مما افترضه بعضهم مبادئ2.
لكن جميع النتائج التي تستنبط من مبدأ ليس ببديهي، لا يمكن أن تكون بديهية مهما يكن الاستنباط من حيث صورته صحيحا. ويترتب على هذا أن
1 لعل ديكارت قد انصرف باله، وهو يكتب هذه العبارة إلى الفلاسفة الأفلاطونيين من أهل "عصر النهضة" أو إلى بعض معاصريه مثل "جاليليو".
2 أنكر ديكارت على "المدرسيين" التجاءهم إلى "الكيفيات الحسية" -كالحار والبارد
…
إلخ- واتخاذها مبادئ لتفسير الأشياء. فمن حيث إن تلك الكيفيات ليست معاني بسيطة، بل مركبة لاعتمادها في وقت واحد على طبيعة الموضوع وطبيعة الذات المدركة، فهي ليست بالمعاني الواضحة بذاتها. إن التجديد الأكبر عند ديكارت -كما يقول ليار- أنه أراد أن لا يستخدم إلا مبادئ بديهية، وجعل بداهة العقل وحدها معيارا للحق. "ليار: طبعة "المبادئ" ص14".
جميع الاستدلالات التي أقاموها على مثل تلك المبادئ لم تستطع أن تؤديهم إلى المعرفة اليقينية لشيء واحد، ولم تستطع بالتالي أن تجعلهم يقدمون خطوة واحدة في البحث عن الحكمة. وإذا كانوا قد وجدوا أية حقيقة، فمرجع ذلك إلى بعض الطرق الأربعة المشار إليها فيما تقدم. وعلى الرغم من هذا لا أريد أن أنتقص شيئا مما قد يدعيه كل واحد منهم لنفسه من فضل، لكني مضطر إلى أن أقول تهدئة لخواطر من لم ينصرفوا إلى الدرس: إن مثلنا كمثل المسافر، إذا أدار ظهره إلى المكان الذي يبتغي الذهاب إليه نأى عنه بقدر مضيه في الاتجاه الجديد زمانا أطول وبسرعة أشد، بحيث إنه لو عاد بعد ذلك إلى الطريق السوي لم يستطع أن يدرك المكان المقصود في نفس الوقت الذي كان يدركه فيه لو أنه لم يشرع في السير إطلاقا. وكذلك شأن الفلسفة، إذا اصطنعنا فيها مبادئ فاسدة كان ابتعادنا عن معرفة الحقيقة ومعرفة الحكمة بمقدار ما نبذل من عناية في تعهدهما، وما ننفق من جهد في استخلاص مختلف النتائج منهما، ونحن نظن أننا نحسن التفلسف، مع أننا نكون قد أمعنا في الابتعاد عن الحق. ويتعين أن نستخلص من هذا أن أولئك الذين تعلموا أقل قدر من كل ما خصّ حتى الآن باسم الفلسفة، هم أقدر الناس على إدراك الفلسفة الحقة.
وأود، بعد إيضاح هذه الأمور، أن أورد هنا الأدلة اللازمة لإثبات أن المبادئ التي تعيننا على الوصول إلى مراتب الحكمة هذه -وهو قوام الخير الأسمى في الحياة الإنسانية- هي المبادئ التي وضعتها في هذا الكتاب.
وحسبنا لإثبات ذلك دليلان اثنان: الأول: أن هذه المبادئ واضحة جدا. والثاني: أن باستطاعتنا أن نستنبط منها جميع الحقائق الأخرى؛ لأن هذين الشرطين وحدهما هما المطلوبان في المبادئ. ومن الميسور لي أن أثبت أنها
واضحة جدا: أولا، بالاستناد إلى النحو الذي وجدتها عليه، أعني: باطّراح جميع القضايا التي عرض لي فيها وجه من وجوه الشك، إذ من المستيقن أن القضايا التي أمعنا النظر فيها، ووضعناها موضع الاختبار فلم نستطع اطراحها بعد ذلك، هي أجلى وأوضح ما يستطيع الذهن الإنساني أن يعرف.
