الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد
قال الإمام العالم الفاضل المحقق
العلامة بدر الدين أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك الطائي رحمه الله:
باب إعراب الفعل وعوامله
ص: قوله: يرفع المضارع لتعريه من الناصب والجازم، لا لوقوعه موقع الاسم، خلافا للبصريين.
ش: قد تقدم في أول الكتاب بيان المعرب من الأفعال، وهو المضارع الذي لم تتصل به نون توكيد ولا نون إناث، وأن إعرابه رفع ونصب وجزم، فلم يحتج إلى ذكر ذلك هنا، بل إلى ذكر ما يعمل في الأفعال، وهو ثلاثة أنواع: رافع وناصب وجازم.
أما الرافع فقد بينه بقوله: يرفع المضارع لتعريه من الناصب والجازم، أي الذي يعمل في المضارع هو خلوه من عامل النصب وعامل الجزم، ولا خلاف أن الرافع للمضارع عامل معنوي، ولكن اختلفوا في هذا المعنى ما هو؟ فقال البصريون: الرافع للمضارع هو موقعه موقعا صالحا للاسم، ومتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسم لم يجز رفعه، تقول: يقوم زيد، ويقعد عمر، وبكر ينطلق، وبشر يقول ذلك، فترفع في هذا كله لوقوع الفعل منه موقع المبتدأ أو الخبر المفرد.
ولا يجوز الرفع في: أن يقوم زيد، ولم يقعد عمرو، لأن الفعل فيه لم يقع موقع الاسم.
وأما نحو: كدت أفعل، فمثل: كنت أفعل، وقعت فيه أفعل موقع فاعل وإن لم يتكلم به.
وقال الكوفيون: الرافع للمضارع خلوه من الناصب والجازم، فجعلوا الرافع له تجرده من العوامل اللفظية ليسند، كما كان الرافع للمبتدأ تجرده من العوامل اللفظية ليسند إليه. وبهذا القول قال شيخنا رحمه الله، واستدل على صحته بفساد ما قاله البصريون، من قِبَلِ أن الرافع للمضارع لو كان وقوعه موقع الاسم لما ارتفع بعد "لو" وحروف التحضيض لأنها مختصة بالأفعال، فليس المضارع بعدها في موضع الاسم، وقد رفعوه بعدها نحو: لو يقومُ زيد قمت، وهلا تفعلُ ذاك. فعلم أن الرافع له ليس وقوعه موقع الاسم، فوجب أن يكون تجرده من الناصب والجازم.
فإن قيل: لا نسلم أن الرافع للمضارع لو كان وقوعه موقع الاسم لما ارتفع بعد هذه الحروف، لأن المراد بموقع الاسم، الموضع الذي هو للاسم بالجملة، وما بعد هذه الحروف هو للاسم، بدليل قولهم: لو ذاتُ سوار لطمتني، وهلا زيدٌ قام. فإذا وقع فيه المضارع استحق الرفع للعلة المذكورة.
فالجواب: لا يخلو مراد كم بموقع الاسم إما أن يكون الموضع الذي هو للاسم في الأصل، أو الموضع الذي هو للاسم في الاستعمال، أو الموضع الذي هو للاسم في أحدهما. وأيا ما كان يلزم منه بطلان قولكم: رافع المضارع وقوعه موقع الاسم، لأنه ينتقض على الأول بالرفع بعد حروف التحضيض قطعا، لأنه موضع ليس للاسم في الأصل. وعلى الثاني بالرفع بعد كاد ونحوها، لأنه موضع ليس للاسم في الاستعمال. وعلى الثالث بالجزم بعد إن الشرطية، فإنه موضع هو للاسم في الاستعمال، كما قي قوله تعالى:(وإن أحدٌ من المشركين استجارك) فلو كان رافع المضارع وقوعه موقع الاسم في الجملة ما كان بعد إن الشرطية إلا مرفوعا، فلما لم يرفع علم أن رافع المضارع ليس وقوعه موقع الاسم، فتعين أن يكون خلوَّه من الناصب والجازم، كما قال الكوفيون.
