المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصل الأولحجج الحق شريفة عزيزة كريمة - رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

- ‌ بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها

- ‌الأصل الأولحجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ

- ‌الأصل الثانيالحجج والشبهات

- ‌ الأصل الثالثإصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

- ‌ أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

- ‌ فصلالمنتسبون إلى الإسلام أقسام:

- ‌بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقادوهي غير صالحةٍ للاستناد

- ‌ التقليد

- ‌ القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين

- ‌الأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ

- ‌ تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد

- ‌ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا

- ‌ تفسير الإله بالمعبود

- ‌فصل في تفسير أهل العلم للعبادة

- ‌ حاصل ما تقدَّم في هذا الباب

الفصل: ‌الأصل الأولحجج الحق شريفة عزيزة كريمة

[ز 1]

‌ بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها

‌الأصل الأول

حجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ

ليست كالهَلُوك

(1)

تعرض نفسها، ولا كأمِّ خارجة ــ يُقال لها: خِطْبٌ، فتقول: نِكْحٌ ــ

(2)

، ولا كميٍّ في وقاحتها ولجاجها؛ إذ قال صاحبها

(3)

:

على وجهِ مَيٍّ مسحةٌ من مَلاحةٍ

وتحت الثياب العارُ لو كان باديا

فكشفت ثيابها، وقالت: هل ترى عارًا؟

وإنما شأنها أن تدعو الناس إلى طلبها، فمن جدَّ في طلبها وبذل وسعه في التقرُّب منها، ولم يكن له هوًى في سواها، أو كان له ولكنه يؤثرها على ما عداها، كشفت عن وجهها وعرَّفته بنفسها؛ ومن فسد طبعه فلم يُعْنَ بشأنها أو قعدت به همَّته عن الجهاد في سبيل الوصول إليها قالت له

(4)

:

دَعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها

واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي

ومَن حمله الجهل بها والغرام بغيرها على أن يعيبها وينفر عنها ازدادت

(1)

هي الفاجرة الشبِقَة المتساقطة على الرجال. انظر: تاج العروس 27/ 404.

(2)

هي أم خارجة البجلية، يقال في المثل: أسرع من نكاح أم خارجة. انظر: الكامل 2/ 580 ومجمع الأمثال 1/ 348.

(3)

نُسِب في خزانة الأدب (1/ 109) إلى ذي الرُّمَّة، وكان يحلف أنه ما قاله. وفي المصدر نفسه أن ابنة عمٍّ لمَيَّ قالته على لسانه.

(4)

البيت للحطيئة. انظر: ديوانه 108، والكامل للمبرِّد (2/ 720)، والطاعم: الحسن الحال في المطعم، أي: إنك ترضى بأن تشبع وتلبس.

ص: 56

عنه بعدًا واحتجابًا، وقالت: حسبه ذاك عقابًا.

ارض لمن غاب عنك غيبتَه

ذلك ذنبٌ عقابه فيه

(1)

ومَن كانت حاله بينَ بينَ أشارت إليه تشوِّقه، فإما أن يرقى به الشوق إلى درجة الأوَّل، وإما أن يحطَّه اليأس إلى درجة الثاني، وإما أن يبقى معلَّقًا فيوشك أن تَعْرِض له إحدى البغايا فتذهب به إلى حيث ألقت رَحْلَها أُمُّ قَشْعَمٍ

(2)

.

فإن قيل: هذا تمثيلٌ لا يُقنِع، فارجع بنا إلى التحقيق؛ فقد يتراءَى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ ظاهرةً مكشوفةً لكان أولى.

قلتُ: الجواب عن هذا يتوقَّف على معرفة حكمة الخلق، فأستعين الله تعالى، وأقول:

فصلٌ

قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

الكمال يقتضي التكميل، فالعالم الكامل يقتضي كمالُه أن يكون له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم، وهكذا الطبيب والصانع والزاهد وغيرهم، حتى إن العالم الكامل إذا لم يكن له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم يُرْمَى بالبخل

(1)

ديوان ابن نباتة: 574، وفيه:"أرضى"، و "فذاك".

(2)

كنية الموت، أي: بمَضْيَعَة حيث الهلاك والموت. انظر القاموس المحيط، مادة قشعم، وشرح شعر زهير بن أبي سُلْمى ص 30 عند البيت الذي يقول فيه: لدى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعم، من معلَّقته المشهورة.

