الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
/
فصل في تفسير أهل العلم للعبادة
(1)
أما المتكلمون وأهل العقائد المسمّى بعلم التوحيد فلم أقف لهم على كلام بيِّن في تفسير العبادة، وكأنهم يرون أن الكلام عليها خارج عن فنِّهم، بل صرّح به السعد في شرح المقاصد ــ كما تقدم ــ، وكذلك الفقهاء مع حكمهم بالردّة على من عظّم غير الله تعالى أو تذلَّل له على سبيل العبادة. وهذا عجيب؛ يبنون الأحكام على العبادة ويهملون تفسيرها! ، ولو قال قائل: إن أكثر الفقهاء بعد القرون الأولى لم يكونوا يعرفون معنى العبادة على وجه التحديد لما وجدنا حجّة ظاهرة تردّ قوله.
وأما المفسِّرون؛ فقال ابن جرير: "تأويل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهمّ نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربّنا بالربوبيّة لا لغيرك"
(2)
.
وفي الكشّاف: [والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه: ثوب ذو عَبْدَةٍ، إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج؛ ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولي أعظم النعم، فكان حقيقًا بأقصى غاية الخضوع]
(3)
.
وأما أهل اللغة؛ ففي لسان العرب
(4)
:
"قال الأزهري:
…
ولا يقال عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله، ومن عبد دونه إلهًا فهو من الخاسرين.
(1)
هذا الفصل ثلاث صفحات غير مرقمة من نسخة (ب).
(2)
تفسير الطبري 1/ 159.
(3)
الكشّاف 1/ 10، وقد بيّض المؤلِّف لكلام الزمخشري فأضفته.
(4)
3/ 271 - 274.
قال: وأمَّا عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَده.
قال الليث: ويقال للمشركين: عبدة الطاغوت، ويقال للمسلمين: عباد الله يعبدون الله، والعابد الموحِّد
…
وعبد الله يعبده عبادة ومعبدًا ومعبدة: تألّه له؛ /والتعبد التنسك، والعبادة الطاعة، وقوله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]
…
وقال الزجاج .... قال: تأويل (عبد الطاغوتَ) أي: أطاعه، يعني الشيطانَ فيما سوَّل له وأغواه. قال: والطاغوت هو الشيطان.
وقال في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، أي نطيع الطاعة التي يُخْضَع معها. وقيل: إياك نوحِّد، قال: ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق مُعبَّد إذا كان مُذلَّلًا بكثرة الوطء
…
وقال ابن الأنباري: فلان عابد، هو الخاضع لربِّه المستسلم المنقاد لأمره. وقوله عز وجل:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: أطيعوا ربَّكم".
وفي القاموس
(1)
: "والعبادة: الطاعة". قال في شرحه تاج العروس
(2)
: أما عَبَد اللهَ فمصدره عبادة وعبودة وعبودية، أي: أطاعه
…
قال ابن الأثير: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع
(3)
.
(1)
ص 378.
(2)
8/ 330.
(3)
تقدم قريبًا نقل هذه العبارة عن الزجاج، ولم أجدها في كتاب النهاية لابن الأثير.
وفي المصباح
(1)
: "عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع، والفاعل: عابد
…
ثم استُعْمِل فيمن اتخذ إلهًا غير الله، وتقرَّب إليه، فقيل: عابد الوثن والشمس، وغير ذلك".
وقال الراغب: "العبودية: إظهار التذلُّل، والعبادة أبلغ منها، ولا يستحقها إلا مَنْ له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] "
(2)
.
وتحرير هذه النقول أن لهم في تفسير العبادة عبارات:
1 -
الطاعة.
2 -
الطاعة التي يُخْضَع معها.
3 -
غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع.
4 -
التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله.
فأقول: أما العبارة الأولى فقصورها واضح، وقد مرَّ
(3)
عن الأزهري قوله: "وأما عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَدَه".
وقد جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى النهيُ عن عبادة غير الله تعالى، وأن ذلك شرك، وهذا من ضروريّات الدين. وجاء في الكتاب والسنة الأمر بطاعة الرسول وأولي الأمر والوالدين، وهو /من ضروريات الدين أيضًا.
(1)
ص 389.
(2)
انظر: المفردات ص 542.
(3)
ص 402.
فإن قيل: فلعلَّ للعبادة استعمالين: أحدهما بمعنى الطاعة مطلقًا.
قلت: لم ترد العبادة في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم لغير الله تعالى إلا مَنْهِيًّا عنها، ومطلق الطاعة منها المأمور به والمستحبُّ والجائز، وقد مرّ عن الأزهري قوله: فأمّا عبد خدم مولاه فلا يقال: عَبَده.
والحاصل أن قصور تلك العبارة أمر يقينيّ.
وأما العبارة الثانية؛ فالخضوع إن كان هو التذلُّلَ كما هو المعروف فهو غير منهيٍّ عنه مطلقًا، فقد قال تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وقال سبحانه:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]. وإن كان غيره فما هو؟
وأيضًا فلا يرتاب أحد أن العبد يطيع مولاه خاضعًا له. وقد مرّ
(1)
عن الأزهري أن طاعة العبد لمولاه لا تسمَّى عبادة.
وزاد بعض الأئمة في هذه العبارة قيد المحبَّة
(2)
، ولم يصنع شيئًا؛ فإن العبد قد يطيع مولاه ويخضع له مع محبته إيّاه، وليس هذا بعبادة، والولد مأمور بطاعة والديه والخضوع لهما ومحبتهما، إلى غير ذلك.
وأما العبارة الثالثة ــ وهي المشهورة بين العلماء ــ فمجملة؛ للجهل بالحدِّ الفاصل بين ما يُعَدُّ من الغاية وما لا يُعَدُّ منها.
وأيضًا، فإن أريد بالتذلّل والخضوع ما يظهر للنظر فالأمور المعلوم بأنها
(1)
ص 402.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 15/ 162، 16/ 202، وإغاثة اللهفان 2/ 852.
عبادة تختلف في درجات التذلّل والخضوع، كاستلام ركن الكعبة بمحجنٍ، ولمسه باليد، وتقبيله، ووضع الجبهة عليه، وكالقيام في الصلاة والركوع والسجود، وهذه كلها عبادات، فهي بمقتضى العبارة الثالثة من غاية التذلّل وأقصى درجات الخضوع.
وإذًا فالغاية وأقصى الدرجات لها في نفسها درجات؛ فالأمور التي لم يُنَصَّ على أنها عبادات كيف نعلم أنها من الغاية، أو من أقصى الدرجات ما دامت درجات الغاية متصلة بدرجات ما قبل الغاية؟ ومَثَل ذلك مِرْقاة لها خمسون درجة مثلًا، فقال رجل لمملوكه: اصْعَدْ هذه المرقاة ولا تَبْلُغ أقصى الدرجات، وأراد بالأقصى عدّة درجات من أعلى، فمن أين يعلم المملوك عدّة الدرجات التي جعلها السّيّد غاية؟
وأوضح من ذلك أنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون تارة عبادة قطعًا، ثم يكون مثله ليس قطعًا بعبادة، كالسجود لله تعالى وسجود المشرك للصنم مع سجود الملائكة لآدم وآل يعقوب ليوسف عليهم السلام.
وأما العبارة الرابعة، ففهمها متوقف على فهم معنى كلمة (إله). وقد تقدَّم أن معنى (إله) معبود، وأن معرفة معنى (معبود) تتوقَّف على معرفة معنى العبادة، وهذا دور وتفسير مجهول بمجهول. سألنا ما معنى إله؟ قالوا: معبود، قلنا: نحن لا نعرف معنى (معبود) فما معناه؟ قالوا: (إله). وهذا كما تراه.
وإنما
(1)
التفسير الصحيح أن يُفَسَّر المجهول بمعلوم، فنستعين الله عز وجل في تحقيق ذلك ونقول:
(1)
من هنا تكملة مأخوذة من المسوَّدة (س) من ص 33/أ، وسأثبت ترقيم صفحاتها الخاصَّ بها مسبوقًا بحرف س.
[س 34/أ] الباب الثاني
في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى (العبادة) وما يلحق ذلك
لا مفزع للباحث عن حقيقة هاتين الكلمتين إلا إلى كتاب الله عز وجل، وهو القول الفصل والحَكَم العدل، وقد تكرَّرت فيه هاتان الكلمتان كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما إن شاء الله تعالى.
فأقول: أما إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته وكلِّ ما يتقرب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان.
وأما غير الله فقد حكى الله عز وجل عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة. فمن ذلك:
1) الأصنام. حكاه الله تعالى عن قوم نوح، قال تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، وفي هذا احتمال؛ لأن المنقول عن ابن عباس وغيره كما في البخاري وغيره: أن هذه أسماء رجال صالحين ماتوا، فمُثِّلت تماثيلهم، وسمّيت بأسمائهم وعُبِدت، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام القصَّة.
والظاهر أن التماثيل إنما عُبدت تعظيمًا للمُمَثَّلين ليقرِّبوا إلى الله زلفى، كشأن قريش في حق الملائكة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
ويبيّنه أن قوم نوح عليه السلام كانوا يعرفون الله عز وجل، فقد قالوا لنوح عليه السلام:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24] ونحو ذلك.
فإذًا يحتمل أن يريدوا بقولهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الأصنام، ويحتمل أن يريدوا أولئك الصالحين، وسيأتي أن قريشًا اتخذوا الملائكة آلهة، وهم إنما صنعوا في حقِّهم ما صنعه قوم نوح في حقِّ أولئك الصالحين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكذلك قولهم: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} ، يحتمل أن يريدوا الأصنام أو أولئك الأشخاص الذين مُثِّلَتْ على صُورهم وسميت بأسمائهم.
ولعلّ جَعْلَ (آلهة) لأحد الشيئين، أعني: الأصنام، والأشخاص، و (ودًّا) وغيره للآخر= أولى؛ لما يقتضيه ظاهر العطف من المغايرة، أو يريدون بالآلهة ما يعمُّ الجميع، وبـ (ودٍّ) وما معه أحد الفريقين، ولعلَّ هذا أقرب، والله أعلم.
وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
فقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} صريح في أنهم اتخذوا آلهة من دون الله، ولكن لم يظهر أأراد الأصنام أم الأشخاص التي صُوِّرت على صورهم وسُمِّيت بأسمائهم وعُبِدت تعظيمًا [لهم]، أم ما يعمُّ الاثنين؟
وحكى الله تعالى
(1)
عن قوم إبراهيم في عدَّة آيات، منها قول إبراهيم في محاورة أبيه:{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74].
[س 34/ب] وفي شأن بني إسرائيل والقوم الذين أتوا عليهم قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
2) العجل. ومنه قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 87 - 89].
3) الهوى. [قال تعالى]: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال سبحانه:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
4) الشياطين. يظهر ذلك في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 97 - 100]، فقوله:{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عامٌّ في جميع الكفار، والسياق يؤيده، وهذا يدفع تأويل الموصول في قوله:{وَمَا تَعْبُدُونَ} بما
(1)
أي تأليه الأصنام.
عبده بعض الكفار دون بعض حيث أمكن تأويله بما يطابق العموم.
ودخول النار يمنع إرادة ما يعمُّ عيسى وعزيرًا والملائكة ونحوهم.
والإشارة بـ {هَؤُلَاءِ} دون هذه، وقوله:{وَرَدُوهَا} دون (وردتها)، وقوله:{خَالِدُونَ} ، و {لَهُمْ} {وَهُمْ} و {لَا يَسْمَعُونَ} يمنع من تفسيرها بالأشخاص الخياليّة؛ لأن الأشخاص الخياليَّة معدومة، وهؤلاء موجودون. ويُبْعِدُ إرادة الأصنام؛ لأنها لا تعقل، واحتمال تنزيلها منزلة العقلاء أو التغليب خلاف الأصل.
وعموم قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} يُبْعِد إرادة الأصنام أيضًا؛ لأن الزفير من عوارض الحياة، وليست كذلك. واحتمال أن يخلق الله عز وجل لها حياة خلاف الأصل، ويمنعه أنه لو خُلِق لها حياة لصارت حينئذٍ معذَّبة حقيقة أي تجد ألم العذاب، ولذلك يكون منها الزفير، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، فلماذا تُعذَّب؟
ومثله عموم قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، إذ لا يُنفى الشيء إلا عما يُتَوهَّم ثبوته له، وليس في المقام ما يدلّ أن هناك توهّم سماع التماثيل في النار.
فما بقي إلا تأويله بالمتبوعين من الإنس، كالأحبار والرهبان وغيرهم، أو بالشياطين، وسيأتي في العبادة أن الكفار جميعًا عابدون للشياطين، ونصوص القرآن كثيرة في ذلك، فاحتمالهم أقرب.
ويؤيِّده أن الخطاب للذين كفروا عمومًا، وهو يشمل المتبوعين، فيكون
الظاهر أن المعطوف عليهم وهو قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} غيرهم، والمتبوعون من الإنس ليسوا كذلك، والشياطين وإن كانوا داخلين في الذين كفروا إلا أنه يمكن أن يُخَصّ {الَّذِينَ كَفَرُوا} في الآية بالإنس، وهو وإن كان أيضًا خلاف الظاهر إلا أنه أقرب من تخصيصه بالتابعين من الإنس.
[س 35/ب] ويشهد له ما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية، لما نزلت قال ابن الزبعرى: أليس اليهود عبدوا عزيرًا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مُليح عبدوا الملائكة؟ فأجابه بقوله: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك
(1)
.
وأصل القصة مرويٌّ من طرق
(2)
.
فأما ما شاع من أنه صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بقوله: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك؛ لأني قلت: (وما تعبدون) و (ما) لما لم يعقل، ولم أقل:(ومن تعبدون)؛ ففي تفسير الآلوسي
(3)
أنَّ ابن حجر تعقَّبه في تخريج
(1)
أسباب النزول للواحدي ص 305 - 306، من طريق أبي يحيى عن ابن عباس. وانظر: الدر المنثور 5/ 679 - 680.
(2)
أخرجها الطبري 16/ 418، من طريق سعيد بن جبير، والطبراني 12/ 153 - 154، ح 12739 - 12740، من طريقي أبي رزين وأبي يحيى. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الأنبياء، 2/ 384 - 385، من طريق عكرمة. وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: مشكل الآثار، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بقول الله عز وجل:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، 3/ 15.
(3)
روح المعاني 17/ 94.
أحاديث الكشاف
(1)
بأنه اشتهر على ألسنة كثير من علماء العجم في كتبهم، وهو لا أصل له، ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندًا ولا غير مسند، والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدِّثين، انتهى.
أما قولهم: إنَّ (ما) لما لا يعقل، فقد ردَّه الجمهور.
نعم، قيل: إنَّ الغالب ذلك، ولكن قوله تعالى:{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} يوضح أنها استعملت هنا في العقلاء، [س 36/أ] وقد قيل: إن السر في ذلك تحقير الشياطين، أي: وأما ترك ذلك في قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} فجاء على الأصل، فلا يدفع تلك النكتة، واستشهد لمراعاة تلك النكتة بما في الحديث:"التي أمرتْهم" ولم يقل: الذين أمروهم.
نعم، قال الآلوسي عند قوله تعالى:{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ما لفظه: "وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين؛ لأن المراد به إثبات نقيض ما يدَّعونه، وهم يدَّعون إلهيَّة الأصنام لا إلهيتها (الشياطين) حتى يحتجَّ بورودها النار على عدمها. نعم، الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة، فلا تغفُل". اهـ
(2)
.
والجواب: أنهم وإن لم يدَّعوا كون الشياطين آلهة فقد اتخذوها آلهة؛
(1)
الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 111 - 112، والجملتان الأخيرتان لم أجدهما في هذا المختصر المطبوع في آخر الكشاف، ولا المطبوع مع تخريج أحاديث وآثار الكشاف للزيلعي (2/ 371).
(2)
روح المعاني 17/ 96.
لعبادتهم لها، كما شهد به القرآن في مواضع كثيرة، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ومثله إلزامهم كونهم عبدوا الشياطين وإن كانوا لا يعترفون بذلك بل لا يقصدونه.
[س 36/ب] وبما قرَّرناه عُلم سقوط اعتراض ابن الزبعرى بدون احتياج إلى تخصيص ولا تأويل، ولله الحمد.
ويشهد لما تقدم قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]، وقوله تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) [س 37/أ] قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 22 - 33].
فسر بعض أهل العلم الموصول في قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} بالشياطين، وهو الذي يُعيِّنه السياق.
نعم، قيل: إنه غير مناسب إذا حُمِل قوله تعالى: {وَأَزْوَاجَهُمْ} على قرنائهم من الشياطين، كما روي عن الضحاك.
والجواب: أن أكثر المفسرين على أن المراد بـ (أزواجهم) نظراؤهم في السيرة.
أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم
وصححه وغيرهم من طريق النعمان بن بشير عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أزواجهم) أمثالهم الذين هم مثلهم يُحْشَرُ أصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر
(1)
.
وجاء نحوه عن ابن عباس وتلامذته سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة
(2)
.
نعم، يرد عليه أن النظراء داخلون في عموم الذين ظلموا فكيف يعطفون عليهم بلا مزيَّة؟
واختيار كون الواو للمعيَّة لا يُفيد، وقد يجاب باختيار عدم الدخول، ويكون المراد بـ (الذين ظلموا) المشركين، وبـ (أزواجهم) نظراؤهم من سائر الكفار، أو (الذين ظلموا) الكفار مطلقًا، و (أزواجهم) نظراؤهم من فسَّاق المسلمين، وظاهر كلام عمر يساعده، أو (الذين ظلموا) كفار الإنس، و (أزواجهم) نظراؤهم من كفار الجنِّ.
وقيل: إن المراد بالأزواج الأعوان، ويستدل له بالحديث:"الظلمة وأعوانهم في النار"
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 148 (من قول النعمان بن بشير)، وأحمد بن منيع كما في المطالب العالية 15/ 147، ح 3693، قال ابن حجر:"إسناده صحيح". والطبري 19/ 519. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الصافات، 2/ 430، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: الدر المنثور 7/ 83.
(2)
انظر: تفسير الطبري 19/ 519 - 521، الدر المنثور 7/ 84.
(3)
أخرجه الديلمي 2/ 470، من حديث حذيفة، وحكم عليه الألباني بالوضع. انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 305، ح 3845.
والصواب إن شاء الله تعالى أن المراد بـ (أزواجهم) أخلَّاؤهم، أعمُّ من أن يكونوا من الإنس أوالجنِّ، فقد قال تعالى في آية أخرى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 67 - 70]، والمراد بالأزواج هنا الأخلَاّء، فكذا هناك، وبه تتَّفق غالب الأقوال في الآية، والله أعلم.
وقد رُوي عن ابن عباس أن المراد بـ (أزواجهم) نساؤهم
(1)
، والمراد الكافرات، أي أنه من العام المخصوص أو المراد به الخصوص. والله أعلم.
وعلى فرض أن المراد القرناء فقط فيقال [س 37/ب]: الشياطين المعبودون أعمُّ من القرناء، ويقرب منه قوله تعالى:{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 92 - 98].
ولعله إنما لم يكثر هذا الاستعمال لأن غالب الكفار لا يسمُّون الشياطين آلهة، بل ولا يعترفون بأنهم يعبدونها، وإنما ألزمهم الله تعالى ذلك لأنهم أطاعوها الطاعة المخصوصة التي تسمَّى عبادة كما سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
5) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
(1)
انظر: روح المعاني 23/ 80. قال: ورجحه الرماني.
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
[س 38/أ] فقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} بيان لبطلان اتخاذهم المتقدم. واتخاذهم المتقدم متناول للأحبار والرهبان والمسيح عليه السلام، فظهر منه أنهم اتخذوهم أيضًا آلهة، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم، وظهر منه أنهم لم يقتصروا على اتخاذ المسيح وحده إلهًا، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم بطرفيه، والله أعلم.
6) المسيح وأمّه عليهما السلام. في الآية المارَّة قريبًا ذكر المسيح عليه السلام.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].
وقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ
…
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 73 - 75]، والمراد ثالث ثلاثة آلهة بدليل قوله في الرَّدِّ عليهم:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، والمراد بالثلاثة: الله عز وجل، وعيسى، وأمه، بدليل قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
…
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}.
7) فرعون. حكى الله تعالى عنه قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
8) أشخاص يُتوهَّم وجودها ولا وجود لها. ولعلَّ من هذا ما في سورة الأعراف: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
…
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 65 - 71].
فإنكارهم عليه قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ظاهر في أنهم كانوا يطلقون على معبوداتهم من دون الله تعالى: آلهة، وقوله:{فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} ظاهر في أنها لا وجود لها، وإنما يوجد منها في الخارج الأسماء.
[س 38/ب] وذلك كما لو سئل رجل عن العنقاء فيقول: لا يوجد منها إلا اسمها، أي: إنه اسم بلا مسمًّى، لأن العنقاء اسم لطائر وهميٍّ، أي يتوهَّمه الناس موجودًا ولا وجود له.
عدّد الله تعالى عليهم الصفات التي هي من موجبات الألوهية ولوازمها، وقرَّرهم أنها خاصّة به، ثم قال تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} ، فلو لم يكن المغزى مما تقدَّم نفيَ ألوهية تلك الأشخاص التي يزعم المشركون أنها بنات الله لما ظهرت للكلام مناسبة، والله أعلم.
وأكثر آلهة أمم الشرك من هذا القبيل، وسيأتي إيضاح هذا في الكلام على العبادة إن شاء الله تعالى.
9) الملائكة.
قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
…
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
…
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ [39/أ] وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
…
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 39 - 57].
وختم هذه السورة بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
[س 39/ب] فقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} مورده الإطلاق
ولكن تعقيبه بقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} يدل أنه لوحظ في ذلك الإطلاق حالُ أهل مكة في عبادتهم الملائكةَ، وكأن قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ} وقع على سبيل التعريض بهم من باب "إياكِ أعني واسمعي يا جارة"
(1)
، فكأن الخطاب في المعنى لهم، فكأنه قال: ولا تجعلوا يا أهل مكة مع الله إلها آخر، وأنتم تجعلون الملائكة، ولم تكتفوا بذلك حتى جعلتموهم إناثًا، ولم تكتفوا بذلك حتى قلتم بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ {أَفَأَصْفَاكُمْ} إلخ، وبهذا يتمُّ الارتباط.
إلى أن قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} ، وهذا يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون المراد: لو كان معه آلهة متصفون بالصفة التي يقول المشركون مِنْ كونهم ينتسبون إلى الله تعالى بالبنوَّة، [س 40/أ]{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} ؛ لأنهم يكونون مثله سبحانه؛ لأن الولد يشبه أباه سواء كان ذكرًا أو أنثى، فإذا كانوا مثله كانوا أكفاءه في القدرة فتسمو نفوسهم إلى منازعته الأمر؛ لأن كلًّا منهم له إرادة مستقلة، والإرادات تختلف.
ولا يرد على هذا الوجه أنَّ جَعْلَ {كَمَا يَقُولُونَ} قيدًا يوهم أنه لو كان هناك آلهة لكن ليسوا كما يقولون لما ابتغوا؛ فيُعارِضُ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .
(1)
مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري. مجمع الأمثال 1/ 49.
لأنا نقول: غاية ما ذُكر أن يكون مفهومًا، والمفهوم لا يُعتدُّ به إذا قام الدليل على عدم إرادته، وزَعْمُ المشركين أنَّ الأنثى ليست كذلك فِعْلًا باطلٌ.
أو يقال: لعلَّه أريد بقوله {آلِهَةٌ} مطلقُ معبودين، لا معبودون بحق، فكأنه قال: لو كان معه معبودون بالصفة التي يقول المشركون.
وعليه فيكون المفهوم: أنه لو كان معه معبودون لكن بغير تلك الصفة لما لَزِمَ أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا. وهذا صحيح؛ فإن [س 40/ب] الشياطين قد عُبِدت والأصنامَ وبعضَ بني آدم بل والملائكةَ أيضًا، وكلُّهم ليسوا بالصفة التي زعمها المشركون، ولم يلزم من وجودهم أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا؛ لأنهم كلهم عبيده مقهورون لإرادته.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: لو كان معه آلهة كما يقولون ذلك أي كما يزعمون.
[س 41/أ] وقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} يريد ــ والله أعلم ــ وأولئك الذين تجعلونهم آلهة يسبحونه، فهم عبيده لا بناته ولا شركاؤه.
ثم قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
…
} واضح في أنه أراد الملائكة.
وأما قول: إنهم طائفة من الجن على ما مرّ فضعيف جدًّا؛ لأن الكلام على العموم، وليس كلُّ الشياطين أسلموا، وأباه أكثر المفسرين، وإن صحّ عن بعض الصحابة
(1)
، وكفى بالسياق دليلًا على بطلانه، وما رُوي عن
(1)
منهم ابن مسعود. أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الآية، 6/ 85 - 86، ح 4713 - 4715، وانظر تفسير الطبري 14/ 627 وما بعدها.
