المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ رد كلام المعترضين - الإعلام بقواطع الإسلام

[ابن حجر الهيتمي]

الفصل: ‌ رد كلام المعترضين

وإذا تقرر لك حكم: يا كافر بما لم تجده في كتاب، وعلمت أن ما ذكره الشيخان فيه نقلاً عن المتولي هو الحق الذي لا محيد عنه، وأن كلام جمع من الأصحاب صريح في كفر قائله مطلقاً، وأن ما مرّ من عبارة الأذكار وشرح مسلم وغيرهما لا يخالفه، وظهر لك أن ما أفتيت به في: يا عديم الدين حق ظاهر لا يسع أحداً إنكاره، وأن من أنكره فقد أنكر على هؤلاء الأئمة الذين هم آباؤنا في الدين، لكِنْ المعترضون عليّ لا يحترمون أحداً من المتأخرين ولا من المتقدمين، فلي بهم أسوة ولله الحمد على ذلك.

فمن قال لآخر: يا عديم الدين، نقول له: ما الذي أردته بذلك؟ فإن قال: أردت أن ما هو عليه من الدين لا يسمى ديناً، قلنا له: قد كفرت، فإن لم تسلم، وإلا ضربنا عنقك، وإن قال: أردت أنه لا دين له في المعاملات ونحوها، قلنا: لا كفر عليك، لكن عليك التعزير الشديد اللائق بك، وإن قال: لا نية لي، قلنا له: فهل تعتقد أنه يحل لك أن تقول له ذلك؟ فإن قال: نعم، قلنا له: كفرت إن كان ذلك مما لا يخفى عليك بناء على ما مرّ، وإن قال: لا أستحل ذلك أو كان ممن تخفى عليه ذلك قلنا: عليك التعزير لأنك ارتكبت معصية ليست كفراً، وإلى هذا التفصيل كله المستفاد مما قررته في يا كافر أشرت بقولي في الجواب السابق: بل ربما يكون قوله: يا عديم الدين كفراً.

وإذا تمهّدت حقيقة ما أجبت به، فلترجع إلى‌

‌ رد كلام المعترضين

، وهو لركاكته وكونه بالخيال أشبه غَنِيٌّ عن الرد، لكن في ضمن رده فوائد، فأما قول من قال: هذا الإفتاء كفر لاقتضائه أن قائل هذا اللفظ يكفر مطلقاً وليس كذلك، ومن كفَّر مسلماً فقد كفر، فيُردّ عليه بأمور:

منها: أن دعواه اقتضاء قولي: ربما إلى آخره الكفر مطلقاً مجازفة وجهل بمدلولات الألفاظ، فإن مدلول "ربما" أنه له حالة يكون فيها كفراً، وحالة لا تكون

ص: 65

فيها كفراً، وهذا جلي واضح فلا نطيل فيه؛ لأن الكلام فيه لا يليق بهذا المصنَّف المبني على غاية من الإتقان والتحرير.

ومنها: أن احتجاجه بما ذكر مكفر له صريحاً، فإنه كفّر مسلماً من غير تأويل؛ لأن المفتي إذا أفتى بحكم فلا يخلو إما أن يكون حقاً أو خطأً، فإن كان حقاً فلا كلام في تكفير مكفره، وإن كان خطأ فكذلك، وإن تعمد الخطأ؛ لأنه لم يتعمد تكفير أحد بعينه، إذ المفتي لا يفتي على أحد معين. والعجب من جرأته كيف يكفر غيره، ويستدل بما يكفر به نفسه؟

فإن قلت: فلمَ ذكرتَ هذه الإشارةَ الخفية ولم تفصل في الجواب، كما فصّلت هنا، ولا أطلقت القول بالحرمة كما في الأذكار؟

قلت: إيثاراً للاختصار، وحذراً من الوقوع في ورطة الإطلاق، فإنه قال في آداب المفتي من الروضة: وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ بالاتفاق، وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الواقعة تعرّض له. انتهى.

وليس الإطلاق في المصنفات كالإطلاق في الفتاوى، فإن الناظر في المصنفات لا يقتصر على مصنف واحد وإلا كان مقصّراً، بخلاف المستفتي، فإنه لا أهلية له في النظر في المصنفات حتى يعلم حكم الواقعة، وإنما الواجب عليه دفعها للمفتي، فمتى أفتاه وأطلق له في محل التفصيل ألجأه إلى الوقوع في الخطأ، فكان المفتي مخطئاً اتفاقاً.

وأيضاً فالمصنفات تكثر مسائلها، فلو كلف المصنفون إلى استيعاب سائر التفاصيل في كل مسألة لشق عليهم، بل عجزت عن ذلك قدرتهم، فساغ لهم ذكر أصول المسائل، والإطلاق في بعض الأبواب اتِّكالاً على فهم التفصيل من محل آخر، وغير ذلك مما لا يخفى على ناظر في كتبهم.

وأيضاً فإنما لم أفصّل في الجواب تفصيلاً واضحاً قصداً لستر المعنى المكفر عن العامة حتى لا تتطرق إليه أفهامهم، فإن غالب فطرهم سليمة، ولا يقصدون بقولهم لبعضهم: يا كافر يا عديم الدين إلا كفر النعمة، أو: يا من فعله كفعل

ص: 66

الكافر ونحو ذلك مما لا يقتضي الكفر، فأبرزت لهم أن هذا اللفظ قد يكون كفراً ليحذروه ويبعدوا عنه، ولم أبين لهم الوجه المكفر ستراً له عليهم لئلا يسمعه أحدهم فيكون سبباً له في أنه ربما يقصده، فكان ما فعلته من الإشارة إلى التفصيل به بـ:"ربما"، ومن ترهيبهم بأن ذلك كفر أبلغ وأولى، والله سبحانه وتعالى يوفق من شاء لما يشاء.

