المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نسخ المصاحف في عهد عثمان بن عفان؛ أسبابه طبيعته: - رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة

[شعبان إسماعيل]

الفصل: ‌نسخ المصاحف في عهد عثمان بن عفان؛ أسبابه طبيعته:

‌نسخ المصاحف في عهد عثمان بن عفان؛ أسبابه طبيعته:

تمهيد:

جاء في صحيحي البخاري ومسلم: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"1.

فنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف ثابت بالسنة الصحيحة المتواترة، ولا نزاع في ذلك.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه الأحرف كلها، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا هذه الأحرف جميعها، فمنهم من أخذ بحرف من هذه الأحرف، ومنهم من أخذ بحرفين، ومنهم من زاد على ذلك، فلما تفرقوا في البلاد، أخذ التابعون عنهم حسبما أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك اختلف الناقلون للقراءات، فمنهم من نقل قراءة معينة، ومنهم من لم ينقلها، لأنه لم يسمعها ممن أخذ عنه.

وكان أهل كل بلد أو إقليم يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فأهل الشام يأخذون بقراءة "أبي بن كعب"، وأهل الكوفة بقراءة "عبد الله بن مسعود"، وغيرهم بقراءة "أبي موسى الأشعري" وهكذا2.

ورغم علم المسلمين أن هذه القراءات إنما هي أوجه متعددة لقراءة بعض الكلمات، نزلت رخصة وتيسيرا من الله عز وجل، رحمة بالأمة، إلا أنه مع توالي الأيام ومرور الزمن، وقر في نفوس أهل كل إقليم أن قراءتهم هي الأصح والأولى، مما جعلهم ينكرون على غيرهم قراءتهم حينما يلتقون في مواطن الجهاد والأحفال.

1 أخرجه البخاري في فضائل القرآن: باب أنزل القرآن على سبعة أحرف حديث رقم "4991"، ومسلم في صلاة المسافرين: باب بيان أن القرآن على سبعة حروف "272/ 819".

2 انظر: المصاحف "1/ 190".

ص: 15

الأمر الذي أدى إلى نسخ المصاحف، مع الأسباب الأخرى.

الأسباب الذي أدى إلى نسخ المصاحف، مع الأسباب الأخرى:

يمكن تلخيص تلك الأسباب في الأمور الآتية:

أولا: اختلاف أهل الأمصار والأقاليم في القراءات، كما تقدم في التمهيد:

روى البخاري بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت "ت45هـ" وعبد الله بن الزبير "ت73هـ" وسعيد بن العاص "ت58هـ"، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام "ت43هـ"، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة1: إذا اختلفتهم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم2. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى

1 وهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

2 أي: "الذي نزل به القرآن أولا، وهو الحرف الذي طلب النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة عليه في الحديث الشريف: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" رواه البخاري ومسلم.

فقد نزل جبريل بحرف قريش أولا، ثم كان يأتي بالحروف في عرضاته القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم كل عام في رمضان، فكان الله تعالى ينزل في هذه العرضات ما شاء أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى التي تدعو الحاجة إليها. نقل الإمام أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: "أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة

".

أو المراد من قوله: "فإنما بلسانهم": أكثره. أو ما اصطلحوا عليه من قواعد الكتابة، ولذلك روي أنهم اختلفوا في كتابة كلمة "التابوت" من قوله تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} البقرة: 248. هل تكتب بالتاء أو بالهاء، وقد رسمت بالتاء تمشيا مع مذهب قريش في الكتابة. انظر: كتاب المصاحف "1/ 207-208".

ص: 16

كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق1.

ثانيا: اختلاف المعلمين للقرآن:

فقد كان القراء المعلمون للقرآن الكريم يعلمون الغلمان ويقرئون تلاميذهم على حسب ما تلقوه من الأحرف، فنشأ -تبعا لذلك- جيل من أهل القرآن يقرءون بروايات مختلفة، ووقر في أذهانهم أن ما تلقوه هو الصحيح.

روى ابن جرير بسنده عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل2، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.

قال أبو أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بعضا بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال:"أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا، وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما".

قال أبو قلابة: "فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يملى عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله أن يكون غائبا في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم"3.

ثالثا: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون لأنفسهم مصاحف خاصة مشتملة على الأحرف السبعة جميعها، وفيها بعض الأحرف التي نسخت بالعرضة الأخيرة، ولم يطلعوا على هذا النسخ، كما أنها كانت تشتمل على الألفاظ التي

1 صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، كما رواه الترمذي في سننه في أبواب تفسير القرآن "4/ 347-348"، والبغوي بسنده عن الإمام البخاري وقال: هذا حديث صحيح، شرح السنة "4/ 519-520" والحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص30-31، والسجستاني في المصاحف "1/ 204".