الصحابيِّ يحتمل التأويل.
واعلم أن المشركين كانوا يقولون ما معناه: بنات الله التي
(1)
يقال لهن: "ملائكة" آلهتنا يشفعن لنا، كما سيَبِينُ لك من تدبُّر هذه الآيات، وسنوضحه إن شاء الله تعالى في الكلام على العبادة.
وتلك مقالة متضمِّنة خمسة أشياء:
الأول: اتخاذ إله من دون الله.
الثاني: نسبة الولد إلى الله.
الثالث: جعل ذلك الولد أنثى.
الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث.
الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم.
ولهذا قلَّما ينعى الله تعالى عليهم شيئًا من هذه الأمور إلا أردفه بالباقي. فتحقَّقْ هذا المعنى تتضحْ لك الآيات على وجهٍ يتَّفق مع بلاغة القرآن إن شاء الله تعالى.
[س 41/ب] وقال تعالى في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
…
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
…
إِنْ
(1)
كذا في الأصل.
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 81 - 93].
فقوله تعالى: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يدلُّ أنه لم يرد الشياطين؛ لأن المشركين لم يقصدوا تأليه الشياطين حتى يقال: أمَّلوا فيهم أن يكونوا لهم عزًّا، وإنما أمَّلوا العزّ من الملائكة، وقالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، [س 42/أ] ويوضح هذا ما جاء في هذا السياق من قوله تعالى:{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} .
وقوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} ظاهر في أنه لم يرد الأصنام، وإنما حكى الله تعالى هذا عن الملائكة في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ
…
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 17 - 19].
فكفرُهم بعبادتهم هو تبرُّؤهم منها، أي: إنهم لم يأمروا بها ولم يرضوها وكانوا غافلين عنها، كما سيأتي في فصل العبادة إن شاء الله.
وكونهم {عَلَيْهِمْ ضِدًّا} هو شهادتهم عليهم بأنهم كانوا يعبدون الجن وغير ذلك كما يأتي إن شاء الله.
[س 43/أ] وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ [س 43/ب] أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
…
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [16 - 43].
وتفسير هذه الآيات ظاهر لمن تدبَّره وراعى قوانين البلاغة، [س 44/أ] ولكن نُنَبِّه على أمرين:
الأول: قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} ، عن ابن عباس وغيره تفسيره بالولد، وعن آخرين تفسيره بالمرأة، وفسره آخرون باللعب
(1)
، ورُجِّح الأول لموافقته ما بعده، ورُجِّح الثالث لموافقته ما قبله. والصواب ــ والله أعلم ــ أنه لوحظ فيه ما يعمُّ الأمرين ليناسب ما قبله وما بعده.
الأمر الثاني: قوله {مِنَ الْأَرْضِ} ، اختلف في متعلَّقه، قيل: إنه متعلق
(1)
انظر: تفسير الطبري 16/ 238 وما بعدها، تفسير البغوي 5/ 313، زاد المسير 5/ 343 - 344.
بـ {اتَّخَذُوا} ، وقيل: بمحذوف صفة لآلهة. وعلى هذين فالمراد الأصنام. والأشبه بالسياق أنه متعلِّقٌ ــ والله أعلم ــ بـ {يُنْشِرُونَ} . والمعنى: أم اتخذوا آلهة هم ينشرون من الأرض. وعليه يكون المراد ــ والله أعلم ــ الملائكة، وهو الموافق للسياق.
[س 45/أ] وقال تعالى في سورة الفرقان: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
…
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [1 - 3، 17 - 19].
فقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} يشعر بأن المراد بقوله بعد ذلك: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إلخ، الملائكة؛ لأنه اجتمع فيهم ادّعاء الولديّة والشرك، وبذلك حَسُن التمهيد، ويؤيّد ذلك قوله:{لَا يَخْلُقُونَ} فجاء بضمير العقلاء، ثم جاء في السياق قوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} إلخ، وهو ظاهر جدًّا أن المراد بـ (مَا يَعْبُدُونَ) الملائكة، وقد تقدّم نظير ذلك. والله [أعلم].
[س 45/ب] وقال جلّ ثناؤه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75].
وهذا كما مرَّ في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
…
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81 - 82].
ومعنى {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ــ والله أعلم ــ: والملائكة جند محضرون للمشركين، أي لعذابهم وتنفيذ أمر الله فيهم.
وقال تعالى في سورة الزخرف: [س 46/أ]{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} إلى أن قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [س 46/ب] إلى أن قال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} .
ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وبراءته مما تقوَّلوا عليه، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ
هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [47/أ] إلى أن قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} إلى أن قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
(1)
.
فتدبَّرْ أنت معاني هذه الآيات، وسأنبهك على بعض ذلك فأقول: قد قدَّمت لك أن مقالة المشركين تتضمَّن خمسة أمورٍ
(2)
، فارجع إلى ذلك. وستعلم إن شاء الله تعالى أن مرادهم بآلهتهم في قولهم:{أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} الملائكة، وأن مرادهم بذلك الاحتجاج على مقالتهم في الملائكة أنهم ولد الله تعالى، وأنهم آلهة، كأنهم سمعوا بعض الآيات التي ذكر فيها شأن عيسى ممَّا أنزله الله تعالى على سبيل ضرب المثل لهم [مقصودًا به بيان أن الله تعالى لا ندَّ ولا شريك له]
(3)
، وأن مَن قال ذلك مبطل كافر مخذول، فتعاموا عن المقصود وأخذوا من الآية مجرَّد أن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وإله من دون الله، فكأنهم قالوا: إن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وعبدته أمَّة عظيمة كما اعترفْتَ أنت يا محمد بذلك، وتلوته فيما تدَّعي أنه كتاب
(1)
سورة الزخرف 15، 22، 45، 57 - 60، 64 - 67، 81، 86. [المؤلف]
(2)
هي كما سبق قريبًا للمؤلِّف: "الأول: اتخاذ إله من دون الله. الثاني: نسبة الولد إلى الله. الثالث: جَعْل ذلك الولد أنثى. الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث. الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم".
(3)
ما بين المعقوفتين لم تظهر بعض كلماته بسبب بللٍ أصاب نسخة الأصل.
منزل عليك، هذا وهو مولود من امرأة، وكان متصفًا بالصفات البشرية، ونحن إنما قلنا مثل هذه المقالة في الملائكة المقرَّبين الذي ليسوا بشرًا ولا وُلدوا من بشريّات، فهم خير من عيسى، فهم أولى بالولديَّة والألوهيَّة منه، فكيف تنكر علينا؟
ثمَّ وجدتُ ابن جرير قال في تفسيره: حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قال: عبد هؤلاء عيسى ونحن نعبد الملائكة
(1)
. وهو عين ما فهمتُه، ولله الحمد.
[س 47/ب] فقال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، والمعنى في ذلك ــ والله أعلم ــ أنه لا متمسَّك لهم فيما أُنزل عليك في عيسى؛ لأن الذي أُنزل عليك في شأنه من كونه قيل فيه: إنه ولد الله، وإلهٌ من دونه، ليس فيه إثبات ذلك ولا تصديقه حتى يكون لهم في ذلك متمسَّك. مع أنَّ الآيات ظاهرة صريحة في إبطال ذلك، ولم تُسَقْ [إلا مساق الإبطال]
(2)
، وإنما [ضربه] مثلًا [قصد به] بطلان [ذلك]، وهم يعلمون ذلك، وإنما يتعامون.
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي لم يحملهم على ذلك القول إلا إرادة الجدل، وإرادة الجدل لذاته مذمومة غاية الذم؛ لأن صاحبها لا يبالي أهو محقٌّ أم مبطل، وإنما غرضه أن يغلب.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} والخصيم هو كثير الخصومة، لا يبالي أكانت
(1)
تفسير الطبري 20/ 627.
(2)
ما بين المعقوفتين هنا وما بعده في الفقرة لم يظهر بسبب بلل في أعلى الصفحة.
بحق أم بباطل، بشبهة أم بغير شبهة، وهذا هو الذي يقال له: العناد والمكابرة والشَّغَب.
وإنما بينت هذا لأن من الناس مَن يتوهَّم أن في الآية دليلًا على قوة شبهتهم وعلى مهارتهم في استخراج الشبه.
ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وأنه مُبَرَّأ مما قال النصارى فيه، ثم وَهَّن الله تعالى الأولويّة التي جعلوها للملائكة بقوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} ، أي ــ والله أعلم ــ لولَّدْنا منكم ملائكة يخلفون في الأرض، وعليه كثير من المفسرين
(1)
، أي فالملائكة مخلوقون كما أن عيسى [س 48/أ] وسائر البشر مخلوقون، فليس فيهم صفة تتعالى عن أن تكون مخلوقة.
وقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أريد به ــ والله أعلم ــ أن يعُمَّ شأن النصارى في محبتهم عيسى عليه السلام وسائر المشركين في محبتهم الملائكة عليهم السلام، وفي ذلك إيذان أن عيسى عليه السلام يكون يوم القيامة عدوًّا لعابديه.
وقد ذكر الله تعالى بعض ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
…
} ، وفي قوله:{كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} ، وغيرها مما تقدَّم بعضه.
ويشبه ما هنا قولُه تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
…
} [النساء: 172].
(1)
انظر: الكشاف 3/ 424، مفاتيح الغيب 27/ 223، أنوار التنزيل 652، البحر المحيط 8/ 25، الدر المصون 9/ 602 - 603.
[س 48/ب] فقوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ردٌّ على قريش. والله أعلم.
[س 49/أ] وقال تعالى
(1)
:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} ، إلى أن ذكر الله تعالى قصة هود عليه السلام وقومه وقولهم:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا .. } ، إلى أن قال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
[س 49/ب] فالإتيان بـ (مَن) الخاصة غالبًا بما يعقل والصيغ الخاصة بهم أيضًا ظاهرٌ في أنه لم يُرِد الأصنامَ.
ويوضحه قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وهو من قبيل قوله تعالى:{وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} ، وغيره مما تقدم.
ويوضحه ما جاء في السياق من قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} ، ولا يأبى هذا قولُه تعالى:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ؛ لأن الملائكة عليهم السلام غافلون عن دعاء المشركين إياهم؛ لأنهم عليهم
(1)
في سورة الأحقاف: 4 - 6، 22، 27 - 28. [المؤلف]
السلام لا يعلمون الغيب، وإذا علموا شيئًا من ذلك فإنما يعلمونه بإطلاع الله تعالى إياهم، وذلك مع كونه إطلاعًا جزئيًّا مجملًا لا يخرجهم عن صدق كونهم غافلين عن دعاء المشركين، لأنهم إنما اطَّلعوا على بعض ذلك بواسطة إطلاع الله تعالى إيّاهم.
[س 50/أ] وذلك كالمعدوم في هذا المقام، أعني: مقام اتخاذهم آلهة؛ فإن مَنْ لا يعلم دعاء داعيه إلَّا أن يُعلمه غيرُه، لم يخرج عن الغفلة التي تَنَزَّه عنها الإله.
على أنه يمكن أن تكون الغفلة هنا مجازًا عن عدم الإجابة كالنسيان في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ...... } .
ومثل هذا ــ والله أعلم ــ قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]، وتفسيرها بالأصنام أو الشياطين خلاف الظاهر. وإنما هي مثل قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) .... } .
[س 50/ب] فإن قلت: كيف هذا والملائكة يقولون: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، وهذا ينافي أن يكون الملائكة غافلين.
فالجواب: أنه لا منافاة لما تقدَّم قريبًا في معنى (غافلين)، وإنما شهدوا عليهم بإطلاع الله تعالى إياهم وبإقرار المشركين أنفسهم أنهم كانوا يعبدون الملائكة، وسيأتي تقرير أن كلّ من عبد من دون الله شيئًا فقد عبد الشيطان.
وجاء في الصحيح أن أمة محمد تشهد لنوح عليه السلام بالبلاغ
(1)
، وهم إنما يشهدون لإعلام الله تعالى لهم في كتابه وعلى لسان نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم إن ذكره عز وجل في السياق قصة هود عليه السلام وفيها ذكر الآلهة، وقوله تعالى بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى
…
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)} ظاهر في أن حال المشركين المذكور قبل ذلك هو من هذا القبيل. أي: إنهم اتخذوا الملائكة آلهة، ولهذا ذكرنا هذه الآيات في هذا الفصل.
وقد تقدَّم تفسير القربان
(2)
وأنه اسم لمن يتقرب إلى الملِك يستوي فيه الواحد والجمع، والله أعلم.
[س 56/أ] فصل
وأما العبادة فأخبر الله عز وجل أنها وقعت:
1) للأصنام.
وعامَّة ما جاء صريحًا في ذلك عن قوم الخليل عليه السلام.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36].
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة البقرة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، 6/ 21، ح 4487، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
انظر: ص 338.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 - 42].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 51 - 53].
وجاء بعد قصة تكسيره عليه السلام الأصنام قوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67].
[س 56/ب] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69 - 71].
ومثله قوله عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 16 - 17].
وقوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
…
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 83 - 96].
فهذه المواضع المارَّة كلها في قوم إبراهيم عليه السلام، وبقي غيرها فيهم أيضًا.
فأما غيرهم فلم أر ذلك صريحًا، وقد يكون منه ما جاء عن قوم نوحٍ كما
تقدَّم في فصل التأليه، وكذا ما في قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
[س 57/أ] فإن لفظ {هَؤُلَاءِ} إشارةٌ للقريب، وهذا يأبى أن يكون المراد الملائكة أو الأشخاص الخيالية أو الشياطين، وأيضًا فقوله:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} يأبى أن يكون المراد الشياطين؛ لما قدمنا أن المشركين لم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأيضًا لم يكونوا يعتقدون في الشياطين الخير ولا القرب من الله عز وجل.
ولكن ربما يجاب عن الأول بأن الملائكة أو الأشخاص الخيالية قريب بالنظر إلى الذكر؛ لتقدُّم قوله: {وَيَعْبُدُونَ} فكأنهم كانوا عند عبادة الملائكة أو الأشخاص الخيالية يذكرون بعض أسمائهم أو صفاتهم ثم يقولون {هَؤُلَاءِ} يعنون المذكورين.
ويؤيده ما يأتي تقريره في تفصيل شرك العرب أنهم لم يكونوا يزعمون للأصنام نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعبدونها على أنها تماثيل أو رموز لأشخاص عُلويِّين يرجون شفاعتهم
(1)
، وأما نفي الضر والنفع فالمراد ــ والله أعلم ــ نفي ملكه، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
…
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
(1)
انظر ص 590 - 591، 627 فما بعدها.
كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
…
} [المائدة: 73 - 77] ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام
(1)
.
[س 58/أ] 2) الشمس.
قال تعالى حكاية عن الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 24 - 43].
وقال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [السجدة: 37].
[س 58/ب] 3) الشياطين.
من ذلك ما مرَّ في الفصل قبله في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].
وقوله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23].
وقوله جلَّ شأنه: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ
(1)
انظر ص 500 - 501.
يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92 - 93].
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41].
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].
قد مرَّ
(1)
في تفسير أهل العلم للفظ العبادة قول الزجاج: تأويل {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} يعني: أطاعهُ فيما سوَّل له وأغواه، قال: والطاغوت هو الشيطان، وهو قول ابن عباس والحسن، وقد قرئ:(وعابد الشيطان)، والشيطان طاغوت بلا شك، ولعل من ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
ولكن الأقرب أن المراد بالطاغوت في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قول من قال: هم كهنتهم وكلُّ من أطاعوه من دون الله، ويدخل الشيطان في ذلك؛ ليوافق الآيات الواردة في تربيبهم الأحبار وتأليههم وعبادتهم، وقد ذُكِرَت في مواضعها.
وقد جاء تسمية الكاهن طاغوتًا في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} .
(1)
ص 402.
وقد روى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح كما في أسباب النزول عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} إلى قوله: {إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60 - 62]
(1)
. وهنالك روايات أخرى قريب من هذا المعنى.
[س 59/أ] وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].
وقال تعالى إخبارًا بما يخاطب به يوم القيامة: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].
وقال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163].
[س 59/ب] 4) الأحبار والرهبان.
قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. وقد
(1)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم 3/ 991، ح 5547، والمعجم الكبير 11/ 373، ح 12045، ولباب النقول 64، والدرّ المنثور 2/ 580.
مرَّت الآية في فصل الألوهيَّة، وإيضاحُ دلالتها هنا يُعلم مما هنالك.
ومنه قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، وقد مرّ الكلام عليها آنفًا.
وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
…
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64].
5) المسيح وأمه عليهما السلام.
في الآية المارَّة قريبًا ذِكْرُ المسيح عليه السلام، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
…
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 73 - 76].
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
…
} [المائدة: 116 - 117].
[س 60/أ] 6) أشخاص متخيَّلة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
…
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
…
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 65 - 71].
وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
…
} [يوسف: 39 - 40].
[س 60/ب] 7) الملائكة.
من ذلك ما مرّ في فصل الألوهية عن سورة الفرقان، وفيه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ
…
} [الفرقان: 17 - 18].
وفي سورة سبأ: {
…
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}.
واعلم أن المشركين كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن سيأتي في تحقيق العبادة أنّ لها إطلاقين: تطلق على طاعة مخصوصة، [س 61/أ] وعلى تعظيم مخصوص.
فبالنظر إلى الإطلاق الأوَّل لم يكن المشركون يعبدون الملائكة؛ لأن الملائكة لم يأمروهم بذلك، وإنما أمرتهم الشياطين فأطاعوها.
وبالنظر إلى الثاني لم يكونوا يعبدون الملائكة أيضًا؛ لأنهم كانوا يعبدون ملائكة هم بنات الله، وليس الملائكة كذلك.
ولما لم يكن هناك ما يَتَوَجَّه التعظيم إليه كان الأولى بأن يتوجه إليه مَنْ أمرهم بذلك، وهم الشياطين، فتنبَّه.
ومرَّ في فصل الألوهية عن سورة يونس: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)} .
[س 61/ب] وقال عز وجل: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20].
وهذا مثل ما تقدَّم في آيتي الفرقان وسبأ.
وما اعتُرِضَ به من أن قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} تهديد، وهو لا يناسب مقام الملائكة، غفلة عما يقتضيه المقام؛ فإن المقام يقتضي تأكيد الوحدانية، وأنه لا هَوادة فيه للملائكة ولا غيرهم، وذلك كقوله تعالى
لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] فإنه لا يخفى ما في هذا السؤال من صورة التهديد، ولذلك جاء عن السلف أن عيسى عليه السلام يعتريه من خشية الله عز وجل عند السؤال أمر عظيم
(1)
.
ومن هذا الباب قوله تعالى في حق الملائكة عليهم السلام: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
وقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
وقال تعالى بعد تعداد ثمانية عشر نبيًّا: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 87 - 88].
[س 57/ب] فصل
ملخَّص ما تقدم أن الله عز وجل حكى تأليه غيره وعبادة غيره عن أممٍ:
1) قوم نوحٍ عليه السلام، اتَّخذوا الأصنام آلهةً وعبدوها، واتَّخذوا جماعة من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً.
(1)
ورد عن ميسرة أنه أرعدت مفاصله. وعن الحسن بن صالح أنه زال كل مفصل له من مكانه خيفة. انظر: تفسير الطبري 9/ 134، تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1252، ح 7048 - 7049. وانظر أيضًا: الدر المنثور 3/ 238، وروح المعاني 7/ 65 - 66.
2) قوم هودٍ عليه السلام، اتَّخذوا أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها.
3) قوم صالحٍ، عبدوا مع الله تعالى غيره.
4) قوم إبراهيم عليه السلام، اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها، وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
5) أهل مصر الذين دعاهم يوسف عليه السلام اتخذوا أشخاصًا متوهمة وعبدوها.
6) فرعون ادّعى أنه إله وأطاعه قومه.
7) القوم الذين أتى عليهم أصحاب موسى اتخذوا أصنامًا وعكفوا عليها وسماها أصحاب موسى آلهة وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها.
8) قوم موسى فيما مرَّ. واتخذ بعضهم العجل إلهًا وعبدوه، ثم اتخذوا أحبارهم آلهة وعبدوهم.
9) النصارى اتخذوا عيسى وأمه عليهما السلام إلهين من دون الله تعالى، وعبدوهما، واتخذوا رهبانهم آلهة من دون الله تعالى، وعبدوهم.
10)
(1)
مشركو العرب اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها. [س 55/ج] وهذا وإن لم أره صريحًا في القرآن فهو معروف في السنة والتاريخ وكتب اللغة أنهم كانوا يسمُّون أصنامهم آلهة ويعبدونها. واتخذوا الملائكة آلهة وعبدوهم. واتخذوا أشخاصًا متخيَّلة زعموا أنها بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ اتخذوها آلهة وعبدوها. واتخذوا الشياطين آلهة وعبدوهم.
(1)
تكرّر هنا الرقم (9) عند الشيخ.
فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء الأقوام يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به؛ فإذا تبين لنا ذلك علمنا أن ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة.
فأقول: أما قوم نوح عليه السلام ففي "روح المعاني": "أخرج البخاريّ
(1)
وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعدُ، أمَّا وَدٌّ فكانت [س 55/أ] لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ودَرَس العلمُ عُبِدَتْ.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع
…
إلخ، فكانوا عبّادًا، فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنًا شديدًا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أُصوِّر لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي إليه
(2)
، قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم، فصوَّره لهم، حتى مات خمستهم فصوَّر
(1)
صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة نوحٍ، باب:"ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق"، 6/ 160، ح 4920.
(2)
في الأصل: عليه، والتصويب من العظمة 5/ 1590 والدرّ المنثور 8/ 294.
صورهم في مؤخَّر المسجد، فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء، فبعث الله تعالى نوحًا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله [س 55/ب] وحده وترك عبادتها، فقالوا ما قالوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن وَدًّا كان أكبرهم وأبرَّهم، وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام.
وروي أن وَدًّا أوّلُ معبود من دون الله سبحانه وتعالى.
أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر يزيدَ بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أوّل أرضٍ عبد فيها غير الله تعالى. ثم ذكر وَدًّا وقال: كان رجلًا مسلمًا وكان مُحبَّبًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم تصوّر في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصوِّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله فوضعوه في ناديهم، فجعلوا يذكرونه به. فلما رأى ما بهم من ذِكْرِه قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كلِّ رجلٍ منكم تمثالًا مثله، فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله، فكان أوَّلُ مَنْ عُبِدَ غيرَ الله تعالى في الأرض وَدًّا"
(1)
.
[س 54/أ] أقول: والقرآن يدل أن قوم نوح لم يكونوا ينكرون وجود الله عز وجل. يدلُّ عليه قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ
(1)
روح المعاني 29/ 77. وانظر: الدرّ المنثور 8/ 293 - 295.
نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 26 - 27].
فيظهر أنهم لو كانوا يجحدون الله عز وجل لبدأ بإثبات ذلك أو لأجابوه بجحد الله عز وجل.
[س 54/ب] وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنكار أن يترقى البشر إلى أن يكون رسولًا لله عز وجل. وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ظاهرٌ في اعترافِهم بالله عز وجل وبالملائكة، وزَعْمِ
(1)
أن الله عز وجل لو أراد الإرسال لما أرسل إلا مَلَكًا؛ لأن البشر لا يتأهَّل لمرتبة الرسالة في زعمهم، فيبعد أن ينكروا أهلية البشر للرسالة وهم يعتقدون في بعض البشر الربوبية المشتملة على الاستقلال بالخلق والرزق والتدبير، فكيف بالجمادات؟ بل كانوا يرون أن الرسالة أَعْلَى وأجلُّ من الألوهية، فيرون الألوهية مستحقة لبعض البشر أو الجماد ويستبعدون أو يحيلون تأهُّلَ البشر للرسالة، فاعرف هذا واحفظه وتدبَّرْ واعتبر.
وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ [س 53/أ] اعْبُدُوا
(1)
معطوفٌ على "اعترافِهم".
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
…
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 59 - 63]. فتدبّر أيها القارئ.
ومن السهل أن تقول: إن القوم لم يكونوا يجرون على مقتضى المعقول إما جهلًا وإما عنادا، ولكن ليس من السهل وأنت بريء من هذين الأمرين: الجهل والعناد، أن يطمئنَّ قلبك إلى صحة هذا القول.
وأزيدك أنه لو كان الأمر كما قلت لقال لهم نوح عليه السلام: كيف تستعظمون الرسالة على البشر وأنتم تعتقدون فيهم أو في ما هو أخسُّ منهم من الجمادات ما لا تنكرون أنه أعلى منها بمراحل، ولكانت هذه من أبين الحجج وأوضحها.
فإن قلت: لعلَّه قال لهم. قلتُ لك: هذا بعيد؛ إذ لو كان كذلك لقصّها الله تعالى علينا؛ لأنه عز وجل إنما قصَّ القصص في القرآن لبيان ما فيها من حججه وحجج أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وغير ذلك.