ونظرا إلى أني رأيت أن من يريد أن يشك في كل شذى لا يستطيع مع ذلك أن يشك في وجوده حين يشك، وأن ما سبيله في الاستدلال هذا النحو من عدم استطاعته أن يشك في ذاته ولو كان يشك في كل ما سواه، ليس هو ما نقول عنه: إنه بدننا، بل ما نسميه روحنا أو فكرنا. بهذا الاعتبار أخذت كينونة هذا الفكر أو وجوده على أنه المبدأ الأول، ومن هذا المبدأ استنبطت بكل وضوح المبادئ التالية، أعني: وجود إله هو صانع ما هو موجود في هذا العالم. ولما كان الله تعالى منبع كل حقيقة، فإنه لم يخلق الذهن الإنساني على فطرة تجعله يخطئ في الحكم الذي يطلقه على الأشياء التي يتصورها تصورا واضحا جدا ومتميزا جدا، تلك هي المبادئ التي استعملتها فيما يتصل بالأشياء اللامادية أو الميتافيزيقية. ومن هذه المبادئ استنبطت استنباطا واضحا كل الوضوح، مبادئ الأشياء الجسمانية أو الفيزيقية، أعني: وجود أجسام ممتدة طولا وعرضا وعمقا، وذات أشكال مختلفة ومتحركة على أنحاء مختلفة. هذا بإيجاز جميع المبادئ التي استنبطت منها حقيقة الأشياء الأخرى1. والدليل الثاني على وضوح هذه المبادئ هو أن الناس عرفوها في كل زمان وتلقوها جميعا على أنها مبادئ صحيحة ولا سبيل إلى الشك فيها، ولا يستثنى منها إلا وجود الله، إذ وضعه بعضهم موضع الشك، بسبب إسرافهم في الاعتداد بمدركات الحواس، وأنهم لا يستطيعون أن يروا الله بأبصارهم، ولا أن يلمسوه بأيديهم.
1 تلك خلاصة للميتافيزيقا الديكارتية كلها، وفيها يشير ديكارت في بيان قوي جلي إلى المراحل المختلفة التي مر بها فكره.
ولكن على الرغم من أن جميع الحقائق التي أضعها بين مبادئ قد عرفها الناس جميعا في جميع الأزمان، غير أني لا أعلم أن أحدا حتى الآن قد تبين أنها مبادئ الفلسفة، أي: إن من شأنها أن تستخلص منها المعرفة بجميع الأشياء التي في العالم؛ ولذلك يبقى على ما منا أن أثبت أن هذا هو شأنها. ويبدو لي أن أفضل سبيل أستطيع به أن أثبت ذلك هو أن أبينه بالتجربة، أي: أن أدعو القراء إلى قراءة هذا الكتاب1؛ لأني وإن لم أكن قد تناولت فيه جميع الأشياء لاستحالة هذا الأمر، فإني أحسب أني قد خسرت جميع الأشياء التي عرضت لها في مواضعها، بحيث إن من يقرءونه بشيء من الانتباه سيكون لديهم ما يدعوهم إلى الاعتقاد بأنه لا حاجة إلى التماس مبادئ أخرى غير ما قررت للوصول إلى أرفع معرفة أتيح للذهن الإنساني أن يبلغها. فإذا قرءوا مؤلفاتي أولا وحرصوا على ملاحظة تفسيرها للمسائل المختلفة، وإذا تصفحوا أيضا مؤلفات غيري، لرأوا قلة ما أدلوا فيها من الأدلة المقبولة لتفسير تلك المسائل نفسها بمبادئ مخالفة لمبادئي. وأود أن أقول لهم، كيما يتيسر لهم القيام بما أدعوهم إليه: إن أولئك الذين ألفوا آرائي يلقون في فهم مؤلفات غيري وفي معرفة قيمتها الحقيقية عناء أقل بكثير مما يلقاه من لم يألفوا تلك الآراء، وهذا عكس ما قلت منذ قليل عمن بدءوا بدراسة الفلسفة القديمة، من أنهم كلما زاد اشتغالهم بها قل في الغالب استعدادهم لتعلم الفلسفة الحقة.
وأود أن أضيف كلمة عن رأيي في الطريقة التي أنصح بها في قراءة هذا الكتاب، وهي أني أود للقارئ أن يتصفحه كله أولا كما يتصفح رواية دون أن
1 تتبين المبادئ الأولى بعلامتين: أن تكون واضحة جدا، وأن يكون من الممكن أن نستخلص منها جميع الأشياء الأخرى. ولقد أراد ديكارت حين كتب "مبادئ الفلسفة" أن يبين بالتجربة أن مبادئ فلسفته قد استوفت الشرط الثاني، إذ إن المبادئ في الواقع تفسير عام للأشياء بواسطة المبادئ الأولى.