ص: 57

والحسد وغير ذلك، ولله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى وهو الغنيُّ الحميد، فاقتضى جوده سبحانه وتعالى أن يكمِّل غيره إلى الحدِّ الممكن، ولما لم يكن معه غيره خلق الخلق ليكمِّلهم إلى الحدِّ الممكن، وليس من الممكن خلقهم كاملين؛ لأن الذي يمكن خلقهم عليه من الكمال يكون كلُّه بمنزلة كمالِ خلقِهم في صُوَرهم، وليس ذلك بكمالٍ يُحْمَدُ عليه المخلوقُ إذ لا إصبع له فيه، فكان لا بدَّ أن يُخْلَقُوا صالحين لأن يَكْمُلوا.

ثم كمال العبد المملوك إنما هو في طاعة ربِّه. ويتأكَّد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الربَّ هو الله عز وجل، وهو لا يأمر إلا بالخير الذي يكون كمالًا يُحْمَدُ عليه فاعلُه، ولا ينهى إلا عن الشرِّ الذي ينافي الكمال والحمد، ويقتضي النقص والذمَّ. ويزداد ذلك وضوحًا إذا لاحظت أنه سبحانه الغنيُّ الحميد، فما كان فيما أمرهم به من خيرٍ فهو لهم، فعبادة ربِّهم هي كمالهم.

ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال ثم يجبرهم عليه؛ لأنه إذا جبرهم على الخير كان كما لو خلقهم عليه، وقد سبق أن ذلك ليس بكمالٍ يُحْمَدُون عليه، [ز 2] ولا بأن يخلقهم ويجعل لهم اختيارًا ثم لا يُمَكِّنَهُمْ من العمل؛ لأنهم إذا لم يعملوا لم يَكْمُلُوا.

فإن قيل: ألا يُكْتَفَى بعزمهم؟ قلتُ: إنهم لو سئلوا لأجابوا كُلُّهُم بالعَزم على الطاعة. فإن قيل: فبعلم الله تعالى فيهم؟ قلتُ: عِلْمُ الله عز وجل بأنه لو مكَّن هذا لكَمُلَ ولو مكَّن هذا لرَذُلَ لا يكفي في حقيقة الكمال؛ فلا يكون الأوَّل كاملًا بمجرَّد العلم، ولو أخبر المعصوم أن هذا الذي مات كافرًا لو عاش لآمن، وهذا الذي مات مؤمنًا لو عاش لكفر= لما اقتضى أن يحكم

ص: 58

عليهما في الحال بغير ما ماتا عليه. ولا بأن يخلقهم

(1)

ويجعل لهم اختيارًا ويمكِّنَهم من العمل، ولكنه يجعل الخير بحيث يُنَال بلا عناءٍ ولا مشقَّةٍ البتَّة؛ لأن مَن يُتَصَوَّرُ في حقِّه العناءُ والمشقَّة لا يُحْمَدُ على اختيار الخير والعمل به إلا بمقدار ما تحمَّلَهُ في سبيله من العناء والمشقَّة.

فلو أن جماعة جاد كلٌّ منهم بدينارٍ، وكان أحدهم لا يملك إلا ذلك الدينار وهو محتاجٌ إليه، والآخر يملك عشرةً، ولا يحتاج إليها كلِّها، والثالث: يملك مائةً، ولا يحتاج إلا إلى نصفها، والرابع: يملك القناطير المقنطرة من الذهب، ولا يحتاج إلا إلى عُشْرِ مِعْشَارِها= لكانوا متفاوتين في الحمد، وقد قال الشاعر

(2)

:

ليس العطاء من الفضول سماحةً

حتى تجود وما لديك قليلُ

فأما قول الآخر

(3)

:

لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهم

الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ

فمعنى قوله: "ساد الناس": عملوا ما هو ــ لولا عدم المشقَّة ــ من أسباب السيادة، فالحقيقة أنه لولا المشقَّة ما ساد أحدٌ من الناس.

هذا، والعبد إنما يَعْتَدُّ من طاعته بما كان عليه فيه عناءٌ ومشقَّةٌ، وإنما يُحمَد عليها على قدر ذلك. افرض أن رجلًا أثنى على عبده بالطاعة، فقلتَ له: ماذا بلغ في ذلك؟ فدعا العبد، وقال له: امسس أذنك اليمنى ولا تمسَّ

(1)

معطوف على قوله: "ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال".

(2)

هو المقنَّع الكندي، والبيت في حماسة أبي تمام. انظر شرحها للشنتمري 2/ 919.

(3)

هو أبو الطيب المتنبئ. انظر ديوانه مع الشرح المنسوب للعكبري 3/ 287.

ص: 59

اليسرى، ففعل، فقال لك: أرأيت؟ ألست تستحمق هذا الرجل.

وإذ كان لا بُدَّ في الكمال في العبادة أن يُخْلَقُوا قابلين للكمال، ويُجْعَلَ لهم اختيارٌ، ويُمَكَّنُوا من العمل، ويكون الخلق والأمر بحيث يكون دون الخير عناءٌ ومشقَّةٌ= اقتضت الحكمة أن يكون ذلك، وهذا هو الابتلاء، وعليه قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].

