الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[110]
تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد
يظهر من صنيع بعض المتكلمين ــ أعني علم الكلام أو علم العقائد أو علم التوحيد ــ أن معنى (إله) هو المعنى الذي يُعِبِّرون عنه بواجب الوجود، ولكنَّ في عباراتهم اضطرابًا. قال العضد في مواقفه: «المرصد الثالث في توحيده تعالى، وهو مقصد واحد، وهو أنه يمتنع وجود إلهين. أما الحكماء
(1)
فقالوا: يمتنع وجود موجودَين كلُّ واحدٍ منهما واجب لذاته
…
وأما المتكلمون فقالوا: يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية، لوجهين: الأول: لو وُجِد إلهان قادران
…
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية».
قال المحشِّي حسن جلبي
(2)
: «قوله: (في توحيده تعالى) التوحيد يطلق بالاشتراك على معانٍ، من جملتها: اعتقاد الوحدانية أي عدم مشاركة الغير له في الألوهية، وهذا هو المقصود هاهنا، والمشاركة فيها تستلزم الاشتراك في الوجوب الذي هو معدن كلِّ كمال ومُبْعِد كل نقصان
…
».
وقال الشارح السيد الشريف بعد قول المتن: (إلا الثنوية): «دون الوثنية فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود، ولا يصفون [111] الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهَّاد أو الملائكة أو الكواكب، واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصُّلًا بها إلى ما هو إله حقيقةً» .
(1)
يعني: الفلاسفة.
(2)
ابن محمد شاه الفناري، توفي سنة 886 هـ. انظر: شذرات الذهب 8/ 3.
قال حسن جلبي: «فعدَّهم [أي الوثنية] من المشركين لقولهم بتعدُّد المستحق للعبادة لا لقولهم بواجبي الوجود»
(1)
.
فهذه العبارات كما ترى.
وفي مسألة التوحيد من المقاصد وشرحها بنى الكلام على توحيد وجوب الوجود أيضًا، ولكن قال في الشرح: «حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصِّها، ولا نزاع لأهل الإسلام في أنَّ تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة وقِدَم ما يقوم بنفسه كُلُّها من الخواصِّ
…
».
ثم عدَّدَ أصناف المشركين، إلى أن قال بعد ذكر الثنويَّة والمجوس: «ومنهم عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام، أما الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثِّرة في عالم العناصر مدبِّرة لأمور قديمة بالزمان
(2)
شفعاء للعباد عند الله تعالى مقرِّبة إياهم إليه تعالى.
وأما الأصنام فلا خفاء أنَّ العاقل لا يعتقد فيها شيئًا من ذلك، قال الإمام رحمه الله: فلهم في ذلك تأويلات باطلة:
الأول: أنها صور أرواحٍ تدبِّر أمرهم وتعتني بإصلاح حالهم على ما سبق.
الثاني: أنها صور الكواكب.
(1)
شرح المواقف 3/ 32 - 36. [المؤلف]
(2)
سيأتي ما فيه، إن شاء الله تعالى. [المؤلف]
الثالث: أن الأوقات الصالحة للطِّلَّسْمات
(1)
القويَّة الآثار [112] لا توجد إلا أحيانًا من أزمنة متطاولة جدًّا، فعملوا في ذلك الوقت طِلَّسْمًا لمطلوب خاصٍّ يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه.
الرابع: أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا وبالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك.
الخامس: أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظَّموه تَشَفُّعًا إلى الله تعالى وتوسُّلًا
…
وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت عقلًا وشرعًا وفي استحقاق العبادة شرعًا، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]»
(2)
.
أقول: وهذه العبارة الأخيرة مفهمة أنَّ عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام لم يشركوا في وجوب الوجود وإنما أشركوا في استحقاق العبادة، وقد جعل استحقاق العبادة غير الألوهية، وإنما يعني الألوهية بالمعنى الذي يريده المتكلِّمون منها في هذا البحث، وهو وجوب الوجود، وهو غير استحقاق العبادة قطعًا، فلا تَفْهَمْ من كلامه أنَّ المشركين الذين
(1)
الطِّلَّسْم ــ بكسر الطاء وفتح اللام المشدَّدة وحُكِي تخفيفها ــ: خطوطٌ وأعدادٌ يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيَّات الكواكب العلويَّة بالطبائع السفليَّة لجلب محبوبٍ أو دفع أذًى. انظر: مفتاح السعادة ومصباح السيادة 1/ 316، المعجم الوسيط 562.
