المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النكاح، ولو صلى صلاة الوقت ثم أسلم لم يقضها، وعندنا - الإعلام بقواطع الإسلام

[ابن حجر الهيتمي]

الفصل: النكاح، ولو صلى صلاة الوقت ثم أسلم لم يقضها، وعندنا

النكاح، ولو صلى صلاة الوقت ثم أسلم لم يقضها، وعندنا يقضيها، وكذا الحج، فلو أتى بكلمة فجرى على لسانه كلمة الكفر بلا قصد لا يكفر انتهى كلام هذا الحنفي.

وما حكاه عن مذهبنا صحيح، بل مذهبنا موافق لجميع ما قاله إلا في إطلاق عدم العذر بالجهل، فإنه عندنا يعذر إن قرب إسلامه أو نشأ بعيداً عن العلماء، وإلا في إطلاقه وقوع الفرقة بين الزوجين، فإنها عندنا لا تقع إلا إن صدرت الردة من أحد الزوجين قبل الوطء، فحينئذ تقع الفرقة مطلقاً، فإن وقعت من أحدهما بعد الوطء انتظرنا المرتد، فإن أسلم قبل انقضاء العدة بان بقاء النكاح، وإن استمر لانقضائها بان بطلان النكاح من يوم الردة، وما ذكره من الخلاف بيننا وبينهم في الإحباط صحيح، لكن محله في وجوب القضاء بعد الإسلام، أما بالنسبة لبطلان ثواب جميع ما مضى من عبادات المرتد قبل ردته فنحن موافقوهم على ذلك.

وقد نص الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في "الأم" على أن الإنسان إذا ارتد والعياذ بالله حبط ثواب جميع أعماله، وإنما الذي يبقى له صورها فقط حتى لا يلزمه القضاء لقوله تعالى:(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) الآية البقرة/217 فرتب فيها حبوط الأعمال على الموت مرتدا، وبه تتقيد الآية الأخرى المطلقة لحبوط الأعمال بالردة.

‌3

- ومنها: أن من كفر بغير سبه صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه تقبل توبته اتفاقا، وتجب استتابته على الأصح، وأما من كفر بسبه صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه صريحا أو ضمناً، ومثله الملَك، فاختلفوا في تحتم قتله، فقال مالك رضي الله عنه وأصحابه: يقتل حداً لا ردة ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوا ونحوه.

ومن ثم قال صاحب المختصر منهم أخذاً مما قدمته عن الشفاء: وإن سب نبياً أو ملكاً، وإن عرّض أو لعنه أو عابه أو قذفه أو استخف بحقه أو

ص: 240

غير صفته أو ألحق به نقصاً في دينه أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه أو زهده، أو أضاف له ما لا يجوز عليه أو نسب له ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل: له بحق رسول الله فلعن، وقال: أردت العقرب قتل، ولم يستتب حداً إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور انتهى.

واستدلوا على ذلك بأمور:

الأول: بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) الأحزاب/57 وجه الدلالة أن من لعنه الله تعالى كذلك وأعد له ما ذكر فقد أبعده من رحمته وأحله في وبيل عقوبته، وإنما يستوجب ذلك الكافر، وحكمه القتل، فاقتضت الآية أن أذى الله وأذى رسوله كفر.

نعم إطلاق الأذى في حقه تعالى إنما هو على سبيل التجوز، إذ هو إيصال الشر الخفيف للمؤذي، فإن زاد كان إضرارا.

والثاني: بقوله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة/65 - 66. قال المفسرون: كفرتم بقولكم في رسول الله.

والثالث: بخبر أبي داود والترمذي (من لنا بْابنِ الْأَشْرَفِ؟ مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟)

ص: 241

أي: من ينتدب لقتله (فقَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا) وفي رواية: (فَإِنَّهُ يؤذي اللهَ وَرَسُولَهُ) ثم وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة بخلاف غيره من المشركين وعلله بإيذائه له، فدل على أنه لم يأمر بقتله للإشراك، وإنما أمر به للأذى.

ص: 242

والرابع: بما رواه أبو داود: "أنه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمَّنَ النَّاس إلا جماعة كانوا

ص: 243

يؤذونه منهم ابْنُ أَبِي سَرْحٍ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فجاء به َلَمَّا دَعَا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 244

النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَابَى ثم بايَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:(ما كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْن كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟) قَالُوا: هلا أَوْمَاتَ إِلَيْنَا فإنا لا نَدْرِي مَا فِي نَفْسِكَ؟ فقَالَ: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ) ومنهم عبد الله بن خطل وجاريتاه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم؛ لأنه كان يقول الشعر يهجوه به ويأمرهما أن يغنيا به.

