المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عامة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرا مستقلا - رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

- ‌ بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها

- ‌الأصل الأولحجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ

- ‌الأصل الثانيالحجج والشبهات

- ‌ الأصل الثالثإصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

- ‌ أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

- ‌ فصلالمنتسبون إلى الإسلام أقسام:

- ‌بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقادوهي غير صالحةٍ للاستناد

- ‌ التقليد

- ‌ القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين

- ‌الأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ

- ‌ تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد

- ‌ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا

- ‌ تفسير الإله بالمعبود

- ‌فصل في تفسير أهل العلم للعبادة

- ‌ حاصل ما تقدَّم في هذا الباب

الفصل: ‌ عامة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرا مستقلا

وقال عزَّ من قائل: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].

وقال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11].

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40].

وقال جلَّ ذكره: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي أكثرها ما يزيدك بصيرة بما قدَّمناه [127] أنَّ‌

‌ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا

، ولذلك قامت عليهم الحجة بهذه الآيات. ولكن من الأمم مَنْ يُشْرِكُ الروحانيين زاعمًا أنه كما أن للبشر قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم فينفعون ويضرون ويغيثون ويعينون ويقتلون ويستحيون ونحو ذلك مما هو مشاهد، فللروحانيين قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم وهي أعظم وأكمل من قدرة البشر. قالوا: وكلا

(1)

القدرتين مخلوقة لله عز وجل وممنوحة منه، وإذا

(1)

كذا في الأصل، والوجه: كلتا.

ص: 348

شاء سَلْبَ القدرة من بعض الروحانيين فَعَلَ، كما إذا شاء سَلْبَ القدرة مِنْ بعض البشر. قالوا: فنحن نؤلِّه الروحانيين ونعبدهم لينفعونا بهذه القدرة الموهوبة لهم من الله عز وجل، كما أن البشر يعظِّم بعضُهم بعضًا ويخضعُ بعضُهم لبعض رغبةً في منفعة أو خشيةً من مضرَّة مع العلم بأن قدرة البشر موهوبة لهم من الله عز وجل. ومِنْ هؤلاء عامَّةُ وَثَنِيِّي الهند وغيرهم.

[128]

فاحتجَّ القرآن على هؤلاء وغيرهم بقوله عز وجل: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 19 - 29].

وقوله جل ذكره: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)[129] بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا

ص: 349

كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 84 - 91].

وقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 39 - 44].

وتقرير هذا البرهان: أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا [130] لاختلفوا، وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض، كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد.

ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير

(1)

الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك؛ لكان الفساد أظهر، ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر. فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا.

والمراد بالآلهة هنا الجنس، أي واحد مع الله فأكثر؛ لأن الفساد كما يلزم من وجود ثلاثة مثلًا مع الله يَلْزَمُ من وجود اثنين وواحدٍ أيضًا.

(1)

كذا في الأصل، ولعله:«تسيير» .

ص: 350

وقد علم من هذا البرهان إبطالُ ما يزعمه المشركون من أن الملائكة متمكِّنون من التصرُّف بهواهم واختيارهم كالبشر، وبيان ذلك: أن الفساد كما يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناءً على أنهم مدبِّرون استقلالًا، فكذلك يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناء على أن الله عز وجل مَكَّن لهم في ذلك كما مكَّن للبشر في الأرض؛ فإنّ تصرُّف البشر يَحْدُثُ منه الفسادُ قطعًا، وذلك معلومٌ بالمشاهدة، ولو تناولت قدرتُهم الأمورَ العظمى ومُكِّنوا من التصرُّف فيها تمكينَهم من الصغرى لظهر الفساد فيها حتمًا.

وبهذا التقرير اجْتُثَّتْ شبهةُ المشركين من أصلها، فلم يبق حاجةٌ إلى بيان أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة مُمَكَّنون من التصرف تمكين البشر لم يستحقُّوا أن يُعْبَدُوا، مع أن القرآن قد بَيَّنَ هذا في مواضع، منها قوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 36 - 38].

وتقريره: أنه إذا ثبت أن الله عز وجل محيطٌ بالملائكة قدرةً وعلمًا ومهيمنٌ عليهم في جميع أعمالهم، فلا يستطيعون نفع أحد يقضي الله ضرَّه ولا ضرَّ أحد يقضي الله نفعَه، ولا أن ينالوا أحدًا بشيء لا يقضيه الله تعالى له، فلم يبق معنىً لإشراكهم معه سبحانه في العبادة. فأما عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض فإنما ذلك فيما لم يكن عبادة على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

ص: 351

والناس في هذه الدار مغمورون بالحسِّيات والعاديَّات، حتى إنَّ الإنسان يجد بحسب الظاهر أن سؤاله إنسانًا مثله أقربُ إلى حصول غرضه من الاقتصار على سؤال الله عز وجل، وتوجيهُ ذلك معروفٌ في العقل والدين، ولكن الإنسان يصعب عليه أن يقتصر في أعماله على مقتضى العقل والدين لغلبة الحسّ والعادة عليه.

هذا مع أن كثيرًا من الأحكام الشرعية أو أكثرها كالمبنيِّ على هذه الأمور العادية، ألا ترى أنه ليس للإنسان أن يتناول السُّمَّ أو يمتنع من الطعام والشراب أو يمتنع من العمل بطاعة الله تعالى والكفِّ عن معاصيه قائلًا: ما سبق في علم الله فهو كائن لا محالة ففيم العناء؟

فأما حال الملائكة فإنه مخالف لحال البشر؛ فليس هناك حسٌّ ولا عادة يوهم بظاهره أن الالتجاء إلى الملائكة أقربُ في حصول المقصود من الالتجاء إلى الله عز وجل، بل الأمر بالعكس، كما يدلُّ عليه حالُ المشركين حيث كانوا عند الشدائد يدعون الله عز وجل وحده، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

وبهذا التقرير يُعْلَمُ أن الجنَّ وأرواح الموتى كالملائكة، ولا سيما إذا ثبت أن دعاء الجن وأرواح الموتى عبادة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. هذا مع أن ما أشرنا إليه من عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض ليس معناه أن ذلك مباح لهم مطلقًا، بل فيه تفصيلٌ سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن البرهان المتقدِّم ــ أي: لو كان مع الله تعالى أحياء إلخ ــ هو برهان التمانع المشهور بين المتكلمين، ولهم في تقريره خبط طويل، والذي

ص: 352

ذكرته هو الذي يقتضيه القرآن.

