المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأصل الثالثإصابة الحق فيما يمكن اشتباهه تتوقف على ثلاثة أمور: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع - رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

- ‌ بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها

- ‌الأصل الأولحجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ

- ‌الأصل الثانيالحجج والشبهات

- ‌ الأصل الثالثإصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

- ‌ أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

- ‌ فصلالمنتسبون إلى الإسلام أقسام:

- ‌بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقادوهي غير صالحةٍ للاستناد

- ‌ التقليد

- ‌ القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين

- ‌الأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ

- ‌ تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد

- ‌ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا

- ‌ تفسير الإله بالمعبود

- ‌فصل في تفسير أهل العلم للعبادة

- ‌ حاصل ما تقدَّم في هذا الباب

الفصل: ‌ الأصل الثالثإصابة الحق فيما يمكن اشتباهه تتوقف على ثلاثة أمور: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

[ز 8]

‌ الأصل الثالث

إصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

.

أما التوفيق، فالتوقُّف عليه ظاهرٌ، وإنما الشأن في سبب حصوله، وقد بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت].

والجهاد فيه عز وجل يتضمَّن الأمرين الآخرين، أعني الإخلاص وبذل الوسع، فَعُلِمَ أن حصولَهما سببٌ لحصول التوفيق، وعلى ذلك حجج أخرى، وسيأتي بعضها.

وأما الإخلاص، فهو رغبة صادقة في إصابة الحق لا يعارضها هوًى مُتَّبَعٌ، ومسالك الهوى لا تحصى قد تقدَّم بعضها في الأصل الثاني.

وعلى الناظر في مسألة من المسائل أن يفتِّش نفسه قبل البحث فيها، ثم في أثنائه، مثلًا إذا أردت النظر في حكم الماء القليل تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّرُه ففتِّش نفسك قبل البحث فإنها لا تخلو عن حالين، إما أن تودَّ وتشتهيَ واحدًا معيَّنًا مِن الطرفين: التنجُّس وعدمه، وإما أن لا يكون لها ميلٌ إلى ذا ولا ذاك، وإنما تودُّ معرفة الراجح منهما شرعًا، فإن وجدتَها على الحال الثانية فهي حينئذ بريئة من الهوى، وإلَّا كأنْ تجدها تَهْوَى عدم التنجُّس، ففتِّش عن سبب ذلك الميل، وقَوِّمْ نفسك إن استطعت.

فإن وجدتَ السبب هو الرأي المحض كأن تقول: إن النجاسة إذا لامست الماء ولم ينحلّ منها فيه شيء كبعرة مُس بها الماء فأبْعِدَتْ عنه فورًا،

ص: 73

أو كانت يسيرةً جدًّا على

(1)

لا يظهر منها أثرٌ مَّا على الماء، فإنه بعيد في النظر أن تنجسه، فاستَحْضِرْ أن الله تبارك وتعالى أعلمُ منك وأحكمُ؛ فلعلَّه سبحانه عَلِمَ حِكْمَةً خَفِيَتْ عنك.

وإن وجدته حبَّ التيسير على نفسك فعِظْهَا واستحضر فناء الدنيا وبقاء الآخرة وغير ذلك.

وإن وجدته حبَّ التيسير على الناس فاستحضر أن ربهم أرحمُ بهم منك، وأن الخير لهم إنما هو في طاعة ربهم في العسر واليسر.

وإن وجدته حبَّكَ لإمامك أو شيخك لأن مذهبه عدم التنجس فاستحضر عدم عصمته، وأنك إنما كُلِّفْتَ بطاعة الله ورسوله، وإنما ينبغي لك البحث لتعرف ما هو أقرب إلى طاعة الله ورسوله فتتبعه.

فإن استطعت أن تردَّ نفسك إلى الاعتدال فانظر في المسألة ولا تنس مراقبة نفسك أثناء البحث فإنه قد يَعْرِضُ لها هوىً لم يكن قبلُ.

وإن لم تستطع فعلى الأقلِّ تَعَرَّفْ هواها وعامِلْها معاملة الخصم الأَلدِّ، فإذا لم يحصل لك من البحث إلا الرجحان النفسيُّ فلا تثق به، وإذا ظهر لك دليلٌ يوافق هواك فأمعن في تأمُّلِه والتفكُّر فيما يخدش فيه أو يعارضه كما تصنع في دليل خصمك، واستعن بمراجعة مَن يخالفك.

وتَفَقَّد المسائل الخلافية التي قد استقرَّ في نفسك الحكمُ فيها وترى أنه إنما استقرّ للحجة، فتدبَّرْ تلك الحجة، فإن وجدتها قاطعة كَنَصٍّ قاطعٍ يكون القدحُ فيه قدحًا في الشارع، أو كإجماع محقَّقٍ، كفاك ذلك، وإن وجدتَها

(1)

كذا في الأصل، ولعلّها:"على ألّا"، أو "على" مقحمة.

ص: 74

دون ذلك فإنك لا تأمَنُ أن تكون شبهةً رجَّحَها عندك الهوى.

ومن علامات الهوى أن تجد نفسك تضيق وتنقبضُ إذا سمعت آية أو حديثًا احتجَّ به مخالفك وتتمنَّى أن تظفر بما تردُّ به احتجاجه، ومما تعرف به ميلك مع الهوى أن تنظر في نظائر حجتك وتأويلك فلعلَّك قد رَدَدْتَ مثلَ ذلك أو أقوى منه على مخالفك في تلك المسألة أو غيرها، وتنظر في نظائر حجة خصمك وتأويله فلعلَّك قد اعْتَمَدتَ على مثله أو دونه، والله الموفق.

وأما بذل الوسع ففي ثلاثة أمور:

الأول: تَعَرُّفُ الهوى، وتطهيرُ النفس منه، أو التحرُّزُ من اتِّباعه، وقد مضى.

الثاني: تقوى الله عز وجل والاستكثارُ من الطاعات واجتناب المعاصي والمكروهات، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [أوائل البقرة]، والأدلَّة على هذا كثيرةٌ، وهذا الأمر متضمِّنٌ للأمر الأوَّل، وإنما أفردت الأوَّل لدقَّته وغلبة التقصير فيه، ومتضمِّنٌ للثالث كما يأتي.

الثالث: طلب العلم، وهو على درجاتٍ.

الدرجة الأولى: تحصيل الضروري من العقائد، وهو ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا إذا كان معتقدًا له. وهذا أمرٌ ميسَّرٌ في الإسلام لولا ما كَدَّرَهُ من إذاعة الشُّبَه وإشاعة البدع حتى أصبح الخلاص منها صعبًا على العلماء فضلًا عن العامة.

ص: 75

الدرجة الثانية: الضروريُّ من الأحكام، وهذا أيضًا مُيَسَّر؛ لأنه متواترٌ كفرض الصلوات الخمس وأعدادها.

الدرجة الثالثة: العقائد التي يَصِحُّ أصلُ الإيمان مع خُلُوِّ الذهن عنها، ولكنَّ اعتقادَ الحقِّ فيها مشروع، واعتقاد الباطل فيها قد ينافي أصل الإيمان أو يخدشُ فيه. والأمر في هذا سهل أيضًا على مَن وفَّقه الله تعالى، وذلك بأن يستمرَّ على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن، فإن أراد المعرفة أعدَّ لها عُدَّتها، ثمَّ يبذل وسعَه حتى تقهرهُ الحجَّةُ.

الرابعة: الأحكام الفرعية، والأمر فيها سهلٌ أيضًا، فإنه يكفي العاميَّ فتوى العالمِ والأخذُ بالأحوط ما استطاع، فإن أراد المعرفة أعدّ لها عُدَّتها ثمَّ نظر.

وبالجملة فالصعوبة في الدرجة الأولى إنما جاءت من إشاعة الشُّبَهِ والبدع، فمتى رُزِقَ العامَّةُ دولةَ حقٍّ تَسُدُّ عنهم ذلك استراحوا كما كان في أوائل الإسلام، وقصة عمر مع صبيغ بن عسل معروفة

(1)

، فإن لم يكن ذلك

(1)

يعني صَبِيغ بن عِسْلٍ الحنظليَّ. وقصَّته مع عمر رضي الله عنه وردت من طرقٍ متعدِّدةٍ وبألفاظٍ مختلفةٍ. منها: ما أخرجه الدارميُّ من طريق سليمان بن يسارٍ، أن رجلًا يُقال له صَبِيغٌ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه ــ وقد أعدَّ له عراجين النخل ــ، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغٌ، فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي. وأخرجه أيضًا من طريق نافعٍ بسياقٍ أتمَّ. سنن الدارميِّ، المقدِّمة، باب مَن هاب الفتيا وكره التنطُّع والتبدُّع، 1/ 252 و 254، ح 146 و 150. وانظر: الشريعة للآجرِّيِّ 1/ 481 - 484، ح 152 - 153، الإبانة لابن بطَّة 1/ 414 - 415، ح 329 - 330، اعتقاد أهل السنَّة للالكائيِّ 4/ 634 - 636، ح 1136 - 1140، ذم الكلام للهرويِّ 4/ 242 - 244، ح 706 - 707، الإصابة 5/ 306 - 307، الدر المنثور 2/ 152 - 153.

ص: 76

فإنما يهوِّنُ عنهم الشر تمييزُهم بين علماء الحق وغيرهم، فيقتدون بعلماء الحق ويهجرون غيرهم، ويَسُدُّون آذانهم عن سماع الشُّبَه وقَبُولِ البدع، وقد كان هذا في القرون الأولى. وأما بعد ذلك فاختلط الأمر بل انعكس، فَمَنْ رزقه الله تعالى من العامَّة معرفةَ عالمٍ من علماء الحق فاقتصر عليه وهجر سماسرة الشُّبَه وأنصارَ البدع فقد فاز.

وأما الدرجة الثانية فلا صعوبة فيها على مَنْ سَلِمَت له الأولى.

وأما الثالثة فكالأولى، فإن العامِّيَّ بعد شيوع الكلام فيها لا يكاد يستطيع الاستمرار على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن إلا أن يقيَّض

(1)

له عالِمٌ من علماء الحق فيلزمه ويدع مَنْ سواه.

وأما الرابعة فإن ما حدث من غلو الناس في مذاهبهم والتعصب على مخالفها حال بينهم وبين الأخذ بالأحوط والوقوف عند الحدِّ. وعلى كل حال فالأمر على العامي أسهل؛ لأن إعداد العُدَّة للعلم إنما يحصل بطلب العلوم من أهلها الراسخين فيها، ولا تجد علمًا من العلوم إلا قد شاركت فيها البدع والأهواء، ولا تكاد تجد عالمًا راسخًا في هذه الأزمنة فإن وجد فخاملٌ غير معروفٍ، فإن عُرِف فمرميٌّ بالضلال عند الجمهور.

وطالب العلم لا بُدَّ أن يقلد شيخه والكتاب الذي يقرؤه؛ لأنه لا يكاد يستطيع أن يبقى على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن حتى تقهره الحجة، فإنها تَعْتَوِرُه

(1)

في الأصل بالظاء المشالة.

ص: 77

شبهاتٌ وأهواءٌ تخيِّل إليه أنه قد عقل الحجَّة واتَّضحت له في كثير من المسائل، ثم ينشأ على الهوى لتلك المسائل وعلى الهوى لشيخه ومذهبه وعلى تَوَهُّم أن الحقَّ محصورٌ فيه، فإن فرض أنه بلغ رتبة العلم الحقيقيَّة لم يكد ينتفع بها، ولكنَّه مع هذا كلِّه إذا ناقش نفسه الحساب وألزمها صدق النظر وصحَّت نيَّته أن يجاهد في الله حقَّ الجهاد فلا بدَّ أن يهديه الله تبارك وتعالى سبله، والله الموفق.

* * * *

ص: 78

فصل

حكم الجهل والغلط

(1)

خفاء الكثير من حجج الحق يلزمه وقوع الجهل والغلط، والناس في ذلك ثلاث طبقات، الطبقة الأولى: من لم تبلغه دعوة نبي أصلًا، قال الله تبارك وتعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 13 - 16].

خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل

(2)

، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردِّه.

[ز 8]

(3)

وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد

(1)

قوله: (فصلٌ) جاء متَّصلًا بالكلام السابق. والعنوان الجديد (حكم الجهل والغلط) وما بعده إلى قوله: (تغني حكايته عن ردِّه) كان ملحقًا بصفحة عنوان القطعة السابقة (أصول ينبغي تقديمها).

(2)

انظر: روح المعاني 15/ 37.

(3)

من هنا تبدأ القطعة المسمّاة (رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى، لكن تكرَّر عند المؤلِّف وضع الرقم (8) على هذه الورقة، فتبعته على ذلك.

ص: 79

بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل

(1)

كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، واحتجوا على ذلك بقوله عقب هذه الآية:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الآية، فنظروا إلى ما بعدها وغفلوا عما قبلها.

والحق أن الرسول هو الرسول المعروف، وأن العذاب على إطلاقه، فيتناول الأخروي والدنيوي، وترتبط الآية بما قبلها وما بعدها، ولله الحمد. ولا يشكل على الآية ما يشاهَد من عموم الهلاك للصبيان والمجانين وما يتفق من هلاك مَنْ لم تبلغه دعوة؛ فإنه ليس كلُّ هلاكٍ عذابًا، ألا ترى إلى الطاعون هو رجز على الكفار وشهادة للمؤمنين، وإنما يكون الهلاك عذابًا إذا كان عقوبة على ذنب.

هذا وفي القرآن آيات أخرى تشهد لهذا المعنى، كقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} ، إلى قوله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 128 - 131].

وقوله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71].

(1)

انظر: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي 2/ 68. ونسب هذا القولَ القرطبيُّ (10/ 231) وأبو حيان (6/ 10) والشوكاني (3/ 306) إلى الجمهور، مع ترجيح الأخيرين ما رجَّحه المؤلِّف.

ص: 80

وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} ، إلى أن قال:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 6 - 9]، وهذه الآيات صريحة في أن جميع الذين يدخلون النار من الكفار قد جاءتهم نذرٌ منهم فكذبوهم، وقوله:{فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} صريح في أن المراد بالنذير النبي، فاندفع ما يزعمه بعضهم من حمل النذير على العقل

(1)

.

وذكر سبحانه وتعالى الرسل، ثم قال: {رُسُلًا

الرُّسُلِ} [النساء: 165].

أوضح تبارك وتعالى بهذه الآيات أن من عدله وحكمته ورحمته ألا يعذب حتى يرسل رسولًا، فأخطأ قوم فقالوا ما سبق من أن المراد بالرسول في الآية هو العقل، فلا مع الشرع وقفوا، ولا عدل الله وحكمته عرفوا.

والحامل لهم على ذلك: أنهم زعموا أن العقل مستقل بإدراك وجود الخالق وأنه قادر عليم حكيم، وبإدراك أن الحكمة تقتضي المنع من القبيح وتقتضي تعذيب مرتكبه بشرطه، وبإدراك قبح كثير من الأعمال. قالوا: فمن لم تبلغه دعوة أصلًا إذا أدرك ما تقدم ومع ذلك ارتكب القبيح فقد استحق العذاب، وإن قَصَّر في إدراك ما تقدم أو بعضه فكذلك يستحق العذاب على التقصير وعلى ارتكاب القبيح.