فإن قلت: فإن الألوهية أعظم من الرسالة فلماذا لم تبن الحجة عليها؟
قلت: قد مرَّ أن الظاهر أنهم كانوا يرون الألوهية دون الرسالة، وأنت إذا تدبرت تبيّن لك الأمر إن شاء الله تعالى.
[س 53/ب] والحاصل أنهم كانوا يعظِّمون الأصنام تقربًا إلى الله عز وجل لاعتقاد أن الله تعالى أمر بتعظيمها بناء على أنهم رأوا أسلافهم يعظمونها تقربًا إلى الله عز وجل، وزعمهم أن أسلافهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك إلا عن بينة، وإما على سبيل الاحترام للأشخاص الذين جُعِلت الأصنام تماثيل لهم اعتقادًا بأن احترامَ تماثيلهم احترامٌ لهم، واحترامهم يرضيهم
فيقربوا
(1)
المحترم إلى الله عز وجل، لقربهم منه لما عرفوا به من الصلاح والخير. وهذا الاحتمال الثاني هو الأقرب والله أعلم، وهو الذي علّل به أهل العلم عبادة الأصنام كما يأتي نقل كلامهم.
بقي أن في القصة أن الآباء الأولين هم الذين اتخذوا التماثيل ليتذكروا بها أولئك الموتى، وأن الذين عبدوها إنما هم الخلف، فماذا كان يصنع بها الأولون؟
أقول: في القصة أنهم إنما صنعوها لتذكر إيمانهم إذا رأوا التمثال ذكروا صاحبه وما كان عليه من الخير والصلاح وكثرة العبادة، فيبعثهم تذكره على النشاط في عبادة الله عز وجل، كما أن أحدنا ينظر في سيرة أحد صالحينا كسلمان الفارسي وأبي الدرداء وكالربيع بن خثيم وداود الطائي فينشِّطه ذلك لفعل الخير.
وقد يُقال: إنَّ هذا في نفسه خيرٌ ومعونةٌ على الخير [س 52/أ] إذا صرفنا النظر عن التصوير واتِّخاذ الصور، ولا سيَّما وقد تحرَّزوا عن جَعْل التمثال في القبلة، ولكن الشيطان لا يحب الخير ولا يعين عليه، وإنما قصد أن يكون ذلك ذريعة لإضلال خَلَفِهم حيث رقَّاهم من مجرَّد التذكُّر إلى التبرك والعبادة.
ونصب التماثيل للذكرى أمر معروف الآن عند الغربيّين ومقلِّديهم من الشرقيّين، فلا تكاد تدخل بيتًا إلا وجدتَ فيه تماثيل أسلاف أهل ذلك البيت، بل لم [يزل ذلك عادة لغير المسلمين قديمًا، ولكنه في]
(2)
هذا العصر أكثر.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
ما بين المعقوفتين لم تظهر أكثر كلماته، واستعنت في تقديره بكلام مضروب عليه في نهاية يمين الصفحة.
هذا ما يتعلق باعتقاد قوم نوح، وخلاصته: أنهم اعتقدوا أن تعظيم تماثيل الرجال الصالحين دين يقرِّب إلى الله عز وجل، فأما ما كانوا يعملون فلم أجد فيه نصًّا. والله أعلم.
وأما قوم هود وقوم صالح فقد قال الله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]، فقوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به، وابتداء الرسل بهذا يدلّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عز وجل، بل قولهم:{لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [س 51/ب] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبية الله عز وجل وأنه لا رب غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام، وفي القصص التاريخية ما يوافق هذا المعنى.
وقال الله تعالى: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54].
ففي هذا أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم القدرة على الضرر ويلحق به النفع، وهو بقرينة ما تقدَّم يدلُّ أنهم يعتقدون لتلك الآلهة قدرة منحها الله عز وجل إيَّاها، فهي تتصرَّف فيها بحسب إرادتها كما يتصرَّف الإنسان بالقدرة التي مُنِحها بحسب إرادته
(1)
.
(1)
هنا كلمات نحو ثلاثة أسطر مضروب عليها، هي:" الوجه الثاني: أنهم لا يعتقدون لها قدرة على النفع والضر مباشرة، ولكن إذا حقرها أحدٌ سألت الله عز وجل أن يعتريه بسوء فيعتريه به، فنسب الاعتراء إليها مجازًا، والأول هو الظاهر" وبقي سطر آخر لم يضرب عليه، وهو:"والثاني هو المتعيِّن لما مرّ من قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ". ولا وجه لبقائه مع حذف الوجه الثاني كلِّه.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الأحقاف خبر عاد ثم قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28].
وذكر المفسِّرون أنَّ المراد بمن حولهم عاد وثمود وغيرهم
(1)
(2)
، وهو صحيح؛ فإن بلاد عاد وثمود من أرض العرب.
وقد سبق في المقدِّمة أن القربان هنا من يتقرَّب بتعظيمه إلى الله عز وجل.
وقد تقدَّم أنَّ آلهة عاد كانت أشياء خياليَّة، فأمَّا كيفيَّة عبادتهم فلم أجد فيه شيئًا. وكذلك آلهة ثمود وعبادتهم لم أجد بيانها.
وقد يقال: قد دلّ قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}
(3)
أنهم كانوا يعتقدون بوجود الملائكة، فهلَّا يقال: إن تلك الأشخاص التي كانوا يؤلِّهونها ملائكة؟
قلت: قد تقدَّم أنَّ الآية قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} تدلُّ أنَّ تلك الأشخاص لا وجود لها، فكأنهم كانوا ينعتونها
(1)
انظر: تفسير الطبري 21/ 161، وزاد المسير 7/ 386.
(2)
في نهاية الصفحة سطر أصابه بلل، وبقي منه: ويظهر أنه
…
الناس والآلهة في القدرة.
(3)
سورة المؤمنون: 24.
بنعوت لا [تنطبق] على الملائكة كما نعتت قريش آلهتها بأنهم بنات الله [تعالى الله عن ذلك] ، ولعلَّهم كانوا يزعمون الأنبياء عليهم السلام بتلك الصفة التي تخيَّلوها كما هو شأن قريش، وكذلك المصريُّون القدماء على ما يأتي.
(1)
/وجاء في الآثار أنهم كان لهم أصنام، فإذا صحَّ هذا فإنَّ تلك الأصنام كانوا يتخذونها تماثيل لتلك الأشخاص، كما هو حال جميع المشركين، كما مرَّ في قوم نوح، وكما يأتي في غيرهم.
ويدلُّ عليه هنا أن الله عز وجل أخبر عن مجادلة هودٍ لقومه في الأشخاص المتخيّلة أعني قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} ، ولم يذكر شأن الأصنام لأنها إنما كانت تبعًا لتلك الأشخاص، والله أعلم.
خلاصة اعتقادهم: يعتقدون وجود أشخاص علوية ينعتونها بنعوت لا تنطبق على الملائكة، ويقولون: إنها تتصرَّف في الكون بقدرة ممنوحة لها من الله عز وجل، ولا تفعل إلا ما يرضاه، وإنها تقرِّب إليه، ويظهر أنهم كانوا يَدْعون تلك الأشخاص ويتضرَّعون إليها ويسألون منها حوائجهم، ويعتقدون أن ذلك من الدِّين الذي يرضاه الله عز وجل، وإذا صحَّ ما جاء في الآثار فيضاف إلى هذا أنهم كانوا يعتقدون أن تعظيم الأصنام يقرِّب إلى أولئك الأشخاص الذين هي تماثيل لهم، وأنَّ ذلك من الدِّين الذي يقرِّب إلى الله عز وجل.
(1)
ورقة محبوكة بدبُّوس صغير، ولعلَّ ذلك من المؤلف، ولها ظهر ووجه.
وأمَّا قوم إبراهيم عليه السلام فأمرهم مشتبه، [س 50/ب] قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
…
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82].
وقال عَّز مِنْ قائل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ
…
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 51 - 66].
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ
…
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
} [مريم: 41 - 49]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
…
} [البقرة: 258].
فالذي يظهر من مجموع هذه الآيات أن إبراهيم عليه السلام أنكر أولًا على أبيه عبادة الأصنام، ولم يرها أهلًا أن تعبد لأنها لا تضر ولا تنفع، ثم طلب الرب الذي يستحق العبادة فوقع بصره على الكوكب ثم بدا له نقصه، فانتقل إلى القمر فبدا له نقصه، فانتقل إلى الشمس فبدا له نقصها، فانتقل إلى رب العالمين ثم أخذ يحاج قومه.
واختلف أهل العلم في قوله: {هَذَا رَبِّي} ، أهو على ظاهره، وكان هذا
منه حال صباه وقبل أن يؤتى النبوة، وهذا رأي كثير من السلف، واختاره ابن جرير
(1)
؟ أم كان على سبيل الاستدراج لقومه وأضمر في نفسه الاستفهام: أو هذا ربي في زعمكم؟ وكلٌّ من القولين له مرجِّحات ليس هذا موضع بسطها.
والمقصود هنا هل في ذلك دلالة على أن قومه كانوا يعبدون الكوكب؟ فإن من المفسرين من قال ذلك، قال: وإنما كانت عبادتهم الأصنام
(2)
.
[س 86/أ] فالقوم ألَّهوا الأصنام وعبدوها ودعوها وجعلوها شركاء.
وهل كانوا يعتقدون فيها ذواتها قدرة على النفع والضُّر؟
الظاهر عدم ذلك، فإنه لما سألهم الخليل عليه السلام:{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74]، وظاهرٌ أنهم لو كانوا يعتقدون أنها تضرُّ وتنفع لما فرُّوا إلى الاعتصام بالتقليد، بل ربما يُفهم من تعبيرهم بـ (بل) تسليم أنها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع.
ويؤيد ذلك أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها وهم غائبون، وأُخبروا بأنه سُمِع يذكرها من قبلُ، لم يَستبعدوا قدرته على تكسيرها.
ولما قال لهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ
…
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63 - 65].
ثم لمّا قال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} عدلوا عن الجواب إلى أن: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} .
[س 86/ب] ويشهد لذلك أيضًا أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، فلم يجبه أبوه بشيء كأن يقول: بل يغني عني، بل {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].
إذن فلماذا كانوا يعبدونها؟
يظهر من جوابهم بقولهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]، مع ما تقدَّم أنهم إنما كانوا يعبدونها محافظة على عادتهم وعادة آبائهم أنفةً مِنْ أن يتركوا ذلك، كما روي عن بعض مشركي قريش أنهم تيقَّنوا بطلان ما هم عليه، ولكن شقَّ عليهم أن يعترفوا بأنهم كانوا هم وآباؤهم على ضلال.
ويؤيِّده أن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
(1)
تفسيره 9/ 361.
(2)
كذا في الأصل، وتعليق المؤلِّف على الآيات من قوله:"فالذي يظهر" إلى هذا الموضع عليه خطٌّ معترض، ولم يتبيَّنْ لي هل قصد به الضرب على الكلام أو لم يقصد به.
يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 63 - 64]، ففي هذا اعتراف بأن الأصنام لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما نُكسوا على رؤوسهم لمجرد المحافظة على العادة فقط.
ولو كانوا يعبدونها على أنها تماثيل لأشياء أُخر لانتقلوا في الموضعين
ــ والله أعلم ــ إلى تلك الأشياء، بأن يقولوا: نحن لا نعبدها لذاتها وإنما نعبدها تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم مثلًا.
وأيضًا، لو كانوا يعبدون التماثيل بهذا القصد لكانوا يعبدون تلك الأشخاص التي هي تماثيل لهم، وإذًا لجاء في محاجَّة إبراهيم عليه السلام ذِكْرُ ذلك كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء، بحيث إن غالب ما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام في القرآن لا يكاد يوجد فيه ذكر الأصنام، وإنما كلامه مع المشركين في الملائكة والبنات الخياليَّات.
وقد قيل: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون التماثيل على أنها تماثيل أو تذاكر أو رموز [س 87/ب] للكواكب، واحتُجَّ له بقصَّة إبراهيم عليه السلام في الكواكب وقوله:{هَذَا رَبِّي} وتعقيبه ذلك بقوله: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، فدلَّ بذلك أن شركهم له علاقة بالكواكب.
وقال بعد ذلك: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} ، فدلَّ هذا أنهم كانوا يخافون شركاءهم ويخوِّفون إبراهيم عليه السلام إيَّاهم، ويَبْعد هذا أو يَمْتَنِع في حق الأصنام؛ لأنهم كما تقدَّم اعترفوا أو كادوا بأنها لا تضرُّ ولا تنفع.
ويشهد لهذا أنه قد عُرِف الآن من دين البابِليِّين القدماء وهم الصابئة ـ وإلى أهل بابل بُعث إبراهيم عليه السلام ــ أنهم كانوا يؤلِّهون زُحَل والمشتري والمِرِّيخ والزُّهَرة وعُطارِد، وعندهم أن لزُحَل صورةً تُصَوَّر برأس إنسان وجناحي طائر، وللمِرِّيخ صورة أسد برأس إنسان وجناحي طائر، وقِس [س 89/أ] الباقي، ثمَّ يمثلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها أي:
بدن حيوان برأس إنسان وجناحي طائر، ويعبدون تلك التماثيل
(1)
.
ويؤيد أن [هذا]
(2)
كان اعتقادَ قوم إبراهيم عليه السلام ما قد أخبر الله عز وجل عنه في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} ، فإنه أوهمهم بنظره في النجوم أنه عرف من دلالتها أنه سيَسْقَم، فقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} أراد به: إني سأسقم. وقرينة ذلك نظرُه في النجوم، وإيهامه المذكور.
وصدق عليه السلام في قوله: إنه سيَسْقَم؛ فإنَّ كلَّ إنسان مُعرَّضٌ لسقَم.
وما ورد من [أنه] من المعاريض هو ــ والله أعلم ــ نظره في النجوم؛ فإنه أوهمهم أنه عرف من دلالتها أنه سَيَسْقَم، وهو لم يعرف (منها) ذلك، وإنما [أوهمهم]، فهذا الإيهام هو الذي من المعاريض، والله أعلم.
وقد دلّت الآية على أن النظر في النجوم والاستدلال بها على ما سيحدث كان معروفًا عند القوم، ومن هنا ــ والله أعلم ــ ألَّهوها.
وعلى هذا الوجه فلماذا كانوا يؤلِّهون الكواكب؟
جاء في التفسير المذكور
(3)
أيضًا أنهم كانوا يصفون المشتري بالرِّب العظيم، والملك، وملِك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، ورب الحروب، وملِك السماء، ورب الأبديَّة العظيم، ورب الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة.
(1)
انظر: تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف]
(2)
ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل بسبب بلل أصاب طرف الورقة
(3)
تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف]
والمرِّيخ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب، المهلك، جبَّار الآلهة.
[س 89/ب] ومن صفاتهم للزُّهَرة ملكة الآلهة والآلهات.
ولعطارد ربّ الأرباب الذي لا مثيل له.
واستدلّ صاحب التفسير بهذه الأوصاف المتناقضة الظاهر بأنهم كانوا يصفونها على سبيل المبالغة في المدح.
أقول: وعلى كلِّ حال فوصفهم لتلك الكواكب صريحٌ في أنهم يعتقدون لها التدبير والتصرُّف، وبقي علينا أن نفهم بأيِّ كيفية تدبِّر وتتصرَّف في زعمهم؟
جاء في الملل والنحل
(1)
للشهرستاني: ["فإن عندهم [أي الصابئة] أن الإبداع الخاصَّ بالرَّبّ تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها والفعل الخاصّ بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها، كمن يبني معْمَلة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والصورة وتفويض العمل إلى التلاميذ"
(2)
].
وفي شرح المقاصد: [" (قال: وزعموا أن لكل فلك روحًا) يشير إلى ما ذهب إليه أصحاب الطِّلَّسمات
(3)
من أن لكل فلك روحًا كليًّا يدبر أمره وتتشعب منه أرواح كثيرة، مثلًا للعرش ــ أعني الفلك الأعظم ــ روح يدبر
(1)
بيض المؤلف للنقلين فأضفتهما من الكتابين اللذين ذكرهما.
(2)
الملل والنحل 2/ 128.
(3)
سبق التعريف بها في ص 334.
أمره في جميع ما في جوفه يسمى بالنفس الكلية والروح الأعظم وتتشعب منه أرواح كثيرة متعلقة بأجزاء العرش وأطرافه، كما أن النفس الناطقة تدبر أمر بدن الإنسان ولها قوة طبيعية وحيوانية ونفسانية بحسب كل عضو، وعلى هذا يُحمل قوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، وقوله تعالى:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، وهكذا سائر الأفلاك.
وأثبتوا لكلِّ درجة روحًا يظهر أثره عند حلول الشمس تلك الدرجة، وكذا لكل يوم من الأيام والساعات والبحار والجبال والمفاوز والعمران وأنواع النباتات والحيوانات وغير ذلك، على ما ورد في لسان الشرع من ملَك الأرزاق وملَك الجبال وملَك البحار وملَك الأمطار وملَك الموت ونحو ذلك.
وبالجملة فكما ثبت لكل من الأبدان البشرية نفس مدبرة فقد أثبتوا لكل نوع من الأنواع بل لكل صنف روحًا يدبّره يُسمَّى بالطباع التام لذلك النوع تحفظه من الآفات والمخافات وتظهر أثره في النوع ظهور أثر النفس الإنسانية في الشخص "]
(1)
.
أقول: الظاهر أنهم كانوا يعتقدون حياتها كما هو رأي الفلاسفة أنَّ للكواكب أنفسًا، وهل أرواح الكواكب عندهم من الملائكة أم غيرهم؟ الله أعلم.
وعلى كلِّ حال فهم يعتقدون أن تلك الأرواح مقرَّبة عند الله عز وجل،
(1)
2/ 54.
ومقرِّبة إليه، فكانوا يعبدون الكواكب على أنها أحياء تنفعهم فيما يدخل تحت تدبيرها، وتشفع لهم إلى الله عز وجل في غير ذلك.
قال صاحب التفسير المذكور
(1)
: "وقصارى الأمر وحماداه
(2)
أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلًا يعبدون الله، ولله ملائكة موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون [س 90/أ] بأمره، والكواكب كأنها أجسام تلك الأرواح، فعبادة الملك يتقربون بها إلى الله، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه، والتماثيل في الأرض مذكِّرات بالكواكب إذا غابت عنهم؛ إذًا العبادة
(3)
في نظرهم كلها راجعات إلى الله كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، فإذا عبدوا زُحَلًا
(4)
أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان ثم اعتبروا الكواكب ثم التماثيل. اهـ.
وبَعَثَه على هذا القول أن القوم كانوا يعترفون بالله عز وجل، واسمه عندهم:(إل)
(5)
.
وقد جاء عن السلف أن (إيل) بالسريانيَّة ــ وهي لغة القوم ــ اسمٌ لله عز وجل. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن
(6)
. وربما يساعد هذا قولُ [س 90/ب] إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
(1)
10/ 208. [المؤلف]
(2)
قصارى الأمر وحماداه: غايته. انظر: القاموس المحيط: 355.
(3)
كذا في الأصل، ونقله المؤلف في موضع آخر بلفظ الجمع، وهو الصواب.
(4)
كذا في الأصل.
(5)
ذكره [طنطاوي جوهري] في [تفسيره الجواهر، ج 10] ص 205. [المؤلف]
(6)
انظر ما سيأتي ص 678.
لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45].
وعلى ذلك سمي الملائكة بجبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وسمي يعقوب بإسرائيل.
وجاء في التوراة والإنجيل بأيدي أهل الكتاب الآن أن إيل اسم الله تعالى
…
(1)
.
والمقصود أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بـ (إيل) وأنه أكبر من بقية آلهتهم على الحقيقة، وينزهونه عما اعتقدوه في بقيَّة آلهتهم من اتِّخاذ الزوجة.
وأثبت الله وأنبياؤه أن إيل اسم الله، فثبت بذلك أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بالله عز وجل ويعظِّمونه في الجملة.
وقد يرشدنا إلى ذلك محاورات إبراهيم عليه السلام معهم؛ فإنه ينازعهم في عبادة غير الله دون وجود الله عز وجل وربوبيته، وذلك ظاهر في أن وجوده تعالى وربوبيَّته كان مسلَّمًا عندهم.
فمن ذلك الآيتان المارَّتان آنفًا، وأظهر من هذا قولُ إبراهيم عليه السلام:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، والأصل في الاستثناء الاتصال، و (ما) وإن كانت أكثر ما تجيء لما لا يعقل فكثيرًا ما تجيء لما يعقل. [س 91/أ]
(1)
كلمة لم تظهر في الأصل، يمكن أن تُقرأ: حي قيوم
وعليه، فالآية ظاهرة في أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل في الجملة.
ومما يؤيِّد ما قاله صاحب تفسير الجواهر في ترتيب اعتقاد البابليِّين وأن ذلك كان اعتقادهم حتى بُعث إليهم إبراهيم عليه السلام ما حكاه الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام في قضية الكوكب والقمر والشمس، فلنذكرها هنا مع تفسيرٍ يوافق ظاهرها، وهو مطابق لما ذكره صاحب التفسير.
قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي ــ والله أعلم ــ في أوَّل أمره قبل أن يصرِّح بإبطال دين قومه {لِأَبِيهِ} أي ــ والله أعلم ــ بحضرة قومه كما نص عليه في سورة الشعراء {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} ، أجمل القصَّة هنا وفصَّلها في سورة الشعراء حيث قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، فكأنه والله [أعلم] قال لهم أوَّلًا ما ذُكر هنا.
[س 91/ب] أي: لأن نوره في حِسِّنا أعظم من نور الكوكب، ونفعه المحسوس أعظم، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]، كأنه يقول: إن القمر بقوَّة نوره وظهور نفعه قد يغرُّ الناظر ويشغله عن استحضار كونه يأفل أيضًا، فلا يستحضر ذلك إلا عند رؤيته آفلًا.
وفي كلامه هنا غاية اللطف والحكمة حيث ارتفع عن قوله في الكوكب: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلى ذكر الرب الحقيقي وأنه وحده الهادي، ومَن لم يهده فهو ضال، وفي ذلك أن عبادة القمر ضلال، ويلزم من ذلك أن عبادة الكوكب أشدُّ ضلالًا، ولكن لم يواجه قومه بقوله: أنتم ضالُّون؛ رغبةً في بقائهم
معه حتى النهاية.
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي من القمر حجمًا ونورًا ونفعًا.
[س 93/أ] وحينئذ كأن لسان حال قومه يقول: إن الشمس أيضًا ستأفل، فهب أن هذا الفتى بهره نور القمر فغفل عن كونه سيأفل، فهل غفل عن أفول الشمس أيضًا؟ إن ضياء الشمس وبهجتها ونفعها لمما يبهر الناظر، ولكن يبعد ألَّا يستحضر ما تقدَّم له في القمر.
وأعجب من ذلك أنه قبل هذا اليوم كان يرى الكواكب والقمر تطلع وتأفل، فكيف غفل كلَّ الغفلة عن أفولها حتى رآه هذا اليوم؟
لا بدَّ من أحد أمرين:
الأول: أن يكون حريصًا على عبادة الكواكب مستغرقًا في عظمتها، فشغله ذلك عن استحضار كون الكوكب يأفل [س 93/ب] حتى رآه الآن، وكذلك القمر.
الأمر الثاني: أن يكون مستدرجًا لنا وفي نفسه شيء آخر.
وعلى كلا الحالين فنراه يبحث بحث خالٍ عن الغرض، بل بحث حريص على عبادة الكواكب حتى إنه يغفل أو يتغافل عما يقتضي بطلان عبادتها حتى يقع ذلك بالفعل. لننتظر النتيجة.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ} قد رأيتم بطلان عبادة الكواكب وما هو أعظم منها وأنفع وهو القمر، وها أنتم رأيتم بطلان عبادة ما هو أشدُّ عِظَمًا ونفعًا
وهو الشمس، ولم يبق إلَّا الله عز وجل الذي هو بالاتفاق ربُّ كل شيء وخالق كل شيء ومدبِّر كلِّ شيء وبيده الخلق والأمر والنفع والضَّر، [س 94/أ]{إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وأنت ترى أنه لم يجر ذكرٌ للملائكة، فكأنهم كانوا يرون أنَّ الكواكب أجسام حقيقيَّة للملائكة، أو أن الملائكة لا عمل لهم إلا تدبير الكواكب، وبواسطتها يدبِّرون غيرها. وعلى كلٍّ، فببطلان عبادة الكواكب بطلت عبادة الملائكة. والله أعلم.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي ــ والله أعلم ــ في توحيد الله وفي الكواكب فقالوا له مثلًا: إن الله عز وجل يرضى لخلقه عبادة الكواكب ويسخط عليهم إذا تركوها، وإن الكواكب نفسها تنتقم ممن لا يعبدها.