وعلى هذا البرهان تشكيكاتٌ ترجع إلى التحيُّر في وجه لزوم الاختلاف على سبيل القطع؛ لأنه لِمَ لا يجوز اتفاق الآلهة؟ كيف والمفروض أنهم كاملون في العلم والحكمة، والعدل والرحمة، والأمورُ التي تقتضيها هذه الصفات لا يُتَصَوَّرُ اختلافُها؟

والجواب: أن هذا البرهان مَسُوقٌ في مقابلة الأمم التي تَدَّعِي للروحانيين تدبيرًا كما مرَّ، وسياق الآيات واضح في ذلك. وهذه الأمم كما يُعْلَم [131] من ديانة اليونان والهند وغيرهم تثبت للروحانيين الاختلاف بينهم والنزاع وعدم إحاطة العلم، بل لا تكاد تميزهم عن البشر إلا بأنهم أعظم قدرةً، فثبت بذلك لزوم الفساد قطعًا. بل وثبت لزوم الفساد من جهةٍ أخرى، وهي: أن الصفات التي تثبتها تلك الأمم للروحانيين لا تكفي لإتقان تدبير العالم على مقتضى العدل والحكمة، فلو كان واحدٌ منهم فقط هو المدبر باختياره لفسد العالم، وهكذا لو كان واحد منهم يدبر العالم مع الله تعالى والله تعالى مُطْلِقٌ له العنان يفعل ما يشاء ويهوى، فإن تدبير الله تعالى يقتضي الإحكام وإتقان النظام، وتدبير ذلك الروحاني يقتضي الفساد على ما علمت، فيصبح العالَمُ كما قال عَبِيد بن الأبرص:

عيُّوا بأمرهم كما

عيَّتْ ببيضتها الحمامه

جعلت لها عودين من

نَشَمٍ وآخر مِنْ ثمامه

(1)

[132]

ولعله قد تبيَّن بهذا معنى قوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ

(1)

ديوان عبيد بن الأبرص 126.

ص: 353

سَبِيلًا} [الإسراء: 42] على القول بأن هذا إشارة إلى التمانع كالآيتين الأخريين، فيكون المعنى ــ والله أعلم ــ: لابتغوا إلى تدبير ذي العرش المقتضي للإحكام والإتقان سبيلًا بالإفساد، فيقع الفساد.

والراجح في تفسير الآية ما قاله ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر: لو كان الأمر كما تقولون من أن معه آلهة ــ وليس ذلك كما تقولون ــ إذًا لابتغت تلك الآلهة القربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزلفة إليه والمرتبة منه، كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، يقول: لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم فابتغوا ما يقرِّبهم إليه، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}، قال: لابتغوا القرب إليه مع أنه ليس كما يقولون»

(1)

.

وروى غيره نحوه عن مجاهد، وروى عن سعيد بن جبير ما يوافق الأول.

ويحتمل أن يقال: لو كان مع الله [133] آلهة كائنة كما يقولون من أنهم بنات الله وغير ذلك من الصفات التي يصفون شركاءهم بها، إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، بأن ينازعوه في ملكه؛ لأن الولد تكون له خصائص أبيه وإن تأخر وجوده عنه.

(1)

تفسير ابن جرير 15/ 61. [المؤلف]

ص: 354

وهذا معنىً آخر غير برهان التمانع المتقدِّم، وإنما هو تنبيهٌ لمشركي العرب على عظم غلطهم؛ فإنهم كانوا يلتزمون أنه لا يجوز أن يكون لله عز وجل منازع، وكأنهم إنما نسبوا لله تعالى الولد لما استقرَّ في أذهانهم من أن العقم عيب. قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل يفخر عليه:«إني لولودٌ، وإنك لعاقرٌ»

(1)

.

وقال عامرٌ نفسه:

لبئس الفتى إن كنتُ أعور عاقرًا

جبانًا فلا أغني لدى كلِّ مشهد

(2)

وأمرهم في ذلك معروفٌ، فقاسوا رب العزة على الناس في أن العقم يكون عيبًا في حقه، فأثبتوا له الولد لينزهوه بزعمهم، ولما علموا أن إثبات الولد يلزم منه إثبات المنازع جعلوا ذلك الولد إناثًا بناء على ما أَلِفوه واعتادوه أن الإناث ضعاف عواجز، وفاتهم أن ضعفهن وعجزهن لا يبلغ أن يمنعهنَّ من النزاع البتة.

ولعلَّ المعنى الذي تقدَّم عن قتادة ومجاهد ولم يذكر ابن جرير غيره أقربُ؛ فإن قوله: [134]{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} ، يتبادر منه الطاعة، وقد جاء نحوه في القرآن بمعنى الطاعة، وهو قوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57]، وقوله عز وجل:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19، والإنسان: 29].

(1)

انظر: صبح الأعشى للقلقشندي 1/ 438، وخزانة الأدب للبغدادي 8/ 260.

(2)

ديوانه ص 64، المفضليات 362، أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها لابن الكلبي ص 64، الشِّعر والشعراء 1/ 334. والرواية في الديوان والمصادر الأخرى: فما عذري لدى كلِّ محضر، والقصيدة رائية، فلعلَّ ما هنا سهو.

ص: 355

فإن قيل: فإن القرآن نفسه يثبت للملائكة قدرة وتصريفًا في الكون، فالجواب: نعم، ولكنه بيَّن أنهم ليسوا كما يزعم بعض الأمم يتصرفون باختيارهم كتصرف الناس، فقد مرَّ في سياق آية التمانع قوله تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} . إلى قوله سبحانه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 19 - 27].

وقال جلَّ ذكره: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50].

وقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ [135] مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

وأخرج الحاكم في المستدرك وقال: «صحيح» ، وأقره الذهبي، عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أيُّ البقاع خير؟ قال: «لا أدري» ، قال: أيُّ البقاع شرٌّ؟ قال: «لا أدري» ، فأتاه جبريل فقال: سل ربك، فقال: ما نسأله عن شيء. فانتفض جبريل انتفاضةً كاد أن يُصعَق منها محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صعد جبريل قال الله تعالى: سألك محمد أيُّ البقاع خير وشرٌّ؟ فقال: نعم، قال: فحدِّثه أن خير البقاع المساجد وأن شر البقاع الأسواق

(1)

.

(1)

المستدرك، كتاب البيوع، «إن من أشراط الساعة أن يفيض المال ويكثر الجهل» ، 2/ 7 - 8، ورواه البيهقي في السنن مطوَّلًا. سنن البيهقيّ، كتاب النكاح، بابٌ كان لا ينطق عن الهوى

، 7/ 50 - 51. [المؤلف]. وصححه ابن حبان (1599)، وقال الذهبي في العلو ص 99 ح 238: حديث غريب صالح الإسناد، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة 2/ 28 ح 969: في الحكم بصحته نظر

». وروي من وجوه أخرى.

ص: 356

[136]

ويكفي في هذا المعنى قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]؛ فإن (يسبقون) فعلٌ في سياق النفي فيعمُّ، وفاعله ضمير جمع فيعمُّ، و (القول) اسم جنس معرَّف فيعمُّ، وتقديم (بأمره) على (يعملون) يقتضي الحصر، والحصر يستلزم العموم، وتقدير الحصر هكذا:(لا يعملون إلا بأمره)، فيكون (يعملون) عامًّا لما مرّ في (يسبقون). وفيه دليل آخر على العموم وهو حذف المعمول.

فتلخيص المعنى هكذا: لا ينبسُ أحدٌ منهم بكلمةٍ إلا بَعْدَ أن يأذن له الله تعالى، ولا يكون مِنْ أحدٍ منهم شيءٌ من العمل إلا بأمر الله تعالى.

وربما يخطر للقارئ احتمال أن يكون هذا من نمط القَدَرِ. وهو غلط. أما في قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فظاهرٌ؛ إذ الأمر غير القَدَر، ولا قائل بأنه لا يكون من الناس عملٌ إلا بأمر الله تعالى كما يقال بقدر الله تعالى، وأما الإذن فإنما أردنا منه الإذن الخاص

(1)

وهو الذي في نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].

وإنما قدَّرناه اقتداء بقول الله تعالى في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والشفاعة قولٌ، والمغزى من القول في قوله:

(1)

سيأتي بيان الفرق بين الإذن الخاص والإذن العام إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. انظر ص 818 - 823.

