المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم - سير أعلام النبلاء - ط الرسالة - سيرة ٢

[شمس الدين الذهبي]

فهرس الكتاب

- ‌سنة ست من الهجرة:

- ‌غزوة ذي قرد:

- ‌مقتل أبي رافع:

- ‌قتل ابن نبيح الهذلي:

- ‌غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع:

- ‌سرية نجد: قيل إنها كانت في المحرم سنة ست:

- ‌إسلام أبي العاص مبسوطًا:

- ‌سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال:

- ‌قصة غزوة الحديبية وهي على تسعة أميال من مكة:

- ‌نزول سورة الفتح:

- ‌وفي سنة ست:

- ‌السنة السابعة:

- ‌غزوة خيبر:

- ‌فصل فيمن ذكر أن مرحبا قتله محمد بن مسلمة:

- ‌ذكر صفية:

- ‌ذكر من استشهد على خيبر:

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب ومن معه:

- ‌شان الشاة المسمومة:

- ‌غزوة وادي القرى:

- ‌سرية أبي بكر رضي الله عنه إلى نجد:

- ‌سرية عمر رضي الله عنه إلى عجز هوازن:

- ‌سرية بشير بن سعد:

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي:

- ‌سرية حنان:

- ‌سرية أبي حدرد إلى الغابة:

- ‌سرية محلم بن جثامة:

- ‌سرية عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي:

- ‌عمرة القضية:

- ‌تزويجه عليه السلام بميمونة:

- ‌ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة:

- ‌إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد:

- ‌سرية شجاع بن وهب الأسدي:

- ‌سرية نجد:

- ‌سرية كعب بن عمير:

- ‌غزوة مؤتة:

- ‌ترجمة جعفر بن أبي طالب:

- ‌ترجمة زيد بن حارثة:

- ‌ترجمة ابن رواحة:

- ‌واستشهد بمؤته:

- ‌ذكر رسل النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌غزوة ذات السلاسل:

- ‌غزوة سيف البحر:

- ‌سرية أبي قتادة إلى خضرة:

- ‌وفاة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌فتح مكة شرفها الله وعظمها:

- ‌غزوة بني جذيمة:

- ‌غزوة حنين:

- ‌غزوة أوطاس:

- ‌غزوة الطائف:

- ‌قسم غنائم حنين وغير ذلك:

- ‌عمرة الجعرانة:

- ‌قصة كعب بن زهير:

- ‌السنة التاسعة:

- ‌وفي رجب غزوة تبوك:

- ‌أمر الذين خلفوا:

- ‌موت عبد الله بن أبي:

- ‌ذكر قدوم وفود العرب:

- ‌ثم بعد أشهر، قدم وفد ثقيف:

- ‌السنة العاشرة:

- ‌وافد بني سعد:

- ‌إسلام ملوك اليمن:

- ‌حجة الوداع:

- ‌سنة إحدى عشرة:

- ‌سرية أسامة:

- ‌فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم:

- ‌باب جامع من دلائل النبوة:

- ‌باب آخر سور نزلت:

- ‌باب في النسخ والمحو من الصدور:

- ‌ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌باب: في خصائصه صلى الله عليه وسلم وتحديثه أمته بها امتثالا لأمر الله تعالى، بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث}

- ‌باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم

‌باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن عمر بن ربيعة، عن عبيد مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنبهني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: "يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع".

فخرجت معه حتى أتينا البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلا ثم قال:"ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولا، للآخرة شر من الأولى، يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة". فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فقال:"والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة". ثم انصرف، فلا أصبح ابتدئ بوجعه الذي قبضه الله فيه".

رواه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وعبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص.

وقال معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل".

ص: 453

وقال الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مرحبا بابنتي"، فأجلسها عن يمينه أو شماله، فسارها بشيء، فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار وتبكين! فلما أن قام قلت لها: أخبريني بما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي سره. فلما توفي قلت لها: أسألك بما لي عليك من الحق لما أخبرتيني قالت: أما الآن فنعم، سارني فقال:"إن جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري فنعم السلف أنا لك". فبكيت، ثم سارني فقال:"أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين -أو سيدة نساء هذه الأمة- ". يعني فضحكت. متفق عليه.

وروى نحو عروة، عن عائشة، وفيه أنها ضحكت؛ لأنه أخبرها أنها أول أهله يتبعه. رواه مسلم.