أقول: كأن القوم قاسوا من لم تبلغه دعوة أصلًا على أنفسهم، فظنوا أنه

(1)

الحرف الأخير لم يظهر في الصورة.

ص: 81

يكون كواحدٍ منهم في سرعة الانتقال، وسهولة الاستدلال، وتيسُّر دَفْع الشبه في الجملة، وغير ذلك. ولو فكَّروا قليلًا لعلموا أن البون شاسع؛ فإنهم تلقَّنوا العقائد صغارًا ونشؤوا على قبولها والسكون إليها، وعامَّة الناس حولهم مطبقون عليها، وبَلَغتْهم الشرائع وما نبَّهتْ عليه من الحجج ودفع الشبهات، وبلغهم كلامُ العقلاء الذي تلقَّوه من الشرائع وفسَّروا به ما نبَّهتْ عليه من الحجج وفرَّعوا عليها. ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا بعيدٌ عن هذا كله، ونحن نجد من المنهمكين في العقليات المقصِّرين في الشرعيَّات من تكون عاقبتُه الإلحادَ أو الارتيابَ مع أنهم قد تلقَّوا كلام العقلاء في الحجج التي اقتبسوها من الشرائع أو فَرَّعوها عليها [ز 9] فما بالك بمن لم تبلغه دعوة أصلًا؟

وهَبْ أن النظر العقلي يستطيع أن يُثْبِتَ على مَنْ لم تبلغه دعوة إجرامًا أو تقصيرًا، فقد بقي وراء ذلك عفو الرؤوف الرحيم.

فإن قيل: إن غلاة هؤلاء يجحدون العفو ويزعمون أنه قبيح؛ لأنه خلاف الحكمة!

فالجواب: أن تلك منهم مكابرة للعقل والشرع، ثم ما عساهم يقولون في الأطفال رُفِعَ عنهم القلم حتى يبلغوا الحلم؟ فإن قيل: إن الطفل يكون تمييزه ضعيفًا. قلت: ذاك في أول أمره، وقد لا يبلغ الغلام إلّا لتمام خمس عشرة سنة، أو ثماني عشرة على الخلاف في ذلك، وقد يكون ابنُ ثلاث عشرة أو أربع عشرة أعقلَ من كثير من الرجال، فأما إذا كان من قوم بلغتهم الدعوة واتبعوها فقد يتعلَّم ويتدرَّب وينظر ويتدبَّر، فيكون أَقْوَمَ بمعرفة الحجج من أُمَّة بكمالها لم تبلغها دعوة أصلًا.

ص: 82

هذا، وإذا كان المدار على التمييز فما بال الغلام يكون الآن غير مكلف، ثم يبلغ بعد ساعة فيصير مكلَّفًا، والبلوغ لا يزيد في العقل شيئًا؟ بل لو قال قائل: إنه ينقصه لما يطرأ من قوَّة الشهوة التي تغالب العقل لَمَا أَبْعَدَ.

فإن قيل: المناط في الحقيقة هو التمييز، ولكنه غير منضبط، فضبطه الشارع بالبلوغ، على ما تَقَرَّر في أصول الفقه في بيان العلَّة، ويمثِّلونه بعلَّة قَصْر الصلاة أنها في الأصل المشقةُ، ولكن لعدم انضباطها ضبطها الشارع بالسفر بشرطه، واغتفر ما قد يترتب على ذلك من الإخلال بأصل الحكمة في بعض الجزئيات مراعاة لحكمة الضبط التي هي أهمُّ.

قلت: فقد يقال: إن ضبط المناط إنما يُحتاج إليه في إقامة الأحكام الدنيوية على المكلَّف كالحدود ونحوها، فأما الجزاء الأخروي فالله عز وجل لا تخفى عليه خافية، فقد كان يمكن أن يُقال للناس: أما أنتم فلا تُجْرُوا على الصبي حكم المكلَّف حتى يبلغ، وأما الصبي في نفسه فينبغي له إذا حصل له أصل التمييز أن يعامِلَ نفسه معاملة المكلَّف؛ لأنه قد يكون حصل له في علم الله تعالى نصاب التمييز فيكون في علم الله تعالى مكلَّفًا يستحق العقوبة في الآخرة على إجرامه وتقصيره. وهذا ــ مع ما يظهر من مطابقته للحكمة ــ فيه مصلحة ظاهرة ومعونة لوليِّ الصبي على ما أُمِر به من تعويد الصبي المحافظة على الفرائض واجتناب القبائح وتأديبه على الإخلال بذلك.

أقول: لا أعرف لهم جوابًا ينفعهم، وأما نحن فنقول: إن الله تعالى عَفُوٌّ كريم، فعفا عن الصبيِّ حتى يبلغ. ومع ذلك فقد دلَّتنا الشريعة على الحكمة في ذلك، وهي أنه كما يُحتاج إلى ضبط مناط التكليف لتعريف الناس متى يعامِلون الإنسان معاملة المكلَّف، فإنه يُحتاج إلى ذلك لأمرين آخرين:

ص: 83

أحدهما: تعريف الملائكة الموكَّلين بكتابة الأعمال وغيرها، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله فَكَمَّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَنْ يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله [ز 10] فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فَانْطَلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب

"، الحديث

(1)

.

الأمر الثاني ــ وهو الأعظم ــ: معرفة الأشهاد ليشهدوا يوم القيامة، وذلك أن الناس يجادلون عن أنفسهم هناك، قال الله عز وجل:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111].

والله تبارك وتعالى هو الحكم العدل، فاقتضى كرمه وعفوه وفضله وكمال عدله ألَّا يقطع جدال المجادل هناك بقوله:"أنا أعلم"، بل يقيم عليه الشهادة من الرسل والملائكة حتى تشهد عليه أعضاؤه، فَيُعْذِر من نفسه، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ

(1)

وهذا لفظ مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل إلخ، 8/ 103، ح 2766. ونحوه في صحيح البخاريِّ في ترجمة "باب" قبل باب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 174، ح 3470.

ص: 84

شَهِيدًا} [النساء: 41]

(1)

.

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [خاتمة الحج].

وفي مسند أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فَيُدْعى قومُه فيقال لهم: هل بَلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيقال له: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدْعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرُّسُلَ قد بَلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال: يقول: عدلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} "

(2)

.

وأصل الحديث في تفسير هذه الآية من صحيح البخاريِّ

(3)

وفيه: "والوسط: العدل".

وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا

(1)

ونحوها في سورة النحل: 89، والقصص:75. [المؤلف]

(2)

مسند أحمد 3/ 58. [المؤلف]

(3)

كتاب التفسير، باب قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ

} 6/ 21، ح 4487.

ص: 85

تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].

وآياتٌ أخرى في إثبات ذلك.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 19 - 23].

وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].

وفي صحيح مسلمٍ من حديث أنس قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك، فقال:"هل تدرون مِمَّ أضحك؟ " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"مِنْ مخاطبة العبد ربَّه عز وجل، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنّ فعنكُنَّ كنت أناضل"

(1)

.

(1)

صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2969. [المؤلف]

ص: 86

وفيه من حديث أبي هريرة: " .... فيَلْقَى العبدَ، فيقول: أي فُل

(1)

، ألم أكرمك وأُسَوِّدْك

(2)

وأزوجك وأسخِّرْ لك الخيل والإبل وأَذَرْكَ تَرْأس

(3)

وتَرْبَع

(4)

؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، [ز 11] فيقول: فإني أنساك كما نسيتني"، ثم ذكر الثاني كذلك، ثم قال: "ثم يَلْقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيت وصمت وتصدَّقْت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذًا

(5)

، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: مَنْ ذا الذي يشهد عليَّ، فيُختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه

(6)

، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه"

(7)

.

أقول: ظاهر الآيات في شهادة الرسل أنهم يشهدون على مَنْ أدركوه وبلَّغوه. ويؤيِّده ما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117].

ثم من الناس من يجحد شهادة الرسل، فيشهد لهم نبينا صلَّى الله عليه

(1)

يا فلان.

(2)

أجْعَلْكَ سيّدًا على غيرك.

(3)

أَلَمْ أَدَعْكَ تكون رئيسًا على قومك.

(4)

أي تأخذ مِرْباعَهم وهو رُبْعُ الغنيمة.

(5)

إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت فاثبُتْ هنا إذًا كي نُرِيَك أعمالك.

(6)

ليقطع الله عُذْرَه وتقوم الحجة على العبد بشهادة أعضائه عليه.

(7)

صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2968. [المؤلف]

ص: 87

وآله وسلَّم وأمته. والسِّرُّ في ذلك والله أعلم ــ مع ما له صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من الفضائل ــ أنه يكون قد سبق تقديم أهل المحشر كلِّهم له صلى الله عليه وآله وسلم للشفاعة العظمى، وظهر لهم بذلك عُلوُّ منزلته وسعيه فيما ينفعهم، فكأنهم في ضمن ذلك قد عرفوا واعترفوا بأنه أهلٌ لأن تُقْبَلَ شهادته، وأمتُه تبعٌ له.

ثم من الناس من لا يقنع بهذه الشهادة وشهادة غير الأنبياء من الناس كشهادة الصحابة على التابعين، فيُشْهِدُ الله عليهم الملائكةَ وغيرهم مما ورد في الآثار من شهادة الأماكن والأحجار والأشجار وغيرها. ثم منهم مَنْ يَرُدُّ هذه أيضًا، ويقول كما تقدَّم في الحديث:"لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا منّي"، فيُنْطِق الله تبارك وتعالى أعضاءَه فتشهد، فيُعْذِرُ من نفسه.

فلو كان الله عز وجل يكتفي في قطع العذر يوم القيامة بأن يقول: "أنا أعلم" لَما اقتضت الحكمة كتابة الحَفَظَة ولا إقامةَ ما تقدَّم من الشهادات، لكنه تبارك وتعالى اقتضى كرمه وفضله وعفوه وكمال عدله ألَّا يكتفي بذلك.

فلهذا نقول: اقتضى كرم الله تعالى وعفوه وكمال عدله أن يُرفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، ولا يُكتفى باستكماله نصاب التمييز قبل بلوغه، إذ لو اكتُفي به فاعتذر يوم القيامة بقوله:"كنت صبيًّا لم أستكمل التمييز" لَما أمكن إقامة الشهادة عليه، لِما تقدَّم أن التمييز لا ينضبط، فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا الأعضاء؛ بخلاف مَنْ بلغ سليمَ العقل، فإنهم يشهدون عليه أنه كان قد بلغ سليم العقل، ومعلوم أن مَنْ بلغ سليم العقل يكون قد استكمل نصاب التمييز.

ثم نعود إلى مسألتنا فنقول: الاكتفاء في تكليف مَنْ بلغته الدعوة ببلوغه سليمَ العقل لا يلزم مثلُه فيمن لم تبلُغْه دعوةٌ أصلًا؛ لوضوح الفرق؛ فإن مَنْ

ص: 88

بلغته الدعوة قد نبَّهه الشرع وقَرَّب له الحججَ وعبَّد له طرقَ الاستدلال ودَفْعَ الشبه، ومَكَّنه من سؤال الرسول أو العلماء، وغير ذلك؛ ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا محرومٌ من هذا كلِّه.

فإذا فكَّرنا فيما تقتضي الحكمة أن يكون مناطًا لتكليفه في نفس الأمر لم يكن بُدٌّ من أن نعتبر مع التمييز الذي يكون لمن بلغ سليمَ العقل أمرًا آخر كسلامة الفطرة وقوَّة الفطنة، وهذا الأمر الآخر لا ينضبط فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا هو نفسه، [ز 12] فاقتضى كرمُ الله تبارك وتعالى وعفوُه وكمالُ عدله وحكمته أن ينوط الحكم ببلوغ الدعوة، فيكون مناطُ التكليف هو بلوغ الحلم مع سلامة العقل وبلوغ الدعوة، وقد صرَّحت الآيات السابقة بإقامة الحجة ببلوغ الدعوة، وفيها:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71]، وأنه لو أهلكهم قبل الرسول لاعتذروا هناك بقولهم:{لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134، القصص: 47].

فقد اتَّضح بحمد الله تبارك وتعالى تطابق العقل والنقل على أن مَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا ليس بمكلَّف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فصل

وأخطأ آخرون فزعموا أن الآية

(1)

تتناول العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليسوا بمعذَّبين على ما كان منهم من الشرك وغيره

(2)

،

(1)

يعني قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .

(2)

انظر: روح المعاني 15/ 40 - 41.

ص: 89

وقد ردَّ النووي في شرح مسلم

(1)

هذا القول فأجاد.

وكأن هؤلاء القوم توهَّموا أن معنى الآية: وما كنا معذِّبين أحدًا من أمَّةٍ حتى نرسل إليها رسولًا، ثم توهَّموا أنه لم يُرْسَلْ إلى العرب رسولٌ قبل محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم أو أن الرسول أو الرسل الذين أرسلوا إلى العرب قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت قد اندرست شرائعهم، فصار العربُ كمَنْ لم يُرْسَلْ إليهم رسول حتى أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أخطؤوا في كلا الأمرين، أما الأول فإن الآية مطلقة، فمعناها: وما كنا معذِّبين أحدًا حتى نرسل رسولًا، فتتناول كلَّ أحد وكلَّ رسول سواء مَنْ كان من أمَّة الرسول ومَن كان من غيرها، وإنما الشرط بلوغ الدعوة فقط، على ما تقدَّم، مع قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

والغلط في هذا مبنيٌّ على الغلط في فَهْمِ ما أشار إليه القرآن وصرَّحت به السُّنَّة من أن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان أحدُهم يُرسل إلى قومه خاصة، فتوهَّموا أنه إذا أُرسل إلى قومه خاصَّة لم يكن له بغيرهم عُلْقَة. والحقُّ أنَّ معنى إرساله إلى قومه خاصَّة أنه لم يؤمر بالتجَرُّدِ لتبليغ غيرهم وبَذْلِ المجهود فيه كما أُمِرَ بذلك في قومه، بل يكفيه في غير قومه ما تيسَّر له من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا لقيهم وأَمِنَ من شرِّهم ونحو ذلك.

(1)

3/ 79.

ص: 90

فلما أُرْسِلَ هود إلى عاد كان غيرُهم من الأقوام الذين بلغتهم دعوتُه على قسمين: أمَّة فيها رسول حيٌّ أو قد مات ولكن شريعته باقيةٌ محفوظة، فهؤلاء يكفيهم رسولُهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودًا، وأمَّة لم يُبعث إليها رسول أو بُعِث ثم مات واندرستْ شريعتُه أو بعضُها، فهؤلاء يلزمُهم أن يأتوا هودًا ويطيعوه.