(2)
شرح المقاصد 2/ 64 - 65. [المؤلف]
حكى فيما سبق أنهم يشركون في استحقاق العبادة غيرُ مشركين في الألوهية، كيف والقرآن مملوء بالإخبار عنهم أنهم اتخذوا الأوثان آلهة، وقد قال هو نفسه في المطوَّل
(1)
في بحث تعريف المسند إليه بالعَلَمِيَّة ما لفظه: «ألا ترى أنَّ قولنا: (لا إله إلا الله) كلمة توحيد بالاتفاق
…
فيجب أن يكون إله بمعنى المعبود بحق، والله تعالى عَلَمًا للفرد الموجود منه، والمعنى: لا مستحق للعبودية له في الوجود أو موجود إلا الفرد الذي هو خالق العالم، وهذا معنى قول صاحب الكشاف:«إن الله تعالى يختصُّ بالمعبود بالحق لم يُطْلَقْ على غيره» ، أي بالفَرْدِ الموجود الذي يُعبد بالحق تعالى وتقدَّس». ونقلوا نحوه عن السعد في شرح الكشاف
(2)
.
فأما زعمه أنَّ نفي الشركة في استحقاق العبادة غير ثابت بالعقل، فيبطله القرآن كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفي شرح الجوهرة لابن الناظم: «وحقيقة الألوهية وجوب الوجود والقدم الذاتي، ويلزم منه استغناؤه عن كل ما سواه وافتقارُ كلِّ ما سواه إليه» .
تعقَّبه المحشِّى الأمير فقال: «قوله: (وجوب الوجود) هذا من اللوازم، وحقيقة الألوهية كونه معبودًا بحق. قوله: (ويلزم منه استغناؤه إلخ) السنوسي فسَّر الألوهية بهذين الشيئين، وأخذ ما عداهما منهما، والشارح فَعَلَ ما فَعَلَ ولم يظهر له وجه»
(3)
.
وقال البيجوري في حواشيه على الجوهرة: «فحقيقة الإله المعبودُ
(1)
المطول: (ص 216) نشرة د. عبد الحميد هنداوي.
(2)
ما زال مخطوطًا.
(3)
شرح عبد السلام للجوهرة لوالده ص 117. [المؤلف]
بحق، ويلزم منه أنه مستغنٍ عن كلِّ ما سواه، ومفتقر إليه كلُّ ما عداه
…
فتفسير السنوسي الذي ذكره في الصغرى باللازم لا بالحقيقة»
(1)
.
أقول وأسأل الله التوفيق: أما وجوب الوجود فالأمم كلُّها لا تشرك فيه حتى الثنويَّة، والنقل عنهم مضطرب، وغالبهم يقول بحدوث الذي يقولون بأنه خالق الشر، ومَن قال منهم بقدمه فالقِدَم عندهم لا يستلزم وجوب الوجود.
وفي نهاية الإقدام للشهرستاني المطبوع بإسلامبول: «القاعدة الثالثة في التوحيد
…
وهذه المسألة مقصورة على استحالة وجود إلهين يثبت لكلِّ واحدٍ منهما من خصائص الإلهية ما ثبت للثاني، ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب؛ [114] لأن الثنويَّة وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كلِّ وجه. والفلاسفة وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليَّيْن، وقضوا بكون الحركات سرمديَّة، لم يُثْبِتُوا للمعلول خصائص العلَّة، كيف وأحدهما علّة والثاني معلول. والصابئة وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزليَّة سرمديَّة
(2)
مدبِّرة لهذا العالم وسمَّوها أربابًا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب. ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يُثْبِت خالقًا من دون الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]. وعن هذا صار أبو الحسن [الأشعري] رحمه الله إلى أنَّ أخصَّ وصف الإله هو القدرة على
(1)
حواشي البيجوري على الجوهرة ص 68. [المؤلف]. وانظر: أم البراهين ضمن مجموع المتون 7 - 8.