ص: 357

{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الشفاعة، ولدفع هذا الاشتباه [137] قال تعالى:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28].

فاتضح بذلك أن المراد الإذن المصحوب بالارتضاء.

هذا، والقول عمل على رأي بعض أهل العلم، فهو داخل في عموم قوله:{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . وإنما خصَّ القول والشفاعة بالذكر بعد دخول ذلك في عموم الفعل لأن مشركي العرب وبعض الأمم الأخرى يعترفون بموجب برهان التمانع كما مرَّ قبل آية التمانع الثانية، وإنما يَتَشَبَّثُونَ بأن الملائكة يشفعون إلى الله تعالى ويقرِّبون إليه بالشفاعة عنده، ويقولون: إن ذلك كافٍ أن يكون مناطًا للألوهية، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3 - 4].

[138]

وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ

ص: 358

وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 27 - 28].

قال الراغب وغيره

(1)

: القربان الذي يتقرَّب بطاعته إلى المَلِك يستوي فيه الواحد والجمع.

واعلم أن برهان التمانع وإن سبق تقريره على وجهٍ لا يظهر منه إبطال تمكن الملائكة من الشفاعة بدون إذن، فالحق أنه يدل على ذلك، وتقرير الدلالة أن يقال: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة لا يعملون شيئًا بغير أمر الله تعالى، فلا يخلو أن يكون ذلك لعجزهم بأن لا تكون لهم قدرة ذاتية ولا قدرة مودَعة، وإنما يُقْدِرُهم الله تعالى على ما يأمرهم به، أو يكون للعصمة التامة بأن تكون لهم قدرة أودعها الله تعالى فيهم بحيث يمكنهم أن يعملوا ولكنهم لحفظ الله تعالى إياهم وإجلالهم لربهم ومحبتهم له وخوفهم منه لا يعملون شيئًا إلا بأمره، وأَ يًّا ما كان من الاحتمالين فيلزم مثلُ ذلك في القول.

فإن قيل: قد يجوز أن يمنعهم ربهم عز وجل من الفعل إلا بأمره، لئلَّا يترتب على فعلهم فساد الكون كما ثبت ببرهان التمانع، ويأذن لهم في [139] القول إذنًا مطلقًا إذ لا يترتب عليه الفساد.

فأقول: أفيقبل الله تعالى شفاعتهم حتمًا أم إذا شاء ورضي؟ ولا سبيل إلى الأول وإلّا لَزِمَ فساد الكون؛ إذ لا فرق بين أن يكونوا مدبِّرين باختيارهم بالفعل أو بالتحكُّم على ربهم، كما أنه لا فرق بين أن يكون في البلدة رؤساء متعددون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة، كلُّ واحد منهم يحكم فيها برأيه، وأن يكون في البلدة ملك واحد عالم عادل حكيم هو الذي يحكم

(1)

المفردات: 664، تفسير القرطبي 18/ 218.

ص: 359

ولكن حوله مقربون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة يتحكَّمون عليه في تدبير البلدة وهو يوافق كلًّا منهم على هواه، بل إن هذا الفعل ينفي عن الملك نفسه صفتي العدل والحكمة.

وأما الثاني ــ أعني: أن يكونوا مأذونًا لهم في القول إذنًا مطلقًا والله عز وجل يقبل شفاعتهم إذا شاء ويردُّها إذا شاء ــ فهَبْ أنه لا برهان على بطلان هذا، فإنه لا برهان على أنه الواقع، ومجرد احتمال أنه الواقع لا يصلح مسوِّغًا لاتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، بل لو فُرِضَ ثبوت أنه الواقع فإنه لا يكفي مُسوِّغًا لاتخاذهم آلهة، والفرق بين تعظيم المقربين من ملوك الدنيا ليشفعوا إلى الملوك وبين اتخاذ الملائكة آلهة سيأتي إن شاء الله تعالى.

على أننا نقول: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة مربوبون والله عز وجل ربهم، [140] ومنصب الربوبية يقتضي ألا يكون للمربوب شيء من الاختيار، وإنما خولف هذا في الجن والإنس في حياتهم الدنيا لأنهم في دور ابتلاء واختبار ولغير ذلك مما يُعْلَم بالتأمل، وفي المحشر لأنهم لما أعيدوا كما كانوا في الحياة الدنيا أعيد لهم ضرب من الاختيار، وفي الجنة لأنها دار كرامة محضة تقتضي إطلاقهم من كل قيد، ونحوُه ما جاء في أرواح الشهداء أنها في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت

(1)

، وإكرامها بهذا الضرب من الاختيار لا يستلزم منحها الاختيار المطلق.

فأما الملائكة فهم باقون على الأصل.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة

، 6/ 38، ح 1887، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 360

هب أن هذا الاستدلال لا يفيد القطع، فإن الظن في مثل هذا يوجب التوقُّف، بل إن الشك يقتضي التوقف، بل الوهم كذلك، فأما بعد أن جاء الرسول بما يوافق ذلك الاستدلال فقد اتضح الحق، والحمد لله.

واعلم أن الاختيار الممنوح للإنس والجن ليس معناه أن الله عز وجل لا يكفُّهم عن شيءٍ أصلًا. أمَّا على رأي القائلين بأن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد كلها فواضح، وأمَّا على رأي المعتزلة ومن وافقهم فلأنهم يقولون: إن الله عز وجل يمنع العبد عن كثير من الأعمال التي تتعلَّق بغيره من العبيد ويحول بينه وبينها، والقرآن مملوء بالدلالة على ذلك، وقد قال تعالى في السحر والسحرة:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وقال تعالى لرسوله والمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166].

وعلى هذا فكل إنسان مستغنٍ عن التذلُّل لغيره من الناس بالالتجاء إلى الله عز وجل، إلا أنَّ تصرُّف بعضِ الإنس في بعضٍ لمَّا غلب على الحسِّ والعادة وامتزج بالتكليف أقيم له وزنٌ ما في الشرع كما تقدَّمت الإشارة إليه، ولعلَّه يأتي له مزيد في الكلام على الدُّعاء. وأما تصرُّف الجن في الإنس فبخلاف ذلك، ولذلك لم يرخِّص الشرع في شيء من دعاء الجن والتذلل لهم البتة، ومثلهم أرواح الموتى إن قلنا إن لها تصرفًا ما، وسيأتي توضيح المقام في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

* * * *

ص: 361

[141]

ذكر ما قد يعارَضُ به ما تقدَّم

في شأن الملائكة عليهم السلام والجواب عنه

من ذلك قول الله عز وجل في سياق آية التمانع: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].

ومنها ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} إلى قوله سبحانه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30 - 33].

ومنها ما جاء أن إبليس كان من الملائكة.

ومنها قصَّة هاروت وماروت.

ومنها ما روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر

(1)

فأدُسُّه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة"

(2)

.

والجواب عن الأوَّل: أن ذلك من باب الفرض، ولا دلالة فيه على الجواز فضلًا عن الوقوع. ونظير الآية قوله تعالى لخاتم أنبيائه صلَّى الله عليه

(1)

أي: طين البحر.

(2)

سيأتي تخريجه.

ص: 362

وآله وسلَّم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ [142] مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، مع آيات أخر قد مر بعضها في أوائل الرسالة.

وقد نُقِلَ عن بعض السلف في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} قال: هو إبليس. كذا قال، وسيأتي قريبًا تبرئة الملائكة عليهم السلام من اللعين.