ومن لازمِ الابتلاء ــ وقد عرفتَ تفصيله ــ أن يختلفوا في تَحَمُّل العناء والمشقَّة. فأما الملائكة فإن الله عز وجل اصطفاهم وعصمهم، فانحصر اختلافهم في تفاوت درجاتهم في الكمال، ومع ذلك فخوفهم من ربِّهم عز وجل شديدٌ، قال تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].

وقال سبحانه: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].

الصحيح أن هذا صفةٌ للملائكة كما يأتي بعد إن شاء الله تعالى.

وفي العذاب الذي يخافه الملائكة وجهان:

الأول: أنه نقص درجات القرب، وأما النُزول [ز 3] إلى دركات المقت فقد أَمِنُوه لإخبار الله عز وجل أنهم معصومون.

الثاني: أنه أَعَمُّ من ذلك، وأنهم لعلوِّ درجتهم في العلم بالله وشدَّة خشيتهم إياه يعلمون ما لا نعلم، وربما يُؤَدِّيهم ذلك إلى تجويز ما نراه غيرَ

ص: 60

جائز. وقد يأتي نحوُ هذا في حقِّ الأنبياء عليهم السلام، جاء عن بعض السلف أن الذي أوتي الآيات فانسلخ منها كان قد أوتي النبوة

(1)

.

وجاء في قصة قتل زكريَّا عليه السلام ما قد يدلُّ على إمكان سَلْبِ النبوة

(2)

.

وقال جماعة: قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88 - 89] = قالوا: "إلا أن يشاء الله ربُّنا أن نعود في ملَّتكم".

وعن السُّدِّيِّ: "

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} ، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِمَ شيئًا فإنه وسع كلَّ شيء عِلْمًا"

(3)

.

أقول: هذا على مذهب مَنْ لا يُجَوِّزُ أن يقالَ: إن الله تعالى يشاء الشرك. ومن الناس من يُجَوِّز إطلاق ذلك إلا أنهم يختلفون في تفسير المشيئة.

(1)

انظر: تفسير ابن جرير 9/ 78. [المؤلف]. قال ابن كثير: ولا يصح. وقال ابن الجوزي: فيه بُعد. انظر: تفسير ابن كثير 3/ 509، وزاد المسير 3/ 288.

(2)

جاء في تلك القصة "أن المنشار لما بلغ رأس زكريا أنَّ منه أنَّةً، فقال الله له: لئن صعِدتْ إليّ منك أنَّة ثانية لأمحونَّك من ديوان النبوة". ولم أجد ما يدلُّ على هذا إلَّا ما حكاه أبو الخير التيناتي الأقطع المتوفى سنة 349 هـ عن قاصٍّ سمعه بمصر. انظر: تاريخ دمشق 66/ 165.

(3)

تفسير ابن جرير 9/ 3. [المؤلف]

ص: 61

وأقرب ما يقال هنا أن المعنى: إلا أن يشاء الله خذلاننا أو خذلان بعضنا، فيكلنا إلى أنفسنا فنعجز، وقد نقع في الشرك، ولذلك قال بعد هذا:{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} .

وقد يقال: إن الاستثناء إنما هو بالنسبة إلى الذين آمنوا مع شعيب ولم يكونوا أنبياء ولا معصومين.

وقد قال جماعة: إن إبليس وهاروت وماروت كانوا ملائكة. وأجابوا عن العصمة بأن الملك معصوم مادام ملكًا، وقد يُحَوِّلُهُ الله عز وجل عن الملكيَّة إلى خَلْقٍ آخر فتزولُ العصمة.

كذا قالوا، وقد يقول مَن زعم أن المنسلخ عن الآيات كان نبيًّا بأنَّ النبيَّ معصومٌ مادام نبيًّا، ثم إن قُدِّر أن الله عز وجل سَلَبَ نبيًّا النبوة زالت العصمة. وقد يجيبون عما يلزم ذلك من عدم الوثوق بإخبار من ثبتت نبوته لاحتمال السَّلْب لو جاز بأن يقولوا: إنْ قُدِّر وقوعُ ذلك فلا بدَّ أن يقيمَ الله عز وجل حجة قاطعة تُعْرَفُ بها الحقيقة.

وبالجملة فهذا قول مرغوب عنه، منفورٌ منه، وإنما المقصود أن عصمة الملائكة عليهم السلام لا تنافي شدَّة خشيتهم لله وخوفهم من عذابه.

