الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أسرار ظواهر الرسم العثماني:
أ- ظاهرة الزيادة:
من أمثلة هذه الظاهرة:
1-
زيادة الألف في "مائة" للفرق بينها وبين "منه" باعتبار أن المصاحف كانت خالية من النقط والشكل والهمز، وألحق بها "مائتين" حيث وقعتا.
2-
زيدت الواو في "أولى" للفرق بينها وبين "إلى" الجارة، وزيدت في "أولئك" للفرق بينها وبين "إليك" واطردت زيادتها في "أولو" وأولات، وأوئك" حملا على أخواتا1.
3-
زيدت الياء في لفظ بأييد" من قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون"2للفرق بين "الأيد" بمعنى القوة، وبين "الأيدي" جمع يد. ولا شك أن القوة التي بنى الله بها السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي3.
قال ابن عباس وغيره: "بأيد" أي: بقوة وقدرة4.
وقد اختلف العلماء هل الزائدة هي الياء الأولى أو الثانية؟
والذي عليه العمل في المصاحف الآن: أن الثانية هي الزائدة، ولذلك وضع الصفر المستدير عليها، كما هي قواعد الضبط.
ب- ظاهرة الحذف:
من أمثلة هذه الظاهرة:
1-
حذف الألف:
ظاهرة حذف الألف في القرآن الكريم كثيرة ومتنوعة، بعضها يرجع إلى
1 انظر: النشر "1/ 92-457".
2 سورة الذاريات الآية "47".
3 البرهان للزركشي "1/ 387".
4 تفسير القرطبي "17/ 52". جاء في القاموس المحيط فصل الهمزة باب الدال: "آد يئيد أيدا: اشتد وقوي".
اختلاف القراءات، وبعضها يرجع إلى أسباب أخرى، قد لا ندرك لها سرا، وعلماء الرسم يقسمون الحذف إلى ثلاثة أقسام: حذف إشارة، وحذف اختصار، وحذف اقتصار1.
ومن ذلك حذف الألف من الأسماء الأعجمية.
قال أبو عمرو الداني:
"اتفقوا على حذف الألف من الأعلام الأعجمية المستعملة، كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وهارون، ولقمان، وشبهها، وأما حذفها من سليمان، وصالح، ومالك، وليست بأعجمية، فكثرة الاستعمال، فأما ما لم يكثر استعماله من الأعجمية فبالألف، كطالوت، وجالوت، ويأجوج، ومأجوج، وشبهها"2.
ومن أمثلة حذف الألف للإشارة إلى قراءتين أو أكثر:
قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 3. حذفت الألف من كلمة {وَمَا يَخْدَعُونَ} لتحتمل قراءة "وما يُخَادعون" بالألف وضم الياء وفتح الخاء4.
ومثل قوله تعالى: "وترى الشمس إذا طلعت تَزَور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه"5.
ففي قوله تعالى: "تَزَور" ثلاث قراءات:
الأولى: "تَزْورُّ" بإسكان الزاي وتشديد الراء، بلا ألف، لابن عامر ويعقوب.
الثانية: "تَزَاوَرُ" بفتح الزاي مخففة وألف بعدها، وتخفيف الراء، لعاصم وحمزة والكسائي وخلف.
1 تقدم معناها وأمثلتها.
2 انظر: البرهان "1/ 391-392".
3 سورة البقرة الآية "9".
4 انظر: إتحاف فضلاء البشر "1/ 377".
5 سورة الكهف من الآية "17".
الثالثة: "تَزَّوارُ" بفتح الزاي مشددة، وألف بعدها، وتخفيف الراء لباقي القراء.
وقد رسمت بحذف الألف لتحتمل هذه القراءات الثلاث1، على غرار ما قلنا في مثل "ملك يوم الدين".
2-
حذف الواو:
أ- ما حذفت واوه اكتفاء بالضمة، وذلك في أربعة أفعال:
1-
{وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} 2 حذفت الواو من {وَيَدْعُ} .
2-
{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} 3 حذفت الواو من {وَيَمْحُ} وأصلها "ويمحو".
3-
{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُر} 4 حذفت الواو من {يَدْعُ} أصلها "يدعو".
4-
{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة} 5 حذفت الواو من {سَنَدْعُ} فأصلها "سندعو".
ب- ما حذفت نونه للإضافة، وواوه اكتفاء بالضمة، وذلك في قوله تعالى:"وصالحُ المؤمنين"6 فهو جمع مذكر سالم أصله: "وصالحون"7.
1 انظر: إتحاف فضلاء البشر "2/ 210-211".
2 سورة الإسراء من الآية "11".