والجواب عن الثاني: أن قولهم عليهم السلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} كان بعد إذن الله تعالى لهم بأن يقولوا، والإذن مفهوم من إخباره لهم. ألا ترى أن الطبيب الماهر قد يقول لتلميذه المطيع الخاضع العارف بقصور نفسه وكمال الطبيب: سأركِّب من لحوم الحيات معجونًا، فيقول التلميذ: كيف تركِّب معجونًا من هذا السمِّ القاتل، والأدوية الخالية عن السمِّ موجودة؟ فهل تشكُّ أيها الناظر في أنَّ الطبيب إنما أراد بإخبار التلميذ أمره بأن يسأل عن الحكمة فيفيده إياها؟ أو تشك أنَّ التلميذ فَهِمَ هذا الأمر؟ أو أنه إنما أراد بسؤاله استكشاف الحكمة؟

[143]

وقد أخرج ابن جرير بسند صحيح عن قتادة قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فاستشار الملائكة في خلق آدم فقالوا {أَتَجْعَلُ

}

(1)

.

مراد قتادة بقوله: "فاستشار" لازمه من الإذن بإبداء الرأي.

وقال ابن جرير بعد كلام: "وأما دعوى مَنْ زعم أن الله جلَّ ثناؤه كان

(1)

تفسير ابن جرير 1/ 158. [المؤلف]

ص: 363

أَذن لها بالسؤال عن ذلك فَسَأَلَتْهُ على وجه التعجُّب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر لها من الحجة يقطع العذر"

(1)

.

أقول: قد علمت الدلالة، ولو لم يكن إلا قوله تعالى:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} وقول جبريل: "ما نسأله عن شيء" لكفى.

فأما وصفهم الخليقة الأرضية بالفساد وسفك الدماء فقد جاء عن جماعة من السلف أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة بذلك. وفي هذا نظر. والظاهر ما جاء عن بعض السلف أيضًا أن الملائكة فهموا ذلك بالاستدلال، إما بالقياس على خلقٍ كانوا في الأرض من قبل، وإما لمعرفتهم بطبيعة الأرض وأن الخليقة التي تجعل فيها يكون من شأنها ذلك، أو غير ذلك. وسياق القصة وقرائنها ظاهرة في أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم، فكأنهم قالوا: إننا نظن كذا، وعلى هذا فلا يضرُّهم استنادهم إلى دليلٍ ظنِّيٍّ، بل ولا يضرُّهم أن [144] يتبيَّن خطأ ظنِّهم.

ألا ترى إلى ما رواه مسلمٌ في صحيحه وغيره عن طلحة، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقومٍ على رؤوس النخل، فقال:"ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يُلَقِّحُونَه، يجعلون الذَّكَرَ في الأنثى فَيَلْقَحُ

(2)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئًا"، قال: فأُخْبِرُوا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن،

(1)

تفسير ابن جرير 1/ 161. [المؤلف]

(2)

أي: يقبل اللقاح فينعقد طلعه.

ص: 364

ولكن إذا حدَّثْتُكُم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لَنْ أَكْذِبَ على الله".

وأخرجه مسلمٌ أيضًا عن رافع بن خَدِيجٍ، وفيه:"لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، قال: فتركوه، فنفضت أو فنقصت

الحديث.

وأخرجه مسلمٌ أيضًا من حديث أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شيصًا، فمرَّ بهم، فقال:"ما لِنَخْلِكُم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"

(1)

.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من أهل النخل، وقد عَلِمَ أنَّ عامّة الأشجار تثمر بدون تلقيح، فقاس النخلَ عليها وأخبر بظنه، وصدق [145] صلى الله عليه وآله وسلم في إخباره عن ظنه ولا يضرُّه خطأ الظَّنِّ.

ومثل ذلك حديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس الظهر أو العصر وتسليمه من ركعتين، قال فيه:"وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ يُقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس، ولم تقصر"، وفي رواية: "كلُّ ذلك لم يكن" الحديث

(2)

.

مراده صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "لم أنس ولم تقصر" أو "كُلُّ ذلك لم يكن": الإخبار عن ظنِّه لا عن الواقع، فكأنه قال:(في ظنِّي) وإنما

(1)

صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا

، 7/ 95، ح 2361 - 2363. [المؤلف]

(2)

اللفظ الأوَّل أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 103، ح 482. واللفظ الثاني أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، 2/ 87، ح 573 (99).

ص: 365

لم يُصَرِّح بذلك لدلالة الحال عليه. والله أعلم.

وبما قرَّرناه عَلِمْتَ الفَرْقَ بين قياس الملائكة وقياس إبليس؛ فإن قياس الملائكة لم يعارض نصًّا بخلاف قياس إبليس؛ فلذلك قال الحسن وابن سيرين: إن أول من قاس إبليس، كما تقدم. والله أعلم.

وأما ما توهَّمه بعض الناس أن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} من الغيبة المحرمة، فمِنْ ضِيقِ عَطَنه، وقد صحَّت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبارٌ كثيرةٌ عما سترتكبه أمَّته من بعده من الفجور، فهل يكون ذلك غيبة؟ !

وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإنهم لما أرسلوا الوصف كان على العموم، فنبَّههم الله تعالى أن تعميم الحكم لا ينبغي إلا بعد العلم بجميع [146] الأفراد وخصائصهم، فإذا كانوا يجهلون أسماءهم فهم لغيرها أجهل. وقد عَلِمْتَ أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم، وليس في خطأ الظن ما ينافي العصمة.

وأما قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ} فهو تذكير بقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قصد به التنبيه على حصول البرهان الحسي على ذلك ليتقرر ذلك عندهم بعين اليقين، فلا ينافي أن يكونوا قبل ذلك عالمين علم اليقين، والله تبارك وتعالى أعلم.

والجواب عن الثالث ــ وهو ما قيل: إن إبليس كان من الملائكة ــ: فالقرآن يكذِّب ذلك، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي

ص: 366

وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

فقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} نصٌّ على أنه لم يكن من الملائكة، وَزَعْمُ أن من الملائكة طائفة يقال لهم: جن، وهم غير الجن المعروفين، دعوى لا دليل عليها.

والاستدلال بقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] ساقطٌ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما تفصح به (بل)؛ لأنها تقتضي نفي المسؤول عنه وهو ما في قوله تعالى:{أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40]، فالمعنى حينئذٍ: كلَاّ، لم يكونوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون الجن. وسيأتي توجيه نَفْيِهم عبادة المشركين لهم.

وكذلك الاستدلال بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ليس بشيءٍ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} يؤيد أن المراد الجن المعروفون؛ فإن الفاء للسببية، [147] يريد ــ والله أعلم ــ فبسبب كونه من الجن فَسَقَ، أي: لأنه لو كان من الملائكة لما تأتَّى منه الفسق.

ونحوها قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34، ص: 74].

قال أبو السعود: "أي في علم الله تعالى إذ (ا)

(1)

كان أصله من كفرة

(1)

وضع المؤلِّف الألف بين قوسين إشارة إلى أنها خطأٌ في الأصل.

ص: 367

الجن، فلذلك ارتكب ما ارتكبه، على ما أفصح عنه قوله تعالى:{كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] "

(1)

.

فأما دخوله في الأمر بالسجود فلأن أمر الله تعالى لما وقع للملائكة وهو معهم دخل في عموم الخطاب، وقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} ؛ فالخطاب موجَّه إليهم، والأمر لهم ولمن كان معهم، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فالخطاب موجَّه إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر له ولأمته.