{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، أي ــ والله أعلم ــ وهو سبحانه وتعالى الذي هداني لتوحيده فلا معنى [س 94/ب] لمحاجَّتكم.
{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، أي ــ والله أعلم ــ أنها مربوبات لله عز وجل باعترافكم، فهي إذًا عاجزة عن ضَرِّي، وإنما يمكن أن تضرني إذا أذن الله تعالى لها، فإذًا الأمر كله لله وحده، وهو الذي هداني لتوحيده، فكيف يأذن لها بضرِّي عقوبةً على طاعتي له؟ {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} .
ثم عطف عليهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} ، مع ما قدَّمت، {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} ، وأنتم معترفون بأنه ربُّ كلِّ شيء وخالق كل
شيء، والقائم على كل شيء، أشركتم به {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} ، أي ــ والله أعلم ــ أن كونه تعالى منفردًا بالربوبية الحقيقية وغيرها من الصفات التي لا تنكرونها يقتضي أن لا يعبد غيره، فإن توهَّم متوهم أنه يجوز عبادة غيره فإنه لا يتوهَّم أن يجوز ذلك إلا بعد إذنه عز وجل، وهو لم يأذن لكم بعبادة الكواكب؛ لأن إذنه تعالى إنما يُعلم بأن ينزل سلطانًا، [س 95/أ] وهو لم ينزل سلطانًا بالإذن بعبادة ما تعبدون.
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، أي ــ والله أعلم ــ بشرك؛ لأن الكلام إنما هو فيه، وبذلك ورد التفسير عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
وأمَّا ما قصَّه الله عز وجل في الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، فقول إبراهيم عليه السلام:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، يحتمل وجهين:
إمَّا أن يكون جوابًا عن سؤال المحاجِّ له مَنْ ربُّك؟ كما حكى الله عز وجل عن موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
وإمَّا أن يكون المحاجُّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الأنعام، باب:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، 6/ 56 - 57، ح 4629. ومسلم في كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/ 80، ح 124، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
بالاستحياء إن أطاعه، فأجابه الخليل عليه السلام بذلك، أي إنك لستَ إلَّا عبدًا من عباد الله، إن شاء حياتي لم تقدر على قتلي
(1)
، وإن شاء قتلي لم تقدر على استحيائي، فالأمر لله عز وجل وحده. واستعمال الإحياء بمعنى التسبُّب في بقاء الحياة معروف. قال الله عز وجل:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
ويَرِدُ على الأول أنه يقتضي أن المحاجّ زعم أنه هو الذي يحيي ويميت في العالم كلِّه، وهذا باطل.
أوَّلًا: لما تقدَّم أن قومه كانوا يعترفون بالله في الجملة، ثمَّ يؤلِّهون الكواكب ويعظِّمون الأصنام.
وثانيًا: لو كان ملكهم يدَّعي الربوبية العظمى لما تركهم يعبدون غيره. [وإنما أقصى] ما رُوي أنه دعا برجلٍ فقتله، ودعا برجلٍ يستحقُّ القتلَ فأطلقه. وهذا ليس فيه أدنى شبهة تدلُّ على أن الذي يفعل ذلك هو الذي يحيي ويميت في العالم. ورمي الرجل بالبلادة إلى هذه الدرجة يكاد يكون بلادة. والله أعلم.
وثالثًا: لو كان الأمر كذلك ما كان هناك داعٍ للخليل عليه السلام إلى
(1)
اخترتُ هذه العبارة لأن القرآن استعمل نحوها في هذا المعنى، كقوله تعالى: "
…
"، ولأنها لا تخالف مذهبًا من مذاهب المسلمين في القدر. [المؤلِّف]. ولعلَّ الآية التي بيَّض لها المؤلِّف هي قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]؛ لأن فيها ذكرَ القتل مقابل الإحياء في حقِّ المخلوق.
[الانتقال] إلى الشمس، [بل] يقول له: هذا النوع من [أنواع] الإحياء والإماتة، [فمن] الذي يخلق الأجنَّة في بطون أمهاتهم ويحييهم ويميت أكثر الناس على فُرُشهم بدون قتل؟ فإن قال: أنا. قال له: فكم أحييت هذه الساعة في مدينتك هذه، وكم أَمَتَّ؟ فإنه يستحيل أن تفعل ذلك وأنت لا تعلم.
[فإن قيل: لعلَّ الرجل إنما أراد دعوى أنه يحيي ويميت في الجملة لا مطلقًا]
(1)
؟
قلت: يردُّه:
أوَّلًا: أنه لو أراد ذلك لكان حق العبارة أن يقول: وأنا أحيي وأميت، بواو العطف.
وثانيًا: لو أراد ذلك لانحصر جواب الخليل، والله أعلم، في أمرين:
الأول: أن يبيِّن له أن هذا القتل والإطلاق الواقع على يديه هو من فعل الله عز وجل بقضائه وقدره، فيرجع هذا إلى المعنى الثاني فليكن هو المراد من أوَّل مرَّة.
الأمر الثاني: أن يبين الخليل أنه إن كان في هذا شبهة فكيف بإحياء الأجنَّة وإماتة الناس على فُرُشهم، والمحاجُّ لا يدَّعي ذلك كما مرَّ، وإن ادَّعاه أجابه بما مرَّ.
وثالثًا: لو كان المحاجُّ إنما ادَّعى الإحياء والإماتة في الجملة، فإما أن يريد بذلك إثبات الربوبية العامَّة له، فهذا ما لا يُعقل، وإما أن يريد إثبات ربوبية خاصة فالاحتجاج عليه بعجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها لا
(1)
ما بين المعقوفين مضروب عليه في الأصل، والسياق يقتضي إثباته فيما يظهر.
يفيد؛ لأنه يقول: أنا لم أدَّع أنِّي ربُّ الشمس.
فالوجه الثاني
(1)
ــ والله أعلم ــ هو الصواب.
وعليه، فالنزاع إنما وقع في الإحياء والإماتة اللَّذين يتَسَبَّب فيهما المحاجُّ من القتل أو الاستحياء، فالخليل عليه السلام يقول ما تقدَّم أو نحوه، والمحاجُّ يقول: بل أفعل ذلك بمشيئتي وإرادتي وقدرتي ولا يحول بيني وبين ذلك أحد، كأنه كان يزعم أن الله عز وجل مهمِل للناس في الحال يعملون ما يشاؤون، أو أنه فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعترض في شيء منه، وهذا أقرب؛ لأن الله تعالى علَّل محاجَّته لإبراهيم بقوله:{أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} .
وكثير من المغترِّين يحتجُّون على رضوان الله عنهم وحبه لهم ومكانتهم عنده بأنه أنعم عليهم في الدنيا، وسيأتي إيضاح ذلك في الكلام على فرعون
(2)
، فكأن المحاجَّ يزعم أن الله تعالى فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعارضه في شيء بدليل أن آتاه الملك. والله أعلم.
فانحصر الجواب ــ والله أعلم ــ في أمرين:
الأول: أن يقول الخليل عليه السلام: فأحضِرْ إنسانًا تريد قتله فاقتله، وآخر تريد أن تطلقه فأطلقه، فيحضرهما، ويأمر بقتل الأول، فيحُول الله عز وجل بينه وبينه، ويأمر بإطلاق الآخر فيميته الله عز وجل.
(1)
يعني: كون المحاجِّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده بالاستحياء إن أطاعه.
(2)
انظر: ص 703 - 704.
[س 96/أ] الأمر الثاني: أن يعدل به إلى أمرٍ آخر لا تصله يد المحاجِّ. ولا شك أن الأوَّل كان مقتضى الظاهر؛ ولكن عدل عنه الخليل عليه السلام لأنه أوَّلًا: يحتاج إلى إظهار خارق، وإظهار الخارق إنما يلجأ إليه الأنبياء عليهم السلام في الأمور التي لا يتيسَّر الاحتجاج عليها ببرهان عقليٍّ؛ كإثبات رسالتهم.
والحِكم في ذلك كثيرة:
منها: أن الدليل العقليَّ أبعد عن الشبه التي يحتمل إثارتها على الخارق.
ومنها: أن في استنباط الحجَّة أجرًا عظيمًا للأنبياء، وليس كذلك الخارق؛ لأنه ليس من سعيهم.
ومنها: أن في المحاجَّة بالعقل [إرشادًا] لأتباع الأنبياء ممن [لا] تظهر على أيديهم الخوارق [أنَّ عدم] ذلك [أولى]
(1)
. وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] قال: أقتل مَن شئت، وأستحيي مَن شئت أدَعه حيًّا فلا أقتله.
وأخرج نحوه عن قتادة والربيع والسُّدِّي وابن جريج وابن إسحاق.
وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: أنا أحيي وأميت، إن شئتُ قتلتك فأمتُّك، وإن شئت استحييتُك
(2)
.
(1)
ما بين المعقوفات لم تظهر أكثرحروفه، وكلمة (أولى) تقدير منِّي، ويظهر أن بعض الكلمات بعد ذلك لم تظهر بسبب آثار الرطوبة، والله أعلم. وفي ص 639:"ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق".
(2)
تفسير ابن جرير 4/ 571 - 576.
(وهذه) الآثار صريحة بأن الرَّجل لم يدَّع الإحياء والإماتة المختصَّين بالله عز وجل.
فإن قيل: سلَّمنا أنه إنما ادَّعى هذا النوع من الإحياء والإماتة، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون النزاع إنما وقع في ذلك، بل الظاهر أنه أراد: كما أنَّ الله يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت أيضًا في الجملة، ومقصوده بذلك ادِّعاء أنه مساوٍ لله تعالى في الجملة.
وثانيًا: الغالب أنَّ الله عز وجل إذا أظهر الخارق لقومٍ ولم يؤمنوا عقّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة إيمانَ القوم أو بعضِهم، أو يخرجَ من أصلابهم مَنْ يؤمن.
ثالثًا: يحتمل أن الخليل عليه السلام لم يكن حينئذٍ قد نُبِّئ، والله أعلم، وإنما محاجَّته مع قومه ومع هذا المحاجِّ بإيمانه الذي وصل إليه بتوفيق الله عز وجل له، [س 96/ب] وهدايته إيَّاه من طريق عقله ونظره. وربما يشهد لهذا قول قومه لما كسر الأصنام:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، والفتى: الشابُّ، وقد اشتهر أنَّ الله عز وجل لم يبعث نبيًّا إلا بعد الأربعين
(1)
.
رابعًا: لو اختار الأمر الأول ربما يلجأ المحاجُّ إلى العناد فيقول: أنا الآن لا أريد قتل أحد ولا إطلاق أحد، ويكفيني أنِّي طول عمري فعلت ذلك مرارًا ولم يَعُقْني عائق، ولو قال هذا لم يتبين لقومه عناده، بخلاف قصَّة الشمس؛ فإن قومه يعرفون عجزه عن التصرُّف فيها. فلو قال: أنا لا أريد
(1)
ورد في ذلك حديث: "ما من نبيٍّ نبِّئ إلا بعد الأربعين". قال ابن الجوزي: موضوع، نقله السخاوي في المقاصد الحسنة 373، والسندروسي في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي 2/ 668.
الإتيان بها من المغرب لما أفاده ذلك عندهم، بل هو ــ والله أعلم ــ لا يدَّعي ذلك، وإنما ألزمه إيَّاه الخليل عليه السلام.
بقي علينا أن نبيِّن دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على عجزه عن قتل إنسانٍ أو إطلاقه بدون قضاء الله تبارك وتعالى، فأستعين الله وأستهديه وأقول: إن العاقل إذا تفكَّر في خلق الله عز وجل الشمس جارية بمصالح عباده، وأنشأ بها التغيُّرات الجويَّة والأرضيَّة التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه. وغير ذلك ممَّا لا يحصى، وبعض ذلك يعرفه الناس جميعًا، ومَن كان له إلمام بعلم الطبيعة كانت معرفته بذلك أوسع، وقد كان لقوم إبراهيم معرفة بأحوال الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعوهم إلى تعرُّف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلُّون بأحوالها على الحوادث [كما مرَّ بيانه في]
(1)
قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89].
أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك علم شدَّة عناية الله عز وجل بالخلق، وإذ كانت عنايته عز وجل بخلقه بهذه الدرجة فكيف يَدَعُهم مع ذلك هملًا يعمل بهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحةٍ يعلمها الله عز وجل ويقدرها، وأَبْعَدُ من ذلك أن يدَعَ مَن يوحِّده فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عز وجل وحكمة يعلمها. فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قَدَر
(1)
ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهادٌ مني. وفي ص 740:"على الحوادث الأرضية، كما يدل عليه قوله عز وجل في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: أوهمهم أنه استدل بأحوال النجوم على أنه سيسقم، وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أن كل إنسان معرَّض للسقم، والله أعلم".
من الله عز وجل ولا قضاءٍ كأنه ينكر [س 97/ب] وجود الشمس وجريانها بمصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها، فأمَّا الأول فلا سبيل إليه، فلم يبق إلا زَعْم أنه هو الذي يجريها.
وعلى هذا، فإنما بُهِت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحدٍ أو إطلاق أحدٍ بغير قضاء الله عز وجل وقَدَره، لا لأنه أعني الذي كفر عاجزٌ عن الإتيان بالشمس من المغرب، فإنه لم يدَّع ذلك، والله أعلم.
وهناك معانٍ أُخر حُمِلت عليها القصَّة لا يطمئن القلب إلى شيء منها. والله أعلم.
وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قُبيل إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار؛ فإن صحَّ فيكون الله عز وجل جعل في ذلك جوابًا فعليًّا قريبًا لإبطال شبهة الذي كفر، والله أعلم.
بقي أن قول إبراهيم عليه السلام للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ} يدلُّ أنَّ القوم كانوا يضعون عندها الأطعمة، فعلامَ يدلُّ ذلك؟
أقول: يظهر أنهم كانوا يَعُدُّون ذلك نوعًا من عبادتها مع علمهم أنها لا تأكل، وإنما يأكل ذلك الطعام [س 98/أ] سَدَنتها، ومثل هذا جارٍ إلى الآن عند بعض أمم الشرك، وبعض المسلمين يفعلون مثل ذلك عند القبور يجيئون بالسمن والبيض وغير ذلك ويضعونها عند القبر وهم يعلمون أن ذلك إنما يأخذه خَدَمة القبر وينتفعون به.
فخلاصة ما تقدَّم أن قوم إبراهيم عليه السلام لم يكونوا يعتقدون في الأصنام نفسها
(1)
نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عبدوها على أنها تماثيل للكواكب.
(1)
كذا في الأصل.
ويعتقدون في الكواكب أن فيها أرواحًا عُلويَّة تدبِّرها وتدبِّر الكون بواسطتها، وأن تلك الأرواح من خلق الله عز وجل وفي ملكه، ولكنه فوَّض إليها التدبير، فهي تتصرف بإرادتها فتنفع مَن يتقرَّب إليها وتضرُّ مَن ينهى عن التقرُّب إليها، كما يرون أن الإنسان كذلك بحسب ما عنده من الاستطاعة [س 98/ب] كما علمته من قصة المحاجِّ.
فأما اعتقادهم في الشيطان فلم يظهر شيء يخالف اعتقاد الناس.
وقول الخليل عليه السلام: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} إنما يدلُّ على أنهم عبدوا الشيطان، وعبادة الشيطان سيأتي تحقيقها في فصلٍ مستقلٍّ، إن شاء الله تعالى
(1)
. وأهمُّها: طاعته فيما يسوِّل به للإنسان من شرع دينٍ لم يأذن به الله أو طاعة مَن يشرع ذلك.
أما أعمالهم فالذي دلَّ عليه القرآن أنهم كانوا يعكفون للأصنام، حيث قالوا:{نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، وقال إبراهيم:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} ، ويقرِّبون لها الأطعمة كما تقدَّم آنفًا، ويدعونها على ما يظهر من قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن خليله عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، والآيات التي قبلها في شأن الأصنام، [س 99/أ] وقد يحتمل أن المراد بـ {مَا تَدْعُونَ} الكواكب، واعتزالُه إيَّاها مستلزم اعتزاله الأصنام؛ إذ ليست إلا تماثيل للكواكب ووسيلة إليها.
(1)
انظر ص 725.
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، وهذه الآية كالظَّاهرة في أنهم كانوا يدعون الأصنام أنفسها.
وعليه، فكأنهم كانوا في الأصل يريدون بدعائها دعاء الكواكب، وإنما يوجهون الخطاب في الصورة إليها تخيُّلًا أنها هي الكواكب أنفسها، أو أرواحها؛ ليكون ذلك أدعى إلى الخشوع وقوَّة الهمَّة وصِدْق التَّوجُّه.
وأما زعم أن الشياطين تدخل الأصنام وتخاطبهم فيردُّه قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
وهذا المعنى موجود في ديانة الهنود؛ فإنهم عند حضورهم عند الأصنام يبالغون في تخيُّل أنها هي الأرواح التي جعلت تماثيل لها حتى يقال: [إنّ] بعضهم ربما ظهر له أن الصنم قد تحوَّل إنسانًا حيًّا بشكل الروح التي جُعل تمثالًا لها، وجهلتهم يعتقدون أنه ذلك الروح حقيقة قد حلَّ في الصنم.
وأظنُّ هذا من وصايا المرتاضين منهم، يوهمون العامَّة أن الروح الذي جُعِل الصنم تمثالًا له قد يحلُّ في [الأصنام]، فيرى أن الصنم قد صار شخصًا حيًّا يتكلَّم ويتحرَّك، إلى غير ذلك. ومقصودهم بهذا حمل العامَّة على قوَّة التخيُّل وحصرالذِّكر؛ فإن ذلك أساس رياضتهم. والله أعلم.
وقد دلَّ التاريخ والآثار الموجودة ببابل أنهم كانوا يمدحون الكواكب ويسألون منها. والله أعلم.
[س 99/ب] ولما سألهم إبراهيم سؤال مسترشد، وذلك قبل أن يظهر خلافه لهم كما تقدَّم في ذكر الكوكب والشمس والقمر، أجابوه بما يفيد أنهم لا يعتقدون أنها تسمع أو تنفع أو تضرُّ، وإنما وجدوا آباءهم كذلك يفعلون.
ويحتمل أن يكونوا قد جهلوا ما حمل أسلافهم على توجيه الدعاء في الصورة إلى الأصنام على ما تقدَّم، أو لم يجهلوه ولكن كانوا مرتابين في فائدته، أو لعلهم ذكروا ذلك فانتقل بهم الخليل إلى الكواكب كما تقدَّم، وطُوِيَ ذلك في بعض الآيات، فالله أعلم.
[س 62/أ] فصل
وقد بقيت ألفاظ أُخر نسبها الله عز وجل إلى المشركين في حقِّ من اتخذوه من دون الله تبارك وتعالى، وهي بمعنى التأليه والعبادة.
منها: الدعاء واتخاذهم شركاء وأربابًا وأندادًا.
وقبل ذكر مواضعها من الآيات التي ذُكرت فيها نبين أنها بمعنى التأليه والعبادة، فأقول: أما الدعاء فالأصل على ما قاله أهل اللغة: النداء، وفرَّق بينهما الراغب
(1)
بأن الغالب في النداء هو ما يكون معه حرف النداء، والدعاء بخلافه.
وفي هذا الفرق نظر، فقد سمى الله تعالى الأذان نداء، فقال تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]، وقال:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9]، ومواضع كثيرة في القرآن جاء فيها لفظ النداء مفسَّرًا بكلام ليس فيه
(1)
في المفردات 315.
حرف نداء. ونُقل عن مجاهد في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} أنهما بمعنىً واحد
(1)
.
قال المفسرون
(2)
: وسوَّغ العطف تغايُر اللفظين، يعنون ــ والله أعلم ــ مع إرادة الدلالة على التكرار، أي أن المنعوق به لا يسمع إلَّا الدُّعاء المتكرِّر، وذلك إيضاح لعدم الفهم؛ إذ الذي من شأنه أن يفهم قد لا يفهم مقصود النداء إذا لم يتكرَّر لغفلةٍ كان فيها أو نحو ذلك، فأما إذا تكرَّر فإنه يفهم المنعوق به ما لم يكن مجرَّدَه أي الفهم
(3)
.
وقريب من هذا ما جاء في الحديث
(4)
أن رجلًا
(5)
سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يَبَرُّ؟ ، فقال: أمَّك، ثم أمَّك، ثم أمَّك، ثم أباك. أراد: كرِّر برَّ أمِّك ثلاثًا، ثم برَّ أباك واحدةً. يعني ــ والله أعلم ــ بالغ في برِّ أمِّك أعظم من برِّأبيك وقدِّمها عليه في ذلك.
ولهذا لما جعلوا قول الشاعر
(6)
:
(1)
لعله يعني ما ورد عنه أنه قال: "كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل". أخرجه ابن جرير 3/ 45.
(2)
انظر: حاشية الجمل على تفسير الجلالين، المسماة: الفتوحات الإلهية، 1/ 138.
(3)
أي جُرِّد عنه الفهم.
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، بابٌ في برِّ الوالدين، 4/ 336، ح 5139. والترمذيّ في كتاب البرِّ والصلة، باب ما جاء في برِّ الوالدين، 4/ 309، ح 1897. من حديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه. وقال الترمذيّ: "حديثٌ حسنٌ".
(5)
في الأصل: رجل.
(6)
هو عدي بن زيد العبادي، انظر ديوانه ص 183 نشرة محمد جبار المعيبد، وصدر البيت: وقدَّمت الأديم لراهشيه.
وألفى قولها كذبًا ومينًا
قبيحًا، واحتُمل أن يجاب بأنه توكيد، قالوا: إنَّ التوكيد لا يحسن في البيت؛ لأن المقصود فيه بيان القصد فقط.
وفي جوابهم نظر، ولكن المقصود دفعُ ما قد يُقال: جَعْلُ الدعاء والنداء بمعنًى واحد منافٍ لبلاغة القرآن، والله أعلم.
قالوا: واستعمل الدعاء في سؤال الله تعالى، أي طلب الحوائج منه، كما في قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا صحيح كثير في القرآن والسنة وعلى ألسنة المسلمين، ولم أره استُعمِل في السؤال من غير الله تعالى إلَّا أن يُعَدَّ منه دعاء المشركين آلهتهم كما في قوله تعالى:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وغيرها، ولكن أهل اللغة وأكثر المفسرين يجعلون هذا معنىً ثالثًا فيقولون: إنَّ الدعاء في هذه الآية بمعنى العبادة، قال بعضهم: وهو من التعبير عن العامِّ بالخاصِّ، فالدعاء الثاني وهو سؤال الخير نوع من العبادة، فاستعمل لفظه في الآية ونحوها في مطلق العبادة، فجَعَله مجازًا على مجاز.
وعندي في هذا وقفة؛ إذ مع كونه مجازًا على مجاز فلا دليل عليه، وإنما حملهم عليه أن القرآن [يخاطب بالعبادة كما يخاطب بالدعاء]
(1)
.
فأما الدعاء فجاء في حق الأصنام على احتمالٍ فيه، وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا
(1)
ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهاد مني.
صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [س 62/ب] سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [س 63/أ] إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 189 - 202].
وقد اضطربت الآراء في تفسير هذه الآيات، وجاءت الآثار
(1)
أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها آدم وحوَّاء عليهما السلام، وأنهما انخدعا لإبليس عليه اللعنة، فسمَّيا ولدهما عبد الحارث، والحارث اسم لإبليس. وطُعن في هذا بأن آدم عليه السلام نبيٌّ مُكَلَّم، والأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي فضلًا عن الشرك.
[س 63/ب] وأجيب بأن الذي وقع منهما ليس هو شركًا منافيًا للتوحيد، وإنما هو بمجرد التسمية، والأسماء كثيرًا ما يُقطع فيها النظر عن معناها.
(1)
انظرها في تفسير الطبري 10/ 623 - 628.
وهذا كما ترى، وسياق الآيات ظاهر في أن ما وقع من النفس وزوجها شركٌ منافٍ للتوحيد.
فإن كنت ممن يُجوِّز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ما يجوز على غيرهم ويقصر وجوب العصمة على ما بعد النبوة فذاك، وإلَّا فقد قيل وقيل.
والأقرب ما قيل: إن المراد بالنفس وزوجها الجنس. أي: خلقكم من رجالٍ متَّحدين في الجنس، وجعل من جنس الرجال أزواجهم. وقوله:{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يريد الرَّجل والمرأة، أي الجنس، ولا يلزم أن كل رجل وامرأة هكذا، [س 64/أ] وإنما هو من باب قولهم: الرجل خير من المرأة.
والموصول في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: 191]، قالوا: المراد به الأصنام، بدليل ما بعده، وعندي في هذا وقفة؛ لوُجوهٍ:
الأول: التعبير عن المدعوِّين بالعبارة الخاصَّة بالعقلاء، والأصنام ليست بعقلاء، وإن كان قد عُبِّر عنها في بعض الآيات بذلك فهو على كلِّ حالٍ خلاف الأصل.