وقال عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزلت

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال:"إنه قد نعيت إلي نفسي". فبكت ثم ضحكت، قالت:"أخبرني أنه نعي إليه نفسه فبكيت"، فقال لي:"اصبري فإنك أول أهلي لاحقا بي"، فضحكت.

وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: قالت عائشة: وارأساه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك". فقالت: واثكلاه والله إني لأظنك تحب

ص: 454

موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك. فقال:"بل أنا وارأساه لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون". رواه البخاري هكذا.

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي، فقلت: وارأساه. فقال: "بل أنا والله وارأساه، وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك وصليت عليك وواريتك". فقلت: والله إني لأحسب أن لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي في آخر النهار فأعرست بها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تمادى به وجعه، فاستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله، فقال العباس: إنا لنرى برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الجنب فهلموا فلنلده، قلدوه، وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"من فعل هذا"؟ قالوا: عمك العباس، تخوف أن يكون بك ذات الجنب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنها من الشيطان، وما كان الله تعالى ليسلطه علي، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس"، فلد أهل البيت كلهم، حتى ميمونة، وإنها لصائمة يومئذ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيتي، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، وهو بين العباس وبين رجل آخر، تخط قدماه الأرض إلى بيت عائشة، قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال: تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمه عائشة؟ قلت: لا قال: هو علي رضي الله عنه.

ص: 455

وقال البخاري: قال يونس، عن ابن شهاب، قال عروة: كانت عائشة تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: "يا عائشة لم أزل أجد ألم الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم".

وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة

قالت: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به الوجع استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، قالت: لما أدخل بيتي اشتد وجعه فقال: "أهرقن علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس". فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسم، ثم طفقنا نصب عليه، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، فخرج إلى الناس فصلى بهم ثم خطبهم. متفق عليه.

وقال سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد وعبيد بن حنين، عن أبي سعيد قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله". فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، فكان المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال:"لا تبك يا أبا بكر، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر". متفق عليه.

وقال أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه أحد الأنصار، فذكر قريبا من حديث أبي سعيد الذي قبله.

ص: 456

وقال جرير بن حازم: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر". أخرجه البخاري.

وقال زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث: حدثني جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفى بخمس يقول: "قد كان لي منكم إخوة وأصدقاء وإني أبرأ إلي كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كانوا قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". رواه مسلم.

مؤمل بن إسماعيل، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه أغمي عليه، فلما أفاق قال:"ادعي لي أبا بكر فلأكتب له لا يطمع طامع في أمر أبي بكر ولا يتمنى متمن"، ثم قال:"يأبى الله ذلك والمؤمنون" -ثلاثا- قالت: فأبى الله إلا أن يكون أبي.

قال أبو حاتم الرازي: حدثناه يسرة بن صفوان، عن نافع، عن ابن أبي مليكة مرسلا، وهو أشبه.

وقال عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه،

ص: 457

فجلس على المنبر وأوصى بالأنصار، فكان آخر مجلس جلسه. رواه البخاري. ودسماء: سوداء.

وقال ابن عيينة: سمعت سليمان يذكر عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت: يا أبا عباس: وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا". قال: فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه، أهجر؟! استفهموه، قال: فذهبوا يعيدون عليه، قال:"دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه" قال: وأوصاهم عند موته بثلاث فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فنسيتها. متفق عليه.

وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال فيهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا". فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.

فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"قوموا". فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. متفق عليه.

وإنما أراد عمر رضي الله عنه التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رآه

ص: 458

شديد الوجع، لعلمه أن الله قد أكمل ديننا، ولو كان ذلك الكتاب واجبا لكتبه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولما أخل به.

وقال يونس، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فقال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس". فعاودته مثل مقالتها فقال: "أنتن صواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس". أخرجه البخاري.

وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن

أمه أم الفضل قالت: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى بنا المغرب، فقرأ بالمرسلات، فما صلى بعدها حتى لقي الله، يعني فما صلى بعدها بالناس. وإسناده حسن.

ورواه عقيل، عن الزهري، ولفظه أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات، ما صلى لنا بعدها. البخاري.

وقال موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله، حدثتني عائشة قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلي الناس"؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك. قال:"ضعوا لي ماء في المخضب". ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق فقال:"أصلى الناس"؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله فقال:"ضعوا لي ماء في المخضب". قالت: ففعلنا، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال:"أصلى الناس"؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، والناس عكوف في المجسد

ص: 459

ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء. قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يصلي بالناس، فأتاه الرسول بذلك، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك مني قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، قالت: فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد.