(2)
سيأتي في عبارة الشهرستاني نفسه في الملل والنحل أنَّ القوم لم يعتقدوا قِدَم الروحانيات. [المؤلف]
الاختراع فلا يشاركه فيه غيره، ومَن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين»
(1)
. وسيأتي ما فيه قريبًا إن شاء الله تعالى.
نعم مَنْ قال من النصارى: إن الله ــ تعالى عما يقولون ــ عبارة عن ثلاثة أقانيم انفصل أحدها حتى حلَّ في جسد عيسى عليه السلام، يلزمه الشرك في وجوب الوجود، ولكنْ لهم خبط شديد لعلَّه يأتي بعضه.
ورأيت في ترجمة الكِنْدِيِّ الفيلسوف [115] أن له رسالة في بيان أن الأمم جميعها موحِّدون، كأنه يريد توحيد وجوب الوجود.
وكتابُ الله تعالى مع شهادته على كثير من الأمم بالشرك ينفي عنهم الشرك في وجوب الوجود.
وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح، والمصريين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى، حتى إن فرعون نفسه لم يشرك في وجوب الوجود.
وكذلك مشركو العرب الذين بُعِثَ فيهم خاتم الأنبياء ــ عليه وعلى إخوانه من النبيين وآل كلٍّ منهم صلوات الله وسلامه ــ شهد عليهم القرآن باعترافهم بأن الله عز وجل هو الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت والذي يخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء وأنه هو
(1)
نهاية الإقدام 1/ 90 - 91. [المؤلف]
يجير ولا يجار عليه، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه هو الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم، إلى غير ذلك، وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ سياق الآيات في ذلك.
[116]
وأخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وآيات أخرى بهذا المعنى سيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ ذكرها مع بيان حجة الله البالغة في رَدِّ شبهتهم.
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28].
ذكر الراغب وغيره أن القربان هو من يتقرب بخدمته إلى الْمَلِك يستوي فيه الواحد والجمع
(1)
ــ أي لأنه في الأصل مصدر ــ، فيكون هذا كقولهم:
(1)
المفردات 664.
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
فهذه الأمم التي ثبت أنها لم تكن تشرك في وجوب الوجود هي التي [117] ملئ القرآن بالإخبار عنها أنها كانت تشرك في الألوهية وتتخذ من دون الله آلهة، وعنهم أخبر الله تعالى بأنه أرسل إليهم رسله يدعونهم إلى
لا إله إلا الله، فاستكبروا عن ذلك وأعظموه، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، وقال عز وجل:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4، 5].
وكانت الرسل تكتفي منهم بلا إله إلا الله، فمن قاله فقد برئ من الشرك، فأيُّ ريب يبقى في أن توحيد الألوهية غير توحيد وجوب الوجود، وأن معنى (إله) غير معنى واجب الوجود؟ وكيف يُعْقَل أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود، وهم يؤلِّهون أحجارًا ينحتونها بأيديهم، وأشجارًا قد علموا أنها لم تكن قبلُ نابتةً ثم نَبَتَتْ، ومعادن تصاغ أمام أعينهم؟!
وأما قول السنوسي: إن معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه، فقد تقدَّم أنه تفسير باللازم؛ على أن في كلام السَّعْد المتقدِّم ما يدلُّ على إنكاره هذا اللزوم. وفيما تقدَّم في الكلام على إبطال أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود ما يُعْلَمُ منه إبطالُ أن يكون [118] معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه. فأما كون هذا المعنى ملازمًا له فحقٌّ ولكن المشركين لا يعترفون بهذه الملازمة، وسيأتي قريبًا نصُّ ابن عبد السلام وغيره على ذلك، ولذلك يؤلِّهون المخلوقات والجمادات مع علمهم باحتياجها وافتقارها واعترافهم بذلك.
