الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتمات وفوائد
منها:
1
- قد مرَّ أن السحر قد يكون كفراً، وغرضنا الآن استقصاء ما يمكن من الكلام فيه، وفي أقسامه وحقيقته، وبيان أحكامه ردعاً لكثيرين انهمكوا عليه وعلى ما يقرب منه، وعدّوا ذلك شرفاً وفخراً فنقول:
مذهبنا في السحر ما بسطناه فيما مرَّ. وحاصله أنه إن اشتمل على عبادة مخلوق كشمس أو قمر أو كوكب أو غيرها أو السجود له أو تعظيمه كما يعظم الله سبحانه وتعالى، أو اعتقاد أن له تأثيراً بذاته أو تنقيص نبي أو ملك بشرطه السابق، أو اعتقد إباحة السحر بجميع أنواعه كان كفراً وردة، فيستتاب الساحر فإن تاب وإلا قتل.
والسحر له حقيقة عند عامة العلماء خلافاً للمعتزلة وأبي جعفر الاستراباذي وسيأتي لذلك مزيد.
وقد يأتي الساحر بفعل أو بقول يغيّر حال المسحور فيمرض ويموت منه، إما بواصل إلى بدنه من دخان أو غيره أو دونه.
ويحرم فعله إجماعاً ويكفر مستبيحه. وفي الحديث: (لَيْسَ مِنْا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ) ومن يحسنه إن وصفه كفر كالتقرب إلى الكواكب
السبعة وأنها تحسنه أو أنه يفعل به دون قدرة الله تعالى كفر، كما علم مما مرّ، وإلا لم يكفر.
وتعلمه إن لم يحتج لاعتقاد هو كفر، قيل: حلال وهو ما في الوسيط كمقالات الكفرة وقد يقصد به دفع ضرره وكمعرفة حقائق الأشياء، وقيل: يكره، والأكثرون على حرمته مطلقاً لخوف الافتتان والإضرار.
ويحرم التكهن وإتيان الكاهن وتعلم الكهانة، وكذا التنجيم والضرب بالرمل والشعير والحصا والشعبذة، وأما الحديث الصحيح: (كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ الرمل فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ
…
) فمعناه فمن علمتم موافقته، فالجواز معلق بمعرفة الموافقة، ونحن لا نعلمها هذا حاصل كلام أئمتنا.
وأما الإمام مالك رحمه الله تعالى فقد أطلق هو وجماعة سواء الكفر على الساحر وأن السحر كفر، وأن تعلمه كفر كذلك، وأن الساحر يقتل ولا يستتاب سواء سحر مسلما أم ذمياً كالزنديق، ولبعض أئمة مذهبه كلام نفيس في المسألة فيه استشكالات ما ذهب إليه إمامه وبيان حقيقة السحر.
وحاصله أن الطرطوشي قال: قال مالك وأصحابه: الساحر كافر فيقتل ولا يستتاب، سحر مسلماً أو ذمياً كالزنديق، قال محمد: إن أظهره قبلت توبته، قال أصبغ: إن أظهره ولم يتب فقتل فماله لبيت المال، وإن تستر فلورثته من المسلمين، ولا آمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم، قال: ومن قول علمائنا القدماء لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله تعالى بأنه كفر، قال أصبغ: يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته ولا يلي قتله إلا السلطان، ولا يقتل الذمي إلا أن يضر المسلم بسحره فيكون نقضا فيقتل، ولا يقبل منه الإسلام، وإن سحر أهل ملته أدب إلا أن يقتل أحداً فيقتل به.
وقال سحنون: يقتل إلا أن يسلم وهو خلاف قول مالك، ويؤدب من تردد إلى السحرة إذا لم يباشر سحراً ولا علمه، لأنه لم يكفر، ولكنه ركن للكفرة.
قال: وتعلمه وتعليمه عند مالك كفر.