وأما استثناء اللَّعين من الملائكة فكالحمار يُسْتَثْنَى من القوم، تقول: جاء القوم إلا حمارًا، ومنه قول الله تعالى:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157].

ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا على أن لفظ الملائكة تناول إبليس تبعًا، كما تقول: جاءت بنو تميم إلا المواليَ، تريد بقولك (بنو تميم) ما هو أعمُّ مِنْ التميميِّ صَلِيبة

(2)

والتميميِّ بالولاء.

وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].

وقد قال تعالى مخاطبًا الجنَّ والإنس: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا

(1)

تفسير أبي السعود 1/ 63.

(2)

أي: خالص النسب عريقه، وفي الأصل بتقديم الباء على الياء، سبق قلم.

ص: 368

تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 16].

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27].

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدم مِمَّا وُصِفَ لكم"

(1)

.

وما اشتهر بين الجهال أن إبليس أراد أن يقول (من نور) فأجرى الله تعالى على لسانه (من نار) لا أصل له، والأدلة [148] على أن اللَّعين لم يكن من الملائكة حقيقة قطُّ كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

وأما الجواب عن الرابع ــ وهو قصَّة هاروت وماروت ــ فنقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].

(1)

مسلم، كتاب الزهد والرقائق، بابٌ في أحاديث متفرِّقةٍ، 8/ 226، ح 2996. [المؤلف]

ص: 369

اختلف العلماء في تفسير هذه الآية، فالقول المنصور أن (ما) في {وَمَا أُنْزِلَ} موصولة عطف على السحر من عطف الخاصِّ على العامِّ أو على (ما) الأولى في قوله:{مَا تَتْلُو} ، و {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} مَلَكَان أذن الله تبارك وتعالى لهما في تعليم السحر بعد أن يقولا:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .

قالوا: وتعليم السِّحر وتعلُّمُه ليس كفرًا ولا حرامًا، وإنما المحظور العملُ به، كما لا يحرم أن يخبر الإنسان غيره بكيفية صناعة الخمر وإن حَرُمَ عصرُها وبيعُها وغير ذلك، وعلى فرض حرمة تعلُّمه وتعليمه في شريعتنا لا يلزم من ذلك حرمته في جميع الشرائع، وعلى فرض أنه حرام في جميع الشرائع فلا يلزم ذلك في حق الملائكة؛ فإن القتل حرام في كل الشرائع، وهذا ملك [149] الموت يقبض نفوس الخلق أجمعين والأنبياءِ والمرسلين، وإن فرضنا أن تعلُّمَه كفر فلا يلزم من تعليمه مع كراهيته وبغضه والزجر عنه الكفر، فلو أن جماعة من المشركين جعلوا مالًا عظيما لمن يسجد لصنم فجاء رجل يريد السجود له وكان هناك مسلم فسأله هذا عن الصنم فزجره هذا ووعظه ونهاه فأصرَّ فأشار له إلى الصنم= لم يظهر من هذا كفر المشير، بل إن السائل لما أصرَّ على عمل الكفرِ صار كافرًا وإن لم يسجد، فعلى هذا فلا فرق بينه وبين المشرك الأصلي إذا سأل مسلمًا عن الطريق إلى بيت الصنم فدلّه. هذا أقصى ما يُسْتَدَلُّ به لهذا القول، وفي بعضه نظر. والله أعلم.

وقيل: إن (ما) نافيةٌ، والباقي كما مرّ. والمعنى: أنه لم يكن سليمان ساحرًا، ولم ينزل الله تعالى السحرَ على الملكين، فإن السحر أَخسُّ من ذلك، أي وإنما عَلِمه الملكان بطريق أرضيَّة وإن كان ذلك بإذن الله تعالى.

ص: 370

وذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية، والمراد بالملكين رجلان صالحان هما هاروت وماروت، واستدلَّ بالقراءة الشاذة (الملِكين) بكسر اللام، والباقي نحو ما مرَّ.

وقال جماعة: (ما) نافية، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل أو داود وسليمان. قالوا: وهاروت وماروت بدلٌ إمَّا من {الشَّيَاطِينَ} فهما اسما شيطانين أو قبيلتين من الشياطين، وإما من {النَّاسَ} فهما اسما رجلين، وعلى هذا فلا إشكال [150] من جهة أن تعلُّم السحر وتعليمه كفر أو حرام.

واعتُرِضَ على هذا القول بأنه كيف تقول الشياطين أو الكفار {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ؟ وأجابوا بأنه لا مانع أن يأخذ الله تعالى على الشياطين هذا القول حتى لا يقدروا على التعليم بدون قوله، وكذا لا يمتنع أن يكون الإنسانان تأوَّلا جواز التعلُّم والتعليم واحتاطا بمنع التعليم حتى يقولا ذلك. ويُبْعِدُ هذا القولَ ما فيه من التعسُّف في تقدير الكلام.

وقد يؤخذ من بعض الآثار أن (ما) موصولة والمراد بالمُنَزَّل الاسمُ الأعظم، وعلى هذا فلا إشكال في جواز تعليمه وتعلُّمه وإن كان المتعلِّم قد يعمل بواسطته ما يكون كفرًا، كما يجوز أن تعطيَ مسلمًا مصحفًا وإن احتمل أن يكفر بإلقائه في نجاسة مثلًا، ويَرِدُ على هذا القول أن فيه كون الشياطين يَعْلَمون الاسم الأعظم ويُعَلِّمُونه، وهو كما ترى.

وقد أخرج ابن جرير وغيره عن عائشة أمِّ المؤمنين قالت: قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به،

ص: 371

قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد [151] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيشفيها، كانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكتُ، كان لي زوج فغاب فدخلتُ على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فَعَلْتِ ما آمرُكِ فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل فإذا برجلين مُعَلَّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري، وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه فذهبت ففزعت، فلم أفعل فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيتِ شيئًا؟ قلت: لم أر شيئًا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبتِ، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت إليه فبُلْت، فرأيت فارسًا مُتَقَنِّعًا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عنِّي حتى ما أراه، فجئتهما فقالا: صدقْتِ، ذلكِ إيمانكِ خرج منكِ، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا، فقالت: بلى لن تريدي شيئًا إلا كان، خذي [152] هذا القمح فابذري، فبذرتُ، فقلت: اطْلُعِي فطَلَعَتْ، وقلت: أَحْقِلي فأَحْقَلَتْ، ثم قلت: أَفْرِكي فأَفْرَكَتْ، ثم قلت: أَيْبِسِي فأَيْبَسَتْ، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئًا إلا كان أُسْقِطَ في يدي وندمتُ والله يا أمَّ المؤمنين، والله ما فعلت شيئًا قطُّ، ولا أفعله أبدًا، فسَأَلَتْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم

ص: 372

يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلُّهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حَيَّين أو أحدهما لكانا يكفيانك.

انتهى حديث ابن جريرٍ عند قولها: "ولا أفعله أبدًا"، والزيادة من المستدرك وسنن البيهقي، قال الحاكم: صحيح وأقرَّه الذهبيّ

(1)

.

أقول: أما السند فلا كلام فيه، وإنما الشأن في هذه المرأة الدُّومِيَّة. ومَن تأمل القصة ومناسبتها للآية وسكوت الصحابة عن إنكارها علم أنه ليس من الإنصاف تكذيبها. وفيها بقاء الملكين إلى ذلك الوقت، وقد يشهد له قول الله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ} بصيغة المضارع المشعرة بالاستمرار، ولم يقل: وما علَّما، أو: وما كانا يعلِّمان، أو نحو ذلك.