قال الحَليمي في منهاجه: "إن العاقل المميز إذا سمع أيّة دعوة كانت إلى الله تعالى، فترَك الاستدلال بعقله على صحَّتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضًا عن الدعوة، فيكفر"، نقله في روح المعاني

(1)

.

ولا ريب أنهم إذا جاؤوه لم يقل لهم: لا شأن لي بكم إنما أُرْسِلْتُ إلى غيركم.

وفي الفتح في الرَّدِّ على من زعم أن رسالة نوح كانت عامَّة بدليل أنه دعا على جميع أهل الأرض فأُغرقوا: "ويحتمل أن يكون دعاؤه قومَه إلى التوحيد بَلغ بقيَّة الناس فتمادوا على الشرك فاستحقُّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطيَّة في تفسير سورة هود. قال: وغيرُ ممكن أن تكون نُبوَّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مُّدَّته"

(2)

.

أقول: وكان نوح قريبَ العهد من آدم، فكأنَّ أهل الأرض كانوا في عهده قليلًا متقاربين لم ينتشروا في الأرض كلها، وإنما هم في إقليم واحد، ولم يثبت بدليل صحيح ما يخالف ذلك، وليس في الإسلام ما ينص على أن آدم

(1)

4/ 495. [المؤلف]. وهو في المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/ 175.

(2)

فتح الباري، أوائل كتاب التيمم، 1/ 298. [المؤلف]. وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 572.

ص: 91

كان قبل ستة آلاف سنة ولا أكثر ولا أقلَّ، وكذلك نوح، وإنما عندنا قوله تعالى:{وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38]، وما في الكتاب الذي يزعم اليهود أو النصارى أنه التوراة من تحديد المُدَّة لا نقول بصحته، وقد أبطله الأوربيون أنفسهم.

[ز 13] وقد كان موسى رسولًا في الأصل إلى قومه بني إسرائيل، ولم يكن عليه بمقتضى أصل الرسالة أن يتجرَّد لتبليغ فرعون وآله، وإنما أُمِر بالذهاب إلى فرعون ليستخلص منه بني إسرائيل، فإنه كان يستعبدهم، ولا يمكن تبليغهم كما يجب وإقامةُ الشريعة فيهم حتى يخلصوا من الاستعباد ويصيروا إلى بلد لا معارِض فيها لإقامة الشريعة. قال الله عز وجل:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ، إلى أن قال:{وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 103 - 105].

وقال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} إلى قوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 43 - 47].

وقال سبحانه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 10 - 17].

فظهر بما ذكر أن جِدّ موسى عليه السلام في تبليغ فرعون كان مداره

ص: 92

على أن يرسل معه بني إسرائيل، فلو أن فرعون أرسل معه بني إسرائيل لذهب معهم ولم يتشاغل بتبليغ فرعون وملئه؛ لأنه في الأصل لم يرسل إليهم. ومع هذا فقد لزمهم الإيمان به وقامت عليهم الحجة وبلّغهم هو من أصل الدين ما دعت إليه الحاجة. ولو أرسلوا معه بني إسرائيل لكان عليهم بعد ذلك أن يأتوه حيث كان ويؤمنوا به ويتعلَّموا منه، وقد قَبِلَ الله تعالى إيمان مَنْ آمن منهم، كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والسحرة؛ وعَذَّب الباقين.

وكذلك قاتَل موسى وخلفاؤه الأقوامَ الذين كانوا مستولين على الأرض المكتوبة لبني إسرائيل، ولا نشكُّ أنهم دعوهم إلى الإيمان ولزمتهم الحجة وإن لم يكونوا من قوم موسى الذين أرسل إليهم.

وكذلك نجد موسى أنكر على الخضر ما فعله مما ظاهره المنكر ولم يمنعه من ذلك أنه ليس من قومه الذين أرسل إليهم. وهكذا نجد سليمان عليه السلام لَمَّا تيسَّر له أن يدعو سبأ دعاهم وتَوَعَّدَهم بأن يغزوهم، فجاؤوه وأسلموا معه. وكذلك نجد الإسلام وجد جماعة من العرب قد تهوَّدُوا وآخرين منهم ومن الروم والحبش وغيرهم قد تنصَّروا فعاملهم معاملة أهل الكتاب ولم يقل لهم: إن موسى وعيسى لم يُرْسَلا إليكم.

وهذا يوسف عليه السلام تدلُّ قصته أنه لم يكن رسولًا إلى أهل مصر، فإنه لما قابل الملِك لم يَدْعُهُ، بل سأله أن يولِّيه الخزائن فتولَّاها منه، ثم كان إذا جرى بينه وبين آخر نزاعٌ يكون الحكم على دين الملك، كما يدلُّ عليه قوله تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76].

ص: 93

ثم نراه لمَّا كان في السجن وسأله الرجلان عن حلمهما فآنس منهما الإقبالَ عليه وحسنَ الظن به، تلطَّف في دعائهما إلى الإيمان، قال الله عز وجل:{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 36 - 40]، ثم فسّر لهما رؤياهما.

ولا بُدَّ أنه بعد أن تولَّى الخزانة كان يدعو الناس بحسب ما تيسَّر، كما يصنعه النبي مع مَنْ لم يؤمر بالتجرُّد لتبليغه أو قُلْ مع غير قومه الذين أُرْسِلَ إليهم. وهكذا ينبغي أن يكون فَعَلَ أبوه يعقوب عليه السلام بعد ورود مصر.

ومما يدلُّ على هذا ما أخبرنا الله تعالى به عن مؤمن آل فرعون قوله لقومه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [المؤمن: 34].

زعم بعضهم أن يوسف هذا غير ابن يعقوب

(1)

، كأن هذا الزاعم فَهِمَ

(1)

ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 221، وقال: ليس بشيء. وانظر: الإتقان 5/ 1970.

ص: 94

من هذه الآية أن يوسف هذا كان رسولًا إلى المصريِّين الرسالة الخاصَّة، كما أُرْسِلَ هود إلى عاد، وعلم أن هذا لا ينطبق على يوسف بن يعقوب لما مَرَّ. والصواب أن الآية لا تدلُّ على ما ذكر، بل تدل أن يوسف كان رسولًا أي إلى أهل بيته ومن لعله تبعهم من قومهم، ولكنه تيسر له أن يدعو المصريين ففعل. والله أعلم.

وهكذا ما اشتهر بين أهل العلم أن من الأنبياء مَنْ لم يكن رسولًا، ويفسرون ذلك بأنه لم يؤمر بالتبليغ، لا أرى هذا التفسير على إطلاقه، وإنما معناه الصحيح أنه لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجِدِّ فيه لا لقومه ولا لغيرهم، وإنما يؤمر بما تيسر له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهله وجيرانه ومن يأنس به، فيكون حاله مع الناس كلهم كحال هود مع غير قومه الذين أرسل إليهم على ما تقدم.

وعلى هذا فمن بلغه وجود نبيٍّ غير رسول يكون حاله كمن بلغه وجود رسولٍ في قيام الحجة إذ لا يظهر فرق، وعلى هذا فكلمة (رسول) في قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} المراد بها ــ والله أعلم ــ ما يَعُمُّ النبي، ولا حاجة لدعوى المجاز، ولا إلى ما قيل: إن كل نبي فهو رسول إلى نفسه، بل كل نبي يصدق عليه أنه رسول؛ لأنه لا بُدَّ أن يؤمر بالتبليغ وإن لم يؤمر بالتجرُّد له والجِدِّ فيه.

وقد قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، فدلت الآية أن كلًّا من الرسول والنبي مرسل. نعم إذا أطلق الرسول فالظاهر منه أنه المأمور بالتجرُّد للتبليغ والجِدِّ فيه، لأن معنى الإرسال فيه أقوى، ولكن ذلك لا يمنع من حمل (رسول) في بعض الموارد

ص: 95

على ما يعمُّ النبي الذي لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجد فيه إذا دل دليل على العموم، والدليل هنا ما مر؛ إذ لا يظهر فرق بين من بلغه إرسال رسول ومن بلغه إرسال نبي في قيام الحجة. والله أعلم.

فصل

وأما القول بأنه لم يبعث إلى العرب رسول قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيردُّه أن مَنْ كان منهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فقد دخلوا في رسالتهما؛ إذ لا شبهة أنهما كانا مرسلين إلى أبنائهما، ومَن كان مرسلًا إلى قوم فهو مرسلٌ إلى ذرِّيَّتهم ما تناسلوا، وأما الباقون فقد دخلوا في رسالة إسماعيل، كما جاء أنه أرسل إلى جُرْهُم

(1)

، وجاء أن عادًا وثمود من العرب، وقد أرسل إليهم هودٌ وصالحٌ.

فأما قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الجرز [السجدة]: 3]، فالمراد بالقوم كما هو الظاهر مَن بلغتهم بعثته صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة وغيرهم، وهؤلاء لم يأتهم أنفسهم رسول نذير قبله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يفهم من ذلك أنه لم يأت أسلافهم نذير، كيف ومن أسلافهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما نبيّان مرسلان، ومن أسلافهم أبناء إسماعيل لصلبه، وقد أنذرهم أبوهم إنذارًا مباشرًا، وهكذا يُقال في آيات أخر

(2)

.

(1)

جُرْهُم: حيٌّ من اليمن نزلوا مكَّة وتزوَّج فيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أصهاره، ثمَّ ألحدوا في الحرم فأبادهم الله. لسان العرب 12/ 97.

(2)

كالآية (44) من سورة سبأ، و (46) من سورة القصص. [المؤلف]

ص: 96

وأما قوله تعالى في أوائل سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، فالمراد آباؤهم الأدنون، كما هو الحقيقة، فإن حُمِل على ما يعمُّ الأجداد وإن عَلَوا فلا بُدَّ من قصره على بعض الطبقات لما تقدم.

وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخطأ القائلين به من وجهين:

الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه.

[ز 15]

(1)

فقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار"، وفي روايةٍ:"وكان أول من سيَّب السُّيوب"

(2)

.

والحديث في المستدرك وفيه: "هو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام"، وفي رواية: "هو أوَّل من سيَّب السوائب وغيَّر دين إبراهيم عليه

(1)

من هنا تبدأ القطعة المسمّاة في فهرس المكتبة (رسالة في العقيدة)، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى.

(2)

صحيح مسلمٍ، كتاب الجنة إلخ، بابٌ النار يدخلها الجبَّارون إلخ، 8/ 155، ح 2856. ونحوه في صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب، باب قصَّة خزاعة، 4/ 184، ح 3521. [المؤلف]

ص: 97

السلام"، وفي أخرى: "أول مَن غيَّر عهد إبراهيم

ونصب الأوثان"

(1)

.

وقد وردت آثار في سبب نصبه للأوثان وسبب إشراكه في التلبية سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر، فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي، وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها. ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول، ولا عارفًا يقدم على الثاني.

فأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، وقوله سبحانه:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، فالمعنى أنه لو لم يرسل إليهم رسول لقالوا ذلك على جهة الاعتذار، فقطع الله عذرهم، ولا يفهم من ذلك أنه لو لم يرسل الرسول فقالوا ذلك لقُبِل منهم وعُدَّ عذرًا لهم.

وقد دل قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أنهم مؤاخذون بأعمالهم، على فرض عدم الإرسال وإظهار الاعتذار، فكذلك يقال فيمن هلك قبل البعثة.

(1)

راجع المستدرك، كتاب الأهوال، ذكر أوَّل مَن حمل العرب على عبادة الأصنام، 4/ 605. والإصابة، ترجمة أكثم بن الجون، [1/ 214 - 215]. وفتح الباري، باب قصَّة خزاعة، 6/ 354. [المؤلف]

ص: 98

وقد قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، وليس المعنى أنه لم يأت أسلافهم كما هو واضح، ولا يُفهم منه أنه لو لم يُبعث رسول فقالوا ذلك كان عذرًا مقبولًا. فكذلك لا يكون مَن هلك من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم معذورًا على الإطلاق، فكذلك العرب.

وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [طه: 155 - 157]، فهذا اعتذار قطعه الله تعالى، مع العلم بأنه لو أُرْسِل إليهم رسول بلا كتاب لقامت عليهم الحجة وإن كان ذاك الاعتذار باقيًا، فكذلك مَن هلك منهم قبل بعثة الرسول وإنزال الكتاب بالنسبة إلى ما قامت عليه الحجَّة.

وأما قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، فالمراد بالإهلاك هنا التدمير الدنيوي المستأصل كما يرشد إليه السياق، ثم إما أن يكون (أل) في {الْقُرَى} للاستغراق، والكلامُ على سلب العموم، وأمُّ القرى مكَّة، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على جميع القرى حتى يبعث رسولًا في مكَّة، فَأَنْتَ ذلك الرسول. وهذا التدمير هو الموعود به عند قيام الساعة. فحاصل المعنى: ما كان ربك ليقيم الساعة حتى يبعث رسولًا في مكَّة فأنت هو. وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.

ص: 99

وإما أن تكون (أل) للجنس، وأمُّ القرى أعظمها، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على طائفةٍ من القرى حتى يبعث في أعظمها رسولًا، كما بعث في القرية العظمى من قرى عادٍ هودًا فلما كذَّبوه دمَّر الله تعالى على تلك القرى وهكذا، وهذا معنًى صحيحٌ أيضًا. وبقيت احتمالاتٌ أخرى ما بين باطلٍ وضعيفٍ فلا حاجة للإطالة بها.

والمقصود أنه ليس في الآية ما يدلُّ على أن المشركين كانوا قبل بعثة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم معذورين مطلقًا.

ودونك تحقيق حال العرب.

ص: 100

فصل

العرب بعد إسماعيل عليه السلام فريقان:

الفريق الأول: ذُرِّيَّته، ومنهم بنو عدنان.

والفريق الثاني: مَن عداهم.

فأما ذُرِّيَّته فإنها لزمتهم شريعة أبويهم إبراهيم وإسماعيل والتزموها، وأما مَن عداهم فإنها لزمتهم ببلوغ الدعوة، فمنهم مَن التزمها، ومنهم مَن أبى، والذين أبوا منهم مَن تهوَّد بعد ذلك كسبأ الذين اتَّبعوا سليمان عليه السلام مع مَلِكَتِهم كما قصَّه الله تعالى في كتابه في سورة النمل، ومنهم مَن تنصَّر كأهل نجران، ومنهم مَن بقي على شركه.

وكلامنا الآن في الذين اتبعوا شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فنقول: إنهم بقوا محافظين عليها أمدًا طويلًا، ففي كتاب أرميا، الإصحاح الثاني: " [9]

(1)

لذلك أخاصمكم بعد يقول الرب وبني بنيكم أخاصم ــ 10 ــ فاعبروا جزائر كِتِّيم

(2)

وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًّا وانظروا هل صار مثل هذا ــ 11 ــ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً وهي ليست بآلهةٍ، أما شعبي فقد بدَّل مجده بما لا ينفع ــ 12 ــ"

(3)

.

(1)

لم يكتب المؤلف رقم الفقرة.