وقالت الحنفية: إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وإن اعتقد أنه تخييل وتمويه لم يكفر.
وقالت الشافعية: يصفه فإن وجدنا فيه كفراً كالتقرب للكواكب ويعتقد أنها تفعل فيلتمس منها فهو كفر، وإن لم نجد فيه كفراً، فإن اعتقد إباحته فهو كفر.
قال الطرطوشي: وهذا متفق عليه؛ لأن القرآن نطق بتحريمه، واحتج من لا يقول: إن تعلمه كفر، بأن تعلم الكفر ليس بكفر، فإن الأصولي يتعلم جميع أنواع الكفر ليحذر منه ولا يقدح في شهادته ومأخذه، فالسحر أولى أن لا يكون كفراً، ولو قال الإنسان: أنا تعلمت كيف يكفر بالله لأجتنبه، أو كيف الزنا أو أنواع الفواحش لأجتنبها لم يأثم.
قال القرافي: هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة أن نكفرهم بها كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة كذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو في قبور الموتى أو في باب يفتح إلى الشرق، ويعتقدون أن الآثار تحدث عن تلك الأمور بخواص نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار عند صدق العزم، فلا يمكننا تكفيرهم بجمع العقاقير ولا بوضعها في الآبار ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك للفعل؛ لأنهم جرّبوا ذلك فوجدوه لا يخرم عليهم لأجل خواص نفوسهم، فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء عند شرب الأدوية وخواص النفوس، ولا يمكن التكفير بها لأنها ليست من كسبهم، ولا كفر بغير مكتسب.
وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله فهذا خطأ؛ لأنها لا تفعل ذلك، وإنما جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله تعالى بها تلك الآثار
عند ذلك الاعتقاد، فيكون ذلك الاعتقاد في الكواكب، كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر والسقمونيا عقد البطن وقطع الإسهال، وأما تكفيرهم بذلك فلا، وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين تقدرها لا بقدرة الله تعالى، فقد قال بعض علماء الشافعية: هذا مذهب المعتزلة من استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى، فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء، ومنهم من فرق بأن الكواكب مظنة العبادة، فإذا انضم إلى ذلك اعتقاد القدرة والتأثير كان كفراً.
وأجيب عن هذا الفرق بأن تأثير الحيوان في القتل والضر والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم.
وأما كون المشتري أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين للمنجمين، لا حجة في ذلك، وقد عبدت البقر والشجر فصار هذا الشيء مشتركا بين الكواكب وغيرها والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستلقة بنفسها لا تحتاج إلى الله تعالى، فهذا مذهب الصابئة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها.
وأما قول الأصحاب أنه علامة الكفر فمشكل، لأنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه الله تعالى ورسوله بعد عمل هذه العقاقير كحاله قبل ذلك، وإذا أرادوا الخاتمة فمشكل؛ لأنا نكفر في الحال بكفر واقع في المآل.
والمستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنه لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحراً مشتملاً
على الكفر، كما قاله الإمام الشافعي، وقول الإمام مالك: إن تعلمه وتعليمه كفر في غاية الإشكال، إذ هو خلاف القواعد، وقال قبل ذلك: والصواب أن لا يقضي بهذا حتى يبين معقول السحر، إذ يطلق على معان مختلفة، وبيانها أن الفخر الرازي رحمه الله تعالى قال: استحدث الخوارق، إن كان بمجرد النفس فهو السحر، وإن كان على سبيل الاستعانة بالفلكيات فذلك دعوة الكواكب، وإن كان على سبيل طرح القوى السماوية بالقوى الأرضية فذلك الطلسمات، وإن كان على سبيل اعتبار النسب الرياضية فذلك الحيل الهندسية، وإن كان على سبيل الاستغاثة بالأرواح الساذجة فذلك العزيمة انتهى.
