الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك الوقت؛ لذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع من أسلم من الأنصار ليقرأ عليهم القرآن ويعلمهم أمور دينهم ، وذلك في هجرته الأولى إلى المدينة.
المبحث الثاني: عذابه وابتلاؤه وصبره رضي الله عنه
-:
ومما كان ظاهراً في مكة ، الترصد لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك بصر عثمان بن طلحة بمصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يصلي ، فأخبر أمه وقومه لتبدأ مرحلة جديدة من العذاب والنكال ، فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى (1). وقد خرجت أمه حين علمت بإسلامه ناشرةً شعرها ، وقالت: لا ألبس خِماراً، ولا أستظلُّ، ولا أدَّهنُ ولا آكلُ طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تدع ما أنت عليه، فقال أخوه أبو عزيز بن عمير: يا أمه دعيني وإياه فإنه غلام عاف ولو أصابه بعض الجوع لترك ما هو عليه ، ثم أخذه وحبسه (2).
ولقد مر بمصعب رضي الله عنه ألوانٌ من العذاب كغيره من الصحابة رضي الله عنهم بل أشد؛ وذلك لفارق ما كان عليه في الجاهلية وما وقع عليه بعد إسلامه ، فالأم التي كان لا يشغل بالها إلا ابنها من فرط حبها له، أصبحت معولاً هداماً لذلك الجسم المنعم ، فلا تتردد في تعذيبه ، وحرمانه مما كان عليه سابقاً ، بل كانت تعين قومه
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى ،3/ 117.
ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب ،4/ 1474.
ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة ،5/ 175.
(2)
البلاذري: جمل من أنساب الأشراف ،9/ 406. وغلام عاف أي: وافر اللحم. الخطابي: غريب الحديث ، 2/ 293.
عليه ، حتى " أصابه من الشدة ما غَيَّر لونه وأذهب لحمه، ونهكت جسمه حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها، وكان بنوها يحشون فاهها بشجار، وهو عود ، فيصبون فيه الحساء لئلا تموت "(1).
ولذا تغيرت حياة مصعب بن عمير رضي الله عنه وتبدلت أحواله في ملبسه ومأكله وشأنه كله ، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير رضي الله عنه، وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة، والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟» قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنتم اليوم خير منكم يومئذ» (2).
وعن عروة بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير رضي الله عنه عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَس القوم، فجاء فسلم ، فردوا عليه، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وأثنى عليه، ثم قال: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله ، ثم خرج من ذلك
(1) عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام ، 4/ 52.
(2)
الترمذي: سنن الترمذي ، كتاب أبواب صفة القيامة والرقائق والورع ، باب حديث علي في ذكر مصعب بن عمير
…
، 4/ 647 ، رقم 2476 ، هذا حديث حسن غريب.
ابتغاءَ مرضاة الله ونصرة رسوله، أما أنه لا يأتي عليكم إلا كذا وكذا حتى يُفتح عليكم فارس والروم، فيغدو أحدكم في حلة ويروح في حلة، ويُغدى عليكم بقصعة ، ويُراح عليكم بقصعة». قالوا: يا رسول الله، نحن اليوم خير أو ذلك اليوم؟ قال:«بل أنتم اليوم خيرٌ منكم ذلك اليوم أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها» (1).
وفي لفظ ، أقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه رضي الله عنهم عليه قطعة نمرة قد وصلها بإهاب قد ودنه ، فلما رآه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نكسوا رؤوسهم رحمة له ليس عندهم ما يغيرون عنه ، فسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن عليه الثناء ، وقال:«الحمد لله ليقلب الدنيا بأهلها ، لقد رأيت هذا (يعني مصعباً) وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيما منه ، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله» (2).
(1) الحاكم: المستدرك على الصحيحين ، كتاب الإيمان ، باب ذكر مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه ، 3/ 728 ، رقم 6640. حكم عليه السيوطي في الفتح الكبير في ضم الزيادة الى الجامع الصغير بالإرسال، 3/ 40. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 9/ 347 ، رقم 4356.
(2)
ابن سعد: الطبقات الكبرى ، 3/ 86. وفي لفظ آخر ، عن عروة بن الزبير، قال: أقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه عليه قطيفة نمرة، وقد وصل إليها إهاباً، فلما رآه أصحابه نكسوا رحمة له، وليس عندهم ما يعودون عليه، فسلَّم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وقال خيرا، وقال صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله تبارك وتعالى لِتَقَلُّبِ الدنيا بأهلها، رأيت هذا بمكة ما من فتى من قريش أنعم عند أبويه يكرمانه وينعمانه، ثم أخرجه من ذلك حب الله وحب رسوله، ونصر الله ونصر رسوله
…
». المعافى بن عمران الموصلي: كتاب الزهد ، ص300 ، وقال: اسناده ضعيف. وقطعة نمرة: أُخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. وإهاب قد ودنه أي: جلد بله بماء ليخضع ويلين. ابن منظور: لسان العرب ، 5/ 236 - 13/ 445.
وأما في حصار الشعب فقد بلغ الجهد منه رضي الله عنه مبلغه ، فلم يعد يقدر على المشي مع ما أصاب جسده من ضعف بعد ما كان مرفهاً مدللاً ،فقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان مصعب بن عمير أترف غلام بمكة بين أبويه، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، ولقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته يتقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القِسِيَّ (1)، ثم نحمله على عواتقنا (2).
ومنه يتبين مدى الابتلاء الذي تعرض له مصعب بن عمير رضي الله عنه بعد إسلامه ويتمثل فيما يأتي:
1 -
الأذى المادي: إذ قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها لا سيما من قبل أمه ، حتى أصبح لا يجد ما يلبس إلا فروة لا تكاد تواريه.
2 -
الأذى الجسدي: فقد ذبل جسمه وتغيّر لونه وأصابه من الجوع ما لا يستطيع الوقوف معه.
3 -
الأذى النفسي: إذ كان يرى أمه وهي تنشر شعرها وتخرج ويراها وهي تقف في الشمس نكاية به حتى يرجع عن دينه.
مما يبين بجلاء نجاح التربية النبوية في غرس المبادئ والثبات عليها في نفوس الصحابة رضي الله عنهم ، وهو ما نحتاجه اليوم في تربيتنا للأجيال على مبادئ الكتاب والسنة والصبر على ما يواجهونه من مصاعب في سبيل ذلك.
(1) القِسِيّ: بكسر القاف والسين وتشديد الياء جمع قوس. النووي: تحرير ألفاظ التنبيه ، ص188.
(2)
اسماعيل محمد الأصبهاني: سير السلف الصالحين ، ص659.
الحافظ الذهبي: سير أعلام النبلاء ، 1/ 148.