يحل انتباهه من أمر عسرا، ودون أن يقف عند الصعوبات التي قد تعترض سبيله فيه حتى يلم إلماما عاما الموضوعات التي تناولتها. فإذا وجد بعد ذلك أنها جديرة بأن تبحث، ورغب في استطلاع أسبابها استطاع أن يقرأ الكتاب مرة أخرى لكي يلتفت إلى ارتباط أفكاري واتصالها. ولكن لا ينبغي أن يطرح الكتاب إذا لم يتبين ذلك الارتباط في كل المواضع أو لم يفهم أفكاري كلها، بل ينبغي أن يضع بالقلم علامة بإزاء المواضع التي يجد فيها صعوبة، وأن يمضي في القراءة دون توقف حتى النهاية. واعتقادي أنه إذا قرأ الكتاب مرة ثالثة فسيجد فيه حلا لأغلب الصعوبات التي وضع العلامات بإزائها من قبل، فإذا بقيت بعد ذلك بعض الصعوبات وجد لها الحل أخيرًا متى أعاد القراءة.
لقد استرعى نظري عند دراسة طبائع المفكرين على اختلافها أنه لا يكاد يوجد منهم من قد بلغ من الغلظة والتخلف ما يجعله عاجزا عن أن يثوب إلى الرأي السديد، بل أن يحصل أرفع العلوم متى وجه التوجيه السليم، وهذا يمكن إثباته كذلك بدليل العقل؛ لأنه ما دامت المبادئ واضحة، وما دام لا ينبغي أن يستخلص منها شيء إلا باستدلالات بديهية جدا، فكل امرئ لديه دائما من قوة الذهن ما يعينه على فهم الأشياء التي يعتمد عليها. لكن فضلا عن العقبات الناشئة من الأوهام الشائعة التي لا يخلو منها أحد خلوا تاما، وإن تكن أشد إضرارا بمن أحالوا دراسة العلوم الفاسدة، فيكاد يحدث دائما أن أصحاب الأذهان المعتدلة يهملون الدراسة؛ لأنهم لا يظنون أنهم قادرون عليها، وأن غيرهم ممن هم أشد منهم حماسة يتعجلون فيشتطون، وكثيرا ما يؤدي تعجلهم إلى أن يتلقوا مبادئ ليست بديهية يستخلصون منها نتائج غير يقينية1؛ ولذلك أود أن أؤكد لمن يبالغون في عدم الاطمئنان إلى قوة أذهانهم بأنه لا شيء في
1 يرى ديكارت أن التعجل والتهور سببان رئيسيان من أسباب الخطأ.
مؤلفاتي إلا ويستطيعون أن يفهموه إذا بذلوا جهدهم في بحثه، ومع ذلك فأود كذلك أن أحذر الآخرين بأن أصحاب الأذهان الممتازة أنفسهم محتاجون إلى كثير من الوقت، والانتباه لكي يلحظوا جميع الأشياء التي قصدت تضمينها في كتابي.