قال القرافي: والسحر: اسم يقع على حقائق مختلفة وهي السيميا والهيميا وخواص الحقائق من الحيوانات وغيرها، والطلسمات والأوفاق والرقى والعزائم والاستخدامات.
فالسيميا: عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص أو كلمات خاصة توجب تخيلات خاصة، وإدراك الحواس الخمس أو بعضها لحقائق خاصة من المأكولات والمشمومات والمبصرات والملموسات والمسموعات، وقد يكون لذلك وجود يخلقه الله تعالى إذ ذاك، وقد يكون لا حقيقة له، بل هي تخيلات.
والهيميا: امتيازها عن السيميا بأن الآثار الصادرة عنها تضاف للآثار السماوية من الاتصالات الفلكية وغيرها من أحوال الأفلاك، فتحدث جميع ما تقدم ذكره فخصصوا الواحد بالسيميا والآخر بالهيميا.
والخواص للحيوانات كثيرة. ذكروا منها أنه يؤخذ سبعة أحجار ويرجم بها كلب شأنه أنه إذا رمي بحجر عضه فإذا رمي بسبعة أحجار وعضها كلها لقطت
بعد ذلك وطرحت في ماء فمن شرب منه ظهر فيه إشارة خاصة يعبر عنها السحرة فهذه تثبت للسحر.
وليس ما يذكره الأطباء من الخواص في هذا العالم للنباتات وغيرها من هذا القبيل، ولا يشك في الخواص في هذا العالم. فمنها ما يعلم كاختصاص النار بالإحراق، ومنها ما لا يعلم مطلقا، ومنها ما تعلمه الأفراد كالحجر المكرم وما
يصنع منه الكيمياء ونحو ذلك، كما يقال: إن في الهند شجراً إذا عمل منه دهن ودهن به إنسان لا يقطع فيه الحديد، وشجراً آخر إذا استخرج منه دهن وشرب على صورة خاصة مذكورة عندهم بالعمليات استغنى عن الغذاء، وأمن من الأمراض والأسقام، ولا يموت بشيء من ذلك، وطالت حياته أبداً حتى يأتي من يقتله، أما موته بالأسباب العادية فلا.
وخواص النفوس لا شك فيها فليس كل أحد يؤذي بالعين، والذين يؤذون بها تختلف أحوالهم في ذلك، فمنهم من يصيد بالعين الطير من الهواء ويقلع الشجر العظيم من الثرى، وآخر إنما يصل لتمريض لطيف، ومن الناس من طبع على صحة الحزر ولا يخطئ غالباً، ثم نجد واحداً له خاصية في علم الكشف، وآخر في الرمل، وآخر في النجم، ومن خواص النفوس ما يقتل.
وفي الهند جماعة إذا ركبوا نفوسهم لقتل شخص مات، ثم إذا شق صدره في الوقت لا يوجد قلبه بل انتزعوه من صدره بالهمة والعزم وقوة النفس، ويجربون بالرمل فيجمعون عليه همتهم فلا يوجد فيه حبة، وخواص النفوس كثيرة.
والطلسمات: نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهل هذا العلم في أجسام من المعادن أو غيرها، فلا بدّ في الطلسم من هذه الثلاثة الأسماء المخصوصة وتعلقها ببعض أجزاء الفلك، وجعلها في جسم من الأجسام، ولا بدَّ مع ذلك من قوة نفس صالحة لهذه الأعمال، فليس كل النفوس مجبولة على ذلك.
والأوفاق: ترجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص، وهذا كأن يكون شكل من تسعة بيوت مبلغ العدد من كل جهة خمسة عشر هو لتيسير
العسير وإخراج المسجون ووضع الجنين، وكل ما كان من هذا المعنى، وضابطه بطد زهج واح، وكان الغزالي يعتني به كثيراً حتى نسب إليه.