قال عبيد الله: فعرضته على ابن عباس ما أنكر منه حرفا. متفق عليه.

وكذلك رواه الأسود بن يزيد، وعروة، أن أبا بكر علق صلاته بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك روى الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس. وكذلك روى غيرهم.

وأما صلاته خلف أبي بكر فقال شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا.

وروى شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر.

وروى هشيم، ومحمد بن جعفر بن أبي كثر، واللفظ لهشيم، عن حميد، عن أنس، أن

النبي صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس، فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.

ص: 460

وروى سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد الطويلن عن ثابت، حدثه عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد، مخالفا بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم قال:"ادعوا لي أسامة بن زيد"، فجاء فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها. وكذلك رواه سليمان بن بلال بزيادة ثابت البناني فيه.

وفي هذا دلالة على أن هذه الصلاة كانت الصبح، فإنها آخر صلاة صلاها، وهي التي دعا أسامة عند فراغه منها، فأوصاه في مسيره بما ذكر أهل المغازي. وهذه الصلاة غير تلك الصلاة التي ائتم فيها أبو بكر به، وتلك كانت صلاة الظهر من يوم السبت أو يوم الأحد.

وعلى هذا يجمع بين الأحاديث، وقد استوفاها الحافظ الإمام الحبر أبو بكر البيهقي. رحمه الله.

وقال موسى بن عقبة: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم في صفر، فوعك أشد الوعك؛ واجتمع إليه نساؤه يمرضنه أياما، وهو في ذلك ينحاز إلى الصلوات حتى غلب، فجاءه المؤذن فآذنه بالصلاة، فنهض فلم يستطع من الضعف فقال للمؤذن:"اذهب إلى أبي بكر فمره فليصل". فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه إن قام مقامك بكى، فأمر عمر فليصل بالناس فقال:"مروا أبا بكر"، فأعادت عليه، فقال:"إنكن صواحب يوسف". فلم يزل أبو بكر يصلي بالناس حتى كان ليلة الاثنين من ربيع الأول، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الوعك وأصبح مفيقا، فغدا إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وغلام له يدعى نوبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد سجد الناس مع أبي بكر من صلاة الصبح، وهو قائم في الأخرى، فتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف يفرجون له، حتى قام إلى جنب أبي بكر فاستأخر أبو بكر، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في

ص: 461

مصلاه فصفا جميعا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر قائم يقرأ، فلما قضى قراءته قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع معه الركعة الآخرة، ثم جلس أبو بكر يتشهد والناس معه، فلما سلم أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الآخرة، ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد، والمسجد يومئذ سقفه من جريد وخوص، ليس على السقف كبير طين، إذا كان المطر امتلأ المسجد طينا، إنما هو كهيئة العريش، وكان أسامة قد تجهز للغزو.

ص: 462

باب: حال النبي صلى الله عليه وسلم لما احتضر

قال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. متفق عليه.

حدثنا أحمد بن إسحاق بمصر قال: أخبرنا عمر بن كرم ببغداد، قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الثقفي من لفظه سنة سبعين وأربع مائة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي إملاء، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: "أحسنوا الظن بالله عز وجل". هذا حديث صحيح من العوالي.

وقال سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس، قال: كانت عامة وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"، حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه. كذا قال سليمان.

وقال همام: حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن سفينة، عن أم

ص: 463

سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: "الله الله، الصلاة وما ملكت أيمانكم". قالت: فجعل يتكلم به وما يكاد يفيض. وهذا أصح.

وقال الليث، عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول:"اللهم أعني على سكرة الموت".

وقال سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنا نتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة، فلما مرض عرضت له بحة، فسمعته يقول:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ، فظننا أنه كان يخير. متفق عليه.

وقال نحوه الزهري، عن ابن المسيب وغيره، عن عائشة. وفيه زيادة: قالت عائشة: كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم: "الرفيق الأعلى". البخاري.

وقال مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس قال: لما قالت فاطمة عليهما السلام: "واكرباه" قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة". وبعضهم يقول: مبارك، عن الحسن، ويرسله.

وقال حماد بن زيد بن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثقل جعل يتغشاه -يعني الكرب- فقالت فاطمة:"واكرب أبتاه". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم". أخرجه البخاري.