ثم لكي أعين القارئ على جودة التصور لقصدي من نشر "المبادئ" أود هنا أن أشرح الترتيب الذي يبدو لي أن من الواجب اتباعه للاستزادة من المعرفة. فأقول أولا: إن الإنسان الذي لا يملك بعد إلا المعرفة العامية الناقصة التي يمكن تحصيلها بالوسائل الأربع التي شرحتها فيما تقدم، يجب قبل كل شيء أن يسعى إلى أن يؤلف لنفسه مذهبا أخلاقيا يكفي لتنظيم أعماله في الحياة؛ لأن هذا الامر لا يحتمل إرجاء، ولأننا ينبغي على الخصوص أن نسعى إلى الحياة الصحيحة1 وبعد ذلك ينبغي أيضا أن يدرس المنطق ولا أقصد منطق المدرسيين؛ لأنه على التدقيق ليس إلا جدلا يعلم الوسائل لإفهام غيرنا الأشياء التي نعلمها، أو للإدلاء دون حكم بأقوال كثيرة من الأشياء التي لا نعرفها، فهو بذلك يفسد الحكم السليم دون أن ينميه، بل أقصد المنطق الذي يعلم المرء توجيه عقله لاكتشاف الحقائق التي يجهلها. ولما كان كثير الاعتماد على الاستعمال، فيجمل أن يتدرب المرء زمانا طويلا على ممارسة قواعده المتصلة بالمسائل السهلة
1 بين ديكارت في كتاب "المقال في المنهج" أنه قبل أن يضع معارفه موضع الشك قد ألف لنفسه أخلاقا مؤقتة: "وأخيرا لما كان لا يكفي قبل البدء في تجديد المسكن الذي نقيم فيه أن نهدمه، وأن نحصل مواد العمارة والمعماريين أو أن نعمل بأنفسنا في العمارة، وأن نكون عدا ذلك قد وضعنا له الرسم بعناية، بل يجب كذلك أن يكون لنا مسكن آخر نستطيع أن نأوي إليه في راحة أثناء العمل في ذلك المسكن. وكذلك لكي لا أظل مترددا في أعمالي حينما يجبرني العقل على ذلك في أحكامي، ولكي لا أحرم نفسي منذ الآن من أسعد حياة أقدر عليها، فإنني وضعت لنفسي قواعد للأخلاق مؤقتة". "القسم الثالث، الترجمة العربية، القاهرة سنة 1930، ص73".
البسيطة كمسائل الرياضيات1. ثم إذا اكتسب عادة الاهتداء إلى الحقيقة في هذه المسائل، وجب أن يبدأ في جد بالإقبال على الفلسفة الحقة2، التي جزؤها الأول هو الميتافيزيقا التي تحتوي على مبادئ المعرفة، ومن بينها تفسير أهم صفات الله، ولامادية النفوس، وجميع المعاني الواضحة البسيطة المودعة فينا3.
والثاني هو الفيزيقا، ويبحث فيها على العموم، بعد أن يكون المرء قد وجد المبادئ الحقة للأشياء المادية، عن ماهية الكون كله، وعلى الخصوص عن طبيعة هذه الأرض وطبيعة جميع الأجسام التي توجد حولها، مثل: الهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى، وبعد ذلك يحتاج أيضا إلى أن يفحص على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان وخصوصا طبيعة الإنسان؛ لكي يستطيع المرء بعد ذلك أن يجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له4. فالفلسفة بأسرها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية، هي: الطب والميكانيكا والأخلاق، وأعني الأرفع والأكمل التي لما كانت تفترض معرفة تامة بالعلوم الأخرى، فقد بلغت المرتبة الأخيرة من مراتب الحكمة5.
1 قابل ديكارت في هذه الفقرة بين منهجه وبين منطق القدماء؛ فمنطق هؤلاء يشتمل على معانٍ معطاة لا ضابط له على مسوغات الاطمئنان إليها، وهو يحللها ويفصل بعضها عن بعض ويستخرج منها كل ما تحتوي عليه. إذن فهو لا يعدو أن يكون وسيلة للعرض والبسط، فإذا كانت مقدماته صحيحة كانت النتائج التي ينتهي إليها صحيحة، وإذا كانت مقدماته فاسدة كانت نتائجه فاسدة، أما المنهج فخلاف ذلك؛ إنه يعلم المرء توجيه عقله للكشف عن الحقائق التي يجهلها.
2 المنهج الديكارتي شامل، ينطبق أيضا على جميع أجزاء العلم، والمسالك التي يتخذها لتوجيه الذهن نحو الحقيقة هي بعينها دائما. ومع ذلك فمن حيث إنه جاء من الرياضيات، فتطبيقه على الرياضيات أيسر سبيل للتدرب عليه.
3 هذا هو النظام الذي اتبعه ديكارت في القسم الأول من كتاب "مبادئ الفلسفة".
4 المنهج الديكارتي يذهب من البسيط إلى المركب، ومن العام إلى الخاص.