والرقى: ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة، ولا يقال لفظ الرقى على ما يحدث ضرراً، بل ذاك يقال له: السحر، وهذه الألفاظ منها مشروع كالفاتحة، وغير مشروع كرقى الجاهلية والهند وغيرهما، وربما كان كفراً فنهى الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقى بالعجمية.
والعزائم كلمات يزعم أهل هذا العلم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله تعالى هذا الملك وجد الجان يعبثون بالناس في الأسواق ويخطفونهم من الطرقات، فسأل الله تعالى أن يولي على كل قبيلة من الجن ملكاً يضبطهم عن الفساد، فولى الله تعالى الملائكة على قبائل الجان فمنعوهم من الفساد ومخالطة الناس، وألزمهم سليمان عليه الصلاة والسلام القفار والخراب من الأرض دون العامر ليسلم الناس من شرهم، فإذا عتا بعضهم وأفسد ذكر المعزم كلمات تعظمها تلك الملائكة، ويزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمرت بتعظيمها، ومتى أقسم عليها بها أطاعت وأجابت وفعلت ما طلب منها، فالمعزم بتلك الأسماء على ذلك القبيل يحضر له ملك القبيل من الجان الذي طلبه أو الشخص منهم يحكم بينهم بما يريد، ويزعمون أن هذا الباب إنما دخله الخلل من جهة عدم ضبطه تلك الأسماء فإنها عجمية لا يدرى هل هي مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة؟ وربما أسقط النساخ بعض حروفه من غير علم فيختل العمل، فإن المقسم به لفظ آخر لا يعظمه ذلك الملك، فلا يجيب ولا يحصل مقصود المعزم.
والاستخدامات قسمان: الكواكب والجان فيزعمون أن للكواكب إدراكات إذا قوبلت بتجوّد وتلي شيء خاص على الذي يباشر التجود، وربما تقدمت منه أفعال خاصة منها ما هو حرام كاللواط، ومنها ما هو كفر صريح، وكذلك الألفاظ التي يخاطب بها الكواكب منها ما هو كفر صريح يناديه بلفظ الإلهية ونحو ذلك، ومنها ما هو غير محرم، فإذا حصلت تلك مع التجود ومع الهيئات المشروطة كانت روحانية تلك الكواكب مطيعة له متى أراد شيئا فعلته له على زعمهم، وكذلك القول في ملوك الجان على زعمهم إذا عملوا لهم تلك الأعمال الخاصة، فهذا هو الاستخدام على زعمهم، والغالب على المشتغل بهذا الكفر، ولا يشتغل به مفلح ولا مسدد النظر وافر العقل.
وبعد أن علمت حكم السحر على مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، فلا بأس بذكر حكمه عند الحنابلة، فإن كتبهم مشتملة على غرائب فيه بيّنها صاحب الفروع. وحاصل عبارته: ويكفر الساحر باعتقاد حله، وعنه أي: عن أحمد: لا، واختاره ابن عقيل وجزم به في التبصرة، وكفره أبو يعلى بعمله. قال في الترغيب: هو أشد تحريما، وحمل ابن عقيل كلام الإمام أحمد في كفره على معتقدِه، وأن فاعله يفسق ويقتل حداً فعلى الأول يقتل، وهو أي: الساحر: من يركب مكنسة فتسير به في نهر أو نحوه، وكذا قيل في معزم على الجن ومن يجمعها بزعمه، وأنه يأمرها فتطيعه، وكاهن وعراف، وقيل: يعزر، وقيل: يجوز تعزيره ولو بالقتل.
وفي الترغيب: الكاهن والمنجم كالساحر عند أصحابنا، وإن ابن عقيل فسقه فقط إن قال: أصبت بحدسي وفراستي، فإن أخبر قوماً بطريقته أنه يعلم الغيب فللإمام قتله لسعيه بالفساد.
وفي الفروع من كتبهم بعد ذكر ما مرّ قال شيخنا: التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية من السحر.