وأما الجنُّ والإنس فإنهم حملوا الأمانة، كما يأتي، فكان الابتلاء في حَقِّهِمْ أتمَّ والاختلاف أعمَّ. وإذ كانوا خُلِقُوا للابتلاء، ومن لازم الابتلاء الاختلاف، صَحَّ أن يقال: خُلِقُوا للاختلاف. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].

ص: 62

اختلف السلف والخلف في تفسير الآية، والأَوْلَى بظاهر التنزيل ما رُوِيَ عن مجاهد قال:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} : "أهل الحقِّ وأهل الباطل"، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} ، قال:"أهل الحقِّ"

(1)

.

وعن الحسن البصري قال: "وللاختلاف خَلَقَهُمْ"

(2)

.

أقول: فالاستثناء منقطع، أي: ولكن مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُهْدَى للحق.

وتَأَوَّلَ ابنُ جريرٍ الخَلْقَ للاختلاف بقوله: "فإن قال قائلٌ: فإن كان تأويل ذلك كما ذَكَرْتَ فقد ينبغي أن يكون المختلفون غَيْرَ ملومين على اختلافهم؛ إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم

قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذَهَبْتَ، وإنما معنى الكلام ..... ولعِلمه، وعلى عِلمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم ــ أنه قد يكون فيهم المؤمن والكافر والشَّقِيُّ والسعيد ــ خلقهم، فمعنى اللام في قوله:{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} بمعنى على

"

(3)

.

أقول: وهذا يلاقي ما قَدَّمْتُه إلا أنه لا يخلو عن تَكَلُّفٍ

ولما كان الكمالُ في العبادة صَعْبَ الحصول لما فيه من العناء والمشقة كان لا بُدَّ مِنْ باعثٍ للخلق يُهَوِّنُ عليهم ذلك، وليس إلا وعد المطيع بما تَعْظُمُ فيه اللَّذَّةُ وإيعاد العاصي بما يَعْظُمُ فيه الألم. [ز 4] والناسُ في هذه النشأة المبْنِيَّةِ على الابتلاء لا يكادون يتصوَّرون اللَّذَّة والألم إلا فيما يناسب ما

(1)

تفسير ابن جرير 12/ 80. [المؤلف]

(2)

المصدر السابق.

(3)

تفسير ابن جرير 12/ 81. [المؤلف]

ص: 63

عرفوه منهما. ومن جهةٍ أخرى فعدلُ الله عز وجل ورحمته يقتضي أن يكافئ كلًّا بما يستحقُّه، فلذلك خلق الله عز وجل الجنَّة والنار، وذكر من وصفهما لعباده ما يناسب أفهامَهُمْ حتى يدركوا أن في الجنَّة غاية اللَّذَّة، وفي النار غاية الألم.

ولما كانوا على كلِّ حالٍ لا بدَّ أن يختلفوا كما تقدَّم، وإذا اختلفوا استحقَّ بعضهم الجنَّة، وبعضهم النار، وقد أحاط علمُ الله عز وجل وقَضَاؤُه وقَدَرُه بتفصيل ذلك قبل خَلْقِهِمْ، صَحَّ أن يقال: إن الله عز وجل خلق هؤلاء سعداءَ للجنَّة، وهؤلاء أشقياءَ للنار، كما جاء في أحاديث.

فقد عَلِمْتَ بحمد الله عز وجل أنه لا منافاة بين العقل الصريح والنقل الصحيح، ولا بين النصوص، فالله عز وجل خلق الخلق ليَكْمُلُوا، وكمالهم في عبادته، فقد خلقهم لعبادته، ولا يكون الكمالُ والعبادةُ إلا بطريق الابتلاء، فقد خلقهم لِيَبْلُوَهُمْ، والابتلاء يؤدِّي إلى الاختلاف ولا بدَّ، فقد خلقهم ليختلفوا، والاختلاف يقتضي مصير هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فقد خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار.

فصلٌ

وإذ قد علمتَ هذا فنبني الجواب على الابتلاء، فنقول: إن الله عز وجل إنما أنشأ الناس هذه النشأة للابتلاء، كما قال:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وإذ كانت للابتلاء فالأمر فيها كالخلق لا بُدَّ أن يكون مناسبًا للابتلاء، وذلك بأن تكون حُجَجُ الحق دون منالها عناءٌ ومشقَّةٌ، وكيف لا وطَلَبُهَا من جملة العبادة، والعبادة كما تقدَّم تستدعي العناءَ

ص: 64

والمشقَّةَ، وإذا كان لا بُدَّ أن يكون دون منالها عناءٌ ومشقة لزم أن لا تكون ظاهرة مكشوفة كما اقْتَرَحْتَ.

ثم رأيتُ في أوائل الرسالة

(1)

للإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره ممَّا فرض عليهم، فإنه يقول جل ثناؤه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] ".

* * * *

(1)

22 - 23.

ص: 65