واعلم أن المتكلمين تبعوا الحكماء في الكلام على توحيد وجوب الوجود، وأرادوا أن يعبِّروا بعبارة شرعية فاختاروا كلمة (إله)؛ لأنَّ الشارع جعلها عَلَمًا للتوحيد الآخر في لا إله إلا الله، وبنى الملازمة عليها في قوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وغيرها ممّا سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
ورأوا أن الشرع خصَّ الألوهية بالله عز وجل، وكثيرًا ما يحتجّ على ذلك بالعقل، فدلَّهم ذلك على أن بَيْنَ الألوهية ووجوب الوجود ملازمةً، وهذا حقٌّ في نفسه، وكذلك الملازمة بين الألوهية والاستغناء المطلق كما مرَّ. ولا يلزم من التلازم في نفس الأمر اتحاد المعنى ولا التلازم في الاعتقاد، فإن عدم الألوهية ملازم لغير الله عز وجل في نفس الأمر، مع أن المشركين يعتقدون في أوثانهم مثلًا أنها آلهة ولا يعتقدون أنها هي الله. وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر شائع ذائع.
ولكن المتكلمين سكتوا عن إيضاح توحيد الألوهية الحقيقيِّ مع أن الضرورة إليه أشدُّ؛ لِمَا تقدَّم أنَّ عامَّة الأمم تعترف بوحدانية وجوب الوجود وإنما تنكر توحيد الألوهية، والأمم التي بعثت إليها الرسل كذلك، وعلى ذلك الأمم الباقية على الشرك إلى يومنا هذا، ومعلوم أن تلك الأمم لا تعترف باستلزام وحدانيَّة وجوب الوجود لوحدانية الألوهية، فكان على المتكلمين أن يُبَيِّنوا وجه الملازمة، [119] ويُمْعِنُوا فيه، كيف لا وعليهم اتِّكَال أكثرِ الأمَّة في بيان العقائد، وقد جعلوا التوحيد عَلَمًا لهم حتى سُمِّيَ علمُ الكلام علمَ التوحيد، فكيف لا تتَّكِل الأمَّة في بيان التوحيد على علماء التوحيد؟ ولكنهم ويا للأسف أغفلوا التوحيد الذي بُنِيَتْ عليه الشرائع وبه
أُرْسِلت الرسل، والمسلمون بغاية الضرورة إلى معرفته، وهو محور الخلاف والنزاع والقتال والجدال= أغفلوا هذا واشتغلوا بغيره.
نعم فَسَّر بعضُهم الألوهية باستحقاق العبادة، ولكن العبادة أيضًا كلمة مشتبهة فلم يبيِّنوا معناها ولا تكلّموا في بيان اختصاص الله عز وجل باستحقاقها.
ولعلَّ السبب في إهمالهم الكلامَ على توحيد الألوهية الحقيقيِّ أنهم لم يجدوا للفلاسفة كلامًا فيه، كيف وعامَّة الفلاسفة مشركون يعبدون الأرواح والكواكب والأوثان، وظنَّ المتكلمون كما صرَّح به بعضهم وتقدَّم في آخر ما نقلناه عن شرح المقاصد أن وحدانية استحقاق العبادة لا يدلُّ عليه العقل وإنما هو
(1)
شرعيٌّ محض.
[120]
فتقصير المتكلمين في هذه المسألة من أعظم أسباب الاشتباه فيها؛ لأن مَنْ أراد البحث عنها فَزِعَ إلى ما سَمَّوْهُ علمَ التوحيد؛ لاعتقاده أنه متكفِّل بمسائل العقائد، ولا سيما مسألة التوحيد، فوجد فيه الكلام في وحدانية وجوب الوجود مُعَنْوَنَة بوحدانية الألوهية، ووجد بعضَهم قد صرَّح بأنَّ معنى الإله هو معنى واجب الوجود أو نحوه، فظنَّ أن ذلك معنى الإله حقيقة. فإن شكَّكه في ذلك قول بعضهم: إن معنى الإله هو: المستحق للعبادة، توهَّم أن العمل لا يكون عبادة إلا مع اعتقاد أن المعبود واجب الوجود أو نحو ذلك، وإلَّا لَما أهمل علماءُ التوحيد الكلامَ عليها.
ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم ــ إن لم أقل
(1)
أي الاستحقاق.