قال: ويحرم إجماعاً وأقرّ أولهم وآخرهم أن الله يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركته ما زعموا أن الأفلاك تستجلبه وتوجده، وأن لهم من ثواب الدارين
ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه، ومن سحر بالأدوية والتدخين، وسقي مُضر عُزِّر، قيل: ولو بالقتل.
وقال القاضي والحلواني: إن قال: سحري ينفع وأقدر على القتل به قتل، ولو لم يقتل، والمشعبذ والقائل بزجر الطير والضارب بحصا وشعير وقداح إن لم يعتقد إباحته وأنه يعلم به عزر وكفّ عنه وإلا كفر. ويحرم طلسم ورقية بغير عربي وقيل: يكره، وتوقف الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه في الحل لسحر أي: لأجل إزالته بسحر آخر، وفيه وجهان وسأله مُهنّا عمن يأتيه مسحورة فيطلقه عنها قال: لا بأس.
قال الخلال: ربما كره فعاله ولا يرى به بأساً كما بينه مُهنّا، وهذا من
الضرورة التي يباح فعلها، ولا يقتل ساحر كتابي على الأصح، وفي التبصرة: إن اعتقدوا جوازه.
وفي عيون المسائل: أن الساحر يكفر، وهل تقبل توبته؟ على روايتين.
ثم قال: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس، وذلك شائع عام في الناس، ثم قال في عيون المسائل: فأما من يسحر بالأدوية والتدخين وسقي شيء مضر فلا يكفر ولا يقتل، ويعزر بما يردعه، وما قال غريب، ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة فأشبه السحر، وهذا يعلم بالعادة والعرف أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر أو أكثره، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لا سيما إن قلنا بقتل الآمر بالقتل على رواية سبقت، فهنا أولى، أو الممسك لمن يقتل فهذا مثله.
ولهذا ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام
والكذاب في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة. ورأيت بعضهم حكاه عن يحيى بن أكثم قال: النمام شر من الساحر. يعمل النمام في ساعة ما لا يعمله الساحر في شهر، لكن يقال: الساحر إنما كفر لوصف السحر فهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة، ولعل هذا القول أوجه من تعزيره فقط، فظهر مما سبق أنه رواية مخرّجة من الممسك والآمر.
ومن أطلق الشارع كفره كدعواه غير أبيه ومن أتى عرافاً فصدقه بما يقول
فقيل: كفر النعمة وقيل: قارب الكفر، وذكر ابن حامد روايتين: إحداهما تشديد وتأكيد، نقل ابن حنبل: كفر دون كفر لا يخرج من الإسلام، والثانية يجب التوقف، انتهى ما في الفروع وهو مشتمل على غرائب ونفائس يرتدع بها السحرة.
وعبارة التنقيح: ولا تقبل في الدنيا توبة زنديق وهو المنافق، وهو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر، ولا من يظهر الخير ويبطن الفسق، ولا من تكررت ردته، أو سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم صريحاً أو بغضه، ولا الساحر الذي يكفر بسحره.
ثم قال: ويقتل الساحر المسلم الذي يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه ويكفر هو ومن يعتقد حله، وأما الذي يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضرّ فإنه يقتص منه إن قتل بفعله غالباً وإلا فالدية، ومشعبذ وقائل بزجر طير وضارب بحصى وشعير وقداح إن لم يعتقد إباحته وأنه لا يعلم به، يعزر ويكف عنه، ويحرم طلسم ورقية بغير عربي ويجوز الحل بسحر للضرورة انتهى.
وبقيت هنا فوائد لا بأس بذكرها وإن لم يكن لها كبير مناسبة فيما نحن فيه.
وهي أن الفخر الرازي رحمه الله تعالى قال في كتابه الملخص: السحر والعين لا يكونان في فاضل، لأن من شرط السحر الجزم بصدور الأثر، وكذلك أكثر الأعمال من شرطها الجزم، والفاضل الممتلئ علماً يرى وقوع ذلك من الممكنات التي يجوز أن توجد وأن لا توجد، فلا يصح له عمل أصلا.