3 سورة الشورى من الآية "24".
4 سورة القمر من الآية "6".
5 سورة العلق من الآية "18".
6 سورة التحريم من الآية "4".
7 قال الزركشي في علة حذف هذه الواو: "وقد سقطت من أربعة أفعال، تنبيها على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود:
أولها: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة} فيه سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش، وهو وعيد عظيم، ذكر مبدؤه وحذف آخره، ويدل عليه قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر: 50.
وثانيها: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِل} حذفت منه الواو علامة على سرعة الحق وقبول الباطل له بسرعة، وبدليل قوله تعالى:{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} وليس "يمح" معطوفا على {يَخْتِمْ} الذي قبله، لأنه ظهر مع "يمح" الفاعل وعطف على الفعل ما بعده وهو:{وَيُحِقُّ الْحَق} .
وثالثها: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّر} حذف الواو يدل على أنه سهل عليه، ويسارع فيه كما يعمل في الخير، وإتيان الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير.
ورابعا: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاع} حذف الواو لسرعة الدعاء وسرعة الإجابة" البرهان "1/ 397-398".
3-
حذف الياء:
ظاهرة حذف الياء كثيرة في القرآن الكريم، سواء أكانت أصلية، أي: من بنية الكلمة مثل {الدَّاعِ} أصلها "الداعي" أم كانت زائده مثل: {فَارْهَبُون} ، {فَاتَّقُون} .
وقد حذفت الياء من المصاحف للتخفيف، وهي لغة مشهورة عند العرب، يقولون: مررت بالقاض، وجاءني القاض، فيحذفون الياء لدلالة الكسرة عليها1. هذا من حيث اللغة.
ومن حيث القراءة: رسمت هكذا لتحتمل قراءة إثبات الياء أو حذفها، فمن القراء من حذفها وصلا ووقفا، ومنهم من أثبتها وصلا ووقفا، وهناك من أثبتها وصلا وحذفها وقفا.
فحجة من حذفها وصلا ووقفا: اتباع الرسم، والاكتفاء بالكسرة للدلالة عليها، وأجرى الوقف مجرى الوصل.
وحجة من أثبتها وصلا ووقفا: أنه أتى بها على الأصل.
أما من أثبتها وصلا، وحذفها وقفا، فحجته: أنه اتبع الأصل في الوصل، واتبع خط المصحف في الوقف، لأن أكثر الخط كتب بما يوافق الوقف والابتداء، فلما لم تثبت الياء في الخط، حذفها في الوقف، إتباعا للرسم2.
جـ- ظاهرة البدل:
البدل في اللغة: العوض. واصطلاحا: جعل حرف مكان حرف آخر.
وصور البدل كثيرة، منها: إبدال الألف ياء، أو واوا، ومنها: إبدال السين صادا، والهاء تاء، والنون ألفا، لعلل وأسرار كثيرة يضيق المقام عن حصرها فلنذكر لها بعض الأمثلة:
1-
رسم الألف ياء في بعض الكلمات للدلالة على أن أصلها الياء فتمال عند من مذهبه الإمالة مثل: "رمى، أعطى، استسقى، اهتدى".
2-
رسم الألف واوا للدلالة على أن أصلها الواو مثل: "الصلاة" فأصلها
1 انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع "1/ 331".
2 المصدر السابق "1/ 333".
الواو، ولذلك تجمع على "صلوات" ومثل:"الربا" أصلها من: ربا يربو، إذا زاد.
3-
رسم الهاء تاء:
هاء التأنيث رسمت في بعض الكلمات بالتاء، وفي البعض الآخر بالهاء.
فالذي رسم الهاء مثل: "رحمة، ونعمة، وكلمة" لا خلاف بين القراء في الوقف عليه بالهاء.
أما ما رسم بالتاء مثل: "بقيت، نعمت، رحمت" ففي الوقف عليه للقراءة وجهان:
أحدهما: الوقف بالهاء، كما هو الأصل في الوقف على تاء التأنيث، وهو إبدالها هاء.
وثانيهما: الوقف بالتاء، اتباعا لرسم المصحف.
وبذلك يتبين أن الصحابة رضي الله عنه فرقوا بين بعض الكلمات، فرسموا بعضها بالهاء، وبعضها بالتاء لتحتمل المرسومة بالتاء قراءتين، بخلاف المرسومة بالهاء، فلا تحتمل إلا وجها واحدة1.
4-
القطع والوصل:
من أهم الظواهر التي تضمنها "علم الرسم": باب القطع والوصل، ويسمى: المقطوع والموصول.