ص: وينصب بأنْ، ما لم تل عِلْما أو ظنّا في أحد الوجهين فتكون مخففة
من أنّ، ناصبة لاسم لا يبرز إلا اضطرارا، والخبر جملة ابتدائية، أو شرطية، أو مصدرة برُبّ، أو فعلٌ يقترن – غالبا إنْ تصرّف -، ولم يكن دعاء – بقدْ وحدها، أو بعد نداء، أو بلو، أو بحرف تنفيس أو نفي.
ش: الذي يعمل النصب في المضارع أربعة أحرف: أنْ، ولن، وكي، وإذن.
فأما أنْ فهي في الكلام على ثلاثة أضرب: مفسرة وزائدة ومصدرية.
فالمفسرة هي المصدر بها حكاية ما فيه معنى القول دون حروفه، كما في قوله تعالى:(وأوحينا إليه أن اصنع الفلك).
والزائدة دخولها في الكلام كخروجها، كما في نحو:(فلما أن جاء البشير) ولا عمل لها.
والمصدرية هي التي يؤول منها ومن صلتها مصدر، وتنقسم إلى مخففة من أنّ باقية على عملها، وإلى غير مخففة وهي الناصبة للمضارع، وإنما نصبته لأنها شبيهة بأحد عوامل الأسماء وهي أنّ، وهي أقوى النواصب، ولذلك نصبت الفعل مظهرة ومضمرة.
ولا تخلو المصدرية من أن يعمل فيها فعل علم أو فعل ظن أو غيرهما. فإن عمل فيها غير فعل علم أو ظن فهي الناصبة للفعل، كما في:(وأنْ تصوموا خير لكم) و: (يريد الله أن يخفف عنكم).
وإن عمل فيها فعل علم فهي المخففة من أنّ، فإذا وقع بعدها المضارع كان مرفوعا. وإن عمل فيها فعل ظن جاز أن تكون المخففة، وأن تكون الناصبة للفعل المضارع وهو الأكثر فيها، ولذلك اتفق على النصب في: (أحسب الناسُ أن
يُتْرَكوا) واختلف في: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) فقرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي، وقرأ بالنصب الباقون.
ولا يجوز في المخففة أن تلغى، بل يجب أن تنصب اسما لا يبرز إلا في الضرورة، كقول الشاعر:
لقد علم الضيفُ والمرملون
…
إذا اغْبرَّ أفْق وهبت شَمالا
بأنْك ربيعٌ وغَيْثٌ مَرِيع
…
وأنْك هناك تكون الثِّمالا
ولا يكون خبرها حال حذف الاسم إلا جملة، إما ابتدائية كقوله:
في فِتْيةٍ كسيوف الهند قد علموا
…
أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِل
والتقدير: أنه هالك كل من يحفى وينتعل. أو شرطية كقولك: قد علمت أنْ متى تقم أقم معك. ومثله:
فعلمت أن من تثقفوه فإنه
…
جزر لخامعة وفرخ عقاب
ولك أن تجعل منه قوله:
سالتاني الطلاق أنْ رأتاني
…
قَلّ مالي قد جئتماني بنُكْر
ويك أنْ من يكنْ له نَشَب يُحْـ
…
ـبَبْ ومن يفتقر يَعش عيش ضر
بناء على أن الكاف مع "وي" حرف خطاب، والمعنى: أعجب لأنه من
يكون له نشب يحب، ويجوز أن تكون "وي" مفصولة من الكاف، وهي مع أن للتشبيه على طريق التهكم.
وإما مصدرة برب كقول الشاعر:
أفاطم ما يدريك أنْ ربّ ليلة
…
كأنّ دُجاها من قُرونك يُنْشَر
ومثله:
تيقنت أنْ رُبَّ امْرِئٍ خِيلَ خائنا
…
أمينٌ وخَوّانٍ يُخال أمينا
وإما فعلا غير متصرف كقوله تعالى: (وأنْ عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم) وقوله: (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى).
وإما فعلا متصرفا يفيد الدعاء، كقراءة من قرأ:(والخامسةَ أنْ غضِب الله عليها إن كان من الصادقين).