وأما العين، فلا بدَّ فيها من شرط التعظيم للمرئي، والنفس الفاضلة لا تصل في تعظيم ما تراه إلى هذه الغاية، فلذلك لا يصح السحر إلا من العجائز والتركمان والسودان ونحو ذلك من أرباب النفوس الجاهلة، فيقال: السحر له حقيقة، وقد يموت المسحور أو يتغير طبعه قاله الشافعي وابن حنبل رضي الله تعالى عنهما، وقالت الحنفية: إن وصل إلى بدنه كالدخان ونحوه جاز أن يؤثر وإلا فلا.
وقالت القدرية: لا حقيقة للسحر وهذا لا يصح فإن ما لا حقيقة له لا يؤثر، وقد سحر النبيُّ صلى الله عليه وسلم
وقد سحرت عائشةً رضي الله عنها جاريةٌ اشترتها، وقد أطبقت الصحابة رضي الله تعالى عنهم على صحة ذلك.
ومن حجة الزاعمين أنه لا حقيقة له قوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) طه/66. ولأنه لو كانت له حقيقة لأمكن الساحر أن يدعي النبوة فإنه قد يأتي بالخوارق على اختلافها. والجواب أن السحر أنواع فبعضه هو الذي يخيّل، وعن الثاني أن إضلال الخلق ممكن، ولكن الله تعالى أجرى العادة بضبط مصالحهم، فما ييسر ذلك على الساحر، وكم من ممكن يمنعه الله تعالى من الدخول في العالم لأنواع من الحكم، مع أنا سنبين الفرق بين السحر والمعجزة من وجوه فلا يحصل اللبس.
واعلم أن الفرق بين معجزات الأنبياء وسحر السحرة وغيرهم مما يتوهم أنه خارق للعادة قد أشكل على جماعة من الأصوليين وغيرهم وهو عظيم الموقع في الدين. والكلام عليه من ثلاثة أوجه: فرق في نفس الأمر باعتبار الباطن، وفرق باعتبار الظاهر، أما الفرق الواقع في نفس الأمر فهو أن السحر والطلمسات والسيميا، وجميع هذه الأمور ليس فيها شيء خارق للعادة، بل هي عادة جرت من الله تعالى بترتيب مسببات على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بل للقليل منهم كالعقاقير التي يعمل منها الكيمياء، والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون، والدهن الذي من أدهن به لم يقطع فيه حديد ولا تعدو عليه النار، فهذه كلها في العالم أمور عزيزة قليلة الوقوع، وإذا وجدت أسبابها جرت على العادة فيها، وكذلك أسباب السحر إذا وجدت حصل، وكذلك السيميا وغيرها كلها جارية على أسبابها العادية، غير أن الذي يعرف تلك الأسباب قليل من الناس.
وأما المعجزات فليس لها سبب في العادة أصلاً، فلم يجعل الله تعالى في العالم عقاراً يفلق البحر أو يسير الجبل ونحو ذلك، وهذا فرق عظيم، غير أن الجاهل بالأمرين يقول: وما يدريني أن هذا له سبب والآخر لا سبب له، فنذكر له الفرقين الأخيرين:
أحدهما: أن السحر وما يجري مجراه مختص بمن عمل له حتى أن أهل هذا الحرف إذا استدعاهم الملوك ليصنعوا لهم هذه الأمور يطلبون منهم أن يكتب أسماء كل من يحضر ذلك المجلس، فيصنعون صنيعتهم لمن سمي لهم، فإن حضر غيرهم لا يرى شيئاً مما يراه الذي سموا.
قال العلماء: وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الأعراف/108 والشعراء/33. أي لكل ناظر ينظر إليها، ففارقت بذلك السحر والسيميا وهذا فرق عظيم.
الفرق الثاني: قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي الضروري المختصة