الثاني: قوله في موضعين: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ، والأحجار لا تتألَّم ولا تتأذَّى حتى تفتقر إلى الانتصار.
الثالث: قوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ، والأحجار لا توصف بهذا.
[س 64/ب] الرابع:
(1)
إن أوَّل الآيات على ما جاءت به الآثار وقع
(1)
هنا كان مكتوبًا "قوله تعالى" دون ذكر جزء من آية، ولعله كان يريد الضرب عليها فنسي.
الإشراك فيها بالشيطان، وأواخر الآيات من قوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} يوافقه، فيترجَّح بهذا أن المراد بالمدعوِّين الشياطين.
أمَّا ما في الآيات مما فُهم منه أنه لا يصلح إلا للأصنام فهاك جوابَه:
قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد ــ والله أعلم ــ الشياطين؛ فإن الكفار أشركوهم كما مرَّ تقريره، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} يريد: الشياطين لا يستطيعون نصرَ المشركين مما يريده الله تعالى بهم، [س 65/أ] ولا نصرَ أنفسهم مما يريده عز وجل بهم.
وقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ، ذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، والمعنى: وإن تدعو المشركين.
واعتُرِض عليه بأنه لو كان المراد كذلك لكان الوجه أن يقال: سواء عليهم. وهذا الاعتراض غير قوي. وأقوى منه أن (إنْ) لفرض المستبعد، ودُعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الهدى واقعٌ كثيرٌ، فلو أريد لكان الوجه أن يعبَّر بـ (إذا)، ولكنَّ القاعدة أغلبيّة. وكثيرًا ما تجيء (إنْ) في غير المستبعد، وقد قال الله تعالى خطابًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]. فالنكتة في هذه هي النكتة في تلك، والله أعلم. وبهذا يعلم الجواب.
وممَّا يُرجَّح به كونُ الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن الدعاء إلى الهدى لا يناسب أن يكون من المشركين.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [س 65/ب] فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] التفاتٌ إلى خطاب المشركين، يريد ــ والله أعلم ــ أن الشياطين عبادٌ أمثالكم. ومن حكمة العدول إلى الموصول أن المشركين لم يكونوا يقصدون دعاء الشياطين، وإنما كانوا يقصدون دعاء الملائكة، مع زعم أنهم بنات الله، تعالى الله عن قولهم، وإنما ألزمهم الله تعالى أنهم إنما يدعون الشياطين لأنه ليس في الوجود بناتٌ لله تعالى، والملائكة مع كونهم ليسوا بناتٍ لله تعالى لم يأمروهم بدعائهم ولا رَضُوه، فالأولى حينئذٍ بأن يكون المدعُوَّ هو الذي أمر بالدعاء، وهم الشياطين.
[س 66/أ] وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا
…
}. هذا أقوى دليل في الآيات على أن المراد الأصنام، ولكن يأباه ما تقدَّم، فتأمَّل هل يحتمل أن يقال: الضمائر في ذلك للمشركين؟ أي: أللمشركين أرجل يمشون بها؟
والمعنى في ذلك إما التقرير، أي: إنَّ لهم أرجلًا يمشون بها إلخ، فهلَّا يتفكَّرون فيها فيعلمون أن خالقها والمنعِم عليهم بها هو الله عز وجل فيعرفوا أنه لا تنبغي العبادة إلَّا له، فيكون هذا مبنيًّا على نحو قوله تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وإمَّا الإنكار، والمقصود أن حال المشركين في جهلهم المفرط حالُ الموتى أو الجمادات، بحيث يحسن أن تُنْكَر حياتهم، فيكون هذا مبنيًّا على مثل قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
[النمل: 80] أو قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44].
فإذا كان هذا محتمَلًا فقد انتفى إرادة الأصنام، وعليه فقوله تعالى:{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] الخطاب فيه للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وهذا قول كثير من المفسرين، [س 66/ب] أي: إنهم ينظرون إليك حقيقة، ولكن لا يتدبَّرون ولا يتفكَّرون فيستدلُّون بأحوالك على ما تدلُّ عليه من الصدق والأمانة والنصيحة وحقيَّة النبوَّة.
وإذا كان كذلك فنظرهم معطَّل عن الفائدة المقصودة؛ لأنَّ النظر إنما خلقه الله تعالى لينقل إلى العقل صُور الموجودات فيستفيد منها، وإذا خلا الشيء عن الفائدة التي كان لأجلها فهو في معنى المعدوم، وهذا المعنى شائع ذائع في العربيَّة كثيرٌ في القرآن.
وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الآيات [الأعراف: 200]، جوابٌ ــ والله أعلم ــ عما كان يزعمه المشركون أن مَدْعُوَّاتهم ستنتقم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أشير إليه بقوله:{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، والمعنى أن مدعوَّاتهم في الحقيقة هي الشياطين، والشياطين ليس لها قدرة ذاتيَّة، [س 67/أ] وأما قدرتها التي يسلِّطها الله تعالى بها فإنها تُدفع بالاستعاذة به عز وجل وتذكُّر هُداه والاعتصام به. وعليه فإنها لا تضرُّ المؤمنين وإنما تضرُّ المشركين أنفسهم؛ لأنهم لا يستعيذون بالله عز وجل ولا يذكرون هداه فيعتصمون به، بل يمدُّون الشياطين في الغيِّ ثم لا يقصرون، فكيدُ
مدعوَّاتهم الذي يهدِّدونكم به مقصورٌ عليهم.
ومثل هذا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].
[س 68/أ]
(1)
وأما الشركاء فجاء في ذكر أشياء.
(1)
الأصنام. فيما يظهر من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82]، [س 68/ب] فهذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام صريح في أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبدأ إبراهيم عليه السلام
(1)
(س 67/ب) كُتِب فيها تتمَّة لَحَق جاء من (س 62/أ) واستمرَّ حتى انتهى إلى هنا.
بإبطال عبادة الأصنام، ثم ترقَّى مخالفًا لقومه إلى ما هو أعظم منها، وهو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس.
وقوله: {هَذَا أَكْبَرُ} يريد ــ والله أعلم ــ أكبرُ مما مضى ومن سائر ما نشاهده، فهي أولى بأن تكون ربًّا إن كان في المشاهَدات ربٌّ، ثم جحد ربوبيتها عند تبين نقصانها، وصرَّح بصريح الإيمان.
ومن المفسرين من يقول: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون الكوكب والقمر والشمس، وإنما كانوا يعبدون الأصنام على أنها أرصاد للكواكب كما هو حال كثير من الأمم المشركة، يتخذون بيتًا للشمس، وهكذا لعطارد وزُحَل والمشتري، ويصورون في كل بيت صورة ذلك الكوكب، تارة بصورته [س 69/أ] المشاهَدة، وتارة بصورة خياليَّة، كما هو موجود في كتب التنجيم.
ثم منهم من يقول: إن تلك الصورة رمزية فقط، ومنهم من يقول: بل هي صورة الروح المدبِّر لذلك الكوكب.
وعلى كل حال، فإنهم يعبدون ذلك التمثال، ويعبدون معه ذلك الكوكب. فمشركو الهند لهم صنم للشمس يعظِّمونه، ويعظِّمون الشمس أيضًا.
وأقول: أمَّا كون هذا معروفًا عن كثير من الأمم المشركة فصحيح، وأمَّا أنَّ قوم إبراهيم عليه السلام كانوا كذلك فلا أراه؛ فقد تكرَّرت قصتهم في مواضع من القرآن، وليس فيها إلا عبادتهم الأصنام أو الشيطان، فأما عبادة الشيطان فأمر مشترك بين جميع الكفار، فلم يبق لهم إلا عبادة الأصنام.
[س 69/ب] ولو كان شيء غير ذلك لكان الظاهر أن يقصَّه الله عز وجل ويخبرنا بمحاجَّة الخليل عليه السلام فيه، كما بيَّن في حق قريش عبادة الملائكة وعبادة الأشخاص المتخيَّلة، وحكى عن هود عليه السلام قوله:{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: 71]، وعن يوسف عليه السلام قوله:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23] وغير ذلك، وحكى الله تعالى عن كثير من الأمم ما يدلُّ على اعتقادهم بوجود الله تعالى وبالملائكة، ولم يجئ عن قوم إبراهيم عليه السلام شيء من ذلك.
نعم، الظاهر أنه كان قبل قوم إبراهيم عليه السلام أمّة تعبد الأصنام بنوع من التعليل، إمَّا كونها تماثيل للكواكب أو لأشخاص من الإنس أو الملائكة أو غيرهم، كما كان قبلهم قومُ نوح يعبدونها على أنها تماثيل لقوم صالحين كانوا قبلهم، [س 70/أ] فاتَّصلت الوثنية بقوم إبراهيم عليه السلام فأخذوها تقليدًا محضًا بلا تعليل ولا تأويل.
ويدلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، ولو كان عندهم تعليل لذكروه ولما قنعوا بالتقليد المحض، وهذا بخلاف بقية الأمم فإنهم يُحاجُّون كثيرًا ولا يعتصمون بالتقليد إلا بعد نزاع وخصام.
فإن قلت: فإذا كان الأمر هكذا فلماذا سمي فعلهم شركًا، والمفهوم من الشرك أنه عبادة غير الله تعالى معه، أي أن يعبد الله تعالى ويعبد معه غيره، فأما الاقتصار على عبادة غيره عز وجل فلا يَبِين أن تُسمَّى شركًا؟
[س 70/ب] قلت: الشرك أن يعبد المرء غيرَ الله تعالى سواء أعبد الله تعالى معه أم لا. وتسميته شركًا في الصورة الثانية وجهها: أن الله تعالى معبود في الكون، يعبده ملائكته ومَن شاء من خلقه، فلما جاء هذا الشخص وعبد غيره فقد وُجد معبودان: أحدهما المعبود بحق، وهو الله عز وجل، والآخر المعبود بباطل، أعني معبود [س 71/أ] ذلك الشخص، فهما شريكان في العبادة بالنظر إلى الوقوع في الجملة، فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود الآخر شريكًا، وعابدُه مشركًا
(1)
.
وأما قول المؤمن: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، فإنه يريد ــ والله أعلم ــ لا شريك له في
(2)
الألوهيَّة أي في المعبوديَّة بحق.
فأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] فلا أراها في الأصنام، وذلك أنَّ (ما) مِن قوله {بِمَا لَا يَعْلَمُ} لم يُرَدْ بها ــ والله أعلم ــ ذوات الشركاء، وإنما أريد بها العلمُ بأن له شركاء.
[س 71/ب] والباء في قوله تعالى: {بِمَا} تحتمل وجهين:
الأوَّل: أن تكون هي المعدِّية لـ (نبّأ)، وعليه فلا يكون المراد بلفظ (ما) الشركاء؛ لأن المنبَّأ به لا يكون إلا نبأً أي خبرًا وأمرًا من الأمور، لا ذاتًا من الذوات، كما قال تعالى:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ}
(1)
انظر توجيه حسين بن محمد النعمي لمثل هذا الإشكال في معارج الألباب 2/ 660 - 662.
(2)
تكرَّرت "في" في الأصل.
[التحريم: 3]، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، فإن جاء خلاف هذا ففيه حذف، كقول الحاجب للمستأذن: قد نبَّأْتُ الأميرَ بك، فإن أصله قد نبَّأتُ الأمير بوقوفك أو بحضورك أو نحو ذلك.
وعلى هذا فالمنبَّأ به في الآية هو العلم بأن له تعالى شركاء، فالمعنى: أتنبِّؤون الله بالعلم بأنَّ له شركاء، وهو لا يعلم هذا العلم موجودًا في الأرض عندكم ولا عند غيركم، كما إذا قيل لك: متى تقوم الساعة؟ فتقول: هذا العلمُ لا يعلمه الله تعالى في الأرض، تريد أنه لا يوجد في الأرض.
الوجه الثاني للباء: أن تكون هي التي بمعنى (مع) أي أتنبِّئون الله بأن له شركاء مع علمٍ. فهذا العلم غير موجود في الأرض عندكم، ولا عند غيركم، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي بمجرد ما قاله آباؤكم، والآية من باب قوله تعالى:{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، ولعلَّ هذا الوجه أولى، وعلى كلٍّ فليس في الآية دليل على أن المراد بالشركاء هنا الأصنام.
ويؤيد هذا قوله {قُلْ سَمُّوهُمْ} ، والمراد به ــ فيما قيل ــ تعجيزهم، أي: إنه لا أسماء لهم، والأصنام معروفة الأسماء عندهم.
فإن قلت: سيأتي في تفسير آيات النجم ما ينافي هذا. قلت: المعنى هنا ــ والله أعلم ــ سمُّوهم تسمية مستندة إلى علمٍ، وما في آيات النجم تسمية خَرْصيَّة.
وعلى هذا، فالظاهر أنَّ
(1)
المراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية. والله أعلم.
(1)
كُتب في الأصل بعد هذا علامة إلحاق، ثم كتب "وعليه فالظاهر أنّ"، وهو تكرار لما سبق.
[س 72/أ](2) الشياطين.
قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ...... } [الأنعام: 100 - 101]، ومن يقول: إن الملائكة يقال لهم جنٌّ أيضًا، يحتمل عنده أن يكونوا هم المراد هنا.
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، ففي هذا أن طاعة الشياطين في هذا الموضع شرك، ويلزم من ذلك جَعْلُ الشياطين شركاء.
[س 72/ب] وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ............... } [الأنعام: 137].
وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ................ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
وقال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].
[س 73/أ] فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 62 - 64].
فقد قيل: إنها عامَّة تشمل الشياطين، وأن الذين حق عليهم القول هم الشياطين ومن يشبههم في رضاه بأن يُعبد من دون الله تعالى.
وأقول: لا أراها تشمل الشياطين:
(1)
لأن المشركين لم يكونوا يزعمون أن الشياطين شركاء ولا يقصدون الشرك بهم، وإنما اتخذوهم شركاء من حيث لا يشعرون، كما تقدَّم.
وثانيًا: فيها [أمر]
(1)
المشركين بدعاء الشركاء، فلا يستجيبون لهم، وإنما جاء معنى هذا في حق الملائكة، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86].
وأما المراد بالذين حق عليهم القول فليسوا من الشركاء؛ لأن السؤال واقعٌ من الله عز وجل للمشركين، [س 73/ب] فكيف يكون الجواب من الشركاء؟ وإنما الجواب من بعض المشركين وهم المتبوعون.
وعلى هذا فالمراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية أو الملائكة؛ فإن الآية في مشركي قريش، وذلك كان شركَهم.
(1)
هكذا كانت في الأصل، ثم ضرب عليها المؤلِّف، وكتب فوقها (أن) ولعلّه كان يريد تغيير الأسلوب فنسي.
وربما يرجح الثاني قوله: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فإنه ربما يفهم منه أن المدعوِّين موجودون وإلا لما اقتُصِر على بيان أنهم لم يستجيبوا، بل كان يجاء بما يدلُّ على أنهم غير موجودين. والله أعلم.
وقوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ، إما خطاب للجميع مع الإعراض عن جواب المتبوعين، وهو الظاهر، وإمَّا خطاب للأتباع، والله أعلم.
مقتضى السياق أن يكون المراد بالشركاء الشياطين، [س 74/ب] ولكن المعنى ظاهر في أن المراد الأشخاص الخيالية أو الملائكة:
أوَّلًا وثانيًا: لما مرَّ قبل هذا في الكلام على آية القصص.
وثالثًا: لقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} ، فإنه صريح في التفريق بين المشركين والشركاء، وإنما جاء مثل هذا في الملائكة كما في قوله تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} الآية [يونس: 28]، وستأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
والموبق: المهلك، وفُسِّر بواد من أودية جهنم، فكأنه ــ والله أعلم ــ تَخْرُج شعبة من جهنم فتفرِّق بين الملائكة والمشركين، ويشهد له قوله بعد
ذلك: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53]، أي رأوا تلك الشعبة قد حالت بينهم وبين المحشر، وصارت النار محيطة بهم لا مصرف لهم عنها، والعياذ بالله تعالى.
(3)
فرعون. وذلك فيما حكى الله عز وجل في سورة المؤمن من مراجعة مؤمن آل فرعون لقومه، وفيها:{وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [المؤمن: 41 - 42].
[س 74/أ](4) الأحبار والرهبان.
قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فقوله:{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ظاهر في أنهم اتخذوا الأحبار والرهبان وعيسى شركاء، وانظر ما قدَّمناه في فصل الألوهية
(1)
.
(5)
المسيح عليه السلام. يظهر ذلك من الآية المارَّة قريبًا.
(6)
الأشخاص الخيالية.
قد تقدَّم قريبًا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]، وأنَّ الظاهر أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية.
(1)
ص 415.
وكذا تقدَّم آنفًا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ .... } [القصص: 62 - 63]، وأن الأقرب أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية.
ومرَّ في ترجمة الأشخاص الخيالية من فصل الألوهية قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
…
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92]، وقال جلّ ذكره:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66].
[س 75/أ](7) الملائكة.
قد تقدَّم في فصل العبادة قوله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29].
وتقدَّم في فصل الدعاء قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86].
[س 75/ب] ومرَّ في ذكر الملائكة من فصل الدعاء قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا
…
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة الملائكة: 1 - 14].
(1)
[س 76/ب] وأما الأرباب فجاء في أشياء:
(1)
الأصنام.
يحتمل ذلك في قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
…
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79] ، وقد تقدَّمت الآيات قريبًا.
فقد يقال: إنَّ تعقيبه إبطال ربوبية الكواكب بقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إلخ إن لم يدل على أن قومه كانوا يعبدون الكواكب على ما تقدَّم فإنه يكون ظاهرًا في أنهم اتخذوا الأصنام أربابًا. وكأنه عليه السلام قال لهم: إذا بطلت ربوبية الكواكب والشمس والقمر فبطلان ربوبية الأصنام أولى.
[س 77/ب](2) الكواكب والشمس والقمر.
وذلك بيِّن من الآيات المتقدمة قريبًا.
(1)
(س 76/أ) لم يَكتُب فيها شيئًا.
(3)
العجل.
وبعد ذلك في خطاب موسى عليه السلام للسامريِّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 97 - 98].
[س 78/أ]
(1)
(4) فرعون.
حكاه الله تعالى عنه في قوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
(5)
النُّمروذ
(2)
.
يظهر ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
(1)
(س 78/ب) لم يكتب فيها شيئًا، وكأنه بيَّض لرقمي 6 و 7 في تسلسل المُتَّخَذِين أربابًا.
(2)
بضمِّ النون وآخره ذالٌ معجمةٌ أو دالٌ مهملةٌ، يُطْلق على كلِّ مَنْ مَلك الصابئة الكَلْدانيين، الذين عاصمتهم بابل بالعراق، كما أُطلق فرعون على كلِّ مَنْ ملك مصر، فهو اسم جنسٍ لا اسم علمٍ. لكنّ المقصود به هنا هو النمروذ بن كنعان، بيّنه السُّدِّي في تفسيره لهذه الآية. انظر: تفسير الطبريّ 4/ 569.
[س 79/أ](8) الأشخاص المتخيَّلة.
من ذلك ــ والله أعلم ــ قوله عز وجل عن يوسف عليه السلام: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40].
وقد قدَّمنا أنَّ حصره معبوداتهم في الأسماء ظاهر في أنه لا يوجد منها إلا الأسماء
(1)
.
ومن ذلك ــ والله أعلم ــ ما يشير إليه قوله تعالى لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام [س 79/ب]: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .... قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ .... } [الأنعام: 159 - 164].
فإنه يدلُّ على أن المشركين كانوا يدعونه إلى أن يتخذ غيرَ الله ربًّا، وقد قدّمنا أنهم كانوا يقصدون بعبادتهم الإناث الخياليَّات التي زعموا أنها بنات الله، وأنها هي الملائكة، وأنه إذا جاء ذكر معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن فالأولى أن يُفسَّر بها؛ لأن ذلك هو صريح اعتقادهم، فأما الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم [س 80/أ] أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأما الأصنام فإنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لتلك الإناث على أنها تماثيل لها.
(1)
انظر: ص 416.
هذا، ويحتمل أن الإشارة في الآية إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذي فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، وقد جاء فيهم أنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فلا تكون هذه الآية دليلًا على تربيب مشركي قريش للإناث الخياليَّات. والأقرب أن الآية تشمل الأمرين. والله أعلم.
والدَّليل الصريح في أن المشركين كانوا يتخذون ربًّا من دون الله تبارك وتعالى، [س 80/ب] قولُه عز وجل:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ .... } [الحج: 39 - 40]، فيُحمل ذلك على الإناث الخياليَّات؛ لما تقدَّم. والله أعلم.
وقد يقال: بل الأولى الحمل على الملائكة؛ لما تقدَّم من قوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80]، وأن الإشارة فيه إلى المشركين، فتأمَّل.
[س 81/أ](9) الملائكة.
قد تقدَّم آنفًا.
[س 81/ب] وأما الأنداد فجاء في أشياء أيضًا:
(1)
المتديَّنُ بطاعتهم من البشر من دون الله تعالى.
قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].
قال ابن جريرٍ: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:[س 82/أ]{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، قال: أكْفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله
(1)
.
وذكر غير هذا، ولكن اخترت هذا
(2)
لأنه حكاه عن جماعة من الصحابة، ولأنه يوافق ما يأتي.
وقد دلَّت هذه الآية على أن الأنداد هم المعبودون من دون الله.
وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا [س 82/ب] تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
(1)
تفسير الطبري 1/ 391.
(2)
هنا كان مكتوبًا "لموافقته لما يأتي"، فضرب الشيخ على "لما يأتي"، والظاهر أن الشيخ نسي أن يضرب على "لموافقته"؛ لأنه يغني عنه ما يأتي قريبًا.
مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 165 - 170].
قد كان ظهر لي أنَّ المراد بالأنداد هنا الشياطين؛ لما جاء في السياق من قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
…
}.
ولأن ابن جرير أخرج عن السُّدِّي في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} ، قال: هم الشياطين تبرّؤوا من الإنس
(1)
.
ولِما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ
…
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ .... } [إبراهيم: 22].
[س 83/أ] ثم ترجَّح لي أن المراد: المتبوعين
(2)
من البشر؛ لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، ولم يكن المشركون يحبون الشياطين.
وفي الدر المنثور: وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله
(3)
.
وفيه: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} ، قال: هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرِّ والشرك {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} هم الأتباع والضعفاء
(4)
. اهـ.
(1)
تفسير الطبري 3/ 24.
(2)
كذا في الأصل بالنصب مطابقة للمفسَّر (أندادًا).
(3)
الدرّ المنثور: 1/ 401.
(4)
الدّرّ المنثور: 1/ 401.
أقول: وهو الظاهر والموافق لآيات أخرى في المعنى.
وفي الدرّ المنثور: وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي: شركاء، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله إلخ
(1)
.
وفيه بيان ما قدَّمناه أن الأنداد بمعنى الآلهة من دون الله تعالى.
[س 83/ب](2) الأشخاص الخياليَّة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 28 - 30].
لا يصلح هنا تفسير الأنداد بالمتبوعين من الإنس؛ لأن الجاعلين هم المتبوعون، كما يدلُّ عليه قوله:{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} ، وقوله:{لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقد فسر عمر وعلي وابن عباس وغيرهم (الذين أحلُّوا) بصناديد المشركين من قريش
(2)
، وهو موافق لما قدَّمنا.
نعم، يمكن [س 84/أ] أن يقال: إن صناديد المشركين من قريش جعلوا مَن تقدَّمهم من الناس كعمرو بن لحيٍّ وغيره من آبائهم أندادًا لله، يطيعونهم كطاعته، فلا مانع من أن يكون المراد بالأنداد في الآية المتبوعين من البشر أيضًا، والله أعلم.
(1)
الدرّ المنثور: 1/ 401.
(2)
انظر: تفسير الطبري 13/ 669 وما بعدها.
وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9].
لم أر في السياق ما يعيِّن المراد وأن معنى الأنداد الشركاء.
وقد قدَّمت أنه عند الإطلاق يحمل على الأشخاص الخياليَّة لأنها هي التي كان يقصد المشركون عبادتها بالذات. والمقام محتمل. والله أعلم.
[س 84/ب](3) الملائكة
(1)
.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 33].
وهذه الآية في سياق تأليه الملائكة.
وقد تقدَّم تفسير الآيات.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].
(1)
ص 85/أكتب فيها ما يتعلَّق بالملائكة ثمَّ كمَّله بما في 84/ب.
هذه الآية في سياق تأليه المشركين للملائكة، وقولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وقد تقدَّم تفسير الآيات.
وفي الآية دليل أن معنى الأنداد: المدعوُّون من دون الله تعالى.
(1)
/
(2)
{الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
…
} الآيات [المائدة: 44 - 50].