مِنَ العلماء ــ يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام من أشجار وأحجار وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلِّ شيء خالقة رازقة مدبِّرة للعالَم. ولقد كَلَّمْتُ بعضهم في شأن الوثنيِّين من أهل الهند وقولهم في الأصنام، فقال: إذا كان هذا قولهم في الأصنام فليسوا بمشركين! ! وحجته أنهم لم يخالفوا التوحيد الذي حقَّقه علماء التوحيد، وهكذا غلب [121] الجهلُ بمعنى لا إله إلا الله، والغلطُ فيه وفي حقيقة الشرك الذي بعث الله عز وجل رسله لإبطاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واعلم أن كلمة «واجب الوجود» لم ترد في الشرع، وأقربُ ما يؤدِّي معناها من الأسماء الحسنى اسمه تعالى:«الحق» . وفي الحديث الصحيح: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل»
(1)
والمراد بالباطل هنا ــ والله أعلم ــ ما يُعَبِّر عنه المتكلمون بجائز الوجود أو ممكن الوجود فيكون ضدُّه الحقَّ بمعنى واجب الوجود.
ثم رأيت كلام الحافظ ابن حجر على هذا الحديث فرأيت فيه ما لفظه: «والحقُّ على الحقيقة مَنْ لا يجوز عليه الزوال»
(2)
.
وتمام البيت:
وكلُّ نعيم لا محالة زائل
(1)
البخاريّ، كتاب مناقب الأنصار، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 43، ح 2841. ومسلم، كتاب الشِّعر، 7/ 49، ح 2256 (3). [المؤلف]
(2)
فتح الباري 7/ 104. [المؤلف]
والبيت من قصيدةٍ قالها لبيد في شركه
(1)
، وأنشدها مشركي قريش بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان حاضرهم عثمان بن مظعون بعد إسلامه، فلما أنشد لبيد الشطر الأول قال عثمان: صدقت، ولما أنشد الشطر الثاني قال عثمان: كذبت، إلا نعيمَ الجنة فإنه لا يزول، فغضب لبيد لقوله: كذبت، وغضب له المشركون، وآذوا عثمان رضي الله عنه، ولم ينكر أحد من المشركين قول لبيد:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل
مع قول عثمان: صدقت
(2)
.
وقد يؤخذ من كلام بعضهم أن المعنى الحقيقي لـ (إله) هو المدبِّر استقلالًا، وإليه يرجع فيما يظهر ما نقله الشهرستاني في نهاية الإقدام عن الأشعري، وقد مرَّ.
[122]
ولا يخفى أن الاستقلال التامَّ إنما يكون لواجب الوجود، وقد مرَّ الكلام عليه.
فأما ما دون ذلك فمنه ما يقوله بعض الثنوية في الشيطان: إنه يعمل ما يعمل ولا يستطيع الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ مَنْعَه في كثير من الأحوال. ولا أدري ما صحَّةُ هذا النقل عنهم، فإن مقالتهم مضطربة.
(1)
انظر: ديوانه (254 - 266) نشرة إحسان عباس.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام 1/ 200 - 201، وفتح الباري 7/ 104 - 105. [المؤلف]. وأخرجه الطبراني في الكبير 9/ 24 من مرسل عروة. وأبو نعيم في معرفة الصحابة 4/ 1954 - 1956 ح 4915 من مرسل الزهري.
ومنه قول بعض الفلاسفة: إن في العالم موجودات يُسَمُّونها العقول العليا، وإنها تدبر الكون بدون علم من الله عز وجل؛ لزعمهم أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وفي صحة هذا عنهم مقال، ففي كلام ابن رشد الحفيد آخِرَ كتابه تهافت التهافت إنكارُ كون هذا اعتقادَ الفلاسفة
(1)
.
ومنه ما يُحْكى عن الصابئة، قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل:«فإن عندهم أن الإبداع الخاصَّ بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها، والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها، كمن يبني معملة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والآلة والصورة وتفويض العمل إلى التلامذة»
(2)
.
فأما الأولان فلم يقل بهما أحد عن الأمم التي أخبر الله عز وجل بأنها أشركت في الألوهيَّة وبعث إليها رُسُلَه بـ «لا إله إلا الله» ، وقد مرَّ شيء من بيان ذلك. [123] وسيأتي إيضاحه مفصّلًا إن شاء الله تعالى.
وأما الثالث ــ أعني ما حكي عن الصابئة ــ فالحكايات عنهم مضطربة، وقد حكى الشهرستاني عنهم في موضع آخر ما يخالف ما تقدَّم أو يُبَيِّنه.