ص: 464

باب: وفاته صلى الله عليه وسلم

قال أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري ونحري، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو به، فرفع بصره إلى السماء وقال:"في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى". ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده جريدة رطبة، فنظر إليها، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فنفضتها ودفعتها إليه، فاستن بها أحسن ما كان مستنا، ثم ذهب يناولنيها، فسقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا. رواه البخاري هكذا. لم يسمعه ابن أبي مليكة، من عائشة؛ لأن عيسى بن يونس قال: عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن ذكوان مولى عائشة أخبره، أن عائشة كانت تقول: إن من نعمة الله علي أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت، دخل علي أخي بسواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه، وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته له، فأمره على فيه، وبين يديه ركوة -أو علبة- فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح وجهه، ثم يقول:"لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب إصبعه اليسرى فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى، في الرفيق

ص: 465

الأعلى". حتى قبض، ومالت يده. رواه البخاري.

وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: قالت فاطمة: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي: يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أباه أجاب ربا دعاه. قال: وقالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحسوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ البخاري.

وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين سحري ونحري، في بيتي وفي يومي، لم أظلم فيه أحدا، فمن سفاهة رأيي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في حجري، فأخذت وسادة فوسدتها رأسه ووضعته من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي وألتدم. الالتدام: اللطم.

وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار: حدثنا أبو عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس أنه أتى عائشة، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بحجرتي ألقى إلي الكلمة تقر بها عيني، فمر ولم يتكلم، فعصبت رأسي ونمت على فراشي، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما لك"؟ قلت: رأسي فقال: "بل أنا وارأساه، أنا الذي أشتكي رأسي". وذلك حين أخبره جبريل أنه مقبوض، فلبثت أياما، ثم جيء به يحمل في كساء بين أربعة، فأدخل علي، فقال: يا عائشة أرسلي إلى النسوة، فلما جئن قال:"إني لا أستطيع أن أختلف بينكن، فأذن لي فأكون في بيت عائشة". قلن: نعم، فرأيته يحمر وجهه يعرق، ولم أكن رأيت ميتا قط، فقال:"أقعديني"، فأسندته إلي، ووضعت يدي عليه، فقلب رأسه فرفعت

ص: 466

يدي وظننت أنه يريد أن يصيب من رأسي، فوقعت من فيه نقطة باردة على ترقوتي أو صدري، ثم مال فسقط على الفراش، فسجيته بثوب، ولم أكن رأيت ميتا قط، فأعرف الموت بغيره، فجاء عمر يستأذن ومعه المغيرة بن شعبة، فأذنت لهما، ومددت الحجاب، فقال عمر: يا عائشة ما لنبي الله؟ قلت: غشي عليه منذ ساعة، فكشف عن وجهه فقال: واغماه، إن هذا لهو الغم، ثم غطاه، ولم يتكلم المغيرة، فلما بلغ عتبة الباب، قال المغيرة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر، فقال: كذبت، ما مات رسول الله، ولا يموت حتى يأمر بقتال المنافقين، بل أنت تحوسك فتنة.

فجاء أبو بكر فقال: ما لرسول الله؟ قلت: غشي عليه، فكشف عن وجهه، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه ثم قال: وانبياه واصفياه واخليلاه، صدق الله ورسوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر: 30] ، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 185] ، ثم غطاه وخرج إلى الناس فقال: أيها الناس، هل مع أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا.

قال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات، وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} والآيات.

فقال عمر: أفي كتاب الله هذا يا أبا بكر؟ قال: نعم قال عمر: هذا أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وثاني اثنين فبايعوه، فحينئذ بايعوه.

رواه محمد بن أبي بكر المقدمي عنه. ورواه أحمد في "مسنده"

ص: 467

بطوله عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، قال: أخبرنا أبو عمران الجوني، فذكره بمعناه.

وقال عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة قال: أخبرتني عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل علي، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشي ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه يقبله، ثم بكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.

وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى، فقال: اجلس فأبى فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها.

وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ففرقت، أو قال: فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، وعرفت حين تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. أخرجه البخاري.

وقال يزيد بن الهاد: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن

ص: 468

عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا، بعد ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح.

وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة قال: كان أسامة بن زيد قد تجهز للغزو وخرج ثقلة إلى الجرف فأقام تلك الأيام لوجع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أمره على جيش عامتهم المهاجرون، وفيهم عمر، وأمره أن يغير على أهل مؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أصيب

أبوه زيد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذع في المسجد، يعني صبيحة الاثنين، واجتمع المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية، فدعا أسامة فقال:"اغد على بركة الله والنصر والعافية". قال: بأبي أنت يا رسول الله، قد أصبحت مفيقا، وأرجو أن يكون الله قد شفاك، فأذن لي أن أمكث حتى يشفيك الله، فإن أنا خرجت على هذا الحال خرجت في قلبي قرحة من شأنك، وأكره أن أسأل عنك الناس، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يراجعه، وقام فدخل بيت عائشة، وهو يومها، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، فقال: قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا، وأرجو أن يكون الله قد شفاه، ثم ركب أبو بكر فلحق بأهله بالسنح، هنالك امرأته حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري، وانقلبت كل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتها، وذلك يوم الاثنين.

ولما استقر صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة وعك أشد الوعك، واجتمع إليه نساؤه، واشتد وجعه، فلم يزل بذلك حتى زاغت الشمس، وزعموا أنه كان يغشى عليه، ثم شخص بصره إلى السماء فيقول:"نعم في الرفيق الأعلى"، وذكر الحديث إلى أن قال: فأرسلت عائشة إلى أبي بكر، وأرسلت حفصة إلى عمر، وارسلت فاطمة إلى علي، فلم يجتمعوا حتى

ص: 469

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة، وفي يومها يوم الاثنين، وجزع الناس، وظن عامتهم أنه غير ميت، منهم من يقول: كيف يكون شهيدا علينا ونحن شهداء على الناس، فيموت، ولم يظهر على الناس، ولكنه رفع كما فعل بعيسى بن مريم، فأوعدوا من سمعوا يقول: إنه قد مات، ونادوا على الباب "لا تدفنوه فإنه حي". وقام عمر يخطب الناس ويوعد بالقتل والقطع ويقول: إنه لم يمت وتواعد المنافقين والناس قد ملأوا المسجد يبكون ويموجون، حتى أقبل أبو بكر من السنح.

وقال يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أم سلمة قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات، فمر بي جمع آكل وأتوضأ، ما يذهب ريح المسك من يدي.

وقال ابن عون، عن إبراهيم بن يزيد -هو التيمي- عن الأسود، قال: قيل لعائشة: إنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري، فانحنث فمات، ولم أشعر فيم يقول هؤلاء: إنه أوصى إلى علي. متفق عليه.

ص: 470

تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم:

قال الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي أبو بكر: أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: إني أرجو أن أموت فيه، فمات فيه.

وقال ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس، قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3] ، وتوفي يوم الاثنين.

قد خولف في بعضه، فإن عمر رضي الله عنه قال: نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} يوم عرفة يوم جمعة.

وكذلك قال عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.

وقال موسى بن عقبة: توفي يوم الاثنين حين زاغت الشمس لهلال شهر ربيع الأول.

وقال سليمان التيمي: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم العاشر من مرضه، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. رواه معتمر، عن أبيه.

وقال الواقدي: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يوما وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.

وذكر الطبري، عن ابن الكلبي، وأبي مخنف وفاته في ثاني ربيع

ص: 471

الأول.

وقال محمد بن إسحاق: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، في اليوم الذي قدم المدينة مهاجرا، فاستكمل في هجرته عشر سنين كوامل.

وقال الواقدي، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول.

ويروى نحو هذا في وفاته، عن عائشة، وابن عباس إن صح، وعليه اعتمد سعيد بن عفير، ومحمد بن سعد الكاتب، وغيرهما.

أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا علي بن محمد الفقيه، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان، عن مكحول، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأوحى إليه يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين لاثنتين وستين سنة وأشهر، وكان له قبل أن يوحى إليه اثنتان وأربعون سنة، واستخفى عشر سنين وهو يوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة، فمكث يقاتل عشر سنين ونصفا، وكان الوحي إليه عشرين سنة ونصفا، وتوفي، فمكث ثلاثة أيام لا يدفن، يدخل الناس عليه رسلا رسلا يصلون عليه، والنساء مثل ذلك.