(2)

هو اسمٌ قديمٌ لقبرص. انظر: قاموس ــ ما يُسمَّى ــ الكتاب المقدَّس، في مدخليْ كِتِّيم وقبرس.

(3)

لم ينقل المؤلف الفقرة الثانية عشرة، ولعله أشار بكتابة الرقم إلى انتهاء الفقرة الحادية عشرة.

ص: 101

قيدار ــ ويُقال: قيذار ــ هو اسم ابن إسماعيل، كما هو مذكورٌ في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين.

وذكر معه نبايوت، وأكثر النسابين من العرب أن نابتًا ــ ويقال: نبت ــ هو ابن قيذار بن إسماعيل، وإليه نُسب عدنان، ولا مانع أن يكون لإسماعيل ابن اسمه نبايوت ونابت أو نبت، ثم سمي ابنُ قيذار نابتًا أو نبتًا باسم عمِّه. وما وقع لبعض النسابين من قولهم في نسب عدنان: نابت أو نبت بن إسماعيل، فكأنهم أسقطوا قيذار اغترارًا بما حكي عن التوراة أو غير ذلك. وأنشد ابن إسحاق لقصيِّ بن كلاب جدِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبياتًا فيها

(1)

:

فلست لغالبٍ إن لم تَأثَّل

بها أولادُ قَيذَرَ والنَّبيتُ

أراد بالنبيت أبناء نابتٍ. والله أعلم

(2)

.

فمعنى قوله: "وأرسلوا إلى قيدار" أي: أرسلوا إلى بلاد بني قيدار، وهي الحجاز وما حولها. وقوله:"وانتبهوا جدًّا" يشير به ــ والله أعلم ــ إلى تدبُّرِ الفَرْقِ بين بني إسرائيل وبني قيدار، بنو قيدار محافظون على شريعة إبراهيم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا مع مرور الزمان، وبنو إسرائيل قد بدَّلوا شريعة موسى، وكان بعد إبراهيم بزمانٍ، ومع ذلك كانت عندهم التوراة، ثم تسلسل فيهم الأنبياء كداود وسليمان ومَنْ بعدهما. وقوله:"هل بدَّلت أمة آلهة" إلخ يُعْلَمُ

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 128. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57 وفيه: لحاضن بدل غالب.

(2)

راجع فتح الباري، كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، 6/ 346. وراجع تاريخ ابن جريرٍ 2/ 192؛ فإن أكثر الأقوال المختلفة في نسب عدنان تقول: نابتٌ، أو نبتٌ، أو النبيت بن قيذار بن إسماعيل. [المؤلف]

ص: 102

منه مع ما تقدَّم أن بني قيدار لم يبدِّلوا كما بدَّل بنو إسرائيل. والسِّفْر المذكور يصرِّح بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام ونصبوها في بيت المقدس، فراجعه إن شئت.

واستمرَّ بنو إسماعيل ومن وافقهم في اتِّباع شريعة إبراهيم عليه السلام على المحافظة عليها، فبُعث عيسى عليه السلام وهم على ذلك، ورُفع وبُدِّلَتْ شريعته وهم على ذلك، حتى بدَّلها ذلك الخبيث عمرو بن لحيٍّ.

وقد تأمَّلتُ أنساب الصحابة الذين أسلموا من ذرِّية عمرو بن لحيٍّ كأكثم بن الجون، وسليمان [ز 16] بن صُرَد، وعمرو بن سالم، وبُدَيل بن وَرْقاء، وعمرو بن الحَمِق، وجويرية أمِّ المؤمنين، وغيرهم، فإذا بين كلٍّ منهم وبين عمرو بن لحيٍّ تسعة آباءٍ، وربَّما زاد أبًا أو نقص.

وبين عمرو بن لحيٍّ وبين معدِّ بن عدنان خمسة آباء عند من يقول: هو من ذريته كما هو ظاهر الحديث الصحيح المتقدِّم، فإن خِندِفَ هي زوج الياس بن مضر بن نِزار بن مَعَدٍّ، وأما على المشهور أن لُحيًّا لقبٌ واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وأنه إنما نسب إلى قَمَعة بالتبنِّي أو غيره، فإنه يكون في عهد النضر بن كنانة بن مدركة بن إلياس أو قبله، وهو أظهر؛ فقد كان لكنانة ابنٌ اسمه عبد مناةٍ ولأُدِّ بن طابخة بن إلياس ابنٌ اسمه عبد مناة أيضًا، والظاهر أن هذا الاسم إنما سمَّوا به بعد التبديل، ومثله زيد مناة، وعبد اللات، وتيم اللات، وعبد العُزَّى، وغيرها، والله أعلم.

وقد حكى ابن الكلبي وغيره أنَّ معدَّ بن عدنان كان على عهد عيسى

ص: 103

عليه السلام

(1)

، وبين مولد عيسى ومولد محمد عليهما الصلاة والسلام نحو ستمائة سنةٍ، فعلى هذا يكون بين عيسى عليه السلام وبين تبديل عمرو بن لحيٍّ نحو مائتي سنةٍ.

ومن تتبَّع تاريخ النصرانية علم أنها لم تكد تمضي مائة سنة بعد رفع عيسى عليه السلام حتى بدَّل جمهورُ أتباعه أشنع تبديلٍ، وظهر بما تقدَّم أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقيت محفوظةً في ذريتهما العرب ومن وافقهم حتى بُدِّلت شريعةُ موسى والأنبياء بعده وشريعة عيسى، وكانت آخر الشرائع تبديلًا.

فصل

أما مَن كان من العرب على شريعة إبراهيم قبل تبديل عمرو بن لحيٍّ أو بعده وبقي متمسكًا بها فلا ريب في نجاتهم؛ لأنهم كانوا على شريعة صحيحةٍ لم تُبدَّلْ ولم تُنسَخْ ولم يلزم أهلَها إجابةُ أحدٍ من الأنبياء الذين بُعِثُوا بعد إسماعيل؛ لأنه لم يُبعث أحد منهم إلى ذرية إسماعيل ومن وافقهم في اتباع شريعة إبراهيم.

وقد قدَّمنا أنه إذا بُعث رسول إلى أمة وكانت هناك أمة أخرى على شريعة لم تبدَّلْ لم يلزمها اتباع ذلك الرسول.

وأما عمرو بن لحي ومن وافقه على التبديل وكذا من جاء بعده فاتبعه مع علمه بالتبديل فهؤلاء هالكون لا محالة.

وأما مَن بعد هؤلاء إلى بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالكلام

(1)

انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57.

ص: 104

فيهم يستدعي بعض البسط، فأقول: إن القوم كانت قد بلغتهم أصل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلم يزالوا يعرفون أن إبراهيم رسولُ الله وأنه جاء بشريعة من عند الله، وكانوا يدَّعون أنهم على دينه.

ذكر ابن إسحاق اجتماع زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ورجلين آخرين ونجواهم، قال: "فقال بعضهم لبعض: تَعَلَّموا والله ما قومكم على شيءٍ، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم

يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم

وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومَه بعيب ما هم عليه.

قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيلٍ شيخًا كبيرًا [ز 17] يسند ظهره إلى الكعبة وهو يقول: "يا معشر قريشٍ، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري"، ثم يقول:"اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه"، ثم يسجد على راحته. ثم قال: وحُدِّثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: "لبيك حقًّا حقًّا تعبُّدًا ورقًّا"

عُذتُ بما عاذ به إبراهمُ

مستقبلَ الكعبة وهو قائمُ

إذ قال:

أَنْفِي لك اللهم عانٍ راغمُ

مهما تُجَشِّمْنِي فإني جاشِمُ

ص: 105

إلى أن قال: ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعةٍ

(1)

من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دينًا ما أنت بواجِدٍ مَنْ يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمان نبيٍّ يخرج من بلادك

(2)

.

أقول: وأثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري في صحيحه. وأخرج عن ابن عمر قصة زيد في مساءلته لعلماء اليهود والنصارى، وذكر ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَحَ

(3)

قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقُدِّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد:"إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه"

(4)

.

وذكر في الفتح شاهدًا لقصة السُّفرة من حديث سعيد بن زيدٍ وفيه: فمرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سُفرة لهما فَدَعَيَاهُ فقال: "يا ابن أخي لا آكل مما ذُبِحَ على النُّصب، قال: فما رُئِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذُبِح على النصب من يومه ذلك"

(5)

. أقول: وهذا الحديث في مسند أحمد

(6)

.

(1)

أي: بمرتفعٍ.

(2)

راجع سيرة ابن هشام، ذكر ورقة بن نوفلٍ إلخ، 1/ 222 - 231. [المؤلف]

(3)

بَلدَح: وادٍ قبل مكة من جهة المغرب. معجم البلدان 1/ 480.

(4)

صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيلٍ، 5/ 40، ح 3826. [المؤلف]

(5)

فتح الباري 7/ 98.

(6)

1/ 189. [المؤلف]

ص: 106

وذكر الحافظ حديث زيد بن حارثة، وسأذكره بعد إن شاء الله تعالى.

وذكر ابن إسحاق اتخاذ قريش الأصنام ثم قال: "وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده".

أقول: ولعلمهم بأن احترامها من دين إبراهيم الذي بلَّغه عن ربه عز وجل لم ينعتوها بالألوهية كما نعتوا أصنامهم، ولم يصفوا احترامهم لها بأنه عبادة لها كما قالوا في أصنامهم، بل كانوا يرون أن احترامهم لها عبادة لله عز وجل، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى.

وذكر ابن إسحاق شأن زمزم وتجديد عبد المطلب لها وقول قريش: "إنها بئر أبينا إسماعيل"

(1)

.

وبالجملة فالشواهد على ما ذكرت من معرفتهم بأصل دعوة إبراهيم وإسماعيل ودعواهم أنهم على دين إبراهيم كثيرة، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى.

ومع ذلك فقد كان بقي فيهم من شريعة إبراهيم عليه السلام أشياء:

[ز 18] منها: في العقائد: علمهم بأن الله هو الحق، قال قائلهم ــ وأنشده بين ظهرانيهم فلم ينكروه ــ:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

(2)

(1)

سيرة ابن إسحاق ص 3.

(2)

راجع صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 42، ح 3841. وصحيح مسلمٍ، كتاب الشعر، 7/ 49، ح 2256. [المؤلف]

ص: 107

وذِكْرُ الله تعالى والثناءُ عليه والقَسَمُ به في كلامهم أكثرُ من أن يُحْصَى، بل شهد الله تبارك وتعالى عليهم في كتابه بأنهم يعترفون بربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر، له الأرض وما فيها، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السموات والأرض وهو العزيز العليم. وسيأتي سياق الآيات في ذلك

(1)

وما يتعلق به من كلام المفسرين

(2)

.

ومنها في الأحكام: احترام البيت والحرم، ومشروعية الختان، والوفاء بالنذر وباليمين وبالعهد، وتحريم الظلم والغدر والزنا والربا والكذب، وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، إلى غير ذلك. ولما بنوا الكعبة قبل البعثة تواصوا أن لا يجعلوا فيها إلا مالًا طيبًا، ولا يجعلوا فيها مالًا أُخِذَ غصبًا ولا قُطِعت فيه رحم ولا انتُهِكت فيه ذمة ولا مهر بغيٍّ ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس

(3)

.

(1)

اقرأ من سورة يونس الآية: 31، ومن سورة قد أفلح المؤمنون، الآية: 84 - 89، ومن سورة العنكبوت، الآية: 61 - 63، ومن سورة الزمر، الآية: 38، ومن سورة الزخرف، الآية: 9، والآية:87. [المؤلف]

(2)

يشير إلى ما ذكره في تفسير عبادة الملائكة في ص 715 - 724.

(3)

راجع: سيرة ابن هشام، حديث بنيان الكعبة، 1/ 194. وراجع: فتح الباري، كتاب المناقب، باب بنيان الكعبة 7/ 100. وكتاب الحجِّ، باب فضل مكَّة إلخ، 3/ 286. [المؤلف]

ص: 108

وقال في شرح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: "ألم تري قومك قَصُرَتْ بهم النفقة" قال في الفتح: "أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره .... وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بنى زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال: إن قريشًا تقرَّبت لبناء الكعبة، أي بالنفقة الطيبة، فعجزت فتركوا بعض البيت في الحِجْر، فقال عمر: صدقت".

أقول: قولهم: "بيع ربا" صورته أن أحدهم كان يبيع بنسيئة فإذا حلَّ الأجل قال لغريمه: تقضي أم تربي؟ قال جماعة من أهل العلم: هذا هو المعروف من الربا في الجاهلية، ولم يُنْقَلْ عنهم ربا القرض. أقول: كأنهم ــ والله أعلم ــ تنزَّهوا عن ربا القرض لأنه كان مقطوعًا بتحريمه عندهم.

ونظير هذا كلمة "العِينَة" وردت في الحديث

(1)

ولم ينقل أنَّ الصحابة سألوا عن تفسيرها، فيظهر من ذلك أنها كانت معروفة من قبل، فكأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها احتيالًا على ربا القرض لحرمته عندهم. والله أعلم.

مُحْدَثاتهم

منها: زعمهم أن الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما قالوا علوًّا كبيرًا.

ومنها: عبادتهم الملائكة بالدعاء وغيره، على ما يأتي تفصيله.

ومنها: ارتيابهم في البعث مع أنه قد كان بلغهم. قال الله تبارك وتعالى:

(1)

انظر: سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274، ح 3462.

ص: 109

{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 82 - 83]

(1)

.

وقد كان منهم من يصدِّق به، قال لبيد

(2)

في الجاهلية:

[ز 19] وكل امرئٍ يومًا سيعلم سعيه

إذا كُشِفت عند الإله المَحاصِلُ

وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته

(3)

:

فلا تكتمُنَّ الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يُكتَم اللهُ يعلم

يؤخَّر فيوضع في كتابٍ فَيُدَّخر

ليوم الحساب أو يُعَجَّل فيُنْقَم

ومنها: نصبهم الأوثان في جوف الكعبة وفوقها وحواليها وفي مواضع أخرى، وتسميتها آلهة، وعبادتهم إياها.

ومنها: الاستقسام بالأزلام والذبح للأنصاب.

ومنها: ما شرعه لهم عمرو بن لحي من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي.

ومنها: النسيء، وفيه تحريم بعض أشهر الحلّ وتحليل بعض الأشهر الحرم وتقديم أو تأخير الحجِّ عن ميقاته.

ومنها: ما أحدثوه في الحجِّ من امتناع قريش ومَنْ إليها من الوقوف بعرفة مع الناس، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، ومِنْ مَنْعِ مَنْ ليس من أهل

(1)

ونحوها في سورة النمل 67 - 68. [المؤلف]

(2)

انظر: شرح ديوانه 257.

(3)

انظر شرح شعر زهير بن أبي سُلمى ص 26.

ص: 110

الحرم أن يطوف في ثياب الحلِّ، بل إن حصل له من ثياب أهل الحرم وإلا طاف عريانًا.