أو هو مقرون في الغالب إما بقد وحدها كقوله تعالى: (ونعلم أنْ قد صدقتنا) أو بعد نداء، كما تقول: أعلم أنْ يا زيد قد قام عمرو. وأجاز سيبويه أن يكون منه قوله تعالى: (وناديناه أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقْتَ الرؤيا) وأجاز أيضا أن تكون أن فيه حرف تفسير.
وإما بلو كقوله تعالى: (أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وقوله تعالى: (تبَيَّنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
وإما بحرف تنفيس كقوله تعالى: (علم أن سيكونُ منكم مرضى) وإما بحرف نفي كقوله: (أفلا يرون أنْ لا يرجعُ إليهم قولا) وقوله تعالى: (أيحسب الإنسانُ أنْ لن نجمع عظامه) وقوله تعالى: (أيحسَب أنْ لم يره أحد).
ولا يجيء خبر أن المخففة فعلا متصرفا غير دعاء ولا مفصول بأحد الأحرف المذكورة إلا فيما شذ كقوله:
علموا أنْ يُوَمَّلون فجادوا
…
قبل أنْ يُسْألوا بأعظم سُؤْل
وقول الآخر، أنشده الفراء:
إني زعيمٌ يا نُوَيْـ
…
ـقَهُ إن أمنت من الرَّزاح
وأمِنْت من عَرَضِ المَنُو
…
ن من الغُدُوِّ إلى الصباح
أن تهبطين بلادَ قو
…
مٍ يرتَعُون من الطِّلاح
وإلى هذا أشار بقوله: غالبًا.
ص: وقد تخلو من العلم والظن فتليها جملة ابتدائية، أو مضارع مرفوع، لكونها مخففة من أنّ عند الكوفيين، ومشبهة بما آختها عند البصريين.
ش: قد تخلو أن المصدرية من أن يعمل فيها علم أو ظن وتليها جملة ابتدائية، أو فعل مضارع مرفوع، وهو قليل في الكلام، ومنه قول الشاعر:
رأيتك أحييت الندى بعد موته
…
فعاش الندى من بعد أنْ هو خامل
وقراءة بعضهم: (لمن أراد أن يُتمُّ الرضاعة) وقول الشاعر، أنشده السيرافي:
يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما
…
وحيثما كنتما لُقِّيتما رشدا
أن تحملا حاجة لي خف محملها
…
تستوجبا نعمة عندي بها ويدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما
…
مني السلام وألا تشعرا أحدا
وفي الحكم على أنْ فيما جاء من هذا النحو قولان:
فعند الكوفيين أنها المخففة من أنَّ، وجاز خلوها من العلم والظن، لأنه لا مانع منه في القياس.
ومذهب البصريين أنها التي تنصب المضارع، ولكنها شبهت بما أختها، وهي المصدرية، فحملت عليها في الإلغاء، فوقع المضارع بعدها مرفوعا، ووليها جملة ابتدائية، كما قد تلي ما، كقوله:
واصِلْ خليلَك ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ
وكلا القولين حسن.
ص: ولا يتقدم معمول معمولها عليها، خلافا للفراء، ولا حجة فيما استشهد به لندوره، وإمكان تقدير عامل مضمر.
ولا تعمل زائدة خلافا للأخفش، ولا بعد عِلْم غير مؤول خلافا للفراء وابن الأنباري. ولا يمتنع أن تجري بعد العلم مجراها بعد الظن لتأوله به، ولا بعد الخوف مجراها بعد العلم لتيقن المخوف خلافا للمبرد. ولا يجزم بها خلافا لبعض الكوفيين.
ش: أن المصدرية مع صلتها في تأويل المصدر، فلهما كمال شبه بجزأي الاسم، فيجب لهما ما وجب للجزأين من الترتيب، ومنع الفصل، فلا يجوز: طعامك يعجبني أن تأكل، زيدا أريد أن تضرب. قال ابن كيسان: فقد أجاز الكوفيون تقديم بعض هذا في مواضع، منها: طعامك أريد أن آكل، وطعامك عسى أن آكل، فجعلوا أن كالمجلبة بعسى وأريد، كأن الكلام كان: طعامك آكل فيما أرى وفيما أريد، وليس ذلك بجائز عند البصريين.