وقد أوجب العلماء على القارئ معرفة هذا الباب، ليقف على كل كلمة حسب رسمها في المصاحف العثمانية.
فإذا كانت الكلمة مفصولة عن غيرها جاز للقارئ الوقف على أحد أجزائها عند الضرورة، كأن يكون في مقام التعلم، أو الامتحان، أو ضيق النفس، وما أشبه ذلك.
وإذا كانت موصولة بما بعدها لم يجز له الوقف إلا على الجزء الثاني منها2.
ومن أمثلة ذلك: "أم" مع "من" كتبت مفصولة في أربعة مواضع:
1 انظر: النشر "2/ 128 وما بعدها".
2 المرجع السابق "2/ 148 وما بعدها".
الأول: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} بالنساء1.
الثاني: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} بالتوبة2.
الثالث: {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} بالصافات3.
الرابع: {أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بفصلت4.
وكتبت موصولة فيما عدا ذلك في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:{أَمَّنْ لا يَهِدِّي} بيونس5، وقوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 6، وقوله تعالى:{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 7.
يضاف إلى ذلك. ما تقدم بيانه عند الكلام على كيفية اشتمال المصاحف العثمانية على هذه الأحرف، وأن رسم بعض الكلمات بطريقة معينة يرجع إلى اختلاف القراءات، وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما فيه قراءتان، ورسم على إحداهما مثل:"صراط، يبصط، المصيطرون".
النوع الثاني: ما فيه قراءتان ورسم برسم واحد يحتمل القراءتين، مثل:"ملك يوم الدين" كتبت "ملك" بدون ألف لتحتمل قراءة المد، ومثل قوله تعالى:"يخدعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم" فقد كتبت "وما يخدعون" بدون ألف لتحتمل القراءتين.
النوع الثالث: ما فيه قراءتان أو أكثر ورسم في كل مصحف حسب قراءة القطر الذي أرسل إليه المصحف، مثل قوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 8. فقد
1 من الآية "109".
2 من الآية "109".
3 من الآية "11".
4 من الآية "40".
5 من الآية "35".
6 سورة النمل من الآية "62".
7 النمل من الآية "63.
8 سورة البقرة من الآية "116".
رسمت في المصحف الشامي بلا واو {وَقَالُوا} وعلى ذلك جاءت قراءة ابن عامر.
وفي بقية المصاحف بالواو1. وتقدم لذلك أمثلة كثيرة.
والخلاصة:
إن رسم المصاحف العثمانية على هذه الكيفية إنما كان لعلل وأسرار كثيرة، منها ما وقفنا على علله، ومنها ما لم نقف له على علة حتى الآن.
قال الإمام أبو عمرو الداني:
"وليس شيء من الرسم، ولا من النقط اصطلح عليه السلف -رضوان الله عليهم- إلا وقد حاولوا به وجها من الصحة والصواب، وقصدوا به طريقا من اللغة والقياس، لموقعهم من العلم، ومكانهم من الفصاحة، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"2.
الاتجاه الثاني: اتجاه خطأ الصحابة في الكتابة:
هذا الاتجاه يرى: أن الاختلاف في كتابة المصاحف بظواهره المتقدمة كان ناشئا عن جهل الصحابة رضي الله عنهم بقواعد الخط، وبعدهم عن الصنائع.
وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك فقال: "
…
فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك من رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها، تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا، وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسما، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه" ثم قال: "ولا تلتفتن في ذلك
1 انظر: النشر "2/ 220".
2 المحكم ص196.
إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل، بكل لكلها وجه، ويقولون في مثل زيادة الألف في "لأاذبحنه": إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في "بأييد": إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح"1.
ويتمسك أصحاب هذا الاتجاه بما ورد من آثار منسوبة إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم يفيد ظاهرها وقوع بعض الأخطاء في رسم بعض الكلمات.
ومن هذ الآثار:
1-
عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي قال: لما فرغ من المصحف أُتي به عثمان، فنظر فيه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى فيه شيئا من لحن، وستقيمه العرب بألسنتها2.
1 تاريخ ابن خلدون "1/ 757" ط. دار الكتاب اللبناني طبعة سنة 1957م.
2 أخرجه الداني بسنده عن عمران القطان به. المقنع ص121، وأورده الذهبي في سير أعلام "4/ 442"، ومعرفة القراء الكبار "1/ 68"، والسيوطي عن السجستاني في الدر المنثور "2/ 754"، كما ذكره السجستاني في كتاب المصاحف "1/ 232" وقد ناقش العلماء الاستدلال بهذا الأثر بأنه لا يصح من عدة وجوه:
قال الداني: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل من جهتين:
إحداهما: أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسل، لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه.