2 معناه: أن المعلم يقرئ تلاميذه حسب قراءة الصحابة، والآخر يقرئ حسب قراءة صحابي آخر وهكذا.

3 انظر: جامع البيان للطبري "1/ 20"، مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص81.

ص: 17

كانت من قبيل التفسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظلوا يحتفظون بهذه المصاحف لأنفسهم، مع مخالفتها لما جمعه أبو بكر رضي الله عنه.

ومن أشهر هذه المصاحف: مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أبي موسى الأشعري، ومصحف المقداد بن عمرو وغيرهم.

فوجود هذه المصاحف، وقراءة أصحابها منها، وتعلم البعض منهم أدى إلى الاختلاف.

كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى اختلاف المسلمين في القراءة وإلى التنازع حيثما يلتقون في بعض المواقع الحربية وغيرها، الأمر الذي دعا الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يأمر بنسخ المصاحف من المصحف الذي كتبه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإحراق ما عداه من المصاحف، سدا لباب الفتنة، واختلاف المسلمين في قراءة القرآن الكريم.

وما فعله عثمان رضي الله عنه كان بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم فأقروه عليه، ولم ينازع في ذلك أحد، فكان إجماعا منهم على صحة ما فعل1.

عدد المصاحف:

اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي نسخت وأرسلت إلى الأمصار المختلفة:

فقد ذكر السجستاني -في إحدى الروايتين- أنها كانت سبعة، أرسل واحد منها إلى مكة، وآخر إلى الشام، وثالث إلى اليمن، ورابع إلى البحرين، وخامس إلى البصرة، وسادس إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحد، وهو الذي احتفظ به عثمان رضي الله عنه لنفسه، وكان يطلق على هذه النسخة: المصحف الإمام، باعتبار أن الخليفة هو المرجع للمسلمين جميعا، فهي أشبه بالنسخة الأصلية التي تكون في حوزة الدولة2.

وفي رواية القرطبي: أن عثمان رضي الله عنه وجه للعراق والشام بأمهات3. ولم يوضح ذلك العدد.

1 البرهان "1/ 240"، فضائل القرآن لابن كثير ملحق بالتفسير "7/ 446".

2 انظر: كتاب المصحف "1/ 242".

3 الجامع لأحكام القرآن "1/ 54".

ص: 18

بينما ينص أبو عمرو الداني أن المصاحف أرسلت إلى: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، وسائر العراق1.

وذكر السيوطي أن عددها خمسة، أرسلت إلى: مكة، والشام، والكوفة، والبصرة، والمدينة، بالإضافة إلى النسخة التي أبقاها عثمان رضي الله عنه لنفسه، والتي عرفت بالمصحف الإمام2.

ولم يكتف عثمان رضي الله عنه بإرسال المصاحف إلى الأمصار، وإنما بعث مع كل مصحف واحدا من الصحابة يقرئ من أرسل إليهم المصحف، وغالبا ما كانت قراءة هذا الصحابي توافق ما كتب به المصحف، نظرا لوجود بعض الاختلافات بين هذه المصاحف -كما سيأتي.

فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمصحف المدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري3.

وهذا ما يرجح الرواية التي تنص على أن المصاحف كانت خمسة.

وأيا كان الاختلاف في عدد النسخ، إلا أن الثابت أن هذه المصاحف بقيت متداولة، ينسخ الناس منها، حتى ظهرت دور الطباعة، وظهرت المصاحف المطبوعة بأشكالها المختلفة، وأحجامها المتعددة، وأطلق عليها:"المصاحف العثمانية" نسبة إلى "عثمان بن عفان" رضي الله عنه لا باعتبار أنه نسخها بطريقة تختلف عن الطريقة التي كتبت بها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه وإنما لأنه هو الذي نسخ هذه المصاحف وأرسلها إلى الأمصار، فذاعت هذه المصاحف وانتشرت، وتلقاها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وإلا فسيدنا "عثمان" رضي الله عنه لم يبتكر خطا جديدا لكتابة المصاحف، وإنما تبع في ذلك نفس الخط الذي كتب به المصحف من قبل4.

1 المقنع ص19.

2 الإتقان "1/ 172".

3 انظر: مناهل العرفان للزرقاني "1/ 396-397".

4 رسم المصحف ونقطه للدكتور عبد الحي الفرماوي ص77ط. مكتبة الجمهورية، القاهرة.

ص: 19