وقد أنكر أبو محمَّد بن حزمٍ رحمه الله [135] بقاءهما، واحتجَّ بأن بابل موجودةٌ على وجه الأرض والناس يطوفون فيها ولا يرونهما، ومَنْ كان يؤمن بوجود الجنِّ والملائكة وإمكان أن يراهم بعض الناس بإذن الله تعالى لم يَخْفَ عليه الجوابُ

(2)

.

وقد يُحتجُّ على عدم بقائهما بقلَّة السِّحر على وجه الأرض، وبأنه لو كان الأمر كما زعمت الدُّوميَّة ــ أنَّ مَن تعلَّم لم يُرِدْ شيئًا إلا كان ــ لفسدت السماوات والأرض.

والجواب: أنه لا مانع أن يقال: إن الله عز وجل يمنع الناس من الوصول

(1)

تفسير ابن جريرٍ 1/ 347. المستدرك، كتاب البرِّ والصلة، حكاية امرأةٍ فزعت من عمل السِّحر، 4/ 155. سنن البيهقيّ، كتاب القسامة، باب قبول توبة الساحر

، 8/ 137. [المؤلف]

(2)

انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 64.

ص: 373

إليهما إلا مَنْ ندر، ويمنع مَنْ تَعَلَّمَ ذلك مِنْ عَمَل ما يَخْتَلُّ به شيء من قوانين الخلق والأمر، كما يمنع الشياطين من ذلك، وقد بيَّنَ هذا في الآيات بقوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، هذا والسياق يدلُّ أن قولها:"لا أريد شيئًا إلا كان" محمول على المُحَقَّرَات فقط. على أن هذا التعميم إنما وقع من قول العجوز الفاجرة، ومِنْ ظن هذه الدُّوميّة لما رأت قصَّة القمح.

وفي القصة أنها رأت الرجلين أو قُل (الملَكَين) معلَّقَيْنِ بأرجلهما، فإن فُهِمَ من التعليق العذابُ فلا يجوز أن يكون هذا العذاب على التعليم؛ إذ كيف يُصِرَّان على المعصية مع أنهما يعذَّبان عليها ومع ذلك يقولان:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ويؤكِّدان ذلك غاية التأكيد مع أن في الآثار التي سيأتي الكلام عليها [154] أنهما تابا وأنابا.

فإن قيل: لعلَّ العذاب على ذنبٍ آخر كما تدلُّ عليه الآثار الأخرى، فكذلك يبعد أن يصرّا على معصية مع تعذيبهما على أخرى ويقولان مقالتهما. والأقرب إن صدقت المرأة أنهما مُثِّلا لها كذلك ليكون أَبْلَغَ للتنفير، ولا عذاب ولا تعليقَ في نفس الأمر.

وموضعُ الفائدة في هذه القصَّة أنهما لا يُعَلِّمان شيئًا وإنما يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، فإذا أصرَّ الطالبُ قالا له: اذهب فبُلْ في ذلك التنور فيذهب فَيَعْرِضُ له خوف ورعب، فإن صَمَّم وبال فما هو إلا أن يبولَ فيخرجَ منه إيمانه ويَعْلَمَ السِّحْر.

فإن صحَّ هذا فلا إشكال في الآية أصلًا، بل المعنى: ولم ينزل السِّحر

ص: 374

على الملكين ببابل، وإنما هما فتنة يفتنان مَنْ طلب تعلُّم السحر ليتبيّن تصميمه على الكفر أو عدمه، فيعظانه ويحذِّرانه، فإن أصرَّ امتحناه بأن يبول فيعرض له ذلك الخوف والرعب، فإن صمَّم وبال تبيَّن أنه قد صمَّم على الكفر فَيُنْزَعُ منه التوفيقُ، ويُخَلَّى بين الشياطين وبينه، فيحصل له السحر من صحبة الشياطين، فليس في فعل الملكين رضًا بكفر ولا تعليمُ سحر؛ وذلك أن البول في التنُّور ليس كفرًا في نفسه، بل الطالب إذا أصرَّ على التعلُّم بعد أَن يقولا له:[155]{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فقد صار كافرًا، وإنما البول في التنُّور دليل على تصميمه على الكفر وإصراره عليه وشدة حرصه على التعلُّم الذي هو كفر بجرأته على البول مع ما يعرض له من الرعب، ولكن لما كان البول في التنُّور يقع بإشارتهما وعِلْمُ السحر يَحْصُلُ عقِبه، وكان ذلك في صورة التعليم أطلق في الآية {يُعَلِّمَانِ} {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} ، وذلك على سبيل المجاز، والله أعلم، والقرينة الصارفة عن الحقيقة أمور:

الأوَّل: أنه قد بيَّن في الآية أن تعليم السحر كفر وأن تعلُّمه كفر، وأنهما ملكان، وقد قامت الدلائل على عصمة الملائكة.

أما بيان أن تعليم السحر كفر، فقوله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . وأما بيان أن تعلُّمَه كفر ففي قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، وقوله:{لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ، واشتراؤه تعلُّمه، ونفي النصيب في الآخرة البتة إنما يكون على الكفر، وقوله:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} ، أي: باعوا، وبيع النفس عبارة عن إيقاعها في الهلاك التامّ، وذلك إنما يكون بالكفر.

ص: 375

وأما دلائل عصمة الملائكة فقد تقدَّمَتْ.

الأمر الثاني: أنه لو صرف النظر عن العصمة وجُوِّزَ عليهما الكفر فكيف يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، فينهيان عن الكفر مع تلبسهما به؟

[156]

الأمر الثالث: قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} و {إِنَّمَا} للحصر، أي: ما نحن إلا فتنة، فيُفْهَم من ذلك نَفْيُ كونهما معلِّمين على الحقيقة، وعلى هذا المعنى فـ (ما) في قوله:{وَمَا أُنْزِلَ} نافية. والله أعلم.

وإذ قد اتضح بحمد الله تعالى معنى الآية فلننظر في الآثار الواردة عن قصَّة هاروت وماروت مع الزُّهَرَةِ، فأقول:

ساق الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره

(1)

الآثار المذكورة ولم يعرض لها مع جزمه بعصمة الملائكة عليهم السلام، وقد ردَّها جماعة كالقاضي عياض والفخر الرازي، نقله الآلوسي في تفسيره قال:"ونصَّ الشهاب العراقي على أن مَنْ اعتقد في هاروت وماروت أنهما مَلَكَان يُعَذَّبان على خطيئتهما مع الزُّهَرَةِ فهو كافر بالله تعالى العظيم؛ فإنَّ الملائكة معصومون، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]، والزُّهَرَة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثَّلت لهما فكان ما كان وَرُدَّتْ إلى مكانها غير معقول ولا مقبول".

(1)

1/ 343 - 348. [المؤلف]

ص: 376

قال الآلوسي: "واعترض الإمام السيوطي على مَن أنكر القصَّة بأن الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليٍّ وابن عباس [157] وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة، يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها؛ لكثرتها وقوَّة مُخْرِجِيها. وذهب بعض المحققين [إلى] أن ما رُوِيَ مرويٌّ حكايةً لما قاله اليهود، وهو باطل في نفسه، وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يَرِدُ ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يَرِدُ على المنكرين بالكلِّيَّة، ولعلَّ ذلك من باب الرموز والإشارات

"

(1)

.

وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر: "قلت: وله طرق كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد الواقف عليه يقطع بوقوع هذه القصة لكثرة الطرق الواردة فيها وقوة مخارج أكثرها. والله أعلم"

(2)

.

أقول: أما رواية القصة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مسند الإمام أحمد: عن يحيى بن أبي بكير، عن زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا

(3)

، وموسى هو الأنصاري مجهول الحال لم يوثِّقه أحد إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وقال:"يخطئ ويخالف"

(4)

.

قلت: وقد عُرِفَ من مذهب ابن حِبَّان أنه يذكر المجاهيل في ثقاته فيذكر مَن روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ ولم يكن حديثه منكرًا، نبَّه على ذلك

(1)

روح المعاني 1/ 279. [المؤلف]

(2)

القول المسدد، ص 41. [المؤلف]

(3)

المسند 2/ 134. [المؤلف]

(4)

انظر: الثقات 7/ 451.

ص: 377

في كتاب الثقات نفسه

(1)

، وكذلك يخرج ابن حِبَّان لمن كان كذلك في صحيحه، نبَّه عليه الحافظ ابن حجر وغيره

(2)

، فعُلِمَ من ذلك أن ذِكْرَ ابن حبان لرجلٍ في الثقات وإخراجه له في صحيحه لا يرفع عنه اسم الجهالة.

هذا مع أن قوله في موسى: "يخطئ ويخالف" جرحٌ ينزل به موسى عن درجة المستور. وهذا الحديث من جملة خطئه ومخالفته؛ فإنَّ الناس رووا القصة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن كعب الأحبار، كذا أخرجه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن سالم ومن طريق محمد بن عقبة ــ أراه أخا موسى وهو ثقة ــ عن سالم

(3)

. والعجب من ابن حبان كيف أخرج الحديث في صحيحه

(4)

من طريق موسى بن جبير المذكور؟ !

وذكر القاري في شرح الشفاء عند الكلام على هذا الحديث كلام الأئمة في زهير، وفيه:"وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن حديث زهير هذا فقال: أنا أتقي هذا الشيخ كأن حديثه موضوع، وليس هذا عندي بزهير بن محمد، قال: وكان أحمد بن حنبل يضعِّف هذا الشيخ ويقول: هذا الشيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه"

(5)

. كذا قال، ولينظر

(6)

.

(1)

انظر: الثقات 1/ 11 - 12.

(2)

انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 290 - 291، فتح المغيث 1/ 42 - 43. وراجع: صحيح ابن حبان (الإحسان) 1/ 151 - 152.

(3)

انظر: تفسير الطبري 2/ 343 - 344.

(4)

صحيح ابن حبان (الإحسان) ، كتاب التاريخ، باب بدء الخلق، ذكر قول الملائكة عند هبوط آدم إلى الأرض

، 14/ 63 - 64، ح 6186.

(5)

4/ 231. [المؤلف]

(6)

انظر: العلل الكبير ص 381، ح 713.

ص: 378

وقد أخرج ابن جرير

(1)

طرفًا من القصة من طريق فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح، عن نافع، عن ابن عمر فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [158] وذكره الذهبي في الميزان

(2)

في ترجمة سنيد بن داود.

والفرج بن فضالة ضعيف، وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر عند ذكر هذه القصَّة:"أورده ابن الجوزي ــ يعني في الموضوعات ــ من طريق الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع وقال: لا يصحُّ، والفرج بن فضالة ضعَّفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة"

(3)

.

وفي تذكرة الموضوعات عند ذكر القصَّة: "فيه موسى بن جُبَيرٍ، مختلفٌ فيه، ولكن قد توبع، ولأبي نعيم عن علي، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزُّهَرَة لأنها فتنت المَلَكَينِ، وقيل: الصحيح وَقْفُهُ على كعب، وكذا قال البيهقي"

(4)

.

أقول: إن كان المراد بقوله: (قد توبع) رواية فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح فليست مما يُفْرَح به، وأما رواية أبي نعيم فلم أقف عليها، وأبو نعيم معروف بتتبُّع الواهيات.

والحق ما ذكره البيهقي أن ابن عمر إنما سمع القصة من كعب الأحبار، والله أعلم.

(1)

انظر: تفسير الطبري 2/ 347 - 348.

(2)

2/ 236.

(3)

القول المسدد، ص 41. [المؤلف]. وانظر: الموضوعات 1/ 295 - 297، ح 389.

(4)

تذكرة الموضوعات، ص 110. [المؤلف]

ص: 379

وأما الرواية في ذلك عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، فقد ثبت عن عمير بن سعيدٍ النخعيّ أنه قال: سمعت عليًّا يقول: فذكر القصة، لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه الحاكم في المستدرك

(1)

وغيره. وعمير ثقة عندهم، لم يطعن فيه أحد إلا أن أبا محمد بن حزم ذكر في الملل والنحل هذه الرواية وقال:"رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول، مرَّة يُقال له: النخعيّ، ومرَّةً يُقال له: الحنفي، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة، وليس أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه أوقفها على عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وكذبةً أخرى في أنَّ حدَّ الخمر ليس سنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو شيءٌ فعلوه، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا"

(2)

.

[159]

وقد شنَّع الحافظ ابن حجر في ترجمة عمير من تهذيب التهذيب على ابن حزم فيما قال

(3)

.

وأقول: لعلَّ أمير المؤمنين حكى هذه القصَّة عقب قوله مثلًا: تزعم اليهود أو زعم كعب أو نحو ذلك، ولم يسمع عمير تلك الكلمة وسمع القصة. والله أعلم.

وأما الرواية عن ابن عباس فذكرها الحاكم في المستدرك وغيره من قوله، لم يرفعه، ولفظه: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الزُّهَرَة

(1)

كتاب التفسير، من سورة البقرة، قصَّة الزهرة وكونها كوكبًا، 2/ 265. [المؤلف]

(2)

الملل والنحل: 4/ 32. [المؤلف]

(3)

انظر: تهذيب التهذيب 8/ 146 - 147.

ص: 380

امرأة في قومها، يقال لها: بيدحة"

(1)

، وسبيله سبيل ما ذكرنا في الرواية عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام.

وأما ابن مسعود فأخرج ابن جرير من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: لما كثر

، فذكر القصة من قولهما

(2)

، وعلي بن زيد واهٍ، فإن صحّ فسبيل ابن مسعود سبيل ما تقدَّم. والله أعلم.

والحاصل: أن رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قد أنارت الطريق وبيَّنَتْ أن القصة من أساطير كعب، والله المستعان.

فإن قيل: لكن من حكى القصة من الصحابة رضوان الله عليهم لم يبيِّنوا فسادها فيؤخذ من ذلك على الأقلِّ أنهم كانوا يرون جواز صحَّتها.

قلت: يجوز أن يكونوا بَيَّنُوا ولم يُنْقَل كما تقدَّم، ويجوز أن يكونوا إنما حكوها على وجه التعجُّب واستغنوا عن بيان بطلانها بوضوحه شرعًا وعقلًا، [160] ويجوز أن يكونوا تأوَّلوا في الزُّهَرَة تأوُّلًا معقولًا، كما أخرج ابن جرير بسنده إلى الربيع ــ هو ابن أنسٍ ــ وفيه:"وفي ذلك الزمان امرأة حُسْنُها في سائر الناس كحسن الزُّهَرة في سائر الكواكب"، فذكر القصَّة

(3)

وتأوَّلوا في الملكين أنه بعد أن سُلِخَا من المَلَكِيَّةِ زال حكمُ العصمة، وأن ذلك لا ينافي ما ثبت من عصمة الملائكة وإن كان فيه ما فيه، وقد رُوِيَتْ

(1)

المستدرك، كتاب التفسير، من سورة البقرة، كانت الزهرة امرأةً، 2/ 266. وليس فيه ذكر لهاروت وماروت كما ترى. [المؤلف]

(2)

تفسير الطبري 2/ 342.