وأيضا: فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه لما فيه الطعن عليه من محله من الدين ومكانه من الإسلام، وشدة اجتهاده في بذل النصحية، واهتمامه بما فيه الصلاح للأمة، فغير متمكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم، ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده، ممن لا شك أنه لا يدرك مداه، ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحل لأحد أن يعتقده. فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان رضي الله عنه؟
قلت: وجهه: أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه: التلاوة دون الرسم؛ إذ=
2-
ومن الآثار التي استند إليها القائلون بخطأ الصحابة رضي الله عنهم في كتابة المصاحف: ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 1 وعن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاة
= كثير منه لو تلي على حال رسمه، لانقلبت بذلك معنى التلاوة، وتغيرت ألفاظها، ألا ترى قوله: "أو لأاذبحنه
…
"، "ولأاوضعوا"، "من نبأى المرسلين"، و"سأوريكم" و"الربوا" وشبهه مما زيدت فيه الألف والياء والواو في رسمه، لو تلاه تالٍ لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط لصير الإيجاب نفيا، ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله، فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه، مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا فأعلم عثمان -رضي الل عنه- إذ وقف على ذلك أن من فاته تمييز ذلك، وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده، سيأخذ ذلك عن العرب؛ إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم، فيعرفوه بحقيقة تلاوته، ويدلونه على صواب رسمه، فهذا وجهه عندي، والله أعلم "المقنع ص119-120".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا خبر باطل لا يصح من وجوه:
أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنه لا كلفة عليهم في إزالته.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟!
والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب "التابوت" بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنه وأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش، ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ "عتى حين" على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه، وقال: أقرئ الناس بلغة قريش، فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انظر الفتاوى "15/ 252-255".
1 سورة طه من الآية "63". وفيها عدة قراءات: فنافع وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بتشديد "إن" و"هذان" بالألف وتخفيف النون. وفي توجيهها عدة أقول:
أحدها: أن "إن" بمعنى "نعم" و"هذان" مبتدأ، و"الساحران" خبره.
ثانيها: اسم "إن" ضمير الشأن، وجملة "هذا لساحران" خبرها.
ثالثها: أن "هذان" اسم "إن" على لغة من أجرى المثنى بالألف دائما.
وقرأ ابن كثير "إن" بتخفيف النون و"هذان" بالألف وتشديد النون.
وقرأ حفص مثل قراءة ابن كثير، إلا أنه خفف النون من "هذان". وهما واضحتان. وقرأ أبو عمرو "إن هذين لساحران" بتشديد نون "إن" و"هذين" بالياء وتخفيف النون، وهي واضحة من حيث الإعراب والمعنى، ولكنها استشكلت من حيث مخالفتها لخط المصحف. وما دامت القراءة صحيحة فلا يطعن فيها ذلك، فهي مما شذ عن قواعد الرسم، مع صحتها وتواترها. انظر: الإتحاف "2/ 249".
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 1، وعن قوله:{وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 2 فقالت: يابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتابه3.
الرد على هذا الاتجاه:
يمكن الرد على اتجاه القائلين بخطأ الصحابة رضي الله عنهم في كتابة المصاحف من عدة وجوه:
أولا: عدم التسليم بأن الكتابة العربية كانت عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات اللغة، فإنه من الثابت أن الكتابة تولدت ونمت في شمال الجزيرة في بلاد الأنباط، ثم اتجهت -تحت تأثير السياسة- إلى الشرق، ووجدت في الحواضر العربية من العراق المناخ الملائم لأن تتطور وتتأصل وتنتشر في الحيرة وغيرها من القرى العربية
…
مما أدى إلى انتشار الكتابة بين عرب العراق قبل الإسلام، واتصال أهل مكة بأهل الحيرة أمر مسلم به، فلا يستبعد أن يكون أهل مكة والمدينة قد تعلموا من أهل الحيرة، وأن هؤلاء قد علموا غيرهم من قريش وغيرهم4.
وقد أثبتت الكتابات والنقوش المكتشفة أن العرب في الجاهلية كانوا يكتبون قبل الإسلام بأكثر من ثلاثة قرون، لكن لم تكن الكتابة لديهم شائعة إلا قرب البعثة المحمدية5.
وقد ذكر المؤرخون عددا من الذين كانوا يعلمون الكتابة في الجاهلية، ومنهم: عمرو بن زرارة، وكان يسمى: الكاتب، وغيلان بن سلمة، وكانت
1 سورة النساء من الآية "162" وقد وجهها العلماء بأن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِين} منصوب على المدح، وإنما قطعت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة على غيرها. انظر: التبيان في إعراب القرآن للعكبري "1/ 407-408".