المعنى كما يفيده السياق: ومَن حكم فلم يحكم بما أنزل الله، بل حكم بغيره خشية من الناس أو اشتراء لغرض من الدنيا، زاعمًا أن ما حكم به حق وعدل؛ لأن أصل الحكم في اللغة القضاء بالعدل كما في اللسان وغيره، وإطلاقه على القضاء ولو بباطل توسُّع.
قال الراغب: "فإذا قيل: حكم بالباطل فمعناه: أجرى الباطل مجرى الحكم"
(3)
.
والحكم بغير ما أنزل الله على وجوه:
الأول: أن يقضي به زاعمًا أنه هو الذي أنزل الله مع علمه بكذبه، كما كان
(1)
ص 85/ب فارغة.
(2)
من هنا آخر صفحة من كُرَّاس بخطِّ المؤلف تحمل الرقم العام 4658/ 8، وأغلب ظني أنها من فصل تفسير عبادة الأحبار والرهبان، ولم أعثر على بقيَّته.
(3)
المفردات: 249.
اليهود يقضون في الزنا بالجلد والتحميم زاعمين أنَّ ذلك هو حكم شريعتهم كاتمين لما في شريعتهم من أَنَّ حُكْمَهُ الرَّجْمُ.
الثاني: أن يقضي به زاعمًا أنه حق وعدل مع علمه واعترافه بأنه خلاف ما أنزل الله، كأن يقضي مَنْ يدَّعي الإسلام بأن ميراث الأنثى من أبيها كميراث الذكر سواء.
الثالث: أن يقضي برأيه ويزعمه حقًّا وعدلًا ولا يبالي أوافق الشرع أم خالفه.
فالأول: كَذِبٌ على الله كما هو ظاهر، وتكذيب بآيات الله التي كتمها؛ لأنه يجحد أنَّ ما قضت به هو حكم الله، فإن استحلّ فِعْلَه ففي ذلك كذب وتكذيب آخر.
وأما الثاني والثالث: فتكذيب بآيات الله عز وجل كما هو ظاهر، وفيها كذب على الله أيضًا من جهة وصفه بما لا يليق به من الحكم بما ليس بعدلٍ ولا حقٍّ، ومن جهة إثبات شريك معه يشرع الأحكام فتكون طاعته حقًّا وعدلًا بدون إذنٍ من الله.
* * * *
[اعتقاد المشركين في الأصنام]
(1)
والمقصود أنهم إنما عظَّموا الأصنام على أنها تماثيل أو تذاكر للإناث الوهميَّات التي هي في زعمهم بنات الله عز وجل، وهي عندهم الملائكة، فلم يعتقدوا في الأصنام ذاتها نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعتقدون أنَّ تعظيمها ينفع من حيث هو تعظيم للأشخاص التي جُعِلَتْ تماثيل أو تذاكر لهم.
وأمَّا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فقد تقدَّم في فصل العبادة في فرع الأصنام احتمالٌ وجيه أنَّ المراد الملائكة، فارجع إليه
(2)
. فإن لم يطمئن به قلبك [س 117/ب] فقل ما تقدَّم عن المفسرين أنَّ نسبة الشفاعة إلى الأصنام باعتبار السببيَّة.
بقي قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43]، فإن قوله:{لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد: الإناث الخياليات؛ لأنهن معدومات أصلًا
(1)
هذا العنوان من وضعي، اعتمادًا على إحالة سبقت للمؤلِّف (ص 433) قال فيها:"وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام"، ويعني الآية 18 من سورة يونس الآتية قريبًا، واعتمادًا أيضًا على ما سيقوله بعد ثلاث صفحات:" وقبل أن نخرج من بحث الأصنام".
(2)
انظر ص 432.
فكيف يقتصر على نفي الملك والعقل؟ وقوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد الملائكة، اللهم إلَّا أن يجاب عن الأوَّل بأنَّ الاقتصار على نفي الملك والعقل لا ينافي انتفاء الوجود، وقد أخبر الله عز وجل عن خليله إبراهيم [عليه]
(1)
السلام قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] يريد الأصنام
(2)
، ومثل هذا كثير، واقتصر على نفي الملك والعقل للدلالة على أنَّ مجرد انتفائهما عن الشيء كافٍ في بطلان عبادته.
وعن الثاني بأن المراد: لا يعقلون دعاءكم إيَّاهم أي لا يفهمونه؛ لأنهم غافلون عنه، وقد وصف الملائكة بكونهم غافلين عن دعاء المشركين في عدَّة آيات تقدَّم بعضها [س 118/أ] ويكون قوله:{لَا يَعْقِلُونَ} من باب نفي أحد المتلازمين بقصد انتفاء الآخر، كقوله في الآية المتقدمة آنفًا:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} يريد "بما ليس موجودًا"؛ لأنَّ ما لم يعلمه الله تعالى موجودًا فليس بموجود، فكذا في هذه الآية، المعنى على الاحتمال المذكور أي إذ كانوا لا يعقلون عبادتكم فهم لم يعلموا بها؛ إذ لو علموا بها لعقلوها، إلا أنَّ الإطلاق في قوله:{وَلَا يَعْقِلُونَ} ربما يوهن هذا الاحتمال، [س 118/ب] ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّ حذف المفعول كثير في القرآن وغيره، والقرينة هنا قائمة، وهي أنَّ
(1)
سقطت من الأصل.
(2)
بعد هذا بضع كلمات لم تظهر، ولعلها:(ولم يرد نفي انتفاء الحياة). بدلالة كلمات كتبها المؤلف بعد إيراد الآية ثم ضرب عليها لتحسين العبارة، وهي:(لم يناف انتفاء الحياة).
المشركين إنما كانوا يرجون شفاعة الملائكة، وقد بيَّن الله عز وجل في عدَّة آيات صفات الملائكة الشريفة، وبيَّن في عدَّة آيات أنهم لا يسمعون دعاء المشركين، وأنهم غافلون عنه، وبذلك تكون القرينة على الحذف ظاهرة. وهنا جواب آخر لعله أقوى من هذا، وهو أنَّ المراد لا يملكون شيئًا ملكًا ذاتيًّا، أي بغير تمليك الله سبحانه إيَّاهم ولا يعقلون عقلًا ذاتيًّا أي غير موهوب لهم من الله عز وجل، والملائكة كذلك. والمعنى يؤيِّده، فإنَّ المدار على إثبات أنهم لا يستحقُّون العبادة، واستحقاق العبادة إنما يكون بالقدرة الذاتيَّة، فأمَّا القدرة الموهوبة من الله فإنها لا تفيد في استحقاق العبادة، فإنَّ بني آدم أنفسهم يملكون ما ملَّكهم الله تعالى ويعقلون بعقلٍ موهوب لهم منه، ولم يستحقوا العبادة، ومثل هذا المعنى كثير في القرآن مِنْ نفي الملك (والضرِّ والنفع)
(1)
الذاتي.
وبعد هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
…
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 73 - 77].
وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي .... } [سبأ: 22 - 23] والسياق يدل (أن)
(2)
المراد الملائكة.
(1)
لم تظهر هاتان الكلمتان والمثبت اجتهاد مني.
(2)
لم تظهر هذه الكلمة.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
(1)
كما يأتي في بحث الدعاء إن شاء الله تعالى.
أما المفسرون فقال الإمام الرازي وغيره عند [س 119/أ] قوله تعالى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]: هذا ردٌّ لما يجيبون به، وهو أنَّ الشفعاء ليست الأصنام أنفسَها بل أشخاص مقرَّبون هي تماثيلُهم
(2)
.
أقول: وهذا يحتاج إلى توجيهٍ وإيضاحٍ، فأستعين الله عز وجل وأقول: قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} على وِزان قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21] وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معناها ومعنى ما بعدها من الآيات قريبًا
(3)
.
وحاصل معناها أنها استفهامٌ، أي: أم هل اتخذوا آلهة [س 119/ب] يعتقدون أنهم ينشرون من الأرض؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ..... } [الأنبياء: 22] مع أنَّ المشركين لم يعتقدوا في
(1)
سورة الملائكة (فاطر): 13 - 14. [والتوضيح من المؤلف].
(2)
انظر: تفسير الرازي 26/ 247 - 248، وروح المعاني 7/ 410.
(3)
في الصفحة الآتية وفي ص 517 - 521.
آلهتهم أنهم ينشرون من الأرض، كما نصَّ الله عز وجل على ذلك في آيات كثيرة، ويجمعها {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ولكنَّ الآية تعريض بجهلهم كأنه يقول: لو اتخذوا آلهة يظنون أنها تنشر من الأرض لكان جهلُهم أخفَّ من أن يتخذوا آلهة ليسوا كذلك.
أقول: فكذا قوله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} فهي استفهام عن شأنهم في عبادتهم الأصنام، أي: أم هل اتخذوا معبودات يعتقدون أنها تشفع لهم؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} والآية الثانية على ما قاله الإمام الرازي وغيره
(1)
.
وعلى هذا فليس في الآية أنَّ المشركين كانوا يزعمون أنَّ الأصنام [س 120/أ] شفعاء، وإنما الآية تعريض بهم أي أنهم لو عبدوا شيئًا يظنون أنه يشفع لهم لكان جهلهم أخفَّ من أن يعبدوا شيئًا لا يرجون منه شفاعة وهو الأصنام. فالمشركون يجيبون بأنهم وإن كانوا لا يرجون من الأصنام أنفسها شفاعة فإنهم يرجون من الأشخاص التي هي تماثيل أو تذاكر لهم، وعبادتهم لها إنما هي ذريعة لعبادة أولئك الأشخاص. فيُنْتَقَل إلى محاجَّتهم في أولئك الأشخاص.
وقبل أن نخرج من بحث الأصنام نذكر سؤالين مهمَّين:
الأول: قد جاءت آثار كثيرة في شأن اللَاّت تخالف ما تقدَّم، ففي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان اللات رجلًا يلتُّ سَويق
(1)
راجع الصفحة السابقة.
الحاجِّ
(1)
.
وأخرج النسائي وغيره
(2)
عن مجاهد نحوه مطوَّلًا، وفيه: فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات، وكان يقرأ:"اللاتَّ" مشددة.
وأخرج الفاكهي
(3)
عن ابن عباس: أنَّ اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتًا.
[س 120/ب] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} قال: كان رجل من ثقيف يلتُّ السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنًا
(4)
.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال: اللات كان يلتُّ السويق بالطائف فاعتكفوا على قبره، والعُزَّى شجرات
(5)
.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم، وكان يلتُّ لهم السويق، والعُزَّى بنخلة كانوا يعلِّقون عليها
(1)
صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة:"والنجم"، باب:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، 6/ 141، ح 4859. وانظر: تفسير الطبريِّ 22/ 48، الدرّ المنثور 7/ 652.
(2)
لم أجده في سنن النسائي، وعزاه السيوطي في الدرّ المنثور 7/ 652 إلى سعيد بن منصور والفاكهي. وانظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب التفسير، سورة النجم، 7/ 455، ح 2084. وأخبار مكة للفاكهي، ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها، 5/ 164، ح 75.
(3)
أخبار مكَّة، الموضع السابق، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612.
(4)
انظر: الدر المنثور 7/ 653.
(5)
انظر: تفسير الطبري 22/ 48 و 49، الدر المنثور 7/ 653.
الستور والعهن، ومناة حجر بقُديد
(1)
.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي الجوزاء قال: اللات حجر كان يلتُّ السويق عليه، فسُمِّي اللات
(2)
.
السؤال الثاني: أنَّ لهم أصنامًا مذكَّرة الأسماء كهُبل ومناف، وهذا يدفع أن يكون هذا الضرب تماثيل أو تذاكر للملائكة؛ لأنهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة إناث؟
[س 121/أ] الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى لله وسلَّم وبارك على خاتم أنبيائه وآله وصحبه.
أما السؤال الأوَّل فعنه أجوبة، وقبل الشروع فيها نذكر كلام أهل اللغة والتفسير في اللات، قال بعضهم: هي على وزن باب وأصلها ليَت، وقيل: أصلها لَوَيَة والتاء فيها للعوض كهي في ذات، وقيل: أصلها لاهة، وقيل: إنهم اشتقوا هذا الاسم من لفظ الجلالة، قاله الواحدي وغيره، وقالوا نحوه في العزى ومناة. وقال أهل اللغة: إن من العرب من يقف عليها بالهاء ومنهم من يقف عليها بالتاء، والقراءات المشهورة كلُّها بتخفيف التاء إلَّا رواية عن ابن كثير فإنها بتشديد التاء، كما رُوي عن ابن عباس ومجاهد، والمعروف في اللغة الخفَّة، قال زيد بن عمرو بن نفيل
(3)
:
(1)
انظر: تفسير الطبري 22/ 48 (وفيه ذكر اللات فقط)، الدر المنثور 7/ 653.
(2)
انظر: الدر المنثور 7/ 653.
(3)
انظر: الأصنام لابن الكلبي 22.
عزلتُ اللات والعُزَّى جميعًا
…
كذلك يفعل الجَلْدُ الصبور
وأنشدوا لبعضهم
(1)
في بعض حروب النبي صلى الله عليه وسلم:
غلبت خيلُ الله خيل اللَّات
…
وخيلُه أحقُّ بالثبات
وقال آخر
(2)
:
وفرَّت ثقيف إلى لاتها
…
بمنقلب الخائب الخاسر
وقال عمرو بن الجعيد
(3)
:
فإني وتركي وَصْل كأسٍ لكالَّذي
…
تبرَّأ مِن لاتٍ، وكان يدينها
ثم اختلفوا في موضعها ولمن كانت؟ فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف
(4)
، وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة
(5)
، وقال ابن زيد: كان بنخلة [س 121/ب] عند سوق عكاظ تعبده قريش
(6)
، قال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه
(7)
.
(1)
هي امرأة من المسلمين، قالت ذلك لما هزم الله المشركين من أهل هوازن. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 449.
(2)
هو ضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 47.
(3)
انظر: الأصنام لابن الكلبي 16.
(4)
انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر. وهو في سيرة ابن هشام 1/ 79 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد).
(5)
مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116.
(6)
انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407.
(7)
البحر المحيط 10/ 15 (دار الفكر).
ثم إنَّ ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه وتلامذته وتلامذتهم حاصله بعد الجمع بين الروايات أنه كان في الطائف رجل كان سادنًا لأصنامهم يلتُّ السويق للحاجِّ على صخرة معروفة، ويظهر أنها كانت بمحلِّ أصنامهم، فلما مات قال عمرو بن لُحَيٍّ: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة، فالصخرة هي التي كان يلتُّ عليها السَّويق، وهي قبره الموهوم، إن لم يكن قُبِرَ تحتها ــ الله أعلم ــ فعُبدت الصخرة.
إذا علمتَ هذا فأقول:
الجواب الأول: قد يكون عَمْرُو بن لُحَيٍّ قال لهم: إنَّ تلك الصخرة مباركة لأنها كانت بقرب الأصنام وكان يلتُّ عليها السويق للحاجِّ، ثم إنها ابتلعت صاحبها مع أنَّ وصف ذلك السادن وهو لفظ اللاتّ مشدَّدًا يقارب اسم أحد الملائكة اللات مخفَّفة، اختلق لهم عَمرو هذا الاسم مروِّجًا لصحته بأنه مشتقٌّ من لفظ الجلالة كما ذكره الواحدي وغيره
(1)
، فينبغي أن تُجعل تذكارًا لهذا الملَك وتُسمَّى باسمه اللات، فقرأ ابن عباس ــ إن صحَّ عنه ــ وبعضُ تلامذته بالتشديد، كأنه والله أعلم تحاشيًا عن النطق بها مخفَّفة لما في [س 122/أ] وضْع هذا الاسم كذلك من الكفر والبَهْت، وقد يكون في ذلك نقلٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الظاهر، وقرأها الجمهور بالتخفيف اتِّباعًا، ولأنَّ هذا الاسم كذا وُضع، وحاكي الكفر ليس بكافر.
ومَنْ وقف عليها بالهاء نظر إلى أصل وضع الاسم، ومَنْ وقف عليها بالتاء حرص على ما قصده عَمْرو بن لُحيٍّ من موافقة الاسم لصفة ذلك
(1)
انظر: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1/ 423، وزاد المسير 8/ 72، وروح المعاني 27/ 55.
السادن.
وعلى كلِّ حالٍ فهي مؤنَّثة، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعروة بن مسعود الثقفيِّ يوم الحديبية: اُمْصُصْ بظر اللات.
الجواب الثاني: قد لا يكون سُمِّيت اللات مخفَّفة من أوَّل الأمر وإنما سُمِّيت اللاتُّ مشدَّدة بصفة السادن ثم خفِّفت لكثرة الاستعمال، ثم تقادم العهدُ فنُسِيَتْ قصَّة السادن وظنُّوا أنَّ اللات اسمُ مَلَك من الملائكة، وتلك الصخرة تذكار له.
الجواب الثالث: [س 122/ب] أنَّ اللاتَّ مشدَّدةً اسمُ الصخرة المذكورة ثم خُفِّفَتْ لكثرة الاستعمال فقد قال الشاعر
(1)
:
وفرَّت ثقيف إلى لاتها
…
بمنقلب الخائب الخاسر
وصار يُؤَنَّثُ باعتبار الصخرة، ولذلك قال الصِّدِّيق ما قال.
وكان لقريش صنم آخر سمَّوه اللات مخففة مؤنَّثة زعموا أنه اسم لملَك اشتقاقًا من لفظ الجلالة.
وفي هذا الجواب الثالث ضعف، والأوَّل قويٌّ، والثاني أسلم من التكلُّف وأشبه بطبيعة النشوء التي تكاد تكون عامَّة في الوثنيَّة.
ثم رأيت في شرح القاموس
(2)
ما يؤيِّده، ثم رأيت في معجم البلدان
(3)
(1)
مر تخريجه قريبًا.
(2)
تاج العروس 5/ 75.
(3)
5/ 4.
لياقوت ما لفظه: ودام أمرُ عَمرٍو وولدِه عليه نحو ثلاثمائة سنة، فلما مات استمرُّوا على عبادتها وخفَّفوا التاء، ثم قام عَمْرو بن لُحَيٍّ فقال لهم: إنَّ ربَّكم كان قد دخل في هذا الحَجَر يعني تلك الصخرةَ، ونصبها لهم صنمًا يعبدونها
…
اهـ.
وفي القصَّة تخليط شديد فراجِعْ.
ويؤيِّد الجوابين الأوَّلين تعدُّد التماثيل أو التذاكر التي يسمُّونها اللات، وذلك أنَّ اللات عندهم هو اسم الملَك، فيمكن أن يجعلوا له عدَّة تماثيل أو تذاكر يُسمُّون كلَّ واحد منهم باسمه [س 123/أ] كما تقدَّم في قصَّة نوح
(1)
أنَّ الشيطان جعل لهم تماثيل لأولئك الرجال الصالحين وسمَّى كلَّ تمثالٍ باسم صاحبه، ووضعوها في مُصَلَّاهم ثم جعل مثل ذلك لكلِّ أحد في بيته، وهكذا نرى الوثنيِّين في الهند تتعدَّد تماثيلُ
(2)
لشخصٍ واحد. وإنما امتازت لاتُ ثقيفٍ لأنها الأُولى من نوعها لقصَّة السادن، والله أعلم.
وأما السؤال الثاني، فعنه جوابان:
الأول: أنَّ تلك الأصنام كأخواتها تماثيل للملائكة، ولكن كأن الشيطان لم يوحِ إليهم باسم ذلك الملَك فسمَّوا الأصنام أنفسها [س 123/ب] بأسماء مذكَّرة اعتبارًا بلفظ الصنم أو الوثن أو نحو ذلك.
الجواب الثاني: يمكن أن يكون الشيطان أوحى إليهم أنهم كما جعلوا تماثيل للملائكة يعظِّمونها فالله عز وجل لا ينبغي أن يكون أقلَّ حظًّا فجعلوا
(1)
ص 441 - 442.
(2)
كذا في الأصل.
لله عز وجل تماثيل أو تذاكر كما أوحى إليهم الشيطان، ولكنهم تحاشَوْا أنْ يسمُّوها باسمه فسمَّوها أنفسها بهبل ومناف وغير ذلك.
ومما يساعد هذا أنَّ هبل كان عندهم أعلى من غيره، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: اعْلُ هُبَل، فخصَّه بالذكر في ذلك المقام، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يجيبوه:"الله أعلى وأجلُّ"
(1)
. ويظهر أنَّ هذا الجواب يتضمَّن إبطال هُبل، إذا كان وُضع على أن يكون تمثالًا لله عز وجل؛ فإنَّ قوله:"الله أعلى وأجلُّ"، يبيِّن أنه أعلى وأجلُّ مِن أن يُجعل له تمثال، ولهذا عدل أبو سفيان إلى قوله:"لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم"، كأنه يقول: لنا شفيع ولا شفيع لكم. فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبوه: الله مولانا ولا مولى لكم [س 124/أ] أي: أن الله عز وجل نفسه مولانا وناصرُنا ومعينُنا ولا مولى لكم.
خلاصة اعتقاد المشركين في الأصنام
أنها تماثيل وتذاكر للملائكة، وقد يكون فيها تمثال أو تذكار لله عز وجل كما تقدَّم، وأنها أنفسها لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما هي ذريعة إلى عبادة مَنْ جُعِلَتْ تمثالًا أو تذكارًا له.
تعظيمهم للأصنام
(2)
كانوا يتمسَّحون بها ويعكُفون عليها ويُضَمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها ولم أر نقلًا صريحًا في أنَّ المشركين كانوا يسجدون
(1)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، 5/ 94، ح 4043.
(2)
قارن ما هنا بما في ص 630.
للأصنام، بل جاء ما ينفي ذلك، فأخرج مسلم في صحيحه
(1)
عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم فقيل: نعم، الحديث، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يستشنعون السجود، ولو كانوا يسجدون للأصنام ما أنكروا عليه صلى الله عليه وآله وسلم السجود لله.
ومما يُروى عن أبي طالب في أسباب توقُّفه عن الإسلام أنَّه استشنع السجود قائلًا: والله لا تعلوني استي أبدًا، والقصَّة في مسند أحمد وغيره
(2)
.
[س 124/ب] وهل جاء في القرآن أنهم كانوا يدعونها؟ لم أر ما هو صريح في ذلك إلَّا أن يكون قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج: 73 - 76].
(1)
صحيح مسلمٍ، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب قوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} ، 8/ 130، ح 2797.
(2)
المسند 1/ 99. [المؤلف]. وهو أيضًا في مسند الطيالسي 1/ 155، ح 184، ومسند البزَّار 2/ 319 - 320، ح 751. قال الهيثميُّ:"وإسناده حسنٌ". مجمع الزوائد 9/ 125. وقال الألبانيُّ: "ضعيفٌ جدًّا"، وتعقَّب الهيثميَّ في تحسينه، لأن في إسناده: يحيى بن سلمة بن كُهَيلٍ، وهو متروكٌ. انظر: السلسلة الضعيفة 9/ 147، ح 4139.
فإن هذه الصفة لا تقال في المعدوم وهي الإناث الخياليات
(1)
، ولا تصدُق على الملائكة أو الشياطين لأنهم قد يستطيعون الاستنقاذ من الذباب كالآدميِّين على الأقلِّ، اللهمَّ إلَّا أن يُقال: إنَّ المراد: لا يستنقذوه منه بقدرة ذاتيَّة لهم أي بغير إذن الله تعالى؛ لأنَّ الكلام إنما هو في قدرة تؤهِّلُهم لأَنْ يُدْعَوا من دون الله تعالى، ويؤيَّد هذا بأنَّ الضمائر ضمائرُ العقلاء.
وقد جاءت آيات في الملائكة وفي المسيح عليه السلام وفي الشياطين أنهم لا ينفعون ولا يضرُّون، والمراد بغير إذن الله تعالى، فلماذا لا يُحْمَل ما هُنا على ذلك؟ بل إنَّ عمومَ سَلْبِ النفع والضر يتناول سَلْبَ الاستنقاذ من الذباب.
وعلى هذا فقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، المراد به الضعف الذاتيُّ؛ فإنَّ الملائكة وغيرهم متَّصفون بالضَّعف الذاتيِّ، وما كان لهم مِن قدرة فليست ذاتيَّة، وإنما هي موهوبة من الله تعالى ومحصورة فيما يأذن به.
ومما يؤيد أنّ المراد الملائكة/
(2)
السياق: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ، أي والله أعلم: أنَّ أكابر الملائكة ليسوا إلَّا رسلًا يصطفيهم الله تعالى كما يصطفى الرسل من الناس، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كقوله في آية الكرسي:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، والمراد سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال صاحب روح المعاني
(3)
في تفسير الآية: "والآية وإن كانت نازلة
(1)
هنا خط كأنه يشير إلى ملحق لم أهتد إليه، والكلام متَّصل.
(2)
هنا بداية ملحق متصل بالصفحة السابقة.
(3)
17/ 202.
في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران (ورؤوسها بالعسل) ويغلقونه عليها، فيدخل الذباب من الكُوى ويأكله، إلَّا أنَّ الحكم عامٌّ لسائر المعبودات الباطلة".