فصل

ثبت بما تقدم أن القوم كانوا يعلمون وجود الله تعالى وأنه الرب الخالق الرازق المدبر القادر العليم الحكيم، وأنه أرسل إبراهيمَ بدينٍ فبلَّغه إبراهيمُ، وأنه لازمٌ لهم.

فقد بان بهذا أن الحجَّة قائمة عليهم في الجملة.

أما التفصيل، فما بلغهم أنه من شريعة إبراهيم فلا ريب في لزومه لهم وسقوط عذر مَن خالفه منهم، وكذلك ما لم يبلغهم ولكنهم لو ساءلوا أو بحثوا ونظروا لعرفوه، إلا أنه قد يُعْذَرُ في هذا مَنْ لم يتنبَّهْ ولم يُنبَّهْ، أو تنبَّه وتعسَّر عليه البحثُ فاحتاط، فلندع هذا وننظر في محدثاتهم.

يمكن أن تجعل محدثاتهم على ثلاثة أضربٍ:

الضرب الأوَّل: ما كانوا يرونه من شريعة إبراهيم.

الضرب الثاني: ما كانوا يجهلون أمنها هو أم لا؟

الضرب الثالث: ما كانوا يعلمون أنه ليس منها.

فأما الضرب الأوَّل فلم أجد له مثالًا صريحًا، وقد قرعهم الإسلام بالحجَّة والبرهان، ثم بالسيف والسنان، مع إعلانه أنَّما يدعو إلى ملة إبراهيم، فلم نسمع بقول قائلٍ منهم: هذا من دين إبراهيم فكيف تتركه يا محمد وتعيبه وتنهى عنه مع زعمك أنك متَّبعٌ ملَّة إبراهيم؟ فلو كان الضرب

ص: 111

الأول موجودًا لكانت هذه أقوى حجة في يدهم وأسرعها خطورًا في بال أحدهم، فمن المحال عادة أن يسكتوا عنها وهم يرون سبيلًا إليها. وقد أطبق أهل العلم على إثبات إعجاز القرآن بتركهم معارضته، وحُجَّتنا هذه لا تقلُّ عن ذلك.

فأما ما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فسياق الآية هكذا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].

[ز 20] فعلم أن كلمتهم تلك ليست مبنية على شبهة تورث اعتقادًا أو ظنًّا وإنما هي من القول بلا علم وهو التخرُّص والرجم بالغيب، وقد عرفوا من صفات الله تبارك وتعالى ما يَثْبُتُ به أنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وعلموا حرمة الكذب وقبحه في أخبار الناس بعضهم عن بعض فما الظن بالكذب على الله عز وجل. فتلك الكلمة إما افتراء محض وإما قولٌ بلا علم، وهو إما كذب وإما في حكم الكذب. ولعلمهم ببطلان تلك الكلمة قدَّموا عليها ما هو عمدتهم وهو اتباع آبائهم؛ فإن كانوا تحذلقوا في تلك الكلمة فكأنهم نحوا بها منحى قولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وهذه شبهة أخرى كانوا هم يعلمون بطلانها قطعًا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: أما قولهم "الملائكة بنات الله" تعالى الله عن ذلك، فالظاهر أنهم كانوا ينسبونه إلى دين إبراهيم؛ إذ لو لم ينسبوه إليه لنسبوا إليه نقيضه، وهم يزعمون أن نقيضه باطل ويعترفون بأن دين إبراهيم حق.

ص: 112

قلت: كلامنا إنما هو في ظنٍّ يستند إلى نقلٍ أو ما يقرُب منه؛ فإن هذا هو الذي قد يصلح عذرًا لهم ويمكنهم به المدافعة بأن يقولوا: هذا من دين إبراهيم فكيف تنكره؟ فالنقل أن يخبرهم آباؤهم عن آبائهم عن آبائهم وهكذا إلى إسماعيل، والذي يقرب منه أن يكون مضى عليه أسلافهم، وهم ــ أعني الأسلاف ــ حريصون على المحافظة على شريعة إبراهيم والوقوف عند حدودها، فيقول الأخلاف: كان أسلافنا يتدينون بهذا وقد عرفنا مِنْ أحوالهم ما جَعَلَنا نثق بأنهم لا يتدينون إلا بما ثبت عندهم أنه من شريعة إبراهيم.

فهذا الذي نفيناه، فلم يكن عند القوم بمقالتهم في الملائكة نقلٌ ولا كانوا واثقين بأسلافهم، بل كانوا يعلمون أن الأسلاف بدَّلوا وغَيَّروا وزادوا ونقصوا بمحض التخرُّص.

فأما ظنٌّ يستند إلى شبهة غير ما ذكر بأن تكون عندهم شبهة عقلية فيذكرونها ثم يقولون: ثبت أن هذا حقٌّ فهو من دين إبراهيم= فلم ننفِه، على أنه في هذه المقالة لم يكن عندهم إلا قولهم:{وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] وهم أنفسهم يعلمون وَهَنَ هذه الشبهة بل بطلانَها؛ لأنهم يعلمون أن آباءهم لم يكونوا معصومين، بل كانوا يتقوَّلون بالخرص والرجم بالغيب. ويحتمل أن تكون لهم شبهة أخرى واهية أيضًا سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

فإن قلت: قد يمكن في بعض تلك المحدثات أن يخفى حاله عليهم فيحسبونه من شريعة إبراهيم، ولكن لما نبههم الإسلام وقرَّعهم تفكروا فتبين لهم أن حسبانهم لم يكن عن دليل، فذاك الذي كَفَّهم عن المعارضة.

قلت: إن هذا لمحتمل؛ فإن بَعُدَ أن يخفى بعضُها عليهم جميعًا لم يَبْعُدْ

ص: 113

أن يخفى على بعضهم، بل إذا نظرنا إلى العادة كِدْنا نقطع بأنه لا بدَّ أن يخفى بعضها على بعضهم. والله أعلم.

وأما الضرب الثاني فلم أجد له مثالًا صريحًا، ولكن لا بدَّ من ثبوته في الجملة بأن يكون بعضهم كان يشك في بعض تلك المحدثات أمن شريعة إبراهيم هي أم محدثة؟

وأما الضرب الثالث: فمن أمثلته الصريحة: الاستقسام بالأزلام، ففي صحيح البخاريِّ [ز 21] من حديث ابن عبَّاسٍ: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قاتلهم الله، أَمَ

(1)

والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط"

(2)

.

ومن هذا الضرب فيما يظهر: نصب الأوثان واتخاذها آلهة وعبادتها، فإن إحداث عمرو بن لحي لذلك واقعةٌ أكبر وأظهر من إحداث الأزلام فعلمهم بها أولى، وكان العرب معروفين بحفظ الوقائع وتناقلها إلى مئات السنين، وقد اتَّصل بعض أخبارهم في إحداث الأصنام بمؤرخي الإسلام كما سنذكره فيما يأتي، وكذلك اتَّصل بهم شيءٌ من أخبار عمرو بن لحيٍّ،

(1)

أصلها: "أمَا" وهي كلمةٌ لافتتاح الكلام، وقيل: هي بمعنى "حقًّا"، وحُذِفت ألفها للتخفيف. انظر: عمدة القاري 9/ 355. وأُثْبِتَت الألف في بعض روايات البخاري. انظر: فتح الباري 3/ 305.

(2)

صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب مَن كَبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]

ص: 114

ومن أخبار معاصريه ومن كان قبله.

هذا ولو كانوا يزعمون أنهم إنما يستندون في اتخاذ الأوثان وتعظيمها إلى شريعة إبراهيم أو شريعة نبيٍّ آخر لما سمَّوها آلهة ولا سمَّوا تعظيمها عبادة لها. والحجة على هذا الامتناع ستأتي فيما بعد

(1)

؛ لأنها نتيجةٌ لمقدِّماتٍ وتمهيداتٍ كثيرةٍ لم نستوفها بعد. ونكتفي هنا بما إذا تدبرته حق تدبره أرشدك إليها، وهو أن القوم كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام كما تقدم، ومع ذلك لم يسموها إلهًا ولا قالوا في احترامها أنه عبادة لها، ولا قال أحد ممن كان يشغب منهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"كيف يعيب محمَّد علينا عبادتنا للأوثان وهو وأصحابه يعبدون الكعبة والحجر الأسود معنا"، بل كانوا يقولون: الكعبة بيت الله، واحترامها عبادة لله، وإنما ذلك لعلمهم بأن بناءها واحترامها مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله إبراهيم عليه السلام.

وهكذا يُقال في عبادتهم الملائكة، فإنهم كانوا يطلقون أن الملائكة آلهة وأنهم يعبدونهم كما يأتي.

ومن هذا الضرب الثالث: وقوف قريش بالمزدلفة. قال جبير بن مطعم: "كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم"

(2)

.

وقريشٌ لم يكن لها في عهد إبراهيم وجودٌ مستقلٌّ، وإنما هي من ذُرِّيَّته

(1)

انظر: ص 831 - 832.

(2)

انظر: فتح الباري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، 3/ 334. [المؤلف]

ص: 115

وُجِدت بعد قرونٍ، فلا يُتوهَّم أنها خُصَّتْ بحكم دون الناس قبل وجودها، وكانوا يعلمون أنهم إنما أحدثوا ذلك برأيهم، قال سفيان بن عيينة:"كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظَّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم"

(1)

.

إذا تقرر هذا، فيمكن أن يقال بعذرهم في الضرب الأول في الجملة.

وأما الضرب الثاني فكان الواجب عليهم فيه السؤال والبحث والنظر، فمن فعل ذلك فتبين له فقد خرج من هذا الضرب، وإلَّا كان عليه الاحتياط، ومَنْ لم يعمل ما عليه من ذلك فلا أرى له عذرًا.

وأما الضرب الثالث فقيام الحجة عليهم فيه أوضح.

تنبيه:

اختلف أهل العلم في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة أكان متعبَّدًا بشرعٍ أم لا؟ والقائلون بالتعبد اختلفوا في تعيين الشرع الذي كان متعبَّدًا به.

وأنت إذا تدبَّرت ما تقدَّم علمت أنه كان متعبَّدًا بشرع أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا بما يلزمه بحيث لو أن رجلًا آخر كان على مثل حاله ومات قبل البعثة لكان ناجيًا.

[ز 22] فمن المنقول في ذلك: اجتنابه صلى الله عليه وآله وسلم الأوثان، صحَّ ذلك من حديث زيد بن حارثة كما سيأتي، وفيه كفاية عما في الدلائل لأبي نُعَيمٍ بسند واهٍ إلى أمِّ أيمن وآخر واهٍ إلى ابن عبَّاسٍ.

(1)

فتح الباري أيضًا. [المؤلف]

ص: 116

ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف بعرفة مخالفًا لقومه، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعمٍ

(1)

.

وفي رواية لابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث جبير "قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة يقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا"

(2)

.

ومن ذلك: اجتنابه صلى الله عليه وآله وسلم الذبح على النصب والأكل مما ذُبِح عليها. قد مَرَّ طرف من ذلك في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وأخرج الحاكم في المستدرك وأبو يعلى والبزار وغيرهما من طريق أبي أسامة، ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مُرْدِفي إلى نُصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير وهو مُرْدِفي في أيام الحَرِّ من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي

(1)

راجع صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب الوقوف بعرفة، 2/ 162، ح 1664. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، بابٌ في الوقوف، 4/ 44، ح 1220. [المؤلف]

(2)

ذكره في فتح الباري 3/ 334. [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خُزيمة، كتاب المناسك، باب الوقوف بعرفة على الرواحل، 2/ 1332، ح 2823. والمعجم الكبير للطبرانيِّ 2/ 136، ح 1579.

ص: 117

لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيّا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية

(1)

، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لي أرى قومك قد شَنَفُوكَ

(2)

؟ قال: أما والله إنَّ ذلك لغير نائرةٍ

(3)

كانت منِّي إليهم، ولكني أراهم على ضلالةٍ، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قَدِمْتُ على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به

(4)

، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم كذلك، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دينٍ ما نعلم أحدًا يعبد الله به إلا شيخًا بالجزيرة، فخرجت حتى قَدِمْتُ إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل مَنْ رأيته في ضلالة، إنك تسأل عن دينٍ هو دين الله وملائكته، وقد خرج في أرضك نبيٌّ أو هو خارج يدعو إليه، ارجع إليه وصدِّقه واتَّبِعْهُ وآمن بما جاء به، فرجعت فلم أحس شيئًا بعد، فَأَنَاخَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاةٌ ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: إني لا أكل ما ذُبِح لغير الله.

قال: وكان صنمٌ من نحاسٍ يُقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون

(1)

يعني قولهم: "عِمْ صباحًا" أو نحوها. [المؤلف]

(2)

أي أبغضوك. [المؤلف]. وفي بعض المصادر: "شنفوا لك"، وكلاهما مذكور في كتب اللغة.

(3)

أي: عداوة. انظر: النهاية: نور.

(4)

هذا لفظ الذهبي في تلخيص المستدرك، وفي المستدرك بدلها: "

على أحبار أيلة، فوجدتهم يعبدون الله ولا يشركون به" كذا، والظاهر أن كلمة (لا) من زيادة النسَّاخ. [المؤلف]

ص: 118

إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"لا تَمَسَّهُ"، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسَّنَّهُ حتى أنظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"ألم تُنْهَ؟ " قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلمت صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"يأتي يوم القيامة أمةً وحده"، قال الحاكم:"صحيحٌ على شرط مسلمٍ"، وأقرَّه الذهبي

(1)

.

[ز 23] أقول: أبو أسامة إمام حجة، قيل: إنه كان يدلس، فإن صح ذلك فقد صرَّح هنا بالسماع، وحكى الأزدي عن سفيان بن وكيع كلامًا يوهن به أبا أسامة، وردَّه ابن حجر في مقدمة الفتح

(2)

بضعف الأزدي وسفيان بن وكيع. وأقول: لو صحّ ذلك لكان محمله التدليس وقد علمت اندفاعه هنا، وإنما الكلام في محمد بن عمرو بن علقمة فأطلق بعض الأئمة توثيقه وغمزه بعضهم بما حاصله أنه لم يكن بالحافظ، ومجموع كلامهم يقتضي أنَّ حديثه دُوَيْن الصحيح وفوق الحسن، ذكر ابن حجر في المقدمة

(3)

أنَّ البخاري أخرج له في الصحيح مقرونًا بغيره، وتعليقًا، وأنَّ مسلمًا أخرج له

(1)

المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قصَّة إسلام زيد بن حارثة

، 3/ 216 - 217. [المؤلف]. والسنن الكبرى للنسائي، كتاب المناقب، زيد بن عمرو بن نفيل، 7/ 325، ح 8132، ومسند البزار 4/ 165 ح 1331، ومسند أبي يعلى 13/ 137، ح 7212.

(2)

ص 399.

(3)

ص 441.

ص: 119

في الصحيح في المتابعات.