وأما الاعتراض على التفريع بالفاء بما مرّ فسببه الجهل بالأحكام وبمدلولات الألفاظ أيضاً؛ لأن الحكم المحقق هو الحرمة، وأما التكفير فأمر أخص يشترط له ما مرّ، فكيف يعدل عن الأمر المحقق وهو الحرمة ولا يفرّع عليه، ويفرّع على الأمر الذي لم يعلم وجوده لإناطته بقصد المتكلم ولم يطلع عليه، بل ويندر وقوع المعنى المكفر من أحد من المسلمين كما مرّ، وذِكْر الفقهاء له إنما هو خشية من وقوعه، وإذا كان وقوعه في غاية الندور، فعلم أن التفريع على الحرمة هو الصواب الذي لا مرية فيه.

وأما الاعتراض بأن المفتي كيف يكتب التعزير الشديد، والتعزير راجع إلى رأي الحاكم في الشدة والضعف.

فجوابه وإن كان لا يستحق جواباً لولا ما في جوابه من الفوائد التي لا تخفى على ذي لب: أن الحكام والقضاة أسرى المفتين لغلبة الجهل عليهم، وعدم معرفتهم بظواهر الأحكام فضلاً عن دقائقها.

وقد قال الأذرعي عن قضاة زمنه: ولا تغتر بقضاة زماننا فإنهم كقريبي عهد بالإسلام، هذا في قضاة زمنه، فما بالك بغيرهم، وقد أشار إلى ذلك الفارقي أيضا في قضاة زمنه مع تقدمه على زمن الأذرعي بكثير.

ص: 67

ولما أن كان غالب قضاة زماننا بلغوا إلى ما لم يبلغه غيرهم، صنفت كتاباً في قبائحهم، وصدرته بأربعين حديثاً فيه مزيد الذم وشديد الوعيد على أكثر القضاة، وسميته:"جمر الغضا لمن تولى القضا" ولئن سلمنا أن القضاة فيهم المفتون، فللمفتي أن يكتب أن التعزير شديد أو غير شديد، ولا مانع من ذلك عند من له أدنى بصيرة.

على أن لأصحابنا وجهاً أن القاضي ليس له أن يفتي في الأحكام، فعليه: صار المفتي من القضاة كغيره، والاستدلالُ للاعتراض المذكور بأن التعزير راجع إلى أمر الحاكم في الشدة والضعف ناشئٌ عن الجهل بكلام الفقهاء وقواعدهم؛ لأنه ليس راجعاً إليه في الشدة والضعف، بل يجب عليه أن يفعل بالمُعَزَّر ما يناسب معصيته من التغليظ والتخفيف، وإنما الراجع إليه تعيين نوع من الأنواع التي يحصل بها ذلك، فتأمل هذا الإبهام الذي أوقع المعترضين في الاعتراض بذلك عليّ، إن للمفتي أن يغلظ في الجواب ولو بغير الواقع، حيث لا مفسده. ففي المجموع والروضة وأصلها: للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأوَّل عنده زجراً وتهديداً في مواضع الحاجة. زاد في الروضة: قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز زجراً، كما روي عن ابن عباس

ص: 68

رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن توبة القاتل؟ فقال: لا توبة له. وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت عليه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مسكيناً قد قتل فلم أقنطه، قال الصيمري: وكذا إن سأله فقال: إن قتلتُ عبدي فهل عليَّ قصاص؟ فواسع أن يقول: إن قتلته قتلناك، فعن النبي صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ)، ولأن القتل له معنيان وهذا كله إذا لم يترتب على الإطلاق مفسدة والله أعلم. انتهى كلام الروضة، وهو حريّ أن يتأمله المعترضون ويفهموه، فإنهم بمكان سحيق عنه وعن غيره من كلام الأئمة وإلا لما صدرت منهم هذه الخرافات.

وأما الاعتراض بأن القاضي لا يُفْتَى عليه فقد مرّ ما يتكفل برده، بل لا يصدر ذلك إلا ممن ترك الشريعة الغراء وراءه ظِهرياً ونسياً منسياً؛ لأن القاضي إما أن يكون محقا فالإفتاء يؤيده وينصره، وإما أن يكون مُبطلاً فهو ليس بقاضٍ، فإن فُرض أنه قاضٍ ضرورةً وجب رفعه إلى مُستنيبه ليقيم عليه الأحكام الشرعية، فإن فرض أنه لا يفعل، فوض الأمر إلى الله تعالى حتى يحكم الله وهو خير

ص: 69

الحاكمين، على أن القاضي في صورة السؤال خصم مدعٍ على آخر ما يتعلق بالوصاية التي ذكر أنها فوضت إليه، فليس متحاكماً إليه حتى يكون له أدنى شبهة في نوع من الشتم أو السب، وإنما الحامل على ذلك استطالته على أعراض المسلمين وشتمهم بالألفاظ القبيحة التي لا تصدر من أدنى العوام.

وأما الاعتراض بأن الجواب ليس مطابقاً للسؤال فكلام مهمل لا معنى له بوجه حتى يتكلم عليه، ومزيد المقت والغضب من الله سبحانه يُلجئ الشخص إلى أن يقول ما لا يعقله ولا يفهمه نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العفو عما اقترفنا من الزلات والجهالة إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

ص: 70