ونفي القدرة الذاتية يشترك فيه جميع المخلوقين.
وقوله في الآية: "نزلت في الأصنام" لم تقم به حجة فيما أعلم، وفي صحته نظر، أوّلًا لأنَّ آيات الدعاء في القرآن في حق مشركي العرب منها ما هو صريح في أنَّ المراد الإناث الخياليَّة وما هو صريح في أنَّ المراد الشياطين، ومنها ما هو محتمل، فالأَوْلى حملُ المحتمِل على الصريح.
ويوضحه الوجه الثاني وهو: أنَّ الدعاء على ما يأتي إن شاء الله هو الرغبة إلى المدعو والسؤال منه، وقد تقدَّم أنَّ المشركين لم يكونوا يعبدون الأصنام إلَّا على أنها تماثيل أو تذاكر للملائكة فكيف يسألونها؟ اللهمَّ إلَّا أنْ يقال: لعلَّهم كانوا يوجِّهون الدعاء إليها والمقصود دعاءُ الأشخاص الذين جُعلت تماثيلَ لهم وإنما وجَّهوا الدعاء
…
(1)
.
فأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا
…
} [الأعراف: 194 - 195]، فسيأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى في معنى الدعاء
(2)
(3)
.
(1)
هنا كلمات لم تتضح.
(2)
انظر ص 759.
(3)
هنا كلام مضروب عليه وسهم لم أعرف وجهه، والكلام المضروب عليه: ومما كانوا يصنعون بالأصنام العكوف عليها والتمسح بها وتضميخها بالطيب والاستقسام بالأزلام عندها.
والأزلام قداح مُعَدَّة للقرعة والاستخارة، ولم يكن من شرطها أن تكون عند الأصنام، فقد جاء أنَّ
…
خرج إلى حنين والأزلام معه يستقسم بها، وفي قصة سراقة بن مالك بن جُعْشُم أنه لما خرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين هاجر كانت الأزلام معه يستقسم بها
(1)
، ولكن كانوا يرون أنَّ كونها عند الأصنام أنجح كما في قصة امرئ القيس
…
للأخذ بثأر أبيه، فاستقسم عند ذي الخَلَصَة فخرج القِدْحُ الذي يفيد النهي عن الخروج فقال:
لو كنت يا ذا الخلصة
(2)
الموتورا
…
دوني وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العُداة زُورا
(3)
وكانوا يقترعون بها عند اختلافهم ويقضون بها، وقد جاء ذلك في قصة عبد المطلب عند نذره ذبح ولده عبد الله
(4)
، وكانوا عند القرعة أو الاستخارة بها يدعون آلهتهم أن يرشدوهم إلى الصواب.
ومن الأصنام شجر ينوطون
…
، ومنها
…
أي حجارة يتحرَّون الذبح عليها ذاكرين أسماء آلهتهم، ولم يتبيَّن لي سبب ذلك عندهم.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 489.
(2)
رواية البيت: "الخَلَص" بالترخيم.
(3)
انظر: الأصنام لابن الكلبي ص 35، سيرة ابن هشام 1/ 130 وملحق ديوان امرئ القيس 460.
(4)
انظر: سيرة ابن إسحاق ص 10 - 11، وسيرة ابن هشام 1/ 203.
وكانوا يزورون الأصنام من الأماكن البعيدة ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة
(1)
، وكانت الأوس والخزرج يُهِلُّون لمناة الطاغية ثم يجيئون إلى الصَّفا والمروة فيسعون بينهما
(2)
. والله أعلم.
[س 125/أ] اعتقادهم في الملائكة
اعلم أنَّ أكثر الناس في غفلة عن كون مشركي العرب جميعهم أو غالبهم كانوا يعبدون الملائكة، وأنت إذا تدبَّرْتَ ما تقدَّم من الآيات في فَصْلَي التأليه والعبادة في الملائكة والإناث الخياليَّات فإنهما واحد عند المشركين [وأهل]
(3)
النحل المتقدمين، والآيات الآتية في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى علمت ذلك قطعًا. وفي القرآن آيات أخرى، فنجد القرآن يفرد في بعض المواضع محاجَّتهم في نسبة الولد إليه، وفي بعضها في جعل الولد إناثًا وفي بعضها في جعل الملائكة إناثًا، وفي بعضها في عبادة الملائكة، فيمكننا أن نقول: إنَّ الأقسام أربعة: الثلاثة الأولى تتعلَّق بذوات الملائكة، والرابع بعبادتهم، وإفراد القرآن كلَّ واحد منها بالإنكار يَدُلُّ أنَّ كلَّ واحد من الأقسام بهتان على حِدة. وتخصيص الإناث بهتان آخر أي بحيث لو فُرض جواز نسبة الولد إليه عز وجل لكان جَعْلُ ذلك الولد إناثًا بهتانًا؛ لأنَّ اتِّخاذه تعالى ولدًا إناثًا أشدُّ امتناعًا من اتخاذه ولدًا ذكورًا. وجَعْلُ
(1)
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 11/ 389.
(2)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة
…
2/ 158، ح 1643، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن
…
4/ 69 - 70، ح 1277.
(3)
لم تظهر الكلمة في الأصل.
الملائكة إناثًا بهتان ثالث أي بحيث لو لم يقولوا هم: ولَدُ الله، بل اعترفوا بأنهم من خلقه عز وجل لكان جَعْلُهم إناثًا بهتانًا. والعبادة بهتان، أي بحيث لو قالوا: إنَّ الملائكة مِنْ خلق الله تعالى، ليسوا [س 125/ب] وَلَدَه، ولم يقولوا: إنهم إناث، ولكنهم أصرُّوا على عبادتهم لكانت عبادتهم بهتانًا، فتأَمَّلْ هذا وتدَبَّرْ آياتِ القرآن تجدْه بغاية الوضوح إن شاء الله تعالى.
والذي يُهِمُّنا هنا إنما هو القسم الرابع فنقول: قد تقدَّم بيان القرآن بغاية الصراحة أنَّ المشركين كانوا يعترفون لله عز وجل بالانفراد بالخلق والرَّزْق وتدبير الأمر والقبض على ملكوت كل شيء وأنه يجير ولا يجار عليه، إذن فماذا أبقوا للملائكة؟ أبقَوا لهم الشفاعة فقط. أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقالوا:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
لعلَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شفاعتهم تنفع وإن لم يرض الله عز وجل؟ [س 126/أ] كلَّا، فإنها حينئذ لا تكون شفاعة بل تكون أمرًا وإلزامًا. وأيضًا فاعترافهم بأنه سبحانه يجير ولا يجار عليه يُبْطِلُ هذا.
فلعلَّهم يقولون: إنَّ البارئ عز وجل لا بدَّ أن يقبل إكرامًا للملائكة، وإن كان هو غيرَ راض؟ كلَّا، فإنهم يعترفون بأنه تعالى بيده ملكوت كلِّ شيء، ومَنْ بيده ملكوتُ كلِّ شيء لا يكون محتاجًا إلى أحد حتى يقبل شفاعته مُكْرَهًا، فإنَّ أهل الدنيا إنما يقبلون الشفاعة مُكْرَهين ممن هم محتاجون إليه، وقد كانوا يقولون في تلبيتهم كما في الصحيح: لبَّيك لا شريك لك إلَّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، 4/ 8، ح 1185، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فلعلَّهم كانوا يقولون: إنَّه عز وجل لمحبته للملائكة لا بدَّ أن يقبل شفاعتهم برضاه؟
(1)
ربما يدفعه اعترافهم بأنه عز وجل يجير ولا يجار عليه؛ فإن إطلاق "يجير" يشمل الملائكة بل إجارة الملائكة هي المقصودة بالذات في الآية، فإذا كانوا يعترفون بأنه سبحانه يجير من الملائكة لو فُرِضَ أنهم أرادوا إلحاق الضرر بأحد، فقد دلَّ هذا على اعترافهم بأنَّ الله تعالى ليس رَهْنَ إرادةِ الملائكة.
[س 126/ب] لِنَدَعْ هذا، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: إن البارئ تعالى يقبل غالب شفاعة الملائكة برضاه، أما هذا فنعم، وهل هذا القَدْرُ باطل حتى نرى معظم محاجَّة البارئ تعالى لهم في القرآن مع كثرتها تدور على الشفاعة؟ ليس المحاجَّةُ في هذا وإنما هي في طمعهم في أنَّ الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، وقد تفنَّن القرآن في إبطال هذا الزعم، ويجمع الكلامَ على ذلك مرتبتان:
المرتبة الأولى: يُبيِّن سبحانه وتعالى أنَّ الملائكة لا يشفعون لهم، وذلك على درجات:
الأولى: أنهم لم يعبدوا الملائكة، وذلك لوجهين:
الأول: أنَّ عبادتهم في قصدهم موجَّهة بالذات إلى البنات الوهميّات، [س 127/أ] وهم وإن زعموا أنهنَّ هنَّ الملائكة فقد قامت الحجَّة بخلاف ذلك، وبعبارة أخرى: إنما يعبدون الملائكة بعنوان أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك، بحيث لو اعترفوا أنهم ليسوا بنات الله لما عبدوهم، فالعبادة
(1)
علامة الإستفهام وضعها المؤلف.
موجَّهة إلى صفة البنتيَّة وقد قام البرهان على عدمها.
الوجه الثاني: أنَّ العمل إنما يُعدُّ تعظيمًا للشخص إذا كان يحبه ويرضاه، وليس عندهم دليل على أنَّ الملائكة يحبون ويرضون أنْ يُعْبَدوا؛ لأنهم لم يأمروا المشركين بعبادتهم، والدليل قائم على أنَّ الملائكة يَكْرَهون أنْ يُعْبَدُوا من دون الله عز وجل، إذ قد قامت الحجَّة أنهم ليسوا إلَّا عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يحبُّ أنْ يُعَظَّم كما يُعظَّم ربُّه، فإنْ أحبَّ أن يُعظَّم تعظيمًا مَّا فبقَدْرِ ما يأذن به ربُّه.
فإذا كان تعظيمُ المشركين للملائكة يضاهي تعظيمَ الله عز وجل فقد تبيَّن أنَّ الملائكة لا يرضَون ذلك، وإن كان دونه فليس عندهم بيِّنةٌ بأنَّ ذلك القَدْرَ يرضاه الله عز وجل وترضاه [س 127/ب] الملائكة، فكان العقل يقضي عليهم بأن يقفوا عند الحدِّ الذي تقوم الحجة على أنه مأذون به، ولم يفعلوا ذلك، فما هو الباعث لهم على هذا؟ هو الشيطان، فإذن ليس الباعث لهم على عبادة الملائكة محبَّتَهم إيَّاهم، لأنَّ المحبة شَرْطُها أنْ يقف المُحِبُّ مع رضا المحبوب، وإنما الباعث لهم طاعتهم للشيطان، فروحُ تلك العبادة موجَّه إلى رضا الشيطان.
وقد بيَّن سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، ولعلَّ مِنْ ذلك قولَه تعالى:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12 - 13]، وقد تقدَّم في فَصْلَي التأليه والعبادة آيات أُخَر.
[س 128/أ] الدرجة الثانية: أن الله عز وجل إنما منح البشر قدرة محدودة يتصرَّفون فيها باختيارهم ظاهرًا ابتلاء لهم واختبارًا ليتبيَّن المطيع من العاصي، فأما الملائكة فلا حاجة لهم للابتلاء فهم مطهَّرون معصومون، وهذا يفيد أنَّ القدرة الممنوحة لهم إنما يتصرَّفون بها إذا أمرهم الله تبارك وتعالى، وقد بيَّن سبحانه وتعالى ذلك بقوله:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ، معناه: لا يعملون إلا بأمره؛ لأنَّ تقديم الجارِّ والمجرور يفيد الحصر. فتفيد هذه الآية أنهم لا يعملون إلَّا إذا أمرهم ولا يفعلون إلَّا ما أمرهم.
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50].
أقول: فإذا كان الملائكة لا يقولون إلَّا ما أمرهم الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم، فما معنى الخضوع لهم وطلب الشفاعة منهم؟ لا أرى في ذلك إلا محاربةً الله عز وجل، ومطاوعةً الشيطان.
[س 128/ب] الدرجة الثالثة: لنصرف النظر عن هذا، فقد قامت الحجة أن الملائكة ليسوا إلَّا عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يفعل إلَّا ما يرضَى? ربُّه، فكيف إذا كان الربُّ هو الله عز وجل الذي يعترفون بعظمته وغناه عما سواه، والعبيد هم الملائكة المطَهَّرون المنزَّهون عن حظوظ النفس المستغرقون في محبة ربهم عز وجل.
فثبت بهذا أنَّ الملائكة لا يشفعون إلا لمن ارتضى ربهم عز وجل، إذن فالعاقل لا يوجِّه همَّته إلَّا إلى رضا الله عز وجل، وإذا حصل على ذلك لا يهمه غيره؛ لأنه إما أن يُنِيلَه سبحانه وتعالى مرادَه بدون شفاعة، وإمَّا أنْ يأذنَ للملائكة فيشفعوا له، وهم بطبيعتهم يشفعون لأنهم مستغرقون في محبة الله عز وجل، وقد علموا أنه سبحانه وتعالى ما أذن لهم في الشفاعة [س 129/أ] لهذا الشخص إلَّا وهو يحبها. لنفرض مُحالًا أنهم لا يحبُّون الشفاعة حينئذٍ أوْ لا يشفعون، أليس قد حصل المقصود وهو رضا الله عز وجل، وإنما يأذن للملائكة في الشفاعة إظهارًا لكرامتهم عنده
…
(1)
.
ألستم تعترفون أنَّ الله عز وجل بيده ملكوت كل شيء، ومن ذلك قلوبُ الملائكة خصوصًا، وقد ثبت أنهم ليسوا إلَّا عبادًا لله تعالى، فإن فُرِضَ أنهم قد يشفعون بدون أمر الله
(2)
فهو سبحانه وتعالى الذي يوجِّه قلوبَهم إلى الشفاعة أو عدمِها، وإذا كان الأمر هكذا فالمهمُّ هو رضا الله عز وجل.
وإذا كان كذلك فرِضَا الله عز وجل إنما يُكْتَسَب بطاعته، فإنْ علم يقينًا أنه أمر بشيء اتَّبَع ويَتْرُك ما لا يعلم أطاعة هو أو معصية، ويكتفي بصدق القصد أنه لو علم كيف يطيعه لأطاعه، كما صحَّ عن زيد بن عمرو بن نفيل، فإنه تَرَكَ عبادةَ غير الله تعالى، وكان يقول: اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك لعبدتُّك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحته
(3)
. والمشركون قَبْلَ بَعْثِ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعلوا هكذا، وكذلك مَنْ أدركتْه
(1)
هنا ملحق ذهب أوله بسبب البلل.
(2)
هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل، ولعلهما: فإنهم عباده.
(3)
مضى تخريجه ص 106.
البعثة لم يعملوا كذلك قبلها ولا بعدها، ولو أنهم [س 129/ب] خضعوا للحقِّ إلى هذا القَدْر لما تردَّدوا في تصديق النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبول الإسلام، لأنَّ الإسلامَ جارٍ على ذلك الأصل؛ إلا أنه فصَّل الطاعات بحججٍ بيِّنات قام البرهان أنها من عند الله عز وجل.
فعلى كلِّ حالٍ قد ثبت أنَّ ما كان عليه المشركون يوجب غضبَ الله عز وجل حتى مع صرف النظر عن نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدَّم إثباتُ أنَّ الملائكة لا يشفعون إلَّا لمن ارتضى، وهو لا يرتضي الشفاعة لمن أشرك به، فالملائكة لا يشفعون للمشركين.
وأغلب آيات الشفاعة ــ وعليها مدار محاجَّته تعالى للمشركين ــ تدور على هذا الأمر، وهو أنهم لا يشفعون إلَّا لمن ارتضى، حتى إنَّ أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي مبنيَّة عليه، [س 130/أ] فإنَّ قبلها قولَه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، أجمل في هذه الآية نَفْيَ الشفاعة وأراد بها ــ والله أعلم ــ الشفاعة المتعارَفَةَ بين الناس مِنْ أنَّ الشافع يُقْدِمُ على الشفاعة مِنْ دون إذنٍ من المشفوع إليه، وهذا تحذير للمؤمنين من الاتِّكال على الشفاعة إلى حدٍّ يتهاونون فيها بطاعة الله، ولم يقل هنا:"ولا شفاعة إلا بإذنه" أو نحو ذلك مبالغة في التحذير من الاتِّكال، ولكن نبَّه على المراد بالآية الثانية آية الكرسي، والخطاب وإن كان للمؤمنين فإنَّ فيه تعريضًا بالمشركين في اتِّكالهم على شفاعة الملائكة، ولذلك قال:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، ثم قال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذا رد على المشركين
في اتخاذهم آلهة من دونه، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [س 130/ب] هذه الصفات كان يعترف بها المشركون، ففي ذكرها استدلال على توحُّدِه عز وجل بالألوهية وعلى ما بعده وهو قوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي ــ والله أعلم ــ: أنَّ اتِّصافه بالصفات المذكورة ــ والمشركون يعترفون بذلك ــ يُحيل أن يتجرَّأَ أحدٌ مِنْ عباده على الشفاعة عنده. أي ــ والله أعلم ــ: في الآخرة مطلقًا، وفي الدنيا بالنسبة إلى الذين عنده كالملائكة.
ثم رأيت في الدُّرِّ المنثور ما لفظه: "وأخرج الطبراني في السنَّة عن ابن عباس {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يريد الذي ليس معه شريك، فكلٌّ معبود من دونه فهو خلق من خلقه لا يضرُّون ولا ينفعون ولا يملكون رزقًا ولا حياة ولا نشورًا
…
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يريد الملائكة مثل قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد من السماء إلى الأرض {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد ما في السموات، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} يريد مما أطلعهم على علمه
…
"
(1)
.
والآية التي استشهد بها هذا سياقُها: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28].
(1)
انظر: الدرّ المنثور 2/ 9 و 19.
ثم أردفها الله تعالى بتمام الاستدلال على أنَّ الشفاعة عنده لا تكون إلا بإذنه فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للملائكة كما سمعتَ عن ابن عباس. وكذا قال مقاتل فَسَّر {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بما بعد خلق الملائكة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} بما قبل ذلك. وقد علمتَ أنَّ الملائكة مذكورون قبل ذلك
(1)
، فلا [س 131/أ] مانع من عود الضمير عليهم.
{وَلَا يُحِيطُونَ} أي الملائكة {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} عز وجل {إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، فلا يعلمون بعبادة المشركين لهم ولا بحاجاتهم ومقاصدهم إلا أن يشاء الله تعالى أنْ يُعْلِمَهم، (ويؤيِّد كونَ المراد الملائكة .... )
(2)
.
فإذن الأمر كله لله، والذي ينبغي للعاقل الاهتمام به رضا الله تعالى، وفيه إشارة إلى أنَّ اتخاذهم وسائط بين العباد وربِّهم جهل؛ لأنهم لا يطَّلعون على شيء من أحوالهم إلَّا إذا أطْلَعَهم الله عز وجل، فكيف يكون الله عز وجل هو الذي يعلم بأحوالنا دون الملائكة، فيذهب العباد إلى أن يطلبوا منه تعالى أن يُطْلِع الملائكة أنهم يطلبون منهم أنْ يشفعوا لهم عند ربهم عز وجل؟ فليُرْضُوه تعالى من أوَّل الأمر ويطلبوا منه حاجاتهم.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} بيان لعِظَمِ ملكه وكمال قدرته، وشمولها كلَّ شيء وأنَّه مدبِّر كلِّ شيء، وحافظ، ولا يشقُّ عليه ذلك، فإذن هو الغنيُّ لا يحتاج إلى معونة أحد من الملائكة أو غيرهم.
(1)
هنا كلمة لم تظهر، ولعلها: صريحًا.
(2)
هذا ملحق ذهب البللُ بأكثره.
[س 131/ب] المرتبة الثانية: أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة يشفعون لهم بدون إذنٍ لما نفعهم ذلك؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي بيده ملكوت كلِّ شيء ويجير ولا يجار عليه باعتراف المشركين، فمِن ذلك قولُه تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 22 - 23]، قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني الملائكة عندما يقضي الله عز وجل القضاء بالإذن لهم لشفاعة أو غيرها.
أخرج البخاري في صحيحه والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: إنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا
(1)
لقوله كأنه سَلْسَلَة على صَفْوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قالوا للذي قال: الحقُّ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} " الحديث
(2)
.
وفي صحيح مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول
(1)
بضمِّ أوَّله ويكسر، قيل: هو مصدرٌ، وقيل: جمع خاضعٍ. النهاية 2/ 43، هدي الساري 112. قال العينيُّ:"وهذا أولى، وانتصابه على الحاليَّة". عمدة القاري 25/ 229 - 230.
(2)
انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة سبأ، باب:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، 6/ 122، ح 4800. جامع التِّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3223. سنن ابن ماجه، المقدِّمة (كتاب السنَّة)، باب فيما أنكرت الجهميَّة، 1/ 69 - 70، ح 194.
الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسًا في نفر من أصحابه فرُمِيَ بنجم فاستنار، الحديث. وفيه
(1)
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش ثم سبَّح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ويخبرُ أهلُ كلِّ سماء سماءً" الحديث
(2)
.
وفي سنن أبي داود عن ابن مسعودٍ [عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم] قال: "إذا تكلم الله تعالى [بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل
…
]
(3)
(4)
.
(1)
كلمة غير واضحة، والمثبت اجتهاد منِّي.
(2)
انظر: صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهَّان، 7/ 36، ح 2229. جامع التِّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3224. تفسير النسائيِّ، سورة الحجر، قوله تعالى:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} ، 1/ 629 - 630، ح 292.
(3)
ما بين المعقوفين غير واضحٍ في الأصل.
(4)
أخرجه البخاريُّ تعليقًا بصيغة الجزم في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، 9/ 141. وأبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن، 4/ 235، ح 4738. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب من صفة تكلُّم الله عز وجل بالوحي، 1/ 350 - 354، ح 207 - 211. والآجُرِّيُّ في الشريعة، باب ذكر السنن التي دلَّت العقلاء على أنَّ الله عز وجل على عرشه
…
، 3/ 1094، ح 669. والبيهقي في الأسماء والصفات، باب ما جاء في إسماع الربِّ عز وجل بعض ملائكته كلامه، 1/ 506 - 511، ح 432 - 434. وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 282 - 283، ح 1293.
وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وغيرهما [عن النوَّاس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بأمرٍ تكلَّم]
(1)
بالوحي، فإذا تكلَّم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مرّ بسماءٍ سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" الحديث
(2)
. وفي هذا [المعنى] آثار
…
(3)
والله أعلم
(4)
.
والدليل النظري على أنَّ الشفاعة وقوعها بدون إذنٍ منه عز وجل لا تنفع [بل][س 132/أ] تكون معصية له تعالى، وجرأة عليه؛ إذ المشركون معترفون بعظمة الله عز وجل وجلاله وكبريائه، وقد قامت الحجة عليهم أنَّ الملائكة ليسوا إلَّا خلقًا من خلقه، فلو اجترؤوا على أنْ يشفعوا لديه في حقِّ مَنْ سوَّاهم به تعالى في العبادة وعصاه بتعظيمهم لكان ظاهر ذلك رضاهم
(1)
ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل.
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره 19/ 278. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب صفة تكلُّم الله بالوحي
…
، 1/ 348 - 394، ح 206. وغيرهما كابن أبي عاصم في السنة، باب ذكر الكلام والصوت
…
، ص 226 - 227، ح 515. والآجرِّيُّ في الشريعة، الموضع السابق، 3/ 1092 - 1093، ح 668. والبيهقيُّ في الأسماء والصفات، الموضع السابق، 1/ 511 - 512، ح 435. وإسناده ضعيفٌ كما قال الألبانيُّ في تخريج السنة لابن أبي عاصم.
(3)
ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل، وهنا بضع كلمات أصابها بلل.
(4)
انظر بعض هذه الآثار في: تفسير الطبري 19/ 279 - 280.
بفعله، ورِضاهم بفعله محاربة لله عز وجل، وقد قال تعالى في الملائكة:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، وقد عصم الله الملائكة من الشفاعة بغير إذنه، وإنما هذا فرضٌ وتقدير حتى تقوم الحجة على العباد.
[س 132/ب] فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان:
إحداهما: التشبُّث بالقَدَر.
الثانية: التقليد.