5 يرى ديكارت أن الفلسفة واحدة: الميتافيزيقا تزودنا بالمبادئ الأولى للأشياء، والفيزيقا تطبقها على تفسير الظواهر في العالم الخارجي، ومن الفيزيقا اشتق علمان لهما صيغة علمية أو فنان =
ومن حيث إن المرء لا يجني الثمرات من جذور الأشجار، ولا من جذوعها بل من أطراف فروعها، فكذلك أكبر منفعة للفلسفة تعتمد على أجزائها التي لا يستطاع تعلمها إلا آخر الأمر1. ولكن مع أني أكاد أجهلها كلها، فإن دأبي على خدمة الجمهور جعلني أنشر، منذ سنوات عشر أو اثنتي عشرة سنة، بضع محاولات في أمور كان يبدو لي أني قد تعلمتها. والجزء الأول من هذه المحاولات مقال في المنهج لحسن توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، وفيه لخصت القواعد الرئيسية للمنطق ولمذهب في الأخلاق ناقص يستطيع المرء اتباعه مؤقتا ريثما يجد خيرا منه. والأجزاء الأخرى رسائل ثلاث: إحداها عن "البصريات"، والأخرى عن "الآثار العلوية"، والثالثة عن الهندسة2، وقد قصدت "بالبصريات" أن أبين أن في إمكان المرء أن يمضي في سبيل الفلسفة شوطا بعيدا لكي يصل عن طريقها إلى معرفة الفنون النافعة للحياة، نظرا إلى أن اختراع النظارات المقربة الذي شرحته فيها هو من أشق ما حاوله الإنسان من اختراعات. وأردت "بالآثار العلوية" أن يتبين للناس الفرق بين الفلسفة التي أتعهدها وتلك التي يعلمونها في المدارس؛ حيث جرت عادة القوم بأن يتناولوا هذه الموضوعات عينها. وأخيرا، حسبت أني بالهندسة أثبتّ أني اهتديت إلى
= هما: الميكانيكا والطب. وأخيرا من الفلسفة كلها اشتقت الأخلاق الحقيقية التي هي المرتبة الأخيرة للحكمة، والتي هي عبارة عن حياة المرء وفقا لنظام العالم، وإخضاع إرادته لنظام الأشياء. وإذا كانت فلسفة ديكارت تبدو نظرية، فقد كانت لديكارت على الدوام مشاغل علمية: كان يريد أن ينشئ طبا قائما على العقل، وكان دائم الاهتمام بالأخلاق. كتب إلى شانو "أن أوكد وسيلة لمعرفة السبيل إلى أن نحيا هي أن نعرف مقدما من نحن؟ وما العالم الذي نعيش فيه؟ ومن خالق هذا الكون الذي نسكنه؟ ".
1 المقصود هنا المنفعة العملية والخدمات التي يمكن الحصول عليها من الميكانيكا والطب والأخلاق، متى استنبطت من علم صحيح.
2 الكتاب الذي نشره ديكارت سنة 1637 كان يتضمن "المقال في المنهج لحسن توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، ثم البصريات والهندسة، وهي محاولات في ذلك المنهج".
أشياء كثيرة كانت مجهولة من قبل؛ وبذلك وطأت سبيلا للاعتقاد بأن من الممكن اكتشاف أشياء أخرى غيرها. وقصدي من ذلك أن أستحث بهذا جميع الناس على البحث عن الحقيقة1. ومنذ ذلك الحين، وقد تنبأت بما قد يجده كثيرون من صعوبة في تصور أسس الميتافيزيقا، حاولت أن أشرح أهم مباحثها في كتاب تأملات2 ليس في الأصل كبيرا، ولكن زاد حجمه واتضحت مادته كثيرا بما أضيف إليه من اعتراضات أرسلها إلي بصدده أشخاص كثيرون من المتجرين جدا في العالم، ومن ردود قيدتها على تلك الاعتراضات. وأخيرا لما بدا لي أن تلك الرسائل السابقة قد مهدت أذهان القراء لتلقي مبادئ الفلسفة رأيت أيضا أن أنشر هذه المبادئ.