أقول: قال ابن المديني عن يحيى القطان: "محمد بن عمرو أعلى من سهيل". وقال أيضًا: "محمد بن عمرو أحبُّ إلي من ابن أبي حرملة"

(1)

، وفضَّلَه ابن معين على سهيل والعلاء ومحمد بن إسحاق

(2)

، وقد احتجَّ مسلم بهؤلاء كلهم في الصحيح ووافقه البخاري فأخرج لمحمد بن أبي حرملة.

وقضية السُّفرة قد وردت من حديث ابن عمر عند البخاريِّ في صحيحه، ولكنها مختصرةٌ تحتمل بعض التأويل

(3)

.

وجاءت أيضًا من حديث سعيد بن زيد عند الإمام أحمد وغيره، كما تقدم، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا:"سمعت زيد بن عمرو بن نفيلٍ يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئًا ذبح على النصب حتى أكرمني الله عز وجل بما أكرمني به من رسالته"

(4)

.

(1)

الجرح والتعديل 8/ 31، وسهيل هو ابن أبي صالح إلَّا أن الإمام أحمد تعقَّب يحيى بن سعيد فقال:"وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم من محمد بن عمرو". الجرح والتعديل 4/ 247.

(2)

انظر: تهذيب التهذيب 9/ 376 - 377.

(3)

راجع صحيح البخاريِّ [5/ 40، ح 3826]- مع فتح الباري [7/ 97 - 99]-، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ. [المؤلف]

(4)

دلائل النبوة لأبي نُعيمٍ، الفصل الثالث عشر، ذكر ما خصه الله عز وجل به من العصمة

، ص 59. [المؤلف]. وهو في ط: دار النفائس ص 188، ح 131.

ص: 120

وعبد الله بن محمَّدٍ هذا ضعيف جدًّا، وقد تقدَّم في حديث سعيد بن زيد قوله:"فما رُئِيَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك"

(1)

.

وذكر الحافظ في الفتح

(2)

تأويلاتٍ لم يَقْنَعْ بها، ثم قال: "قوله: ذبحنا شاة على بعض الأنصاب يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، وإنما هي من آلات الجزَّار التي يذبح عليها؛ لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يُعبد، بل يكون من آلات الذبح

".

أقول: لا أراك تقنع بهذا، ولا بما حكاه ابن الأثير في النهاية

(3)

عن إبراهيم الحربي، فالصواب إن شاء الله تعالى أنَّ الأنصاب كانت عندهم غير الأصنام، فكانت الأصنام تعظَّم بوجوه مختلفة، كالعكوف عندها والتمسُّح بها وغير ذلك، وأما الأنصاب فكانت مختصَّة بالذبح عليها، ولعلهم لم يكونوا يطلقون على الذبح عليها أنه عبادة لها، ولما كان الأمر كذلك وكان معروفًا من شريعة إبراهيم عليه السلام تحريم الحرم واحترامه في الجملة، وكانت تلك الأنصاب من جملة حجارة الحرم، كان ذلك مظنَّة أن يحسب الناشئ فيهم أنه من بقايا شريعة إبراهيم عليه السلام، فإذا ذبح عليها بهذه النية وهو مع ذلك حريص على اتِّباع شريعة إبراهيم والوقوف عندها واجتناب ما بان له أنه ليس منها كان معذورًا إن لم نقل مأجورًا.

(1)

انظر: ص 106.

(2)

7/ 144 ط. دار المعرفة.

(3)

5/ 60 - 61.

ص: 121

وهذه كانت حال النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل سِنَّه حينئذٍ دون الثلاثين؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها وهو في الخامسة وعشرين

(1)

من عمره، فوهبت له زيد بن حارثة، فلعلَّ هذه القصة كانت بعد ذلك بقليل. والله أعلم.

ولما سمع صلى الله عليه وآله وسلم كلام زيد بن عمرو بن نفيلٍ تبيَّن له خلاف ما كان يحسب في الذبح [ز 24] على الأنصاب، فاجتنبه واجتنب الأكل مما ذبح عليها.

ومن ذلك ما صحَّ من حديث جابرٍ قال: "لما بُنِيَت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يَقِك من الحجارة، فخرَّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري إزاري فَشُدَّ عليه إزاره"

(2)

.

وذكر الحافظ له شواهد في هذا الباب، وفي كتاب الحج، باب فضل مكة، منها: عن العباس قال: "لما بنت قريشٌ الكعبة انفَرَدَتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أُزُرَنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أُزُرَنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال: فقلت لابن

(1)

كذا في الأصل، وانظر: سيرة ابن هشام 1/ 178.

(2)

صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب بنيان الكعبة، 5/ 41، ح 3829. [المؤلف]

ص: 122

أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا"

(1)

.

فبان بهذا أنه لم يكن هناك إلا هو وعَمُّه وهما على عزم أن يستترا إذا دَنَوَا من الناس، فكأنه لم يكن معروفًا عندهم من شريعة إبراهيم تحريم كشف العورة عند الحاجة إذا لم يكن هناك إلا الأب أو العم أو نحوهما، ومع ذلك أدَّب الله تعالى رسوله فمنعه من ذلك.

وفي الصحيحين وغيرهما في حديث بدء الوحي: "ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ــ وهو التعبد الليالي ذوات العدد ــ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها"

(2)

.

قال الحافظ في الفتح: "قوله: "فيتحنَّث"، هي بمعنى يتحنَّف، أي: يتَّبع الحنيفيَّة، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً

(3)

في كثيرٍ من كلامهم، وقد روي في رواية ابن هشامٍ في السيرة: يتحنَّف بالفاء؛ أو التحنُّث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثَّم ويتحرُّج ونحوهما".

ولفظ البخاري في التفسير "

فيتحنَّث فيه، قال: والتحنُّث: التعبُّد". استظهر الحافظ في الفتح أن هذا من تفسير عروة أو الزهريِّ، ثم قال: "ولم يأت التصريح بصفة تعبُّده، لكن في رواية عبيد بن عميرٍ عند ابن إسحاق: فيطعم من يرد عليه من المساكين. وجاء عن بعض المشايخ أنه كان

(1)

أخرجه ابن إسحاق (79)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(354)، والبزار (1295) وغيرهم بإسناد ضعيف، وأصل القصة ثابت صحيح كما تقدم.

(2)

صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1، 1/ 7، ح 3. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، 1/ 97، ح 160.

(3)

في الأصل: "فاء"، سبق قلم.

ص: 123

يتعبد بالتفكر. ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجرَّدها تعبُّدًا؛ فإن الانعزال عن الناس ولا سيَّما مَن كان على باطلٍ من جُمْلة العبادة، كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].

ثم ذكر مسألة تعبُّده صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة بشرعٍ، وذكر قول مَن قال: لم يكن متعبَّدًا بشريعة نبيٍّ قبله، ثم ذكر شبهتهم "لأنه لو كان تابعًا لاستبعد أن يكون متبوعًا، ولأنه لو كان لنُقِل مَنْ كان يُنْسَبُ إليه"

(1)

.

أقول: الأوَّل خيالٌ فاسدٌ، وكأن قائله لم ينظر في أحوال الأنبياء الماضين ولم يعلم ما يلزم قوله من الفساد، وهو أن مَنْ أراد الله تعالى إرساله يبقى أربعين سنة غير مكلف. وأما الثاني فقد نُقِل كما علمت.

ثم ذكر القول بتعبُّده بشرع نبيٍّ قبله، وذكر الأقوال في ذلك إلى أن قال:"الثالث: إبراهيم، ذهب إليه جماعةٌ، واستدلُّوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، إلى أن قال: "ولا يخفى قوة الثالث ولا سيَّما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، والله أعلم"

(2)

.

أقول: قد جاء عن زيد بن عمرو بن نفيل قوله: "إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان وكان يصليان إلى هذه القبلة" ذكره في الفتح في باب حديث زيدٍ

(3)

.

(1)

فتح الباري 8/ 506.

(2)

فتح الباري 8/ 506 - 507.

(3)

7/ 97. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 379، والفاكهي في أخبار مكة 4/ 85 - 86، ح 2419، وأبو نعيم في الدلائل ص 100، ح 52 من رواية عامر بن ربيعة العدوي عنه.

ص: 124

وفي صحيح مسلمٍ

(1)

في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ قوله: "وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين"، قال ابن أخيه:"قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجَّه؟ قال: حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُلْقِيتُ كأني خِفَاءٌ"

(2)

.

ففي هذا ما يدل أنه كان قد بقي من شريعة إبراهيم ما يسمى صلاة وإن لم نعلم صفتها، إلا أنه [ز 25] كان فيها سجود كما تقدم في قصة زيد بن عمرو بن نفيل "ثم يسجد على راحته"، وذكره في الفتح بلفظ:"ثم يسجد على الأرض براحته"

(3)

.

هذا بعض ما ورد به النقل، وفيه كفاية. وقد بان أن الله تبارك وتعالى وفَّق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة لما كان يلزمه، فمن ذلك ما أدركه بنظره، ومنه ما يسَّر له مَنْ ساءله فأخبره كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنه ما نُبِّه عليه بأمرٍ غير عاديٍّ كقضية الستر. وقد كان بلغه صلى الله عليه وآله وسلم تبديلُ اليهود والنصارى بالتواتر وبأخبار من يثق به كزيد بن عمرو بن نفيل فأيْأسَهُ ذلك أن يجد عندهم من الحق ما يوثق به، فسقط عنه سؤالهم، مع أن الله عز وجل جنَّبه ذلك للحكمة التي نبه عليها بقوله سبحانه:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}

(1)

في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذرٍّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473.

(2)

كغطاءٍ وزنًا ومعنىً، والمعنى: كأني ثوبٌ مطروحٌ. مشارق الأنوار (ج ف و) 1/ 160.

(3)

فتح الباري 7/ 100.

ص: 125

[العنكبوت: 48].

فبالنظر إلى هداية الله تعالى له إلى الطرف الذي كان يلزمه قبل النبوة ثم إكماله له الهداية بالنبوة خاطبه عز وجل بقوله في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} ، فالهداية شاملة للأمرين. والله أعلم.

وبالنظر إلى أن معظم شريعة إبراهيم قد كان اندرس فلم تمكن الهداية إليه إلا بالنبوة خاطبه عز وجل بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].

ونبه سبحانه على عذره فيما لم يكن يدريه بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].

ونصَّ سبحانه على عذر مَن كان غافلًا هذه الغفلة، وقد تقدم ذلك في الآيات الدالة على عذر مَن لم تبلغه الدعوة، وفيها:{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].

فصل

إنك إذا تدبرت الآيات السابقة في أنه سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولًا تبين لك أن بعث الرسول لا يكفي، بل لا بدَّ من بلوغ دعوته وغير ذلك مما يعبِّر عنه أهل العلم بقيام الحجة.

وإيضاح ذلك أن الناس على ثلاث طبقات:

ص: 126

الطبقة الأولى: مَنْ لم يبلغه خَبَرُ دعوةٍ أصلًا.

الثانية: من بلغه الخبر.

الثالثة: مَنْ أَسْلَمَ.

أما الطبقة الأولى: فأهلها ثلاثة، رجل غافل البتَّة، ورجل متحيِّر قد تنبَّه بفطرته وعقله ونظره في آيات الآفاق والأنفس فاعترضه بعض الشبهات فبقي حائرًا، ورجل مستيقن قد بلغ بنظره إلى استيقان أن للعالم ربًّا هو الخالق المدبر القادر العليم الحكيم.

وأما الطبقة الثانية: فإنَّ الرجل أوَّل ما يبلغه خبر دعوة يكون إمّا متردِّدًا، وإما مستيقنًا؛ لأنَّ الغافل يتنبَّه فيتردَّد أو يستيقن، والمتردِّد يدرك أنَّه إذا كان للعالم ربٌّ وأرسل رسولًا وجبت طاعته، والمستيقن يدرك أنَّ الربَّ إذا أرسل رسولًا وجبت طاعته، فكلاهما تلزمه في الجملة الحجَّة ببلوغ الخبر.

وأما التفصيل فلا يخفى أنه بمجرد بلوغ الخبر لا تقوم الحجة في جميع العقائد والأحكام، والآيات التي قدمناها في عذر من لم تبلغه الدعوة تبيِّن هذا، فإذًا لا بدَّ من تحديد أمر يكون هو اللازم لمن بلغه الخبر إنْ تهاون به استحقَّ العقاب وإنْ أدَّاه بقي معذورًا فيما عداه حتى يتجدَّد ما يُلْزِمُه به.

[ز 26] وهذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون المخبر معروفًا بالكذب، وقد يكون مجهولًا، وقد يكون معروفًا بالصدق، وقد يتواتر الخبر، وقد يكون هناك ما يوقع في النفس أنَّ المدعيَ كاذب، وقد لا يكون ما يدلُّ على كذبه ولا صدقه، وقد يكون ما يدلُّ على صدقه؛ وقد يكون بلده بعيدًا عمن بلغه الخبر، وقد يتوسط، وقد يقرب، وقد لا يمكن من بلغه الخبر أن

ص: 127

يذهب إلى الداعي، وقد يمكنه بمشقة شديدة، وقد يمكنه بمشقَّة عاديَّة، وقد يمكنه بغير مشقَّة، وقد قال الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة].

فقد يُقال: إنَّ من بلغه الخبر ولم يظهر له صدقه أو ظهر له صدقه ولكن كان هناك ما يظهر منه كذب المدعي كفاه أن يتبين ويتثبت، فيسائل كُلَّ من يَقْدَمُ من الجهة التي أُخْبِرَ بأنَّ الداعي فيها ويأمر مَنْ يذهب إليها أن يبحث ويسأل؛ فإذا قوي الخبر ولم يظهر ما يظهر منه كذب المدَّعي لزم مَن بلغه الخبر أن يبادر إلى التبيُّن كأن يرسل رسولًا إن شقَّ عليه ذهابه بنفسه؛ فإذا تحقق الخبر وظهر ما يدلُّ على صدق المدَّعي لَزِمَتِ المبادرة إليه، إلَّا أنه فيما يظهر يكفي القبيلةَ وأهلَ البلدة أن يوفدوا وفدًا ممن عُرِفَ بالعقل والحلم وقبول الحق.

وإذا كان المدَّعي نبيًّا حقًّا فلا بدَّ أن يظهر للذين يجتمعون به راغبين في الحق أنه صادق، أو على الأقلِّ يترجَّح لهم صدقُه، ويعلمون أن الذي يدعو إليه خير مما هم عليه، فيلزمهم إجابته حتمًا، وكذلك القبيلة إذا رجع إليها وفدُها، فإن الأخذ بالراجح واجب، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].

فإنه إذا استجاب جماعة لمدَّعي النبوة في حين إمكانها كان ذلك مما يدل على صدقه، فيتحتَّم على مَن سمع به الاجتماعُ به أو إيفاد الوفد كما تقدَّم، فإذا اجتمعوا به راغبين في الحق فهم مجاهدون في الله محسنون؛ فلا

ص: 128

بدَّ أن يهديهم الله بأن يهيِّئ لهم ما يفيدهم اليقين أو الرجحان، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خاتمة العنكبوت].