قوله تعالى عقب الآية الأولى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وفي سياق الآية الثانية {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وفي سياق الثالثة: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يدل أنهم أرادوا بالتشبث بالقدر تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
كأنهم أرادوا ــ والله أعلم ــ: أنت تقول: إن الله يأمرنا بترك الشرك وترك التحريم من عند أنفسنا، وهذا باطل؛ إذ لو كان الله عز وجل يأمر بذلك كما تقول لكان يشاؤه، ولو كان يشاؤه لما وقع خلافه. فأجابهم الله عز وجل بأمرهم أن يتفكَّروا في أحوال مَن تقدّمهم من الأمم التي
(1)
كانوا على مثل حالهم من الشرك والتقوُّل على الله تعالى، وجاءهم رسل منهم يبلِّغونهم أوامره ونواهيه كما جاء محمد عليه الصلاة والسلام هؤلاء [س 133/ب] يبلِّغهم عن الله أوامره ونواهيَه، فكذَّب فريق من أولئك كما يكذِّب فريق من هؤلاء فعذَّب الله عز وجل المكذبين أولئك
(2)
، فليعتبر هؤلاء ويعلموا أنهم
(1)
كذا.
(2)
كذا.
إن أصرُّوا على التكذيب عذَّبهم الله تعالى كما عذَّب أولئك.
وهذا وإن كان ظاهره مجردَ وعيد فقد تضمَّن حجَّة بيِّنة على صدق محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم أوَّلًا وعلى سقوط شبهتهم ثانيًا.
أما الدلالة على صدق محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّ حاله في نفسه وأخلاقِه وما يدعو إليه وما جاء به من الآيات كحال الأنبياء قبله إن لم يزد عليهم لم يَقِلَّ عنهم، وقد بان صدقُ أولئك واعترف المشركون بصدقهم أو أكثرُهم وبأنَّ مَن آمن بهم من قومهم نَجا ومَنْ كذَّبهم هلك، ولا تزال آثار عذاب المكذِّبين ماثلة أمام أعينهم، ذكَّرهم الله تعالى بها في غير موضع. فثبت بهذا أنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم صادق وأنَّ الإيمان به نجاة وتكذيبه هلكة.
وأما سقوط شبهتهم فإنَّ حال أمم الأنبياء [الأولين]
(1)
عليهم السلام كحال هؤلاء سواء، وكانت [عين هذه الشبهة]
(2)
قائمة في حقهم، قالوها أم لم يقولوا، ومع [ذلك أهلكهم الله]
(3)
عز وجل باعتراف هؤلاء. فتبيَّن سقوط هذه الشبهة.
[س 134/أ] وإيضاح هذا أنَّ المشركين كانوا يعترفون بنبوَّة الأنبياء الأوَّلين أو بعضهم، وبأنَّ الله تعالى بعثهم إلى أممٍ ضالَّة ليهدوهم، وأنَّ من كذبهم أو خالفهم ظالم فاجر، مع أنَّ هذه الشبهة قائمة في حقهم؛ إذ يقال: لو شاء الله ما كذَّبوا الأنبياء ولا عادَوْهم ولا قتلُوهم.
(1)
غير واضحة في الأصل.
(2)
غير واضحة في الأصل.
(3)
غير واضحة في الأصل.
ونبَّه الله عز وجل على هذا بقوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، كأنه قال: ويلزم المشركين باعتقادهم ضلالَ مَن كذَّب الأنبياء الماضين وعاداهم أن يكونوا معتقدين بأنَّ المكذبين كانوا متمكِّنين من التصديق والطاعة، ولو جاؤوا بهذه الشبهة لكانوا مناقضين لأنفسهم في معاداة الرسل؛ إذ يلزمهم إن اعتقدوا تلك الشبهة أن يعتقدوا أنَّ ما عليه الرسل حق؛ إذ لو شاء الله تعالى ما كان منهم (من تكذيب)
(1)
الرسل ما كان، وهكذا في شأن فاعلي المحرَّمات.
فإذا وَزَنَ المشركون حالَهم بهذا الميزان تبيّن لهم قطعًا سقوط شبهتهم، أي أنها لا [تصلح]
(2)
لما قصدوه بها من تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وإثبات]
(3)
أنَّ ما هم عليه حق يحبه الله ويرضاه
…
(4)
الأنبياء الماضين وأممهم، وثانيًا: تناقض اعتقادهم في المحرمات، وثالثًا: أن [القضية بعكس ظنهم]
(5)
.
فإذًا بان لهم سقوط الشبهة بهذا التقرير، ومع ذلك كان هذا راسخًا في فِطَرِهم [س 134/ب] أنَّ ما شاءه الله عز وجل كائن لا محالة، ولم يهتدوا إلى جامعٍ بين العقيدتين فليسترشدوا عقولَهم؛ فإن العقول تقول لهم: إذا كنتم مطمئنِّين بالعقيدتين فإنكم لا بدَّ أن تطمئنُّوا بأنَّ بينهما جامعًا يدفع ما يظهر
(1)
غير واضحة في الأصل.
(2)
لم تظهر بعض حروفها في الأصل.
(3)
لم تظهر كاملة في الأصل.
(4)
هنا بضع كلمات لم تظهر في الأصل.
(5)
غير واضحة في الأصل.
من التناقض، وعِلْمُ ذلك الجامع لا يُهِمُّكُم، بل المهمُّ أن تسلكوا الطريق المنجيَ، فَدَعُوا
(1)
الشرك والتقوُّل على الله تعالى، واتَّبِعوا الرسول وأطيعوه فتكونوا عاملين بكلا
(2)
العقيدتين ناجين على كلِّ حال؛ لأنكم إذا فعلتم ذلك كنتم قد عملتم بعقيدتكم في صدق الأنبياء الماضين وما يترتَّب عليها، وبالبراهين القائمة على حقِّيَّة ما عليه محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وصحَّ مع ذلك أن يقال: إن الله عز وجل لو شاء ألَّا تتركوا الشرك لما تركتموه. [س 135/أ] فأما أن تبقوا على الشرك بعد علمكم بأن البقاء عليه ضلال موجب للهلاك والعذاب لمجرد جهلكم بالجامع بين العقيدتين، فهذه سفاهة بل جنون.
فقد تبيَّن أنَّ إرشادهم إلى النظر في حال الأنبياء المتقدِّمين مع أممهم كان في إقامة الحجَّة وأنه لا حاجة إلى فتح باب القَدَر
(3)
إقراره، واكتَفَى بالإشارة إليه بقوله تعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وقوله:{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} والله أعلم.
ثم ذكر الله عز وجل حجة أخرى لإسقاط تشبُّثهم بتلك الشبهة فقال تعالى في الموضع الأول: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وفي الموضع الثالث: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} يريد
(1)
تحتمل: وتدَعوا.
(2)
كذا.
(3)
هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل.
ــ والله أعلم ــ أنَّ زعمكم أنَّ التشبُّث بتلك الشبهة يصلح (لإثبات)[س 135/ب] كون ما أنتم عليه حقًّا يحبه الله ويرضاه ليس إلا توهُّمًا وتخمينًا أو كذبًا لعلمكم ببطلان ذلك كما تقدَّم.
وتركُ اليقين لمجرد التخرُّص والتخمين جهلٌ واضح، فدَعُوا ذلك وأخبروني: هل عندكم من دليل علميٍّ بأنَّ ما أنتم عليه من الشرك وتحريم بعض الأشياء حق يحبه الله ويرضاه؟، فلم يبق بيدهم إلَّا الشبهة الثانية وهي التقليد. قال تعالى في الموضع الثالث:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} .
فأبطل الله عز وجل شبهة التقليد بثلاثة أمور:
[س 136/أ] الأول: ما سبق ذكره أنَّ ترك اليقين لمجرَّد التخرُّص والتخمين جهل، والتقليد مبنيٌّ على تخرُّص وتخمين، لأنَّ أساسه تعظيمهم لآبائهم واستبعادهم أن يكونوا على ضلال.
الثاني: الإخبار بأنَّ الأمم الغابرة كانت تقول مثل هذا، أي: ومشركو العرب يعترفون بنبوَّة المتقدِّمين أو بعضهم، وضلالِ مكذِّبيهم، فإذا تأمَّلوا هذا عرفوا سقوط شبهة التقليد.
الثالث
(1)
: قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} ، يريد
(1)
في الأصل: (الثالثة) ، وهو سبق قلم.
ــ والله أعلم ــ: لا تحصروا نظركم في حسن الظنِّ بآبائكم، بل مع ذلك انظروا فيما وجدتموهم عليه وفيما جئتكم به، ووازِنوا بينهما؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك بإخلاصٍ تبيَّن لكم أنَّ ما جئتُكم به الحقُّ المبين، فحينئذٍ ينبغي لكم أن تَتَّبِعوا اليقين وتتركوا التوهُّم والتخمين.
ثم أخبر الله تعالى عن الأمم السابقة بأنهم بعد هذا كلِّه [س 136/ب] لجؤوا إلى العناد البحت، وهو قولهم:{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: على كلِّ حال وإن أقمتم من البراهين عدد نجوم السماء.
قال عز وجل: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يريد ــ والله أعلم ــ: فلما وقفوا هذا الموقف وهو العناد المحض بعد قيام الحجة ووضوح المحجَّة لم يبق إلَّا أن نعذِّبهم فعذَّبناهم.
والمقصود ببيان هذه توعُّد المشركين بأنهم قد قامت عليهم الحجَّة ولم يبق لهم شبهة، فوقوفُهم موقف الأمم الغابرة من العناد البحت موجبٌ للعذاب، والله أعلم.
وقد تسلسل هذا البحث وطال ولكنه لا يخلو عن فائدة في موضوع هذه الرسالة.
ولنرجع إلى بيان اعتقاد المشركين في الملائكة فأقول مستعينًا بالله تبارك وتعالى: قد علمتَ مما تقدَّم أنَّ اعتقاد المشركين في الملائكة له طرفان:
الأول: ما يتعلق بذوات الملائكة.
الثاني: [س 137/أ] فيما يُرجى منهم.
فأما الأول: فكانوا يقولون: إنهم بنات الله، تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما الثاني فكانوا يقولون: إنهم يشفعون إلى الله عز وجل، والغالب أنه تعالى يقبل شفاعتهم.
وإذا كان المقصود من هذه الرسالة هو تحقيق التأليه والعبادة فنقول: هل الاعتقاد في ذوات الملائكة أنهم بنات الله هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟
أقول: قد تقدَّم أنَّ القرآن عدّ عبادتهم للملائكة على حِدَة أي مع صرف النظر عن الاعتقاد في ذواتهم شركًا، ويشهد له قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، فجعلوا العبادة أمرًا (اختياريًّا)
(1)
يفعلونه طمعًا في الشفاعة، ولا يصح أن تفسَّر بالاعتقاد ولا بما يكون الاعتقاد ركنًا له؛ لأنهم كانوا يدَّعون أنَّ اعتقادهم في الملائكة ليس أمرًا اختياريًّا، أي: يمكنهم أن يفعلوه أو لا يفعلوه، وإنما هو كسائر الاعتقادات الاضطراريَّة كاعتقاد أنَّ لك رأسًا، ولو قالوا إنما نعتقد أنهم بنات الله ليشفعوا [س 137/ب] لنا لكان هذا اعترافًا منهم بأنهم لا يعتقدون أنهم بنات الله، وإنما يقولون ذلك بألسنتهم، وهم لم يعترفوا بهذا.
وأيضًا فقد عبدوا الأصنام مع أنهم لم يعتقدوا في ذواتها شيئًا، وقد تقدَّم في ذِكْرِ الأمم الغابرة ما هو قاطع في هذا المعنى، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
(1)
ظهرت منها الأحرف الثلاثة الأول.
[المائدة: 116]. [و]
(1)
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [المائدة: 73]. وقد تقدَّم بيان أنَّ المراد ثلاثة آلهة، وأرادوا الله تعالى وعيسى ومريم عليهما السلام. [و]
(2)
النصارى لم يعتقدوا في مريم إلا أنها امرأة من البشر، وتقدَّم بيانه.
وأوضحُ منه قولُ قومِ موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
إذن فهل اعتقادهم في الملائكة أنهم يشفعون هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟ كلَّا؛ فإنَّ هذا الاعتقاد باعث لهم على العبادة فكيف يكون هو العبادة؟
وأيضًا فهذا الاعتقاد يقال فيه ما تقدَّم في اعتقادهم في ذوات الملائكة أنهم كانوا يزعمون [س 138/أ] أنه اعتقاد راسخ في قلوبهم لا أنه من الأمور الاختياريَّة.
وأيضًا فاعتقاد أن الملائكة يشفعون في الجملة أمرٌ يقرُّ عليه الشرع ويُثْبِته، والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
إذن فما هو التأليه وما هي العبادة؟
- أعمالهم التي فيها تعظيم للإناث الخياليَّات التي هي في زعمهم الملائكة.
(1)
لم تظهر في الأصل لبلل في طرف الورقة.
(2)
لم تظهر في الأصل.
- كانوا يشركون في التلبية في الحجِّ كما صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك" فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويلكم قَدْ قَدْ أو كما قال، يعني: لا تزيدوا على هذا، فيقولون:"إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"
(1)
.
وقولهم: "لا شريك لك" أي: في التلبية.
وقولهم: "إلا شريكًا"
(2)
والله أعلم.
وقولهم: "هو لك"
(3)
.
وقولهم: "تملكه"
(4)
.
[س 138/ب] أرادوا الإناث الخياليات، والله أعلم.
وكانوا أيضًا كما تقدَّم يتَّخذون الأصنام تماثيل أو تذاكر لتلك الإناث ثم يعظِّمونها بقصد التعظيم لتلك الإناث وكانوا يَدْعُونهنَّ، وسيأتي بيان الدعاء في فصلٍ مستقلٍّ.
- وكانوا يسمُّون: عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وقد تقدَّم أنَّ هذه في الأصل أسماء ــ فيما زعموه ــ لتلك الإناث الخياليَّات.
- وكانوا يُقسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
هنا بضع كلمات لم تظهر بسبب البلل.
(3)
لم يظهر ما بعده في الأصل.
(4)
لم يظهر ما بعده في الأصل.
- وكانوا يجعلون لهم نصيبًا من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام، يظهر هذا من قول الله تبارك وتعالى: [{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
…
} الآية [الأنعام: 136]]
(1)
.
[فهذه]
(2)
الآية [تدل]
(3)
على ما ظهر لي أنهم جعلوا نصيبًا لله تعالى ونصيبًا لشركائهم.
[س 139/أ]
(4)
وقال تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)} [العنكبوت: 41 - 42]، فقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لا يصحُّ أن يكون نفيًا لأصل الدعاء كما تقول: لم أدْعُ بمعنى أنه لم يقع منك دعاء أصلًا، لأنَّ الله تعالى قد أثبت لهم الدعاء في آيات كثيرة تقدَّم بعضها، وإنما النفي مُنْصَبٌّ على {شَيْءٍ}
(5)
والمراد بالشيء هنا الثابت الموجود، والنفي منصبٌّ عليه كما في قوله تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67].
(1)
بيَّض للآية نحو سطرين وربع سطر، ولعلها ما أثبتنا.
(2)
لم تظهر في الأصل.
(3)
لم تظهر في الأصل.
(4)
خمسة الأوراق ذات الوجهين الآتية محبوكة بدبوس على الورقة التي بعدهن، والظاهر أنه من صنيع المؤلف لأنها مقصوصة من دفتر.
(5)
كتبت في الأصل: (شيئًا) ، وهو سبق قلم.
[س 139/ب] ويمكن أن يكون المراد شيئًا له بالٌ كما في قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]، وقوله عز وجل:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113].
والأوَّل أقرب.
أم كانوا على ضلال فقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} ، أي: أن ذلك الضلال الذي كنتم عليه أوجبه كفركم أوّلًا كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وكما هنا للتعليل أي: لعدم إيمانهم أول مرة عاقبهم الله عز وجل بالضلال، كما قال تعالى:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ، وقال عز وجل:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} ، وغالب ما في القرآن من نسبة الضلال إلى الله عز وجل جارٍ هذا المجرى، أي واقع عقوبة على عناد وتكبر يقع من الإنسان أولًا، ثم بين عز وجل ذلك بقوله:{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} ، وكثير من المفسرين فسروا قولهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو
مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} بأن المراد منه نفي الدعاء أصلًا، وأنهم يجحدون شركهم، وقد يؤيد ذلك قوله تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ، {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22 - 24]، والأول أرجح؛ لأن قولهم:{ضَلُّوا عَنَّا} اعتراف بأنهم كانوا يدعون، والإنكار عقب الاعتراف لا يخلو عن بُعد، بخلاف حَمْلِ قولهم:{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} ، على
(1)
؛ إذ ليس فيه إنكار وإنما فيه اعتراف آخر، وكأنهم قالوا: إنَّ الذين كنا ندعوهم لا وجود لهم هنا، بل لا وجود لهم أصلًا. والله أعلم.
[س 140/أ] وقال تبارك وتعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
…
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 35 - 38].
يعني والله أعلم: لو فُرض أنَّ تلك الإناث التي تزعمون موجودة هل في قدرتها إبطال مراد الله تعالى؟ والمقصود من هذا الفرض إلزامهم؛ فإنهم كانوا يعترفون بأنَّ الله تعالى هو الذي يجير ولا يجار عليه. فإذا اعترفوا بذلك بطل تخويفهم للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم،
…
(2)
.
[س 140/ب] مع أنه يلزم منه عدم استحقاق تلك الإناث للعبادة، فأما القصد إلى إبطال استحقاقهنَّ العبادة وإلى إبطال وجودهنَّ فقد بيَّنه الله تعالى
(1)
كلمتان أو ثلاث أصابها بلل.
(2)
بعده سطر أصابه بلل ظهر منه: "هذا تعالى لهذا".
في مواضع أخرى، والله أعلم.
[س 140/أ] ومن الثاني أي ذكر الدعاء بعنوان الملائكة قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 12 - 15]، قدَّم الله تعالى أنَّ الملائكة يسبِّحون من خيفته تمهيدًا لإبطال عبادتهم من دونه، وعقب بقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
…
} تتميمًا لذلك.
[س 141/ب] وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86].
وقد تقدَّم أنَّ الملائكة هم الذين يكذِّبون المشركين يوم القيامة، ارجع إلى ذلك في ترجمة الملائكة من فصل العبادة.
[س 142/أ] وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
…
} [الإسراء: 56 - 57]. وقد مرَّت هذه الآية في ترجمة الملائكة من فصل الألوهية فارجع إليها
(1)
.
(1)
ص 417، 419.
وقال تعالى في سورة الملائكة (فاطر)
(1)
: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} ، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
(2)
.
[س 142/ب] فمهّد الله تبارك وتعالى بذكر الملائكة وأنهم رسله، لا يمسكون ما يفتح، ولا يرسلون ما أمسك، ثم عدَّد كثيرًا من آيات وحدانيَّته إلى أن قال:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ ......... } ، فكان الظاهر أنه أراد الملائكة ليكون ذكرهم أوَّلًا أمكن في التمهيد.
وأيضًا فقد مرَّ في ترجَمَتَي الملائكة من فَصْلَي الألوهية والعبادة آيات توافق هاتين الآيتين فارجع إليه
(3)
(1)
التوضيح من المؤلف.
(2)
سورة فاطر: 13 - 14.
(3)
كذا في الأصل. وانظر ص 421 - 428.
[س 143/أ] وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ
(1)
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21].
اختار بعض المفسرين أن المراد الملائكة، وقوله:{أَمْوَاتٌ} يريد: صائرون إلى الموت كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يريد: الحياة التامَّة أو الدائمة لقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
[س 143/ب] اعتقادهم في أهوائهم
قد مرّ في فصل التأليه آيتان في أنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، ومعنى ذلك ظاهر، فإنهم شرعوا لأنفسهم الدِّين بمجرَّد هواهم، فقد أطاعوا هواهم في شرع الدين، فكما أنَّ اليهود والنصارى أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في شرع الدين فالأحبار والرهبان أطاعوا أهواءهم، وهكذا مشركو العرب أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، والرؤساء أطاعوا أهواءهم.
وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناء بذكر تأليهم للشياطين؛ فإنَّ تأليه الهوى يلزمه تأليهُ الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى.
(1)
كتبها المؤلف بالخطاب على قراءة غير يعقوب وعاصم. انظر: النشر في القراءات العشر 2/ 303.
[س 144/أ] اعتقادهم في الشياطين
فأما اعتقاد المشركين في الشياطين فلم أجد لهم اعتقادًا يخالف الحقَّ.
فأما استعاذتهم بالجنِّ الذي أخبر الله تعالى بها في قوله عن مسلمي الجنِّ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] فذاك شيء لا يصحُّ أن يكون هو المراد بالآيات الكثيرة في عبادة الشياطين.
نَعَم، كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من [وحي الشياطين]
(1)
بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم.
أعمالهم
وأمَّا أعمالهم فكانوا يطيعونهم فيما يوسوسون [به إليهم]
(2)
، والأعمال التي يتخذونها دينًا يتقرَّبون به إلى الله [سبحانه]
(3)
.
هذا مع أنهم كانوا يجهلون أنهم [يعبدون]
(4)
الشياطين، ولكنَّ الله عز وجل ألزمهم ذلك لأنهم كانوا يأخذون دينهم عن غير حجَّة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين، وذلك من وسوسة الشياطين، [س 144/ب] فقد ساوَوا اليهود والنصارى في أخذ دينهم عن غير بيِّنة من الله تعالى، وإنما الفرق أنَّ أولئك كانوا يعلمون أنهم يأخذون دينهم عن شرع الأحبار والرهبان، وهؤلاء لا يشعرون بأنهم إنما يأخذون عن شرع الشيطان.
(1)
ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل.
(2)
لم تظهر في الأصل.
(3)
لم تظهر في الأصل.
(4)
لم تظهر في الأصل.
وأمرٌ آخر ألزمهم الله تعالى به وهو أنَّ عبادتهم للإناث الخياليَّات لما كانت لمعدومٍ ترجع إلى الآمر لهم بذلك وهو الشيطان.
(ثم إنَّ)
(1)
عبادتهم للملائكة لما كان الملائكة لم يأمروا بها ولم يرضوها رجعت للآمر لهم وهو الشيطان.
وثالث: وهو أنَّ الشيطان يعترض العبادات الباطلة بما يجعلها في الصورة كأنها له.
ومن ذلك ما جاء في الصحيح أنَّ الشيطان يقارن الشمس عند ما يسجد لها المشركون
(2)
، أي: ليكون السجود في الصورة كأنه له.
[س 145/أ] بل إنَّ الشيطان يعترض العبادات الحقَّة إذا قصَّر صاحبها، يريد الشيطان أن تكون في الصورة كأنها له، فقد جاء في الحديث:"مَنْ كانت له سُتْرة فليَدْنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"
(3)
، وهذا الحديث فيه مقال،
(1)
لم تظهر الكلمتان في الأصل.
(2)
سيأتي تخريج هذا الحديث في ص 726 فصل تفسير عبادة الشياطين.
(3)
أخرجه أحمد 4/ 2. وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدنوِّ من السترة، 1/ 185، ح 695. والنسائي في كتاب القبلة، الأمر بالدُّنوِّ من السترة، 2/ 49. وابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب الأمر بالدنوِّ من السترة
…
، 1/ 410، ح 803. وابن حبان (الإحسان)، كتاب الصلاة، باب ما يكره للمصلِّي وما لا يكره، ذكر العلَّة التي من أجلها أُمِر بالدنوِّ من السترة للمصلِّي، 6/ 136، ح 2373. والحاكم في كتاب الصلاة، "لا تصلُّوا إلا إلى سترة
…
"، 1/ 251 - 252، من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه. قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.
لكن تؤيِّده الأحاديث كأحاديث أنَّ المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة، وأن المرأة تُقبل بصورة شيطان، وأن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا
(1)
، وعلَّل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كونَ الكلب الأسود يقطع الصلاة [دون]
(2)
بقيَّة الكلاب بقوله: "الكلب الأسود شيطان".
والأدلَّة في هذا كثيرة، ولتحقيق هذا البحث موضع آخر.
المقصود أنَّ الشيطان يعترض العبادات لتكون في الصورة [له].
وقال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13] ففي هذا إلزام المشركين بأنهم يدعون الشياطين.
وفيه ما مرَّ قريبًا في الأمر الثاني والثالث، والله أعلم.
[س 145/ب] فصل
معاني أعمال المشركين التي تقدَّمت كلها ظاهرة إلَّا العكوف والدعاء، فأمَّا العكوف فهو المكث عند الصنم بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالًا له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عز وجل؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عز وجل أن يكون عند الأصنام
(3)
.
(1)
سيأتي تخريج الأحاديث الثلاثة في ص 428 - 429.
(2)
لم تظهر في الأصل.
(3)
جاء في المسوَّدة هنا قوله: " وأما الدعاء فهاك بيانه: أهل اللغة متفقون" ثم أورد المؤلِّف نحو صفحة مطابقة لما عندنا في مدخل فصل في الدعاء ص 754 - 755 إلى قوله: كما تقول: سألته أن يعطيني. ثم توقَّف الكلام عن الدعاء وقَطَع من الدفتر صفحات غير قليلة، ثم قال في صفحة جديدة: حاصلُ ما تقدَّم في هذا الباب.