وذكر الشيخ رحمه الله أن الفراء مستشهد بقول الشاعر:
وإني امرُؤٌ من عُصْبة تُغْلبية
…
أبت للأعادي أن تَذِيخَ رقابُها
أي: تذل، قال: ولا حجة فيه لندوره، وإمكان تقدير عامل مضمر دل عليه المظهر.
وذهب الأخفش إلى أنّ أنْ في قوله تعالى: (ومالنا أن لا نقاتلَ في سبيل الله) زائدة، وقد نصبت المضارع حملا على أن المصدرية، كما جرت الباء الزائدة حملا على التي بمعنى الإلصاق، قال: لأن التقدير: وما لنا لا نقاتل، كما جاء في موضع آخر:(وما لنا لا نؤمنُ بالله)(مالي لا أرى الهدهد) وهو مذهب ضعيف، لأن أن الزائدة غير مختصة، فلم يجز أن تعمل، لأن من شرط العمل الاختصاص. وأما الآية الكريمة فحمْلُ أن فيها على أنها مصدرية، وهي بصلتها في تأويل مصدر منصوب على إسقاط الخافض، والتقدير: ومالنا في ألا نقاتل، أسهل مما ذهب إليه الأخفش، فوجب اجتنابه.
وذهب الفراء وابن الأنباري إلى جواز نصب المضارع بعد علم غير متأول تمسكا بمثل قراءة مجاهد: (أفلا يرون ألا يرجعَ إليهم قولا) وقول الشاعر:
نرضى عن الله إنّ الناس قد علموا
…
ألا يُدانينا من خلقة بشرُ
وهو مذهب حسن لأنه قد جاء به السماع، ولا يأباه القياس.
ولو كان العلم مؤولا بغيره جاز عند الأخفش وسيبويه في أنْ بعده أن تكون الناصبة، فيقال: ما علمت إلا أن تقومَ. لأنه كلام خرج مخرج الإشارة، فجرى مجرى قولك: أشير عليك أن تقوم. ومنعه المبرد نظرا إلى ظاهر اللفظ. وإذا جاز مثل ذلك بعد العلم غير المؤول، فجوازه بعد المؤول أولى.
ولا يمتنع أن تجري أن المصدرية بعد الخوف المؤول بالعلم لتيقن المخوف مجراها بعد العلم، فيرتفع الفعل بعدها، لأنها المخففة من الثقيلة، قال سيبويه:"ولو قال: أخشى أن تفعلُ، يريد أن يخبره أنه يخشى أمرا مشتهرا عنده أنه كائن، جاز، وليس وجه الكلام".
وقال أبو الحسن: وأما خشيت ألا تكرمني، فنصب، ولو رفعته على أمر قد استقر عندك، كأنك جرّبته فكان لا يكرمك، فقلت: خشيت ألا تكرمُني، أي خشيت أنك لا تكرمني، جاز. ومنع ذلك المبرد، وأنشدوا في الرد عليه:
إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جنب كَرْمَةَ
…
تُرَوِّي عظامي في الممات عُرُوقُها
ولا تدفنَنِّي في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مِتُّ ألا أذوقُها
وأشار بقوله: "ولا يجزم بها خلافا لبعض الكوفيين" إلى قوله في بعض الحواشي: وجدت بخط الجواليقي أن سلمة أخبر عن الفراء عن الكسائي عن الرؤاسي قال: فصحاء العرب ينصبون بأن وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها، وعنده أن مستند الراوي في ذلك ما جاء في الشعر من نحو قوله:
لقد طال كِتماني عزيزةَ حاجةً
…
من الحاج لا تدري عزيزةُ ما هيا
أحاذر أنْ تعلم بها فتردَّها
…
فتتركها ثِقْلا علّ كما هيا
ولا حجة في ذلك، لجواز كونه سكون وقف للضرورة، لا سكون إعراب.
ص: وينصب المضارع أيضا بلن مستقبلا، بحدٍّ وغير حد، خلافا لمن خصها بالتأييد، ولا يكون الفعل معها دعاء، خلافا لبعضهم، وتقديم معمول معمولها عليها دليل على عدم تركيبها من لا أن خلافا للخليل.