2 سورة المائدة من الآية "69" وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} ووجهت بأن قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ} بالرفع على الابتداء، وخبره محذوف، تقديره: كذلك. الإتحاف "1/ 541".
3 رواه الطبري في تفسيره "1/ 18"، والداني في المقنع ص123، وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن ص229، وأورده القرطبي في تفسيره "6/ 14، 11/ 216" والسيوطي في الإتقان "1/ 495-496" عن أبي عبيد وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفي الدر المنثور "2/ 744-745" وعزاه إلى أبي عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر.
4 تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي "7/ 65".
5 مصادر الشعر الجاهلي ص25.
أسرة ثقيف ذات شهرة واسعة بالكتابة1.
وكان لقيط بن يعمر الأيادي شاعرا كاتبا باللغة العربية، وكان مترجما في بلاد فارس، وهو الذي أرسل إلى قومه يقول:
سلام في الصحيفة من لقيط
إلى من بالجزيرة من إياد2
ولم يكن الرجال وحدهم هم الذين يقرءون ويكتبون، بل كان من النساء من يكتبن، ومنهن: الشفاء بنت عبد، من أسرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كانت تكتب في الجاهلية والإسلام، وهي التي علمت السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة3. وفي فتوح البلدان4: أن الإسلام دخل مكة وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب.
وبدخول الإسلام المدينة نشطت الكتابة، ومن ثمار هذا النشاط: ما كان من أسر سبعين من المشركين في بدر، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من كل أسير أربعة آلاف درهم، أو تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، فداءً له5.
ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يعرفون الكتابة فقط، بل كانوا يعرفون النقط والشكل أيضا.
قال الإمام ابن الجزري:
"
…
وجردت المصاحف جميعها من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم"6.
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم"7.
1 المصدر السابق ص50.
2 المصدر السابق ص107، 114.
3 رواه الحاكم في المستدرك "4/ 57" وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين.
4 ص660.
5 طبقات ابن سعد "2/ 26".
6 النشر "1/ 7".
7 الفائق للزمخشري "1/ 186".
والمراد بذلك: تجريد المصحف من النقط والفواتح والعشور، لئلا يفهم الصغار أن ذلك من القرآن.
فدل ذلك كله على بطلان ما قاله ابن خلدون: "إن الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة
…
وقوله: وانظر إلى ما وقع لأجل ذلك من رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة
…
".
ثانيا: أن المتأمل في الظواهر السابقة وغيرها، يجد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من الدقة في كتابة المصاحف بما لا يستطيع منصف أن ينكره.
وقد سبق أن نقلنا أمثلة كثيرة للعلل والأسرار التي من أجلها زادوا بعض الحروف، أو حذفوها، أو أبدلوا حرفا بحرف، بما يتفق مع قواعد اللغة العربية وأسرارها.
يضاف إلى ذلك: رسمهم لبعض الكلمات بصور مختلفة، نتيجة لاختلاف القراءات والأوجه الواردة في الكلمة.
ومن أمثلة ذلك كلمة: "الأيكة" وقعت في القرآن الكريم في أربعة مواضع:
الأول: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} بالحجر1.
الثاني: قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} بالشعراء2.
الثالث: قوله تعالى: {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ} بـ"ص"3.
الرابع: قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} بـ"ق"4.
رسمت الكلمة في سورتي الحجر وق هكذا "الأيكة" بألف قبل اللام.
ورسمت في سورتي الشعراء وص هكذا "ليكة" بدون ألف كما هو واضح في رسم المصحف.
1 الآية "78".
2 سورة الشعراء الآية "176".
3 سورة ص الآية "13".
4 من الآية "14".
والسبب في ذلك أن موضعي "الشعراء" و"ص" فيهما قراءتان:
الأولى: "ليكة" بلام مفتوحة بلا ألف وصل قبلها، ولا همزة بعدها، وفتح تاء التأنيث غير منصرفة للعلمية والتأنيث، وهي قراءة نافع وابن كثير، وابن عامر، وأبي جعفر.
وقرأ الباقون بهمزة وصل، وسكون اللام، وبعدها همزة مفتوحة، وكسر التاء "الأيكة".
والقراءتان صحيحتان متواترتان.
أما موضعا الحجر وق فرسمتا بالألف قبل اللام {الْأَيْكَةِ} والسبب في ذلك: أن هذين الموضعين ليس فيهما إلا قراءة واحدة: {الْأَيْكَةِ} بهمزة وصل، وسكون اللام، وبعدها همزة مفتوحة، وكسر التاء1.