وأنت ترى أن بين بلوغ الخبر ووجوب الإسلام مسافةً قد يموت الإنسان في أثنائها، أعني بعد أن أدَّى ما يلزمه من البحث عن صحة الخبر وما بعده، وقبل أن يلزمه الإسلام. والظاهر أن حكمه فيها كحكمه قبل بلوغ الخبر؛ فإن بلوغ الخبر إنما أوجب عليه البحث وما بعده كما مر، وقد فعل ذلك، فيبقى فيما عداه على ما كان عليه، فإن كان معذورًا كمن لم تبلغه قبلُ دعوةٌ أصلًا استمرَّ عذره. وكذلك من كان قد بلغته دعوة فأخذ بما يلزمه منها واستمرَّ على ذلك عند بلوغ خبر الدعوة الأخرى مع القيام بما لزمه من البحث ونحوه، فمات قبل أن يلزمه الإسلام، والله أعلم.

وأما الطبقة الثالثة: فإنَّ من الذين يسلمون من يكون قد حصل له اليقين قبل قبول الإسلام أو معه فيجتمع له الإسلام والإيمان، ومنهم من يسلم قبل أن يدخل الإيمان في قلبه، [ز 27] كالأعراب الذين أنزل الله تعالى في شأنهم:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآيات [خاتمة الحجرات].

فهذا الضرب عليهم الطاعة والمتابعة وتحري مجالسة الرسول أو علماء دينه ونحو ذلك مما من شأنه أن يَكْسِبَهم الإيمانَ كتدبُّر القرآن والسنَّة والسيرة. ومعاملةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم للأعراب تدلُّ أنه إنما

ص: 129

يلزمهم من هذا ما ليس فيه مشقَّةٌ شديدةٌ، والله أعلم. فمن قام بما عليه من ذلك فعاجله الموت قبل أن يدخل الإيمانُ في قلبه، لم يَلِتْهُ الله من عمله شيئًا كما نصَّت عليه الآية. ومن جهة النظر لا يخفى أنه مع أصل العذر أحسن حالًا ممن هلك قبل بلوغ الدعوة، وممن بلغه الخبر فقام بما عليه فعاجله الموت قبل أن يلزمه الإسلام، فلا ينبغي التوقُّف في نجاته.

ومَن قَصَّر من هؤلاء؛ فإن بلغ في التقصير إلى أن يأتي في السرِّ ما أخبره الرسول بأنه كفر ويناجي أصحابه بتكذيب الرسول ونحو ذلك فهذا منافق هالك. وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين الأعراب المذكورين في الآية وبين المنافقين، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: إن الأعراب المذكورين صنف آخر غير المنافقين كما تقدم في أوائل الرسالة

(1)

. وانظر صفة المنافقين في أوائل سورة البقرة يتضح لك الحال.

وإن كان تقصيره بدون ذلك ففيه نظر، والظاهر أنه إذا لم يقصِّر فيما لزمه مما يكسبه الإيمان عادةً، وإنما قَصَّر بترك واجبٍ آخر أو ارتكاب حرامٍ، ثم عاجله الموت قبل أن يتوب وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه= استحقَّ المؤاخذة بذنبه ولم يُخَلَّد في العذاب. والله أعلم.

وقد يتَّفق مَوْتُ هذا بعد أن حصل له جزءٌ من الإيمان دون النصاب الشرعيِّ أو قبل أن يحصل له شيءٌ وإنما معه قول: لا إله إلا الله، وعسى أن يكون هؤلاء داخلين فيمن ورد في الأحاديث الصحيحة أنهم يخرجون من النار، فإن فيها أنه يخرج من النار "مَن في قلبه مثقال شعيرةٍ من إيمان"، ثم "مَن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان". ثم "مَن كان في قلبه أدنى

(1)

انظر ص 15.

ص: 130

أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان"، وفي رواية: "أدنى شيء"، وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك، أو قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأُخْرِجَنَّ من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله".

وذكر في روايةٍ شفاعة الشفعاء وإخراجهم مَنْ أذن لهم بإخراجهم ثم قال: "فيقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا" ثم يتفضَّلُ الله عز وجل "فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط"، وفي رواية في ذكر هؤلاء:"يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه"

(1)

.

فدخول هؤلاء النار إما أن يكون بذنوبٍ وخطايا، وإما أن يكون بتقصيرٍ في تحصيل الإيمان [ز 28] تقصيرًا لا يهدم لا إله إلا الله، ولا يهدم الجزء الذي قد حصل لمن حصل له منهم. والله أعلم.

وفي بحث زيادة الإيمان ونقصانه من المواقف العَضُدِيَّة وشرحها للسيد الشريف: "والظاهر أن الظنَّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمُه حكمُ اليقين ــ في كونه إيمانًا حقيقيًّا ــ؛ فإن إيمان أكثر العوامِّ من هذا القبيل"

(2)

.

(1)

راجع صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين إلخ، والأبواب بعده، 1/ 116 - 117 و 126 - 127، ح 183 (302) و 193 (326). والأحاديث في صحيح البخاريِّ مفرَّقةٌ. [المؤلف]. انظر: كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 17، ح 44. وكتاب التوحيد، باب كلام الربِّ عز وجل يوم القيامة

، 9/ 146، ح 7509 - 7510.

(2)

شرح المواقف العضديَّة 3/ 544.

ص: 131

أقول: قد قَدَّمْتُ ما يوافقه في الجملة ويزيد عليه، ولكن بشرط عدم التقصير الهادم، وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين. والله أعلم.

فصل

ومما ورد في الأعذار ما ثبت عن جماعة من الصحابة فيما قصَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ [ربِّي]

(1)

ليعذبَنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أَدِّي ما أَخَذْتِ، فإذا هو قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك"

(2)

.

وجاء في بعض الروايات من قول الرجل: "لعلِّي أَضِلُّ

(3)

الله"، قال الحافظ في الفتح: "قوله: (لئن قدر الله عليَّ)، في رواية الكُشمِيهَنيِّ:(لئن قدر عليَّ ربِّي)، قال الخطابيُّ

إنه لم ينكر البعث، إنما جهل فظنَّ أنه إذا فُعِل به ذلك لا يُعاد

قال ابن قتيبة: قد يَغْلَطُ في بعض الصفات قومٌ من

(1)

هذه الزيادة من الصحيحين.

(2)

راجع صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله، 8/ 97، ح 2756 (25). وصحيح البخاريِّ، قُبَيل كتاب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب فضائل الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3478.

(3)

يُقال: ضلَّ فلانًا، أي: فاته وذهب عنه فلم يقدر عليه. انظر: النهاية 3/ 98. المعجم الوسيط 1/ 542.

ص: 132

المسلمين فلا يكفرون بذلك"

(1)

، ثم ذكر تأويلات أخرى.

وللسنوسيِّ في شرح مسلمٍ كلامٌ لا بأس به، حاصله أن الرجل لم يجحد أن لله قدرة ولم يشك في ذلك، وإنما شك في إعادة الجسم إذا فُعِلَ به كما أمر، فطمع أن تكون من المحال الذي لا تتعلق به القدرة

(2)

.

أقول: أما قول الخطابيِّ: (إن الرجل لم ينكر البعث) فحقٌّ، ولكنه شكَّ فيه. أما البعث في القبر بمعنى إعادة الإحساس بحيث يحس بالعذاب فشكَّ فيه فيمن فُرِّق جسده تلك التفرقة، وأما البعث للقيامة فالرجل إما جاهلٌ به البتَّة، وإما شاكٌّ فيه مطلقًا، لأن الأبدان لا بدَّ أن تتفرَّق تلك التفرقة أو أشدَّ منها، وإن لم تحرق وتسحق وتذرى

(3)

.

وأما قول ابن قتيبة: (قد يغلط) إلخ، فإن أراد أنهم لا يكفرون البتَّة فمردودٌ عليه، وإن أراد أنه قد يكون منهم الجاهل الذي لم تقم عليه الحجَّة، ولم يقصِّر تقصيرًا هادمًا، فهذا حقٌّ على ما سمعت وتسمع.

وأما أن الرجل لم يجحد القدرة جملةً ولم يشكَّ فيها مِنْ أصلها فحقٌّ، ولكنه قد شكَّ في تناولها لإعادة البدن الذي يفرَّق مثل تلك التفرقة، وفي شكه هذا تجويز للعجز على الربِّ عز وجل، وتجويزه أن تكون تلك الإعادة من المحال الذي لا تتناوله القدرة لا يَدْفَعُ تجويزَه العجز.

وإيضاح ذلك أن الإنسان قد يشاء أن يقتل الأمير فلا يقدر عليه، وقد لا

(1)

تأويل مختلف الحديث 81. والعبارة فيه: "ولا يحكم عليهم بالنار".

(2)

راجع شرح مسلم للأُبِّي والسنوسي 7/ 160. [المؤلف]

(3)

كذا في الأصل، والصواب حذف الألف آخره.

ص: 133

يشاء وهو يقدر، وقد لا يشاء وهو لا يقدر، فالأول هو العاجز ولا يدفع عنه اسم العجز إعراضه عن المشيئة لعلمه بعدم قدرته، بل المدار في انتفاء المشيئة على انتفاء الباعث عليها، أو وجود مانع غير العجز. فالمحالات التي لا تتعلق بها قدرة الباري عز وجل كلها من قبيل الضرب الثالث، ولكن لا يجوز أن يصرَّح فيها بنفي [ز 29] القدرة، كأن يُقال:"لا يقدر على كذا"؛ لأن هذه العبارة توهم الضرب الأول، ولأن العقل مما يخطئ فيزعم ما ليس بمحالٍ محالًا، بل يُقال: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاء كذا وكذا قدر عليه.

يُقال: هل يقدر الله عز وجل بعد تعذيب ثمود أن يرفع ذلك العذاب فيجعله لم يقع؟ فنقول: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاءه قدر عليه. فيقال: ولماذا لا يشاؤه؟ فنقول: لا حكمة تدعو إليه، قال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [خاتمة سورة الشمس]، أي لا يخاف عقبى تلك القضية وهي تعذيبهم.

قال بعض المتأخرين: فيه إشارة إلى الردِّ على اليهود الذين يقع في كتبهم نسبة الندم إلى الله تبارك وتعالى. أقول: حاصله أنه سبحانه لا يخاف أن يبدو بعد ذلك أن الحكمة تقتضي عدم تعذيبهم؛ فإنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، فهو يعلم أن الحكمة في الحال والمآل تقتضي تعذيبهم.

إذا علمت هذا فتجويز عدم القدرة على إعادة الأبدان بعد تفرُّق أجزائها هو من الضرب الأول؛ لأنَّ عدل الله تعالى وحكمته يقتضي الجزاء، وذلك يقتضي أن يشاء الجزاء، وإذا كان الجزاء يتوقف على الإعادة

(1)

اقتضى ذلك

(1)

في الأصل: "العبادة" سبق قلم.

ص: 134

أن يشاءها الله تعالى، فمَن جَوَّزَ مع ذلك أن لا تتعلَّق بها القدرة كان مُجوِّزًا للعجز لا محالة.

فالحقُّ أن هذا رجل كان عنده جهل بالبعث والقدرة ولم يُقَصِّرْ تقصيرًا هادمًا فعذره الله تعالى.

وقريبٌ من هذا ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن الحواريين، قال سبحانه:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 111 - 115].

فالآية ظاهرةٌ في أن القوم كانوا قد أسلموا، وأخذوا بحظٍّ من الإيمان، ولكن بقي في قلوبهم شيءٌ من الجهل والشكِّ، ولم يوجب هذا أن يُعَدُّوا كفَّارًا أو مرتدِّين، ألا ترى إلى قول عيسى:{اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، ومثل هذا إنما يخاطَب به مَن عنده إيمانٌ في الجملة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].

وقد اضطرب الناس في قضية الحواريين؛ لعلمهم أنهم كانوا قد أسلموا وأن مقالتهم لم تخرجهم من الدين، فمن الناس مَنْ شَذَّ فقرأ "هل تستطيع

ص: 135

ربَّك" على معنى هل تستطيع سؤال ربِّك

(1)

، ومنهم من أغرب فحمل (يستطيع) على معنى (يريد) أو (يجيب). وقد تردَّد ابن جريرٍ في ذلك، ثم قرَّر "أنَّ القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم"

(2)

.

أقول: وأنا لا أرتضي قوله: "مرضٌ" فإن مجرَّد الشكِّ والتردُّد وضعف اليقين لا يسمى مرضًا حتى يكون معه خبثٌ وعنادٌ وبغضٌ للحقِّ، ومثل هذا يمنع الاهتداء، كما قال تعالى في المنافقين:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].

قال الراغب: "ويُشبَّه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعةً عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرُّف الكامل

"

(3)

.

[ز 30] ومن الناس من تأوَّل الآية

(4)

، ثم قال: إنما أراد القوم الطمأنينة كحال إبراهيم عليه السلام فيما قصَّه الله تبارك وتعالى من حاله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ

(1)

هذه القراءة ليست شاذَّةً، بل قرأ بذلك الكسائيُّ من القرَّاء السبعة، وهي قراءةٌ متواترةٌ. انظر: السبعة لابن مجاهدٍ 249، النشر في القراءات العشر لابن الجزريِّ 2/ 256.

(2)

تفسيره 7/ 78 - 79. [المؤلف]

(3)

المفردات ص 765.

(4)

يعني قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

ص: 136

قَلْبِي} [البقرة: 260]

(1)

.

أقول: قد أبعد المرمى؛ فإن الخليل عليه السلام إنما سأل أن يرى الكيفيَّة ليطمئنَّ قلبه من الخواطر.

وإيضاح ذلك أن المدركات على أربعة أضربٍ:

ما يدركه الإنسان بالحسِّ المحقَّق ويعرف له بالحسِّ نظائر ولو في الجملة، كأن ترى رجلًا في إحدى يديه أو في كلٍّ منهما إصبع زائدة، فهذا إذا رأيته رؤية محققة لم تَرْتَبْ في إدراكك إلا أن تكون سوفسطائيًا.

الثاني: ما يدركه بدليلٍ غير الحسِّ ويعرف له بالحسِّ نظائرَ، كأن يتواتر عندك أن فلانًا الذي سمعت به في إحدى يديه أو في كل منهما أصبع زائدة، وهذا أيضًا تحصل به الطمأنينة.

الثالث: ما يدركه بالحس ولكن لا يعرف له نظيرًا، كأن ترى مشعوذًا أمامه إناء مغطًّى فيكشف الإناء فترى فيه ثلاثة عصافير ولا ترى فيه غيرها، ثم يعيد الغطاء، ثم يكشفه فلا ترى في الإناء إلا ثلاث بيضات. فإذ كنت لا تعرف نظيرًا لانقلاب العصفور بيضة تجد نفسك تشكك في إبصارك أعصافير في الإناء ولم تحقق النظر ثانيًا، أم بيضات فيه ولم تحقق النظر أولًا، أم ماذا؟

قال الله عز وجل: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14 - 15].

(1)

انظر: تفسير أبي السعود 3/ 97 - 98.