وطهره الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب، وكان يناولهم

ص: 472

العباس الماء، وكفن في ثلاثة رياط بيض يمانية، فلما طهر وكفن دخل عليه الناس في تلك الأيام الثلاثة يصلون عليه عصبا عصبا، تدخل العصبة فتصلي عليه ويسلمون، ولا يصفون ولا يصلي بين أيديهم مصل، حتى فرغ من يريد ذلك، ثم دفن، فأنزله في القبر العباس وعلي والفضل، وقال عند ذلك رجل من الأنصار: أشركونا في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أشركنا في حياته، فنزل عهم في القبر وولى ذلك معهم.

ورواه محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان.

وعن عثمان بن محمد الأخنسي قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين حين زاغت الشمس، ودفن يوم الأربعاء.

وعن عروة أنه توفي يوم الاثنين، ودفن من آخر ليلة الأربعاء.

وعن الحسن قال: كان موته في شهر أيلول.

قلت: إذا تقرر أن كل دور في ثلاث وثلاثين سنة كان في ست مائة وستين عاما عشرون دورا، فإلى سنة ثلاث وسبع مائة من وقت موته أحد وعشرون دورا في ربيع الأول منها كان

وقوع تشرين الأول وبعض أيلول في صفر، وكان آب في المحرم، وكان أكثر تموز في ذي الحجة فحجة الوداع كانت في تموز.

قال أبو اليمن ابن عساكر وغيره: لا يمكن أن يكون موته يوم الاثنين من ربيع الأول إلا يوم ثاني الشهر أو نحو ذلك، فلا يتهيأ أن يكون ثاني عشر الشهر للإجماع أن عرفة في حجة الوداع كان يوم الجمعة، فالمحرم بيقين أوله الجمعة أو السبت، وصفر أوله على هذا السبت أو الأحد أو الاثنين، فدخل ربع الأول الأحد، وهو بعيد، إذ يندر وقوع ثلاثة أشهر نواقص، فترجح أن يكون أوله الاثنين، وجاز أن

ص: 473

يكون الثلاثاء، فإن كان استهل الاثنين فهو ما قال موسى بن عقبة من وفاته يوم الاثنين لهلال ربيع الأول، فعلى هذا يكون الاثنين الثاني منه ثامنه، وإن جوزنا أن أوله الثلاثاء فيوم الاثنين سابعه أو رابع عشره، ولكن بقي بحث آخر:

كان يوم عرفة الجمعة بمكة، فيحتمل أن يكون كان يوم عرفة بالمدينة يوم الخميس مثلا أو يوم السبت، فيبنى على حساب ذلك.

وعن مالك: قال بلغني أنه توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء.

ص: 474

باب: عمر النبي صلى الله عليه وسلم والخلف فيه

قال ربيعة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا، وتوفي على رأس ستين سنة. البخاري ومسلم.

وقال عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدي، عن أنس قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقبض أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستين. رواه مسلم.

قوله في الأول على رأس ستين سنة، على سبيل حذف الكسور القليلة، لا على سبيل التحرير، ومثل ذلك موجود في كثير من كلام العرب.

وقال عقيل، عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن المسيب بذلك. متفق عليه.

وقال زكريا بن إسحاق: عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه. ولمسلم مثله من حديث أبي جمرة عن ابن عباس.

ص: 475

وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس.

وأما ما رواه هشيم، قال: حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة فعلي ضعيف الحديث ولا سيما وقد خالفه غيره.

وقد قال شبابة، حدثنا شعبة، عن يونس بن عبيد، عن عمار مولى بن هاشم، سمع ابن عباس يقول: توفي وهو ابن خمس وستين.

وهذا حديث غريب لكن تقويه رواية هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن دغفل بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض وهو ابن خمس وستين.

وهو غسناد صحيح مع أن الحسن لم يعتمد على ما روى عن دغفل بل قال: توفي وهو ابن ثلاث وستين. قاله أشعث عنه.

وقال هشام بن حسان عنه: توفي وهو ابن ستين سنة.

وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن جرير بن عبد الله، عن معاوية، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وكذلك أبو بكر وعمر. أخرجه مسلم.

وكذلك قال سعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم. وهو الصحيح الذي قطع به المحققون، وقال قتادة: توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة.

ص: 476

باب: غسله وكفنه ودفنه صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، سمع عائشة تقول: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صده، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. صحيح أخرجه أبو داود.

وقال أبو معاوية: حدثنا بريد بن عبد الله أبو بردة، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم مناد من الداخل: "لا تخرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه".

وقال ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، وعليه قميصه وعلى يد علي رضي الله عنه خرقة يغسله بها، فأدخل يده تحت القميص وغسله والقميص عليه فيه ضعف.

وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم غسله علي،

ص: 477

وأسامة، والفضل بن العباس، وأدخلوه قبره، وكان علي يقول وهو يغسله: بأبي وأمي، طبت حيا وميتا.

مرسل جيد.

وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: قال: قال علي: غسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا.

وولى دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا.

وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا أبو عمر كيسان، عن مولاه يزيد بن بلال قال:

سمعت عليا رضي الله عنه يقول: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يغسله أحد غيري، فإنه "لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه". قال علي: فكان العباس، وأسامة، يناولاني الماء، وراء الستر، وما تناولت عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا، حتى فرغت من غسله.

كيسان القصار يروى عنه أيضا القاسم بن مالك، وأسباط، ومولاه كأنه مجهول، وهو ضعيف.

وقال أبو معشر: عن محمد بن قيس، قال: كان الذي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، والفضل بن عباس يصب عليه، قال: فما كنا نريد أن نرفع منه عضوا لنغسله إلا رفع لنا، حتى انتهينا إلى عورته فسمعنا من جانب البيت صوت:"لا تكشفوا عن عورة نبيكم". مرسل ضعيف.

وقال ابن جريج: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: غسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا بالسدر، وغسل من بئر بقباء كان يشرب منها.

وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في

ص: 478

ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه.

ولمسلم فيه زيادة وهي: سحولية من كرسف.

فأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها اشتريت له حلة ليكفن فيها، فتركت الحلة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها لنفسي حتى أكفن فيها، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها. رواه مسلم.

وروى علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أدرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة يمانية، ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب.

وروى نحوه القاسم عن عائشة.

واما ما روى شعيب، عن الزهري، عن علي بن الحسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب أحدها برد حبرة، وروى نحو ذا عن مقسم، عن ابن عباس، فلعله قد اشتبه على من قال ذلك، بكونه صلى الله عليه وسلم أدرج في حلة يمانية، ثم نزعت عنه.

وقال زكريا عن الشعبي، قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية برود يمنية غلاظ: إزار ورداء ولفافة.

وقال الحسن بن صالح بن حي، عن هارون بن سعد، عن أبي وائل قال: كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنط به. وقال علي: هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس،

ص: 479

عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه ثم أدخل العبيد، لم يؤمهم أحد.

وقال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: وجدت بخط أبي، قال: لما كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على سريره، دخل أبو بكر، وعمر، ونفر من المهاجرين والأنصار فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كذلك، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، حتى أعز الله دينه، وتمت كلمته وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبغي بالإيمان بدلا، ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس: آمين آمين، فيخرجون ويدخل آخرون، حتى صلى عليه الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان. مرسل ضعيف لكنه حسن المتن.

وقال سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد -وكان من أصحاب الصفة- قال: قالوا: هل ندفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأين يدفن؟ فقال أبو بكر: حيث قبضه الله، فإنه لم يقبض روح إلا في مكان طيب، فعلموا أنه كما قال.

زاد بعضهم بعد سلمة "نعيم بن أبي هند".

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول

ص: 480

الله صلى الله عليه وسلم كان أبوعبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة، فأرسل العباس خلفهما رجلين، وقال: اللهم خر لرسولك، أيهما جاء حفر له، فجاء أبو طالحة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الواقدي: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع قبره، فقال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم. وقال قائل: عند منبره، وقال قائل: في مصلاه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي".

وقال ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا -وكان من أعبر الناس- قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجرتي، فقال: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة هذا خير أقمارك.

وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عباس بن عبد الله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعًا على سريره من حين زاغت الشمس يوم الثلاثاء يصلون الناس عليه، وسريره على شفير قبره، فلما أرادوا أن يقبروه، نحوا السرير قبل رجليه، فأدخل من هناك، ونزل حفرته العباس وعلي، وقثم بن العباس، والفضل بن العباس، وشقران.

وقال ابن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن

ص: 481

ابن عباس، قال: كان الذين نزلوا القبر، فذكرهم سوى العباس، وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته أخذ قطيفة حمراء قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، فدفنها معه في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت معه.

وقال أبو جمرة، عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي ألقى في قبره قطيفة حمراء.

أخرجه مسلم.

وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: حدثني أبو مرحب قال: كأني أنظر إليهم في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أحدهم عبد الرحمن بن عوف.