وفي هذا المثال دلالتان:
إحداهما أن الصحابة رضي الله عنهم إنما رسموا هذه الكلمات وما شابهها بهذه الطريقة بناء على قواعد وأسس دقيقة، وأن الله -تعالى- قد اختارهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم لحفظ دينه وكتابه، فلا يصح نسبة الخطأ إليهم في مثل هذا العمل.
الدلالة الثانية: أن القراءة سنة متبعة. لا اجتهاد فيها ولا قياس، وإلا فلماذا قرئت هذه الكلمة في بعض السور بقراءتين، وفي البعض الآخر بقراءة واحدة؟
وما قيل من أن قراءة "لئيكة" بدون همزة أخذت من رسم الكلمة مردود، لأن القراءة سابقة على الكتابة كما هو معروف.
فنظرية تأثر القراءات بالرسم، وأن السبب في اختلاف القراءات خلو المصاحف من النقط والشكل ورسم بعض الكلمات بطريقة معينة، هذه النظرية نظرية إلحادية، أوردها بعض المستشرقين للطعن في صحة القرآن الكريم، باعتباره مصدر التشريع الأول.
قال المستشرق "جولدزيهر" في كتابه "مذاهب التفسير الإسلامي": "فلا يوجد كتاب تشريع اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا، على أنه نص منزل
1 انظر: إتحاف فضلاء البشر "2/ 319".
موحى به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب، وعدم الثبات، كما نجد في نص القرآن"1.
ثم تحدث عن سبب اختلاف القراءات فقال:
"وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة، تبعا لاختلاف النقاط الموضوعة فوق الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية يدعو اختلاف الحركات، الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصلية ما يحدده، إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبهذا إلى اختلاف دلالتها.
وإذًا: فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات في المحصول الموحد الغالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات، في نص لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه"2.
وفيما ذكرناه سابقا -من أن القراءة كانت سابقة على الرسم، وأنها كانت تتلقى مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة -ما يرد على هذه الدعوى الملحدة، التي تهدف إلى النيل من القرآن الكريم، الذي تكفل الله-تبارك وتعالى بحفظه دون سائر الكتب المنزلة.
وقد تصدى العلماء لبيان كذب هذه الدعوى بما لا يدع مجالا للشك، من أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كتبوا المصاحف بناء على ما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن القراءة تابعة للرسم.
ومن الرسائل المهمة التي فندت هذه الدعوى: كتاب شيخنا الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي المتوفى سنة 1403هـ بعنوان "القراءات في نظر المستشرقين والملحدين"3.
1 مذاهب التفسير الإسلامي ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار ص4.
2 المصدر السابق ص8.
3 طبع بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عام 1392هـ 1972م.
ومما قاله في كتابه هذا، مما يتصل بموضوعنا:
"في القرآن الكريم كلمات تكررت في مواضع كثيرة، ورسمت برسم واحد في جميع المواضع، ولكنها في بعض المواضع وردت فيها القراءات التي يحتملها رسمها، فاختلف فيها القراء، وتنوعت فيها قراءاتهم.
وفي بعض المواضع اتفق القراء على قراءتها بوجه واحد، لأن غيره لم يصح به النقل، ولم تثبت به الرواية، مع أن الرسم يحتمله.
وهاك أمثلة لما ذكرنا:
المثال الأول: كلمة "مالك" ذكرت في القرآن على أنها صفة، أو في حكم الصفة في ثلاثة مواضع:
"ملك يوم الدين" في الفاتحة.
"قل اللهم ملك الملك" في آل عمران.
{مَلِكِ النَّاس} في سورة الناس.
ورسمت هذه الكلمة برسم واحد في المواضع الثلاثة، وهو: حذف الألف بعد الميم، ولكن القراء اختلفوا في قراءتها في موضع الفاتحة فقط، فمنهم من قرأها بحذف الألف، ومنهم من قرأها فيه بإثباتها.
أما مواضع آل عمران: فقد اتفقوا على قراءتها فيه بإثبات الألف، مع أنه لو قرئت الكلمة في هذا الموضع بحذف الألف، لكان ذلك سائغا لغة ومعنى، ولكن لم تقرأ بالحذف في هذا الموضع، لعدم ثبوت الرواية فيه بالحذف.
وأما موضع سورة "الناس" فقد اتفق القراء على قراءة الكلمة فيه بحذف الألف، مع أنه لو قرئت هذه الكلمة في هذا الموضع بإثبات الألف، لكان ذلك سائغا لغة ومعنى، ولكن لم تقرأ الكلمة في هذا الموضع بالإثبات، لعدم ثبوت النقل فيه بالإثبات.
