الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[السمة الثانية التأني في الفتيا ودفعها إلى أهلها]
إن الصحابة رضي الله عنهم تدافعوا الفُتيا، لأنهم على علمٍ وقفوا، وتدافعوا الفتيا في مسائل يسيرة، فكيف إذا جاءت المسائل الكبيرة العظيمة؟ فهل يكون من منهجهم الإسراع في الفتيا، والإسراع في الكلام؟
الجواب: ليس هذا من شأنهم؛ لأنهم على علمِ وقفوا وببصرٍ نافذ كفُّوا.
البصرُ مراد به البصيرةُ التي قال - جل وعلا - فيها آمراً نبيَّه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]
والبصيرةُ للقلب كالبصر للعين، ويُعاوَض بينهما في الاستعمال.
قال: " وببصر نافذ كفوا ".
فحين كفوا في زمن الفتن، في زمن قتل عثمان رضي الله عنه وفي زمن الخلاف بين علي
ومعاوية رضي الله عنهما، وحين كفُّوا في الفتن لما حَصَلَ ما حصل؛ إنهم ببصرٍ نافذ كفُّوا. . هناك نفاذ حين كَفوا، وليس الكفُّ عجزاً أو هرباً، وإنما هو طلبٌ للسلامة حين يَلْقَى الناسُ ربَّهم - جل وعلا -.
وقال الله - تعالى -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]
هذه الآية تبين شدة خطر القول بأن هذا حلال وهذا حرام؛ لأن المرء لا يجزم بموافقة حكم الله - جل وعلا - في المسائل الاختلافية، أو في المسائل المجتهد فيها.
وقد كان منهج السلف في هذه المسائل هو الورع والاحتياط للدين، فلا يقولون: هذا حلال، إلا لما اتضح دليله من أدلة الشرع، ولا يقولون: هذا حرام، إلا إذا اتضح دليله. . . .
وقال - تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ - وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 59 - 60]
قال العلماء في تفسير هذه الآية: كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوزُ فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط في الأحكام، وأن لا يقول أحذ في شيءٍ: هذا جائز، وهذا غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان.
ومن لم يوقن فليتق وليصمت، وإلا فهو مفترٍ على الله عز وجل، وقوله - تعالى -:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وقوله من شديد الوعيد وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يَسأل عنه الناس.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أُفْتِيَ بغير علمٍ كان إِثْمُهُ على مَنْ أفْتَاهُ» (1) .
وينبغي على المرء أن يربأ بنفسه أن يعرض دينه للخطر، وأن يعرض حسناته للذهاب بذنب يحدثه في الأمة.
(1) رواه " أبو داود " في (كتاب العلم - باب التوقي في الفُتْيا) رقم 3657 من حديث أبي هريرة، وقريب منه في سنن " ابن ماجه " رقم 53.