وقد قسمت الكتاب أربعة أجزاء، يحتوي الأول منها على مبادئ المعرفة، وهو ما يمكن أن يسمى الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا. ولكي يفهم جيدا يجعل أولا أن يقرأ كتاب "التأملات" الذي كتبته في هذا الموضوع3 والأقسام الثلاثة الأخرى أعم ما في الفيزيقا، أعني: تفسير القوانين الأولى أو مبادئ الطبيعة، وعلى أي نحو خلقت السموات والنجوم والثوابت والكواكب والشهب والكون كله على العموم، وعلى الخصوص طبيعة هذه الأرض وهذا الهواء والماء والنار والمغناطيس، وهي الأجسام التي يمكن أن نراها عموما محيطة بها، والطبيعة جميع الصفات التي نلحظها في الأجسام، كالنور والحرارة والثقل وما شابه ذلك. وبهذا أحسب أني بدأت أفسر الفلسفة كلها بترتيب، دون أن أغفل شيئا مما يجب تقديمه على الأشياء الأخيرة التي كتبت عنها.
1 الهندسة كتاب ذو أهمية كبرى في تاريخ العلوم الرياضية، فيه عرض لأهم الكشوف التي توصل إليها ديكارت في الرياضة.
2 يشير إلى كتاب التأملات في الفلسفة الأولى، الذي ظهر باللاتينية سنة 1641، ونشرت ترجمته الفرنسية بقلم الدوق دولوين سنة 1947 "انظر: ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية سنة 1956".
3 القسم الأول من كتاب "المبادئ" الذي ننشره اليوم: هو خلاصة لمبادئ الميتافيزيقا الديكارتية.
ولكن لكي أنهض بهذا المشروع، وأمضي فيه حتى غايته ينبغي فيما يلي أن أفسر كذلك طبيعة كل واحد من الأجسام الأخرى الأخص والموجودة على الأرض، أعني: طبيعة المعادن والنبات والحيوان وخصوصا الإنسان، ثم يجب أن أبحث بحثا دقيقا في الطب والأخلاق والميكانيكا، هذا ما ينبغي أن أعمل لكي أعطي الناس بناء للفلسفة تاما. ولا يخامرني بعد شعور بأني بلغت من كبر السن، ولا من عدم الاطمئنان إلى قواي، ولا من البعد عن معرفة ما يتبقى، مبلغا يحول دون الإقدام على إتمام المشروع إذا توافرت لدي إمكانية القيام بجميع التجارب التي أحتاج إليها تأييدا لاستدلالاتي وتبريرا لها1، ولكن لما رأيت أن ذلك يقتضي نفقات لا قبل لفرد مثلي على تحللها ما لم يجد لدى الجمهور عونا له، ولما رأيت أنه لا ينبغي لي أن أنتظر هذا العون، فقد بدا لي أن الأولى أن أقنع بالدرس ابتغاء تثقيف نفسي، وأن خلفائي سيلتمسون لي العذر إذا ما تقاعدت عن العمل من أجلهم في المستقبل.
1 إن فيزيقا ديكارت -كما يقول ليار- مطبوعة بطابع الأولية، أي: التقدم بالرتبة والصدارة العقلية؛ فهي تمثل العالم الخارجي على غرار جهاز آلي، كل شيء فيه يتبع قانون الأشكال والحركات. وهذا التصور لا يأتي من التجربة، بل من الذهن الذي لا يرى في العالم الحي من وضوح وتمييز، وبالتالي من حقيقة وواقع، إلا في الامتداد والشكل والحركة. بيد أن التجربة بمعناها الدقيق تؤدي دورا هاما في هذه الفيزيقا الرياضية، فهي التي تضع المشكلة التي يطلب حلها، ومبادئ الفيزيقا، مهما تكن أولية، لا تستغني عن التجربة، فإننا لا نعرف بالعقل وجود العالم وخواص الظواهر بل بالتجربة، ونستطيع أن نتصور بالفكر عددا لامتناهيا من العوالم المختلفة الممكنة، لكن التجربة وحدها تكشف لنا عن العالم الواقعي الذي يتعين تفسيره. إنها تعين أيضا على إظهار مدى الانطباق بين التصورات والوقائع؛ ولذلك رأينا ديكات دائم الحرص على الجمع بين العقل والتجربة، ويقول لنا "بابيه" صاحب سيرة الفيلسوف:"إن الشتاء كله الذي قضاه ديكارت في أمستردام سنة 1629 قد انصرف فيه إلى دراسة علم التشريح، وقد قال للأب "مرسن" بأن شغفه بهذه المعرفة قد دفعه إلى أن يذهب كل يوم إلى قصاب ليشهده وهو يقوم بذبح البهائم، وكان يحمل معه إلى بيته بعض أجزاء من الحيوان ليقوم بتشريحها بنفسه وعلى راحته". "انظر ليار: "ديكارت" فصل عن دور التجربة في الفيزيقا الديكارتية".
