الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11
- وسئل السبكي أيضاً عمن قال: ما أعظم الله فقيل له: لا يجوز. فأجاب بما حاصله: يجوز ذلك. قال الله تعالى: (أَبْصِرْ بِهِ) أي: الله (وَأَسْمِعْ) الكهف/26. أي: ما أبصره وما أسمعه، فمعنى ما أعظمه أنه تعالى في غاية العظمة.
ومعنى التعجب من ذلك أنه حارت فيه العقول، فالقصد الثناء عليه بالعظمة أو اعتقادها له، وكلاهما سائغ، وموجبهما أمر عظيم يصح أن يراد بما أعظمه.
وبلغني عن شيخنا أبي حيان أنه كتب بعدم الجواز، فنظرت فرأيت ابن السراج قال: حُكِيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة بحال
التعجب نحو: ما أنت من رجل، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، وكاليوم رجلا، وسبحان الله من رجل ورجلا، وحسبك بزيد رجلاً، ومن رجل، والعظمة لله من رب، وكفاك زيد رجلاً، فقوله: العظمة لله من رب دليل لجواز التعجب في صفات الله تعالى، وإن لم يكن بصيغة ما أفعله وأفعل به، ومن جهة المعنى لا فرق من حيث كونه تعجباً.
وحكى ابن الأنباري عن الكوفيين أن: "ما أحسن زيداً" اسم عندهم لا فعل، تقديره شيء أحسن زيداً، خلافاً للبصريين لأدلة. منها: قوله: ما أعظم الله، ولو كان التقدير ما ذكر وجب أن يقدر هنا: شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل، وقال الشاعر:
ما أقدر الله .....
ويلزم من قال: إنه فعل أن تقديره شيء أقدر الله، والله تعالى قادر لا بجعل جاعل.
وأجاب البصريون بأنه لا محذور أن التقدير شيء أعظم الله: أي: وصفه بالعظمة كما تقول عظمت عظيماً والشيء، إما من يعظمه من عباده، وإما ما يدل على عظمته وقدرته من صفاته أو ذاته تعالى: أي أنه أعظم لذاته لا لشيء جعله عظيماً، فرقاً وبينه وبين غيره.
وحكى أن بعض أصحاب المبرّد قدم من البصرة إلى بغداد فحضر حلقة ثعلب فسئل عن هذه المسألة فأجاب بجواب أهل البصرة، وهو أن التقدير بشيء أحسن زيداً فأورد عليه: ما أعظم الله، فالتزمه فيه، فأنكروا عليه بأنه عظيم لا بجعل جاعل، وسجنوه حتى قدم المبرّد فوافقه، وبان قبيح إنكارهم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه.
وقيل: قولنا: شيء أعظم الله بمنزلة الإخبار بأنه عظيم لا بشيء جعله عظيماً لاستحالته، وقول الشاعر:
ما أقدر الله ....
فهو وإن كان لفظه لفظ التعجب فالمراد به المبالغة في وصفه تعالى بالقدرة، كقوله تعالى:(فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) مريم/75 بلفظ الأمر، وإن لم يكن في الحقيقة أمراً.
وإن شئت قدرته تقدير: ما أعظم الله، على ما بينا. انتهى كلام ابن
الأنباري، وهو نص صريح في المسألة وناطق بالاتفاق على صحة هذا اللفظ وأنه غير مستنكر، وإنما اختلفوا هل يبقى على حقيقته من التعجب، ويحتمل الأوجه الثلاثة التي ذكرها، أو يجعل مجازاً عن الإخبار؟ وأما إنكار اللفظ فلم يقل به أحد. والأصح أنه باق على معناه من التعجب وتأويل الشيء على ما ذكر.
وذكر أبو الوليد الباجي في كتابه "السنن" أدعية مستحبة من غير القرآن من جملتها: ما أحلمك على من عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك.
وروى ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن جده أبي
بكر رضي الله تعالى عنهم: أن بعض سفهاء قريش حثا على رأس أبي بكر تراباً فمّر به الوليد بن مغيرة أو العاص بن وائل فقال: ألا ترى ما فعل هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت ذلك بنفسك، فقال أبو بكر: أي رب ما أحلمك، ولو لم يكن هذا إلا عن القاسم لكفى فضلاً عن روايته عن جده، وإن كانت مرسلة.
وفي الكشاف في (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/27 معناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه أو الذي يقال له: ما أجلك وما أكرمك.
وفيه في (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الكهف/26 أنه جاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره تعالى في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين؛ لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
وفيه في: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) يوسف/31 المعنى: تنزيهه تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله وأما (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) يوسف/51 فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
وذكر أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري في كتابه التبصرة والتذكرة في النحو في: ما أعظم الله، أي: شيء أعظمه، وفسر الشيء بنحو ما مّر عن ابن الأنباري، ومنه: ويجوز أن يكون ذلك الشيء هو الله تعالى فيكون لنفسه عظيماً لا لشيء جعله عظيماً ثم قال: ومثل هذا يستعمل كثيراً في كلام العرب كما قال الشاعر:
نفس عصام سوّدت عصاما ....
انتهى.
وقال نحو ذلك أيضاً ابن الدهان سعيد بن المبارك في شرح الإيضاح: ففسر ما أعظم الله بشيء أعظمه، وفسر ذلك الشيء بنحو ما مرّ عن ابن الأنباري، وقال المتنبي:
ما أقدر الله أن يخزي خليفته ....
وأقره عليه الواحدي في شرحه، وتبع السبكي على ذلك الولي أبو زرعة فقال في فتاويه: لا نعلم أحداً من معتبري العلماء رضي الله تعالى عنهم منع إطلاق هذا اللفظ. أي ما أعظم الله، ما أحلم الله، وهو لفظ دال على تعظيم الرب جل جلاله وتفخيم ِآثار صفاته العلية فلا مانع من إطلاقه، وفي التنزيل:(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الكهف/26، ثم حكى عن قتادة قال: لا أحد أبصر من الله ولا أسمع، وقد وردت صيغة التعجب في حق الله تعالى في السيرة أيضاً، فالمانع لذلك إن كان استناده إلى أن أهل العربية يقدرون في مثل هذا من التعجب: شيئا صيره كذا، مثل هذا لا يستعمل في حق الله تعالى،