قال في أول الكلام على الصابئة: «ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدَّسًا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهَّرون المقدَّسون جوهرًا وفعلًا وحالة
…
وقد جُبِلوا على
(1)
انظر: تهافت التهافت ص 110 (ط الحلبي).
(2)
الملل والنحل 2/ 128. [المؤلف]
الطهارة وفُطِرُوا على التقديس والتسبيح لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
…
فنحن نتقرَّب إليهم ونتوكَّلُ عليهم، فَهُمْ أربابنا وآلهتنا ووسائلنا
…
حتى يحصل مناسبةٌ ما بيننا وبين الروحانيات، فنسأل حاجاتنا منهم ونَعرض أحوالنا عليهم ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم
…
وأما الفعل فقالوا: الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية القدسية، ويُفِيْضون الفيض على [124] الموجودات السفلية
…
وأما الحالة فأحوال الروحانيات
…
ثم طعامهم وشرابهم التسبيح والتقديس والتمجيد والتهليل وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فمِن قائمٍ ومِن راكع ومن ساجد
…
{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]»
(1)
.
فيظهر مما ذكر هنا أن القوم لم يدَّعوا للروحانيين تدبيرًا مستقلًّا.
وبعدُ، فقد علمت شهادة الله عز وجل على المشركين بأنهم يعترفون بأن الله عز وجل هو الذي يدبِّر الأمر والذي يرزقهم من السماء والأرض وغير ذلك، وقد أخبر الله تعالى عن كثير من الأمم أنهم اتخذوا الأصنام آلهة، واتخذوا الشياطين آلهة، واتخذوا الهوى إلهًا، واتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة، مع أنهم لم يعتقدوا لشيء من ذلك التدبير المستقل. وسيأتي إيضاح ذلك مفصَّلًا إن شاء الله تعالى.
(1)
الملل والنحل 2/ 95 - 98 بهامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم.
ولعلَّ مراد الشهرستاني والأشعريِّ مِن قبله ومَن يؤخذ من كلامه موافقتُهما أن الخلق والتدبير استقلالًا مناط الألوهية، بمعنى أن الموجود إذا كان متصفًا بذلك استحق أن يكون إلهًا، ومَن وصف شيئًا بذلك لزمه إثبات الألوهية له. وعليه فلا يُفْهَمْ من كلامهم أن ذلك معنى الألوهية، ولا أنَّ مَنْ لم يعتقد في شيء أنه كذلك لا يمكن أن يعتقد له الألوهية، فتدبَّر.
فقد ثبت بما تقدم أن اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقف على اعتقاد كونه واجبَ الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عما سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإن الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، واتضح لك أن عبارات المتكلمين التي تُوهِم خلاف ما ذكرنا لا تخالفه في الحقيقة، ولله الحمد.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه (الإشارة والإيجاز إلى أنواع المجاز) عند ذكر قول الله عز وجل حكاية عن قول المشركين يوم القيامة لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] ما لفظه: «وما سَوَّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال»
(1)
.
وقال أبو السعود الرومي
(2)
في قوله الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: 64]: «أي هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا، لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذُكِرَ من أفعاله تعالى
(1)
الإشارة ص 55. [المؤلف]
(2)
تفسير أبي السعود 6/ 296.
كما قيل، فإنهم لا يدَّعونه صريحًا، ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له».
[125]
الذي يدل عليه القرآن أن التدبير بالخلق والرزق ونحوهما على سبيل الاستقلال هو الذي ينبغي أن يكون مناطًا للألوهية، فمَن لم يكن كذلك لم يَنْبَغِ أن يُتَّخَذَ إلهًا، وأعني بالتدبير المستقلِّ: أن يكون المدبِّر ذا قدرة مطلقة، بحيث لا يكون فوقه قادرٌ محيط به علمًا وقدرة، يعلم جميع أحواله ويمنعه إذا أحبَّ ويغني عنه إذا أراد، أو يكون فوقه قادر كذلك ولكنَّ الأعلى فَوَّضَ الأمرَ إلى الأدنى مطلقًا يتصرَّف كيف يشاء.
قال الله تبارك وتعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191 - 192].
وقال عز وجل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
…
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 17 - 20].
وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
وقال جلّ ذكره: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [126] وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].