بيد أنه لكي يستطيع الجمهور أن يرى مبلغ ما قدمت له من قبل من خدمات، سأقول ههنا: ما هي الثمرات التي أظن أن في الإمكان استخلاصها من مبادئ؟ الأولى هي الرضا الذي يناله المرء حين يجد فيها حقائق كثيرة كانت مجهولة من قبل؛ فلئن تكن الحقيقة في أكثر الأحيان أقل إثارة لخيالنا من الأكاذيب والأوهام، بالنظر إلى أنها تبدو أقبل بهاء وأكثر بساطة، فإن الرضا الذي تعطيه أبقى وأمتن. والثمرة الثانية هي أن المرء بدراسته هذه المبادئ يتدرج على إجازة الحكم على جميع الأشياء التي تعرض له، فيكتسب بذلك عادات الحكماء، ومن هذا الوجه ستكون لمبادئي نتيجة مختلفة كل الاختلاف عن نتيجة الفلسفة الشائعة؛ لأن من الميسور أن نلاحظ فيمن يسميهم الناس متحذلقين بأنها تجعلهم أقل قدرة على التعقل بما لو كانوا يجهلونها. والثمرة الثالثة أن الحقائق التي تتضمنها لما كانت واضحة جدا، ويقينية جدا فإنها تبعد كل مثار للنزاع، فتهيئ النفوس للوداعة والوئام، وبخلاف ذلك مجادلات المدرسيين، فإنها إذ تجعل من حفظوها -دون شعور منهم- أشد لجاجة وعنادا، ربما كانت العلة الأولى فيما يشتجر الآن بين الناس من شقاق خصام. والثمرة الأخيرة الكبرى لهذه المبادئ أن في الإمكان لمن يرعاها أن يتكشف حقائق كثيرة لم أفسرها. فإذا انتقل المرء شيئا فشيئا من بعض هذه الحقائق إلى بعضها الآخر، استطاع أن يحصل مع الأيام معرفة كاملة بالفلسفة كلها، وأن يرقى إلى أعلى درجة من درجات الحكمة.
والأمر ههنا كما نرى في جميع الفنون: فإنها وإن تكن في البداية شاقة وناقصة، إلا أنها من حيث اشتمالها على شيء من الحق تؤيد التجربة نتيجته، فهي تكمل شيئا فشيئا بالاستعمال، كذلك حين يملك المرء مبادئ حقيقية في الفلسفة واتبعها لم يمكن أن يخلو من أن يجد في بعض الأحيان حقائق أخرى.
وما من دليل على فساد مبادئ أرسطو أقوى من أن نقول بأن الناس قد اتبعوها منذ قرون عديدة، دون أن يحرزوا أي تقدم عن طريقها1.
وأنا أعلم جيدا أن من الناس من يتعجلون تعجيلا شديدا في أحكامهم، ويقصرون عن اتخاذ أسباب الحيطة والتبصر في أعمالهم، فلا يستطيعون -وإن ملكوا أسسا متينة- أن يبنوا بناء قويما. ولما كان هؤلاء في العادة أسرع الناس إلى تأليف الكتب، فإنهم يستطيعون في وقت قصير أن يفسدوا كل ما صنعت، وأن يدخلوا الاضطراب والشك في طريقتي في التفلسف، مع أنني حرصت على أن أبعدها عنهما، إذا تلقى الناس مؤلفاتهم فحسبوها مؤلفاتي أو أنها مليئة بآرائي. ولقد رأيت منذ عهد قريب هذه التجربة في واحد ممن كان أكبر الظن فيه أنه حريص على أن يكون من أنصاري2، بل إنه رجل قلت عنه في بعض ما كتبت: إنني مطمئن إلى فهمه اطمئنانا يجعلني أعتقد أنه لا يمكن أن يدلي برأي إلا ويحلو لي أن أتبناه، فقد نشر في العام الماضي كتابا عنوانه "أسس الفيزيقا" يبدو أنه لم يكتب فيه شيئا عن الفيزيقا والطب إلا وقد اقتبسه من مؤلفاتي! إما من المؤلفات التي نشرتها أو من مؤلفات آخر ناقص عن طبيعة الحيوان وقع بين يديه. بيد أنه حرف مواضع القول وغير ترتيب التفكير، وأنكر بعض حقائق الميتافيزيقا التي يلزم أن تستند إليها الفيزيقا كلها3، ولذلك أراني مضطرا إلى أن أبرأ منه براءة تامة، وأن أرجو القراء ههنا أن لا ينسبوا إلي
1 يلاحظ أن المعيار الذي اتخذه ديكارت هنا هو نفس المعيار الذي سيتخذه "البراجماتيون" في عصرنا، وهو أن مقياس الحقيقة في فكرة من الأفكار هو مبلغ ما فيها من خصوبة، وما يترتب عليها من آثار.