(3)

تفسير الطبري 2/ 345 - 346.

ص: 381

القصة عمَّن بعد الصحابة كمجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، والأمر في ذلك سهل. والله تبارك وتعالى أعلم.

والجواب عن الخامس ــ وهو ما رُوِي من دَسِّ جبريل الحمأة في في فرعون ــ: أن العلماء أنكروا ذلك أشدَّ الإنكار، ففي الكشاف أنَّ ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام، وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصحُّ بالقلب كإيمان الأخرس، فحالُ البحر لا يمنعه. والأخرى: أنَّ مَن كره إيمان الكافر وأحبَّ بقاءه على الكفر فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر. ووافقه ابن المنيِّر مع تحرِّيه مخالفته في كل ما له مساس بالقَدَر. قال ابن المنيِّر: "لقد أنكر منكرًا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم". اهـ

(1)

.

أقول: أما الخبر في ذلك فرواه الإمام أحمد والترمذي وحَسَّنه من [161] طريق عليِّ بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس مرفوعًا

(2)

.

ورواه الترمذي والإمام أحمد أيضًا من طريق شعبة، أخبرني عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس، ذكر أحدهما عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر أن جبريل صلى الله عليه وسلم جعل في في فرعون الطين خشية أن يقول:"لا إله إلا الله" فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله. قال أبو عيسى: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من

(1)

1/ 431 - 432. [المؤلف]

(2)

جامع الترمذيّ، كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة يونس، 2/ 188، ح 3107. مسند الإمام أحمد 1/ 245. [المؤلف]

ص: 382

هذا الوجه"

(1)

.

وأخرجه الحاكم من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره، ثم قال: "حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إلا

(2)

أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عبَّاسٍ".

قال الذهبي في تلخيصه بعد ذكر هذا الحديث: " (خ م)، وعامَّة أصحاب شعبة أوقفوه"

(3)

.

أقول: الصواب وقفه؛ فإن عليَّ بن زيدٍ ضعَّفه الجمهور، وقال فيه شعبة وغيره: كان رفّاعًا أي يَرْفَعُ ما يَقِفُه غيره. والذي رفعه من الرجلين في رواية الترمذي هو عدي بن ثابت كما بيَّنَتْه روايةُ الحاكم، وقد قال شعبة نفسه [162] في عدي بن ثابت: كان من الرفَّاعين أي الذين يرفعون الموقوفات غلطًا. وفي عديٍّ هذا كلام كثير غير هذا.

على أن عطاء بن السائب فيه كلام، وقد قال فيه الإمام أحمد: "مَنْ سمع منه قديمًا فسماعه صحيح، ومَنْ سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، سمع منه قديمًا سفيان وشعبة وسمع منه حديثًا جرير وخالد

وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها".

(1)

المسند 1/ 240. [المؤلف]. وجامع الترمذيّ، الموضع السابق، 5/ 287، ح 3108.

(2)

كذا، ولعل الصواب: لأن. [المؤلف]

(3)

المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة يونس، شرح آية: "لهم البشرى

"، 2/ 340. [المؤلف]

ص: 383

فهذا أقوى ما رُوي في هذه القصة، وهو موقوف على ابن عباس كما رأيت.

فإن قيل: إنه وإن كان الراجح روايةً أنه موقوف فله حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مسرح للرأي فيه، ولم يكن ابن عباس مُولَعًا بالإسرائيليات، كيف وهو القائل:"كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ، وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدث، تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله وغيَّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أُنزِل عليكم"

(1)

.

قلت: لعلَّه رضي الله عنه إنما أراد نهي المسلمين عن سؤال مَن لم يَزَلْ على كفره من أهل الكتاب، بدليل قوله: فوالله لا يسألكم أحد منهم عن الذي أنزل [163] عليكم، فإنهم هم الذين لا يسألون المسلمين، فأما مَن أسلم منهم فإنه يسألنا كما لا يخفى.

أو لعلَّه إنما نهى من لم يرسخ الإيمان والعلم في قلبه خوفًا عليه من الضلال.

وأظهر من ذلك أن يكون إنما نهى عن سؤالهم للاحتجاج في الدين بما يحكونه، فأما ما كان من قَبِيل الوقائع التاريخية التي تتعلق بما في القرآن فلم

(1)

البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا تسألوا أهل الكتاب عن شيءٍ"، 9/ 111، ح 7363. [المؤلف]

ص: 384

يكن هو ولا غيره يرى في ذلك حرجًا، كيف وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البخاريُّ وغيره

(1)

.

ومَن تَتَبَّع ما يُرْوَى عن ابن عبَّاسٍ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من التفسير عَلِمَ صحَّة ما قلناه. وفي تفسير ابن جريرٍ عدَّة آثارٍ في سؤال ابن عبَّاسٍ كعبَ الأحبار عن أشياء من القرآن، وسؤاله غير كعبٍ من أحبار اليهود. والله أعلم.

فإن قيل: إن هذه القصة تتعلَّق بالدين تَعَلُّقًا عظيمًا؛ فإن فيها نسبة جبريل عليه السلام إلى ما علمت، فكيف يحكيها ابن عبَّاسٍ ولا يشير إلى بطلانها إن كانت باطلة؟

قلت: ارجع إلى الاحتمالات التي مرَّت في جواب الأمر الرابع

(2)

، وقد يكون الحبر رأى أن القصة إن صحَّت فإنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل بأمر الله تعالى تنفيذًا لما علمه عز وجل وقضاه وسبق به دعاء موسى وهارون عليهما السلام وإجابة الله تعالى دعوتهما.

ودونك الآيات: [164] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ

(1)

صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكِر عن بني إسرائيل، 4/ 170، ح 3461. [المؤلف]. وانظر: جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، 5/ 40، ح 2669، من حديث ابن عمرٍو رضي الله عنهما.

(2)

وهو ما يتعلَّق بقصَّة هاروت وماروت.

ص: 385

عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 88 - 91].

فإن قيل: وكيف يأمر الله تعالى بالمنع من الإيمان؟

قلت: كما دعا به موسى وهارون عليهما السلام، وأجاب سبحانه دعوتهما. وإذا انتهى البحث إلى القَدَرِ وَجَبَ الإمساك.

فأما قول جار الله: "إن الإيمان يصحُّ بالقلب فحالُ البحر لا يمنعه"، فالجواب: أنه ليس المرادُ من إيجاره

(1)

الحمأة مَنْعَهُ عن النطق كما تُوهِمُه بعضُ الروايات، بل تعجيل حال الغرغرة قبل أن يعقد قلبه على الإيمان.

هذا كلُّه إيضاح لعذر ابن عباس رضي الله عنهما في حكايته الواقعة ساكتًا عن اعتراضها. والله أعلم.

* * * *

(1)

مصدر أَوْجَرَهُ: أي جعله في فيه. وأكثر ما يستعمل في الدواء.

ص: 386