الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخشى على قائل ذلك الكفر؛ لأن الفتوى تبيين حكم الله تعالى وأصلها تبيين ما أشكل، والمفتي بحق مبيّن لحكم الله تعالى، وهو وارث النبوة، والقاضي يفصل ويلزم بمقتضى الفتوى، قال الله تعالى:(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) النساء/17
6
. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) غافر/20. فكل من المفتي أو القاضي بحق له أجر عظيم، والمفتي أعلى والقاضي تابع له؛ لأنه -وإن كان مجتهد فتوى- تابعٌ لفتوى إمامه، فمن زعم أن المفتي يهذي مع اعتقاد أن فتواه صواب فيما أخبر به عن الله تعالى فهو كافر، ومن أطلق تلك العبارة فإنما هو لجهله بمعناها واعتقاده أن الفتوى لا إلزام فيها، وليس كذلك بل يلزم المستفتي الأخذ بها، إلا أن كان عنده ما هو أرجح منها، وتصور اختلاف بين مفتٍ بحق وقاضٍ كذلك إنما هو لاختلاف تصوير أو نحوه، فإن القاضي يبحث ويستكشف أكثر من المفتي، أما مفتٍ أو قاضٍ بغير حق فليس الكلام فيه.
وما ذكره أن المفتي أعلى من القاضي فإنما يتضح فيما أومأ إليه كلامه من أن القاضي تابع له ولو مجتهد فتوى، أما بالنسبة لأصل منصب القضاء بحق ومنصب الإفتاء بحق، فالظاهر أن الأول أفضل؛ لأن فيه إفتاء وإلزاما بالحق وتحرياً وتقصياً أشد مما في الإفتاء، فإن المفتي إنما يتحرى في تحرير الحكم، والقاضي يتحرى فيه، وفي مطابقة الصورة الخارجية له، ولا يتم له ذلك إلا بعد مزيد تحّر وفحص وتعقب تام، فكان منصب القاضي أفضل للأخبار الصحيحة المصرحة بأن أفضل الأعمال أشقها إلا لعارض، وعلى هذا يحمل قول من قال: أفضل المراتب الإمامة العظمى فالقضاء فالإفتاء.
6 -
وأفتى أيضا فيما نسب إليه مكفر كذبا، فطلب من شافعي أن يحكم بحقن دمه حتى لا يرفع لمالكي بيّنة زور فيهدره ولا تقبل توبته، فهل للشافعي أن يحكم بحقنه وعدم تعزيره، وإن لم يقم عنده بيّنة بذلك؟
فقال ما حاصله: الذي أراه أنه إذا تلفظ بين يدي شافعي مثلا بكلمة الإسلام، وطلب منه الحكم له بذلك، وقد ادعى عليه بخلافه جاز له الحكم بإسلامه وعصمة دمه وعدم تعزيره، ولا يحتاج لاعترافه بمكفر، لأنه قد يكون بريئاً، فإلجاؤه للكذب بذلك لا معنى له، بل لا يجوز أمره بذلك.
ويكفي في الحكم استناده لما سمع منه من إسلامه، وبه يمتنع على المالكي التعرض له؛ لأن إسلامه الآن وعصمة دمه مقطوع به.
أما فرض أنّه بريء فواضح أو أنه فعل مكفراً فإسلامه ماح له، فعصمته ثابتة قطعاً، والحكم بالحق حق ولا يقدح في ذلك أن إسلامه الآن إنشاء، وشرط الحكم بصحته سبق مكفر؛ لأنه إنما حكم بالعصمة وهي مستندة إلى مقطوع به، إسلامه المستمر أو المنشأ فلم يضر الشك في تعيينه.
ولذلك نظائر: منها: ما لو قال موكل في شراء جارية بعشرين: إنما أمرتك بعشرة، فإنه يحلف ويقع شراء الجارية ظاهراً للوكيل.
ويستحب للحاكم أن يرفق بالموكل حتى يقول للوكيل: إن كنت أمرتك بعشرين فقد بعتكها بها بلا تعليق فيقبل لتحل له باطناً بتقدير صدقه، ووافقنا المالكية على ذلك، ولو طلب الوكيل حينئذ الحكم بصحة ملكه لها أجيب بلا شك، فيحكم له بالملك وحل التصرف المترتب عليه لتحقق سببه، إما بالشراء الأول أو الثاني، وإن كان مبهما لا بصحة الشراء الثاني، لأنه لم يتحقق سببه لاحتمال كذبه، فيكون شراؤه الأول صحيحا حكما، وجاز حكمه بذلك مع إبهام سببه، فكذا في مسألتنا يحكم بالعصمة لتحقق سببها من الإسلام المستمر أو المنشأ.
ولنا أن نقول له هنا أيضا: أن يحكم بصحة إسلامه، ويفرق بينه وبين ما مرّ من عدم الحكم بصحة الشراء الأول بأن البيع يشترط لصحته أمور منها: الملك، ونحن شاكون في ملك الموكل وحاكمون بملك الوكيل لها ظاهرا، فلا يتصور مع ذلك الحكم بصحة الشراء الثاني للشك في سببه، وأما الإسلام فلا يتصور أن يقع غير صحيح، إذ التلفظ بكلمة الإسلام، إما إقرار كلا إله