ش: من نواصب الفعل لن، وهي حرف نفي للمستقبل، يقول القائل: سيقوم زيد، وسيقعد عمرو. فتقول: لن يقوم زيد، ولن يقعد عمرو. إنما عملت النصب في الفعل لأنها مثل أنْ في الاختصاص بالفعل المستقبل، وفي كونها على حرفين أولهما مفتوح، وثانيهما نون ساكنة. هي كغيرها من حروف النفي في جواز كون استقبال المنفي بها منقطعا عند حدٍّ وغير منقطع.
وذكر الزمخشري في أنموذجه أن لن لنفي التأبيد، قال الشيخ رحمه: وحامله على ذلك اعتقاده أن الله تعالى لا يرى، وهو اعتقاد باطل، لصحة ثبوت الرؤية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل على عدم اختصاصها بالتأييد بمجيء استقبال المنفي بها مُغَيّا إلى غاية ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى:(قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) وهو واضح.
ولا يجوز أن يكون الفعل المنفي بلن إلا خبرا. وأجاز بعضهم كونه دعاء كالمنفي بلا في نحو:
ولا زال مُنْهَلًا بجَرْعائِك القَطْرُ
وقال ابن السراج: وقال قوم: يدعى بلن، مثل قوله تعالى: (فلن
أكون ظهيرا للمجرمين) وقال الشاعر:
لن يزالوا كذلكمُ ثم لا زلـ
…
ـتُ لهم خالدا خلودَ الجبال
والدعاء بلن غير معروف".
وذهب الخليل والكسائي في "لن" إلى أن أصلها: لا أنْ، وأنها مركبة من "لا" النافية، وأن الناصبة محذوفة الهمزة لكثرة الاستعمال كما قالوا: وَيْلُمِّه.
وألزمه سيبويه بأنه لا خلاف في جواز تقديم معمول معمولها عليها نحو: زيدا لن أضرب، فلو كان أصلها: لا أنْ، للزم تقديم ما في الصلة على الموصول، وهو ممتنع.
وقال السيرافي: المختار أنها غير مركبة، لأن التركيب على خلاف الأصل، فلا تقبل دعواه إلا بدليل، ولا دليل. ولأن لن مع الفعل والفاعل كلام تام، فلو كان أصلها: لا أن لكان الكلام تاما بالمفرد، وهو محال.
وحكى ابن كيسان عن الفراء في "لن" أن أصلها: لا، فجعلت ألفها نونا، ونفى بها المستقبل. وفي "لم" أن أصلها: لا، فجعلت ألفها ميما، ونفى بها الماضي، ثم قال: ولا يحسن أن تقول لن يقوم زيد ولا يقعد، حتى تقول: ولن يقعد. فإن قلت: لن يقوم زيد ولا عمرو، عطفت بلا مع الأسماء، ولم يجز مع الفعل.
ص: وينصب أيضا بكي نفسها إن كانت الموصولة، وبأن بعدها مضمرة غالبا إن كانت الجارة، وتتعين الأولى بعد اللام غالبا، والثانية قبلها، وتترجح مع إظهار أن مرادفة اللام على مرادفة أن، ولا يتقدم معمول معمولها، ولا يبطل عملها الفصل، خلافا للكسائي في المسألتين.
ش: من نواصب الفعل كي، وهي حرف لا يستعمل إلا في مقام التعليل، يقول القائل: لم فعلت كذا؟ فتقول: كي يكون كذا. ولم جئتني؟ فتقول: كي أعطيك.
وهي على ضربين: أحدهما: أن تكون حرف جر، ولذلك ساوت اللام في المعنى والاستعمال، فدخلت في مقام السؤال عن العلة على "ما" الاستفهامية محذوفة الألف نحو: لمه. وفي مقام تعليل الخبر على "ما" المصدرية، كقوله:
إذا أنت لم تنفعْ فَضُرّ فإنما
…
يُرَجَّى الفتى كيما يضُرُّ ويَنْفَعُ
قال أبو الحسن: جعل: "ما" اسما، ويضر وينفع من صلته، وأوقع عليه كي بمنزلة اللام.
والثاني: أن تكون مصدرية ناصبة للمضارع، ولذلك حسن دخول لام الجر عليها في السعة، كقوله تعالى:(لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ) فإن حرف الجر لا يجوز أن يدخل على مثله.