فلو كانت القراءات بالرأي والاجتهاد، لا بالتلقي والتوقيف، وكان تنوع
القراءات تابعا لرسم المصحف، لم يكن اختلاف القراء مقصورا على موضع الفاتحة، بل كان يتناول الموضعين الآخرين، لكنهم اختلفوا في موضع الفاتحة، واتفقوا في موضعي آل عمران والناس.
فدل هذا على أن القراءات لم تكن بالاختيار والاجتهاد، ولم يكن تنوعها تابعا للخط والرسم، وإنما هو تابع للسند والرواية والنقل"1.
ثالثا: أن هذه الدعوى -دعوى خطأ الصحابة- لو صحت لأدى ذلك إلى ثبوت التحريف في القرآن الكريم، وهذا يتنافى مع وعد الله -تعالى- بحفظه. قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
أما وحفظ الله تعالى لكتابه حقيقة قائمة، فإن الخطأ ينتفي، وبالتالي ينتفي جهل كتاب الوحي، المؤدي إلى الخطأ في رسم كلمات حفظه الله، وأكد حفظه منزله الحكيم الخبير3.
رابعا: مناقشة الآثار:
ناقش العلماء ما ورد عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما من آثار تدل على وجود أخطاء في كتابة المصاحف على النحو التالي:
أ- فبالنسبة للأخبار المنقولة عن "عثمان" رضي الله عنه فقد تقدم أنها غير صحيحة من حيث السند، ومثلها لا تقوم به حجة، كما قال العلماء.
ولو سلمنا بصحتها، فيجب تأويلها بما يتفق مع المعنى الذي به تصح، ولا يتعارض مع ما هو ثابت بالدليل القطعي من حفظ الله تعالى لكتابه من التحريف والتبديل والخطأ، كما يتفق مع مكانة "عثمان" رضي الله عنه وغيرته على كتاب الله تعالى، وإلا فكيف يهب لنسخ المصاحف خوفا من وقوع اللحن والخطأ في وجوه القراءات، ثم يقر ذلك في المصاحف؟!
1 القراءات في نظر المستشرقين والملحدين ص52-53.
2 سورة الحجر الآية "9".
3 انظر: رسم المصحف للدكتور لبيب السعيد ص24.
وأصح ما قيل في تأويله: ما قاله الداني في المقنع1: "
…
وجهه: أن يكون عثمان رضي الله عنه، أراد باللحن المذكور فيه: التلاوة دون الرسم؛ إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة، وتغيرت ألفاظها، ألا ترى قوله:"أولأاذبحنه" و "لأوضعوا" و"من نبأى المرسلين" و"سأوريكم" و"الربوا" وشبهه مما زيدت الألف والياء والواو في رسمه، لو تلاه تالٍ لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط، لصير الإيجاب نفيا، ولزاد في اللفظ ما ليس فيه، ولا من أصله، فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه، مع كون رسم ذلك جائزا مستعملا.
فأعلم عثمان، رضي الله عنه، إذ وقف على ذلك أن من فاته تمييز ذلك، وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده، سيأخذ ذلك عن العرب، إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم، فيعرفونه بحقيقة تلاوته، ويدلونه على صواب رسمه، فهذا وجهه عندي، والله أعلم".
ويؤيد ما قاله الداني: ما أخرجه الطبراني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها
…
"2.
فالمقصود باللحن الوارد في الأثر: تلاوة الحروف والكلمات المرسومة بزيادة أو نقص أو إبدال، مما يخالف قواعد الرسم القياسي، ولو قرئت كما هي مرسومة لتغير اللفظ وفسد المعنى3.
وكيف يتفق ذلك مع قوله الصحابة رضي الله عنهم حين عرضوا عليه المصاحف: "أحسنتم وأجملتهم"4؟!
إنه التناقض الذي لا يليق بمقامه وعلو شأنه رضي الله عنه.
ب- أما بالنسبة للأثر المروي عن عائشة رضي الله عنها: فقد أجاب عنه الإمام الداني فقال:
1 ص124-125.
2 انظر: فيض القدير "2/ 65".
3 انظر: النشر "1/ 458".
4 تقدم تخريجه.