ص: 137

الرابع: ما تدركه بدليل غير الحس ولا تعرف له نظيرًا، كهذا المثال السابق لو لم تشاهد الواقعة. فمَن لم يشاهد المشعوذين ويَكْثُرْ سماعُه لقصصهم إذا أخبره جماعةٌ يحصل بخبرهم القطع عادة بهذه الواقعة لا يزال يجد نفسه كأنها تتردَّد في قبول خبرهم.

وأوضح من هذا أن تفرض أنَّ إنسانًا ولد أعمى وعاش حتى كبر وأهله يتحامون أن يشعروه بأن الناس يبصرون فعاش لا يشعر بذلك البتة، ثم تعمِد أنت فتقول له: إني أبصر الأجسام البعيدة منِّي، فإنه يقول: ما معنى قولك أُبْصِرُ؟ أتريد أنك تلمسها أو تسمع حسَّها؟

ولنفرض أنك استطعت أخيرًا أن تُفْهِمه أنَّ الإبصار قوَّةٌ في العينين يدرك بها الأجسام من بُعْدٍ فيعرف قربها وبعدها وحجمها ويعرف أن ذاك فلان وذاك فلان، فإنه يقول: وما لي لا أدرك أنا؟ فتقول: لم تُخْلَقْ لك هذه القوة، فلا تجده يصدِّقك، فتقول له: فإذا جاء أحد فاسأله، فيجيء رجل فيسأله فيوافقك، ثم ثالث ورابع وخامس إلى أن يبلغ العدد مبلغًا يحصل بخبرهم القطع عادة، فإن الأعمى يصدِّقكم، ثم تنازعه نفسه فيتطلب نظيرًا للإبصار يعرف به كيفيته في الجملة، فلا يجد، فيكاد يرتاب في الخبر، ثم يقول: من المحال أن يتوارد هؤلاء كلُّهم على الكذب، ثم تنازعه نفسه ويتخيَّل كأنَّه مرتابٌ في الخبر.

واعلم أنَّ صفات الله تبارك وتعالى وكثيرًا مما أخبر به الشرع من هذا القبيل. ومن ذلك حشر الأجساد، فالإنسان يعلم بأنَّ الجسم يبلى وتتفرق أجزاؤه شذر مذر، ثم يخبره الشرع [ز 31] بأن الله تعالى يعيد الأبدان بعد موتها وبلائها وتفرُّق ذراتها، ويوضح له ذلك بأن الله تعالى عالم بمواقع تلك

ص: 138

الأجزاء المتفرقة وقادر على جمعها، فتتطلب نفسه مما تعرفه بالحس نظيرًا لذلك العلم وتلك القدرة فلا تجد، فأما المؤمن فإنه يوقن بصدق الخبر ولكنَّ نفسه قد لا تكفُّ عن نزاعها اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، فإذا لم تجد نظيرًا عادت تنظر في الخبر فتجده قاطعًا فترجع إلى تطلُّب النظير وهكذا.

فإذا أحسَّ الإنسان من نفسه بهذا خشي ألَّا يكون موقنًا، فالنفس تضطرب اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، والقلب يضطرب خشية من ضعف اليقين، وقوة اليقين لا تدفع هذا الاضطراب بل تزيده؛ لأنه كلما قَويَ اليقين قويت الخشية فاشتدَّ الاضطراب. فهذه والله أعلم كانت حال الخليل عليه السلام، ففزع إلى ربه عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى فتسكن نفسه ويطمئن قلبه من ذلك الاضطراب المؤلم.

وما حُكِيَ عن بعض الصِّدِّيقين من قوله: "لو كُشِفَ الغطاء ما ازددتُ يقينًا"

(1)

، إن صحَّ فلا إشكال فيه؛ إذ قد يُقال: إن الخليل عليه السلام لم يطلب زيادة اليقين ولا ازداد بالرؤية يقينًا وإنما سكنت نفسه واطمأن قلبه من ذلك الاضطراب الذي لا ينافي كمال اليقين بل يناسبه كما مرَّ، بل قد يكون في هذه المقالة دلالة على أن حال قائلها دون حال الخليل عليه السلام؛ لما قدَّمنا أن قوَّة اليقين تثمر قوَّة الخشية، وقريبٌ من هذا حال أبي بكرٍ مع النبيِّ

(1)

اشتهرت نسبة هذا القول إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الآلوسي:"موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين" يعني: السنة والشيعة. ونسبه أبو طالب المكي إلى عامر بن عبد الله بن عبد قيس. انظر: قوت القلوب 2/ 169، وانظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 149، ومختصر التحفة الاثني عشرية ص 39.

ص: 139

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في عريش بدر، وقد شرحتها في موضعٍ آخر.

وقد يقال: إن قائل تلك الكلمة أراد اليقين بوجود الله عز وجل، والخليل عليه السلام لم يَعْرِضْ لهذا؛ فإن قلبه مطمئن به غاية الطمأنينة، وإنما نظره في إحياء الموتى.

وعلى كل حال فحال الخليل عليه السلام حال عالية، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم:"نحْن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى"

(1)

.

فأما الخليل فقد أراه الله تعالى فاطمأن قلبه، وأما سائر المؤمنين فقد ضرب الله تعالى لهم أمثالًا محسوسة على جهة التقريب، كخلقهم أول مرة وإحياء الأرض بعد موتها.

هذا في حشر الأجساد، وأما صفات الله عز وجل فإن الشارع أرشد إلى قطع التفكر، ففي الصحيحين:"يأتي الشيطانُ أَحَدَكُمْ، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته"

(2)

.

وفي صحيح مسلم

(3)

أن بعض الصحابة قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله

(1)

صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله:"ونبِّئهم" إلخ، 4/ 147، ح 3372. صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل، 7/ 97، ح 151 (بعد 2370). [المؤلف]

(2)

صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 123، ح 3276. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في الوسوسة، 1/ 84، ح 134 (214). [المؤلف]

(3)

في الباب المذكور [في الهامش السابق، 1/ 83، ح 132]. [المؤلف].

ص: 140

وسلَّم: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أَوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان".

فصل

ومما ورد في الأعذار ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله، من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره، فراجعه.

وقد اختلفت فرق من المسلمين في أشياء من صفات الله تعالى، ولا يخفى أن في الأقوال المختلفة ما يلزمه الكفر بالكذب على الله عز وجل ونسبة النقص إليه، وتكذيب آياته، [ز 32] كلُّ ذلك أو أكثره عن جهلٍ وخطأ، ومن الذاهبين إلى ذلك مَنْ لم يحمله عليه إلا اتِّباع الرؤساء والشياطين والهوى فيلزمه الشرك باتخاذ هذه الأشياء أربابًا وآلهة، كما ألزم الله تعالى أهل الكتاب وغيرهم بذلك كما يأتي مبسوطًا. ومع هذا اتفق المحققون من علماء الفرق الإسلامية على عدم الكفر الحقيقي على من أُلزِم بالكفر على الوجه المذكور مادام ملتزمًا أصول الإسلام الضرورية وزاعمًا أنه لا يلزمه ما أُلزِم به، على تفصيلٍ يؤخذ من مظانِّه، وَمَنْ شدَّد فحكم بالكفر على بعض مَنْ تقدَّم إنما حكم به على مَنْ يرى أنه قد قامت عليه الحجَّة فعاند، لا على الأتباع من العوامِّ ونحوهم.

ومما ورد في الأعذار قول الله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140].

ص: 141

يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم وجَهَّلَهُمْ لم يجعل طلبهم ارتدادًا عن الدين. ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا بنحو ما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل، فكأنهم هنا ــ والله أعلم ــ عُذِرُوا بقرب عهدهم. وقد مرَّ جماعة من المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شجرةٍ يعكف عليها المشركون، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم مثلها، فقال: "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}

(1)

، ولم يعدَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كلمتهم ردَّةً، فكأنه عذرهم لقرب العهد.

وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار فيها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مع حكمه على تلك الأمور أنها شرك لم يحكم على من فعلها من المسلمين قبل البيان أنه أشرك وارتدَّ. وكذلك تأتي آثارٌ عن أصحابه أنهم كانوا يرون الشيء من ذلك فيغيِّرونه وينكرونه ويُبَيِّنون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه شركٌ ولا يحكمون على مَنْ فعله من المسلمين قبل أن يبيِّنوا له بأنه أشرك وارتدَّ.

وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا "اتَّقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل"

(2)

، وسيأتي الكلام عليه مبسوطًا، وفي روايةٍ للإمام أحمد وغيره: "فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا

(1)

المسند للإمام أحمد 5/ 218 [وفي الأصل 118]، وسيأتي تصحيحه وشواهده [ص 230]. [المؤلف]

(2)

انظر ص 54 - 55.

ص: 142

نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم"

(1)

.

وسيأتي أنَّ في سياق الأحاديث ما يؤيد ظاهرَها من أنَّ المراد بهذا الشرك: الشرك الحقيقيُّ، لا ما يحمله عليه بعض الناس من الرئاء، إلَّا أنَّه وإن كان شركًا حقيقيًّا في نفسه فقد دلَّت الأحاديث على أن مَنْ وَقَعَ منه وهو لا يعلم أنه شركٌ فهو معذورٌ، أي ــ والله أعلم ــ بشرط ألَّا يكون مقصِّرًا تقصيرًا هادمًا. وسيتَّضح لك ــ عندما تعلم حقيقة معنى الإله ومعنى العبادة، ومعنى الشرك ــ أَنَّ كثيرًا من الآراء والأقوال والأفعال التي لا يكاد يسلم منها أحدٌ غير من عصمه الله يَصْدُقُ عليها لولا العذر أنها شركٌ.

اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم.

[

(2)

ومما يدل على هذا ما أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي علي الكاهلي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري، فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضاب، فقالا: لتخرجَنَّ مما قلت أو لنأتينَّ عمر مأذون

(3)

لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلتُ. خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يومٍ، فقال:"أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا

(1)

مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف]، وفي إسناده: أبو علي رجل من بني كاهل، لم يوثقه إلا ابن حبان.

(2)

من هنا إلى نهاية الفصل ملحق ص 32 من المخطوط.

(3)

كذا في الأصل والمسند، وفي التاريخ الكبير ومجمع الزوائد:(مأذونًا)، وهو الوجه.

ص: 143

نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم"

(1)

. أبو علي الكاهلي ذكره ابن حبان في الثقات

(2)

.

وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عبد الأعلى بن أعْيَن، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشرك أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبَّ على شيءٍ من الجور وتبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدين إلا الحبُّ والبغض، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ". قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد

"، تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: "قلتُ: عبد الأعلى قال الدارقطنيُّ: ليس بثقةٍ"

(3)

.

أقول: ولكن للحديث شواهد؛ ففي كنز العمال نحوه عن معقل بن

(1)

مسند أحمد 4/ 403 [المؤلف]. وأخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، في التعوُّذ من الشرك

، 15/ 279 - 280، ح 30163. وعنه البخاري في التاريخ الكبير 9/ 58. وأخرجه الطبرانيُّ في الأوسط 4/ 10، ح 3479. قال الهيثميُّ:(ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، وقد وثَّقه ابن حبان). مجمع الزوائد 10/ 384.

(2)

5/ 562. وانظر: الجرح والتعديل 9/ 409.

(3)

المستدرك 2/ 291 [المؤلف]. وهو في مسند البزَّار (كما في كشف الأستار) 4/ 217، ح 3566. والضعفاء للعقيلي 3/ 60. والحلية لأبي نعيم 8/ 368 و 9/ 253. قال الهيثمي:(وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف). مجمع الزوائد 10/ 384. وانظر ترجمة عبد الأعلى بن أعين في ميزان الاعتدال 2/ 529، وتهذيب التهذيب 6/ 93.

ص: 144

يسارٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه وأبي يعلى، قال:"وسنده ضعيفٌ".

ونحوه عن قيس بن أبي حازمٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، والبغوي

(1)

.

/وذكر أيضًا نحوه عن ابن عباسٍ، ونسبه إلى الحكيم الترمذي والحلية لأبي نعيمٍ"

(2)

.

ووجه الدلالة أمران:

- الأول: أن الحديث صريح في أنَّ من الشرك ما هو خفيٌّ جدًّا وأنَّ كلَّ أحد معرَّض للوقوع فيه، ومثل هذا لا يليق بيسر الدين ونفي الحرج عنه المؤاخذةُ به.

- الأمر الثاني: أنه أرشدهم إلى الدعاء المذكور، وفيه:"ونستغفرك لما لا نعلم" أي: من الشرك، كما هو ظاهر، فعُلم منه أن الشرك الذي لا يُعلم قابل للمغفرة.

فإن عورض هذا بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فسيأتي الجواب

(3)

عن ذلك إن شاء الله تعالى.

(1)

انظر: كنز العمَّال 2/ 169 [المؤلف]. ورواية معقل بن يسارٍ عن أبي بكرٍ في مسند أبي يعلى 1/ 61 - 62، ح 59 - 61.

(2)

كنز العمَّال 2/ 97 و 98 [المؤلف]. وانظر: الحلية 3/ 36 - 37.

(3)

صفحة 650 [المؤلِّف]. ص 924.

ص: 145

ولكن لا بدَّ من تقييد الشرك الذي يقبل المغفرة لكون فاعله لم يعلم به بأن يكون فاعله معذورًا في جهله على ما مرَّ.

فإن قلت: إنما يصح الاستدلال بقوله: "ونستغفرك لما لا نعلم" إذا حُمل على معنى: لا نعلم أنه شرك، وقد تعمَّدنا فعله، وقد يحتمل معنًى آخر وهو أن يقال: أي: لا نعلم أننا نفعله أي: لم نتعمَّد فعله أصلًا، بل وقع سهوًا كالقائل:"اللهم أنت عبدي وأنا ربك". قلت: المعنى الأول هو المتعيِّن لدلالة السياق على أنَّ الذي لا يُعلم هو الخفيُّ، فإنما لم يُعلم لخفائه لا لعدم تعمُّده، ولدلالة التمثيل بالحب على جورٍ والبغض على عدلٍ، ومعناه: أن تحبَّ رجلًا لجورٍ جارَه من حيث هو جور، وتبغض رجلًا لعدلٍ عدَله من حيث هو عدْل، فلا يدخل في هذا حبك حاكمًا حكم لك بمالٍ جورًا وتبغض آخر حكم عليك بعدلٍ إذا أحببت ذاك من حيث نفعك نفعًا دنيويًّا وأبغضت هذا من حيث ضرَّك ضررًا دنيويًّا.

فأما قول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. /فقد قيل: إنَّ المعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملًا، وفيه نظر، والأولى أن يقال: المراد بالحرج الحرجُ الذي يصحبه نسبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجور والظلم، فأما مَن حكم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمالٍ يدفعه إلى صاحبه فدفعه موقنًا بأن الحكم حق وعدل ولكن نفسه كارهة للدفع حبًّا للدنيا وحرصًا عليها، فمثل هذه الكراهة لا تنافي أصل الإيمان.

ص: 146