2 هو هنري لورا Henry Leroy.
3 مهما تختلف الآراء في الصلة بين الميتافيزيقا والفيزيقا عند ديكارت، فمن الواضح أن نيته الأخيرة وهي تلك التي تنجلي صراحة في كتاب "المبادئ" هي أن يربط الفيزيقا كلها بالميتافيزيقا.
قط رأيا ما لم يجدوه مصرحا به في كتبي، وأن لا يقبلوا شيئا على أنه حق، لا في مؤلفاتي ولا في غيرها، ما لم يروه -في وضوح- مستنتجا من المبادئ الحقة.
وأنا أعلم أيضا أنه قد تمضي قرون عديدة قبل أن يتاح للناس أن يستخلصوا من هذه المبادئ جميع الحقائق التي يستطاع استخلاصها منها1، إما لأن أغلب الحقائق التي لم يهتد إليها بعد تعتمد على بعض التجارب الخاصة التي لا تتحقق قط بطريق المصادفة، بل يلزم أن ينقطع لها رجال شديدو الذكاء يبذلون الجهد والمال في سبيل البحث عنها، وإما لأن من العسير أن يجتمع لأشخاص بعينهم أن يبرعوا في حسن استخدامها، وأن تكون لهم القدرة على إجرائها، وكذلك لأن أغلب أصحاب الأذهان الفائقة قد بلغ من سوء رأيهم في الفلسفة السائدة حتى اليوم من عيوب، أنهم لن يستطيعوا قط أن يقعدوا عزمهم على الاشتغال بالبحث عن فلسفة أفضل منها.
ولكن أقول في الختام: إنه إذا كان الاختلاف الذي سيرونه بين هذه المبادئ، وبين مبادئ أي مذهب آخر، والمركب الكبير من الحقائق التي يمكن أن تستخلص منها يجعلهم يعرفون أهمية الاستمرار في بحث هذه الحقائق، ومدى ما يستطيع أن يوصلنا إليه من درجات الحكمة وكمال الحياة وغبطتها، فإني مقتنع بأنه لن يوجد واحد لا يحاول أن يشغل نفسه بهذا البحث المفيد، أو على الأقل لا يؤيد ولا يعاون بكل قواه أولئك الذين يهبون أنفسهم للمضي في هذا السبيل موفقين.
إن أمنيتي أن يأتي يوم يشهد فيه خلفاؤنا هذه العقبى السعيدة
…
إلخ2.
1 إن ديكارت مقتنع بما لمبادئه من يقين مطلق، وبما لمنهجه من صدق مبرأ من الخطأ.
2 يلاحظ قارئ ديكارت شيئا من الاختلاف في نغمة الكلام، بين ما يقوله الفيلسوف في هذه الرسالة إلى مترجم "المبادئ""1644" وبين ما قاله في كتابه "مقال في المنهج""1637" في كتاب "المقال" قدم ديكارت نفسه إلى الجمهور في تواضع واستحياء، وكأنما كان يعتذر عن سلوكه طريق الاستقلال في البحث عن الحقيقة بنفسه، محاذرا أن يظن في حديثه ما يشبه إسداء النصح إلى الناس. أما في هذا الكتاب فتراه يتحدث بنغمة شيخ مدرسة وصاحب مذهب، لا يشك لحظة في صحة مبادئه ولا في سلامة منهجه، وينصح لخلفائه من الباحثين أن يسيروا في الطريق القويم الذي رسمه لهم؛ ليظفروا وتظفر البشرية معهم بالنصر المبين.