وإنما نصبت المضارع لشبهها بأن في كونها مصدرية مختصة بالمستقبل، وهي على حرفين أولهما مفتوح وثانيهما ساكن.
وإذا دخلت كي على الفعل مجردة من اللام، احتمل أن تكون الناصبة للفعل، واللام قبلها مقدرة تقديرها في نحو: جئت إليك لتحسن، واحتمل أن تكون الجارة، والفعل بعدها منصوب بأن لازمة الإضمار عند البصريين إلا في الضرورة كقوله:
فقالت أكلَّ الناس أصبحتَ مانحًا
…
لسانك كيما أن تَغُرّ وتَخْدعا
وتتعين الناصبة بعد اللام إذا اضطر الشاعر فأظهر أن بعدها، كقول الشاعر:
أردتَ لكيما أن تطيرَ بقرْبتي
…
فتتركها شَنًّا ببيداءَ بَلْقعِ
لأنه إذا لم تظهر أنْ بعد كي وكان قبلها اللام فليس في جعلها الناصبة، وهي وصلتها في موضع الجر باللام، مخالفة لأصل، ولا ارتكاب لشذوذ. وفي جعلها جارة مؤكدة للام نصب الفعل بعدها بإضمار "أن" وهو خلاف الأصل، وتوكيد الحرف بالحرف وهو في غاية الشذوذ، فوجب اجتنابه.
وتتعين الجارة قبل اللام، كما ندر في قول حاتم:
فأوقدتُ ناري كي ليُبْصِرَ ضَوْءَها
…
وأخرجت كَلْبي وهو في البيت داخله
وقول الطرماح:
كادوا بنصر تميم كي ليُلْحِقَهم
…
فيهم فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فكي في نحو هذا حرف جر قطعا، واللام بعدها مؤكدة، لأن توكيد حرف بمثله ثابت، وتأخير اللام عن الحرف المصدري غير ثابت.
وإذا ظهرت أن بعد كي نظرت، فإن لم يكن قبلها اللام كما في قوله: كيما أن تغر وتخدعا، احتمل أن تكون الجارة، وقد شذ إظهار أن بعدها للضرورة، وأن تكون الناصبة للفعل، وقد شذ توكيدهما بأن للضرورة، والراجح كونها جارة، لأن توكيدها الحرف بالحرف شاذ في الاستعمال دون القياس، فكان القول به أوْلى.
وإنْ كان قبلها اللام كما في قوله: لكيما أن تطير بقربتي، احتمل أيضا أن تكون الجارة، وقد شذ اجتماعها مع اللام، كما اجتمع اللامان في قول الآخر:
ولا لِلما بهمْ أبدًا دواءُ
وكما اجتمع ما ولا في قول الآخر: وما إن لا تخاط لهم ثياب
واحتمل أن تكون الناصبة للفعل، وقد شذ اجتماعها مع أن، والراجح كونها جارة، لأن تكويد الجار بمثله ثابت بيقين، وتوكيد ناصب للفعل بمثله مشكوك فيه، فالحمل على المتيقن أولى، ولأن حرف الجر أقرب إلى ما هو الأصل فيما يؤكد وهو الأسماء، من الحرف المصدري، لأن حرف الجر يدل على معنى زائد على المفهوم من مصحوبه بخلاف الحرف المصدري، لأنه لا فائدة له إلا تصحيح استعمال الفعل في موضع المصدر، والإقدام على توكيد ما هو أقرب إلى الأصل فيما يؤكد أسهل من الإقدام على توكيد ما هو أبعد عنه، فلا يقاس عليه.
ولا يجوز تقدم معمول معمولها عليها خلافا للكسائي، وقد يفصل به أو بجملة شرطية فيبقى النصب.
قال الشيخ رحمه الله: من كلامهم: جئت كي فيك أرغبَ، وجئت كي إن تحسنْ أزورَك، بنصب أرغب وأزورك، والكسائي يجيز الكلام برفع الفعلين دون نصبهما.
