الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللازم الثاني: معرفته بما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله
. (1)
قال صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)) . (2) وفي الحديث أنَّ من أقسام الجهاد: الجهاد باللسان؛ ولا يعني ذلك مجرد الكلام وعموم المنافحة فإنَّ هذا يُحسِنُهُ كلُّ أحد! ولهذا كان شعر حسان رضي الله عنه ليس كشعر غيره فقد كان يقع من الكفار موقع النبل.
قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يُرضِ! فأرسلَ إلى كعب بن مالك ثم أرسلَ إلى حسَّان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسَّان: قد آنَ لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلعَ لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم
…
" ثم قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسَّان فشفى واشتفى)) رواه مسلم. (3)
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث -: ((وأما أمره صلى الله عليه وسلم بهجائهم وطلبه ذلك من أصحابه واحدا بعد واحد ولم يرض قول الأول والثاني حتى أمرَ حسَّان فالمقصود منه: النكاية في الكفار
…
)) . (4)
(1) ليس المراد من هذا اللازم تعلم الممانعات والمعارضات التي تحدثوا عنها في علم الجدل، «فليس هذا واجبا بلا ريب» . انظر: درء التعارض (7 / 439) .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
: صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت (16 / 282-283) رقم 2490.
(4)
شرح مسلم، للنووي (16 / 281)، وقريب منه ما في: شرح الأبي على مسلم (6 / 321) .
وكما أن الجهاد باليد لا بد من إعداد العدة فيه وإلا كان ملوما على تفريطه فكذا الجهادُ في ميدان اللسان والكلمة بل أمرُهُ أخطر وأشدُّ من الجهاد باليد فإنَّ غاية المجاهد في سبيل الله بيده إذا خسر المعركة أنْ يُقتلَ في سبيل الله ولا يلام عند عامة المسلمين على تفريطه في اتخاذ العُدد كما يلام من يتخلف عن إعداد العدة لمواجهة الكفر في ميدان النظر والمجادلة وذلك أن الإسلام منصور دوما وأبدا في مقام الحجة والظهور بخلاف الظهور بالسيف فإنه يكون مرة له ومرة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة)) (1) أهـ.
(1) درء تعارض العقل والنقل (7 / 173) .
ومما يلتحق بهذا اللازم خطاب كل قوم باصطلاحهم الذي تعارفوا عليه إذا كانت هناك حاجة وكانت المعاني صحيحة. قال ابن تيمية:: ((
…
وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه)) . (1) وقال رحمه الله: ((
…
ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات. فإذا كان عدو المسلمين - في تحصنهم وتسلحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم: كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع وهو الأصلح في الدنيا والآخرة. وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك لا لفضل قوته وشجاعته ولكن لمجانسته لهم كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب - وهم خيار العجم - أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي وكما كون العربي المتشبه بالعجم - وهم أدنى العرب - أعلم بمخاطبة العرب من العجمي
…
)) . (2)
(1) الدرء (1 / 43) .
(2)
نقض المنطق (ص 90) ، ومجموع الفتاوى (4 / 107) .
ومما يعين على تحقيق هذا اللازم اهتداء المجادل بطريقة القرآن والسنة في مجادلة ومناظرة أهل الكتاب إذْ بذلك تتم النصرة وتقوم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يُعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين. وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن فإنَّ الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك)) . أهـ. (1)
ويفيد في هذا الشأن النظر في القواعد الجدلية المشروعة المستنبطة من الكتاب والسنة ومما دلت عليه العقول والفطر السليمة. (2)
ومن فوائد ما قالوه: أن المناظر لا يحتاج - أحيانا - أن يظهر الحق للمخالف المعاند عند انقطاعه وإنما عليه الاشتغال برد دليله وقلبه عليه ودمغ باطله وبيان تناقضه فيترك في عماية حتى يفيق ويتبين له فساد ما كان عليه.
(1) مجموع الفتاوى (19 / 188) .
(2)
عامة الكتب التي كتبت في الجدل هي مبينة لهذه القواعد، وإن كان في بعضها قصور أو زيادة على ما جاء به الشرع. وأوصل الدكتور عثمان علي حسن جملتها إلى: 29 قاعدة. انظر: «منهج الجدل والمناظرة» (2 / 683- 739) . والإلمام بأحوال الجدل والمناظرة كـ: الإفحام والنقض والانتقال والسفسطة والانقطاع، إلخ.. مما يفيد ويعين في نصرة الحق من أقرب الطرق، وإنْ كان أصل ذلك مستقرا في الفطرة البشرية، ولهذا لما تكلم شيخ الإسلام عن لفظ «الاستدلال» قال رحمه الله:«..، وإنْ أُريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل الشيء، فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه ما منهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن نوع الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك. وقد قال تعالى:» وكان الإنسان أكثر شيء جدلا «. والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل، فكيف لا يجادل بالحق؟ وللناس من النظر والمناظرة في صناعاتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم، فكيف في أمور الدين؟ والله سبحانه يقول:» الذي خلق فسوى وقدر فهدى «وقال:» قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى «» . انظر: درء التعارض (7 / 439) .
وهذه الطريقة نافعة في كثير من المسائل المطروحة في الحوار والجدال مع أهل الكتاب اليوم كقضية تعدد الزوجات في الإسلام وحقوق الإنسان مثلا فلوسئل عنها المرء فليس من الضرورة تبيين حكم الإسلام فيها لكل سائل لأن السؤال - في الغالب - سؤال تعنت واستنقاص للإسلام حتى أصبحت أمثال هذه المسائل من مسائل الشعار التي يعير بها المسلمون فهاهنا يبين لهم ما في واقعهم من تناقض في قضية المرأة واستعبادهم للشعوب ومصادرة الحريات ونحو ذلك من الأمور التي يسمعها الأصم ويراها الأعمى!
والأصل عدم العمل بهذه الطريقة - عند عدم الحاجة إليها - لأنها تخالف أصل بيان الحق والصدع به (1) والله تعالى أعلم.
وأحيانا قد يضطر المجادل المسلم إلى الاحتجاج على الخصم الكتابي بمقدمات يسلمها ولوكانت في نفسها باطلة وذلك من أجل بيان تناقضهم لا لتقرير الحق (2) ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إنْ لم تكن علما فلو قُدرَ أنه قال باطلا لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل لكنَّ هذا قد يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة إلى القول الحق ودعوة العباد إليه
…
)) (3) أهـ.
(1) انظر: منهج الجدل والمناظرة (2 / 805) .
(2)
الحوار مع أهل الكتاب، للقاسم (182) ، ومناهج الجدل في القرآن الكريم (432) . وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في «الرد على المنطقيين» من أنَّ بعض المرضى لا ينتفع بالأغذية الفطرية بل يحتاجون إلى علاج وأدوية تناسب مزاجهم. (ص 330، وقبلها) .
(3)
الرد على المنطقيين (ص 468) .