وقال سليمان التيمي: لما فرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه، صلى الناس عليه يوم الاثنين والثلاثاء، ودفن يوم الأربعاء.

وقال أبو جعفر محمد بن علي: لبث يوم الاثنين ويوم الثلاثاء إلى آخر النهار.

وقال ابن جريج: مات في الضحى يوم الاثنين. ودفن من الغد في الضحى. هذا قول شاذ، وإسناده صحيح.

وقال ابن إسحاق: حدثتني فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة أنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء.

قال ابن إسحاق: وكان المغيرة بن شعبة يدعى قال: أخذت خاتمي فألقيته في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت حين خرج القوم: إن خاتمي قد سقط في القبر، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله، فأكون آخر الناس عهدا به. هذا حديث منقطع.

ص: 482

وقال الشافعي في "مسنده": أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت التعزية، وسمعوا قائلا يقول:"إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب".

وأخرج الحاكم في "مستدركه" لأبي ضمرة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عزتهم الملائكة يسمعون الحس، ولا يرون الشخص، فذكر نحوه.

وقد تقدم صلاتهم عليه من غير أن يؤمهم أحد، فالله أعلم.

ص: 483

صفة قبره صلى الله عليه وسلم:

قال عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم، قال: قلت لعائشة: اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود هكذا.

وقال أبو بكر بن عياش، عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما. أخرجه البخاري.

وقال الواقدي: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطوحا. هذا ضعيف.

وقال عروة عن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

قالت: ولال ذلك لأبرز قبره، غير أنه خاف أو خيف أن يتخذ مسجدا. أخرجه البخاري.

ص: 484

باب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ولم يوص إلى أحد بعينه بل نبه على الخلافة بأمر الصلاة

قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيرا، فقال: راغب، راهب. قالوا: استخلف. فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا؟ لوددت أن حظي منكم الكفاف لا علي ولا لي، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: فعرفت أنه غير مستخلف حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. واتفقا عليه من حديث سالم بن عبد الله، عن أبيه.

وقال الثوري، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن تستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها. إسناده حسن.

وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف

ص: 485

أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه. فلما ذه عبد الرحمن ليقوم قال: أبي الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر.

ويروى عن أنس نحوه.

وقال شعيب بن ميمون، عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي، عن أبي وائل، قال: قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف. تفرد به شعيب، وله مناكير.

وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن ابن عباس أخبره، أن عليا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه، فقال الناس: يا أبا

حسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده العباس فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفاه الله من وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فاوصى بنا، قال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ورواه معمر وغيره.

وقال أبو حمزة السكري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قال العباس لعلي رضي الله عنهما: إني أكاد أعرف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، فانطلق بنا نسأله، فإن يستخلف منا فذاك، وإلا أوصى بنا فقال علي للعباس كلمة فيها جفاء، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: ابسط يدك فلنبايعك قال: فقبض يده قال الشعبي: لو أن عليا أطاع العباس -في أحد الرأيين- كان خيرا من حمر النعم. وقال: لو أن

ص: 486

العباس شهد بدرا ما فضله أحد من الناس رأيا ولا عقلا.

وقال أبو إسحاق عن أرقم بن شرحبيل: سمعت ابن عباس يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص.

وقال طلحة بن مصرف: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: لا. قلت: فلم أمر بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله. قال طلحة: قال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزام. متفق عليه.

وقال همام عن قتادة عن أبي حسان أن عليا قال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا خاصة دون الناس إلا ما في هذه الصحيفة

الحديث.

وأما الحديث الذي فيه وصية النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة، والصيام، والزكاة"، فذكر حديثا طويلا موضوعا، تفرد به حماد بن عمرو -وكان يكذب- عن السري بن خالد عن جعفر الصادق عن آبائه. وعند الرافضة أباطيل في أن عليا عهد إليه.

وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: أوصى للرهاويين بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وللشنيين بجاد مائة وسق، للأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر، وأوصى بتنفيذ بعث أسامة، وأوصى أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. مرسل.

ص: 487

وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير بن عبد الله قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا عمرو، فجعلت أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لي: إن كان ما تقول حقا مضى صاحبك على أجله منذ ثلاث. قال: فأقبلت وأقبلا معي، حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة، فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون، فقالا لي: أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا إن شاء الله سنعود، ورجعا إلى اليمن، وذكر الحديث. أخرجه البخاري.

ص: 488