"
…
تأويله ظاهر، وذلك أن عروة لم يسال عائشة فيه عن حروف الرسم التي تزاد فيها لمعنى، وتنقص منها لآخر،، تأكيدا للبيان، وطلبا للخفة، وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه، على اختلاف اللغات التي أذن الله عز وجل لنبيه عليه السلام ولأمته في القراءة بها، واللزوم على ما شاءت منها، تيسيرا لها وتوسعة عليها، وما هذا سبيله وتلك حاله، فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل، لفشوه في اللغة، ووضوحه في قياس العربية، وإذ كان الأمر في ذلك كذلك فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم، ولا هو من سببه في شيء، وإنما سمي عروة ذلك لحنا، وأطلقت عائشة على مرسومه -كذلك- الخطأ على جهة الاتساع في الإخبار، وطريق المجاز في العبارة، إذ كان ذلك مخالفا لمذهبهما، وخارجا عن اختيارهما، وكان الأوجه والأولى عندهما، والأكثر والأفشى لديهما، لا على وجه الحقيقة والتحصيل، فالقطع لما بيناه قبل من جواز ذلك وفشوه في اللغة، واستعمال مثله في قياس العربية، مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك، دون ما ذهبا إليه
…
"1.
ثم قال: "على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها، وجليل قدرها، واتساع علمها، ومعرفتها بلغة قومها، لحنت الصحابة، وخطأت الكتبة، وموضعهم في الفصاحة والعلم باللغة، موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر، هنا ما لا يسوغ ولا يجوز.
وقد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين، أخطئوا في الكتاب: أي أخطئوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز، لأن ما لا يجوز مردود بإجماع وإن طالت مدة وقوعه، وعظم قدر موقعه، وتأول اللحن: أنه القراءة واللغة، كقول عمر رضي الله عنه: أبي أقرؤنا، وإنا لندع بعض لحنه، أي: قراءته"2.
وقال الشيخ الزرقاني عن هذه الآثار:
1 المقنع ص121-122.
2 المصدر السابق ص122.
"ونجيب أولا: بأن هذه الروايات مهما يكن سندها صحيحا، فإنها مخالفة للمتواتر القاطع، ومعارض القاطع ساقط مردود، فلا يلتفت إليها، ولا يعمل بها.
ثانيا: أنه قد نص في كتاب إتحاف فضلاء البشر1 على أن لفظ "هذان" قد رسم في المصحف من غير ألف ولا ياء، ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها
…
وإذن فلا يعقل أن يقال: أخطأ الكاتب، فإن الكاتب لم يكتب ألفا ولا ياء، ولو كان هناك خطأ تعتقده عائشة ما كانت تنسبه للكاتب، بل كانت تنسبه لمن قرأ بتشديد "إن" وبالألف لفظا في "هذان"، ولم ينقل عن عائشة ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر، وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ بل هي قراءة الأكثر، ولها وجه فصيح في العربية، ولا يخفى على مثل عائشة، ذلك هو إلزام المثنى بالألف في جميع حالاته
…
فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة، ولو جاء بها وحدها رسم المصحف.
ثالثا: أن ما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من تخطئة رسم المصحف في قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاة} بالياء، مردود بما ذكره أبو حيان في البحر2 إذ يقول ما نصه:"وذكر عن عائشة رضي الله عنها وعن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح ذلك عنهما، لأنهما عربيان فصيحان، وقطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع، ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره".
وقال الزمخشري3: "لا يلتفت إلى ما زعما من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب "يقصد كتاب سيبويه"، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبى4 عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في
1 ج2 ص249.
2 ج3 ص396-397.
3 الكشاف "1/ 590".
4 في المصباح المنير كتاب الغين: "غبى عن الخبر جهله".
كتاب الله ثلمة1 يسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم.
رابعا: أن قراءة {وَالصَّابِئُون} بالواو، لم ينقل عن عائشة أنها أخطأت من يقرأ بها، ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو، فلا يعقل أن تكون خطأت من كتب بالواو"2.
وقد اتفق القراء العشرة على قراءة {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بالياء وعلى قراءة {وَالصَّابِئُون} بالواو، موافقة للرسم في كل منهما، وبذلك يكون قد تحقق في هاتين الكلمتين أركان القراءة الصحيحة وهي: التواتر، وموافقة الرسم العثماني، وموافقة وجه من وجوه اللغة العربية، فلا وجه للاعتراض عليهما، ولا يقبل أي أثر يخالف ذلك.
وأيا كان تأويل هذه الآثار، فإن هذا لا يطعن في صحة وسلامة هذا العمل الجليل الذي قام به الصحابة رضي الله عنهم حيال كتاب الله تعالى، وأجمعت عليه الأمة، تحقيقا لوعد الله تعالى في قوله -جل شأنه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} .
1 الثلمة في الحائط وغيره: الخلل، والجمع ثلم، كغرفة وغرف.
2 مناهل العرفان "1/ 386-387" وانظر: كتاب المصاحف "1/ 240".