وروى البزار: "أن عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْطٍ نادى يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: مَالِي أُقْتَلُ مِنْ بَيْنِكُمْ صَبْرًا؟ فقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: بِكُفْرِكَ وَافْتِرَائِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ"، وكذب عليه صلى الله عليه وسلم رجل فبعث عليا والزبير

ص: 245

رضي الله تعالى عنهما ليقتلاه، وهجته صلى الله عليه وسلم امرأة فقال: من لي بها؟ فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فقتلها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:(لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ) أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع.

قالوا: فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من آذاه أو تنقصه والحق له وهو مخير فيه، فاختار قتل بعضهم والعفو عن بعضهم، وبعد وفاته تعذر تمييز المعفو عنه من غيره فبقي الحكم على عمومه في القتل لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه؛ لأنه لم يرد عنه الإذن في ذلك.

والخامس: بإجماع الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وممن حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر والخطابي وغيرهما كمحمد بن سحنون. وعبارته: أجمع العلماء على كفر شاتمه المنتقص له وجريان الوعيد عليه، وحكمه عند الأئمة القتل، فمن شك في كفره وعذابه كفر انتهى. وما

ص: 246

صرح به من كفر الساب والشاك في كفره هو ما عليه أئمتنا وغيرهم كما علم مما مر، لكنه عندنا كالمرتد فيستتاب وجوبا فورا، فإن أصر قتل، ولو امرأة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) وإن أسلم صح إسلامه وترك كما قاله ابن عباس وغيره لقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) الآية. التوبة/5. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الحديث، وقيل: لا تجب استتابة المرتد، لأنه مهدر الدم، وقيل: لا يقتل فورا إذا لم يتب، بل يمهل ثلاثة أيام لاحتمال شبهة عرضت له فيسعى في إزالتها.

والجواب عن أدلتهم المذكورة:

أما عن الأول والثاني فالآيتان ليس فيهما إلا كفر مؤذيه عليه الصلاة والسلام، وهذا محل وفاق،

أما كونه يقتل بعد التوبة والإسلام، فلا دلالة فيهما على ذلك أصلا، وعن الثالث والرابع وما شابههما مما ذكر فيهما وغيره أنه لا دليل لهم في ذلك أيضا لقيام الكفر بالمحكي عنهم مع الزيادة في العناد فيه، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا عصمة لأحد بعد دعواه إلى الإسلام إلا بالإسلام، فكل من المذكورين مهدر الدم؛ لأنه دعي إلى الإسلام ولم يسلم، فقتله لذلك، لا لمجرد سبه للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم ذكر صلى الله عليه وسلم لهم في قتل عقبة سببين: كفره وافتراءه عليه، ولقتل كعب سببين: إيذاءه الله وإيذاءه رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعثِ علي والزبير لقتل

ص: 247

الكاذب عليه إنما هو لكذبه مع كفره، على أن هذا كذب فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، فيكون به قد حارب الله تعالى ورسوله وسعى في الأرض بالفساد فتحتم قتله لذلك لا لمطلق الكذب؛ لأنه بالاتفاق منا ومنهم لا يوجب القتل، وقتل المرأة التي هجته إنما هو لكفرها مع هجائها لا لهجائها فقط، ومن ثم نقل عنها أنها كانت تعيب الإسلام وتحرض على إيذائه صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أنه لا دليل لهم إلا أن ذكروا صورة فيها أن مسلما طرأ عليه الكفر بسبب السب ثم رجع وأسلم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ، إذ هذا هو محل الخلاف دون ما ذكروه، إذ لا نزاع بيننا وبينهم في أن الكافر الأصلي إذا بلغته الدعوة وامتنع من الإجابة وحارب بيده أو لسانه أو لم يحارب بالكلية أنه مهدر الدم قطعاً، وكل ما ذكروه في الثالث والرابع من هذا القبيل.

وبهذا يندفع قولهم: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من آذاه

إلى آخر ما قدمته عنهم.

ولم يتقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مسلم لسبه بل عفا عمن قال من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، ومن قال: اعدل، ومن قال: أعطني من

ص: 248

مال الله لا من مال أبيك وجدك، ومن قال:(لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) المنافقون/8. ونظائر ذلك كثيرة مشهورة، على أنه لو فرض أنه قتل مسلما بالسب لم يكن فيه دليل، لأنا نقول قتله أيضا لكفره، وإنما الدليل أن لو ورد قتل الساب بعد إسلامه بسبب سبه من غير قبول لتوبته ولم يرد ذلك.

لا يقال: سبه صلى الله عليه وسلم حق له وحقوق العباد مبنية على المشاححة، فكيف جاز لنا مع ذلك إسقاطه؟ لأنا نقول: حقوقه صلى الله عليه وسلم تشبه حقوق الله تعالى تغليظا من حيث إن تنقيصه كفر كتنقيص الله تعالى، فلتكن مثلها تخفيفا من حيث إن الإسلام يرفع تحتم قتل فاعل ذلك مع أن قوله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) الأنفال/38 دليل ظاهر على ما قلناه.

ص: 249