وقد تحذف ياء كي ويبقى عملها، كقول عدي بن زيد:
اسمعْ حديثا كما يوما تُحدِّثَه
…
عن ظهر غيبٍ إذا ما سائلٌ سألا
أراد: كيما تحدثه، وأنشد أبو علي:
وطرفَكَ إما جئتنا فاصرفنّه
…
كما يحسبوا أن الهوى حيثُ تنظرُ
وقد يتصل بكي فعل ماض أو مضارع مرفوع، فيعلم أن أصلها كيف، وقد حذفت فاؤها، فمن ذلك ما أنشد الفراء:
من طالِبَيْن لبُعْران لنا شَرَدت
…
كيما يُحِسّان مِن بُعراننا أثرا
وما أنشد غيره:
كي تَجْنَحون إلى سلم وما ثُئِرتْ
…
قَتلاكُم ولَظى الهيجاءِ تضطرم
ص: وينصب غالبا بإذن مصدرة إن وَليها أو وَلِيَ قسما وليها، ولم يكن حالا. وليست أن مضمرة بعدها خلافا للخليل. وأجاز بعضهم فصل منصوبها بظرف اختيارا، وقد يرد ذلك مع غيرها اضطرارا. ومعناها الجزاء والجواب، وربما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر.
ش: إذن حرف معناه الجواب والجزاء، فلا يصحب إلا جملة هي جواب شرط مذكور، كقولهم: إن تأتني إذن آتك، أو مقدر بإن، إلا فيما بعدها اللام، قال الفراء: إذا رأيت بعد إذن اللام فقبلها لو مقدرة، نحو:(وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق) و: (وإذن لاتخذوك خليلا) و: (إذن لأذَقْناك) التقدير: لو كان معه آلهة لذهب، ولو فعلت لاتخذوك
خليلا، ولو ركنت لأذقناك.
ولا تلزم صدر الجواب، بل قد تأتي وسطا وآخرا نحو: أنا أفعل إذن.
ولا تختص بالأفعال، فكان حقها ألا تعمل، ولكنهم شبهوها بأنْ لغلبة استقبال الفعل بعدها، ولأنها تخرج الفعل عما كان عليه إلى جعله جوابا، كما تخرج أن الفعل عما كان عليه إلى جعله في تأويل المصدر، فحملت على أن فنصبت المضارع وإن لم تختص به، كما عملت ما عمل ليس وإن لم تختص بالأسماء. هذا مذهب أكثر النحويين. وما عزاه إلى الخليل من أن الفعل بعد إذن منصوب بأن مضمرة إنما مستنده فيه قول السيرافي في أول شرح الكتاب:
"روى أبو عبيدة عن الخليل أنه قال: لا ينصب شيء من الأفعال إلا بأن مظهرة أو مضمرة في: كي ولن وإذن وغير ذلك". وليس في هذا نص على أن انتصاب المضارع بعد إذن عند الخليل بأن مضمرة، لجواز أن تكون مركبة مع "إذ" التي للتعليل، و"أن" محذوفا همزتها بعد النقل، على نحو ما يراه في انتصابه بعد لن. والقول به على ضعفه أقرب من القول بأن إذن غير مركبة، وانتصاب المضارع بعدها بأن مضمرة. لأنه لا يستقيم إلا على أن يكون ما بعد إذن في تأويل مبتدأ لازم حذف خبره، أو إذن قبله ليست حرفا بل ظرفا مخبرا به عن المبتدأ، وأصلها إذا فقطعت عن الإضافة وعوض عنها التنوين، وكلاهما في غاية من التكلف، والقول بأن إذن مركبة من: إذ وأنْ أسهل منه.
وإنما تنصب إذن المضارع بشرط كونها مصدرة، والفعل مستقبل متصل بها، أو منفصل بقسم كقولك لمن قال لك: أزورك غدا: إذن أكرمَك، وإذن والله أكرمك، فالقسم هنا لا يعد حاجزا، كما لا يعد حاجزا بين المضاف والمضاف إليه في قول بعضهم: هذا غلامُ والله زيدٍ، واشتريت بو الله ألفِ درهم، حكاه الكسائي.
والمراد بالمصدرة ما لم يكن ما بعدها من تمام ما قبلها، إما لأنها لم يتقدمها شيء، وإما لأنه تقدمها كلام فيجوز أن يستأنف بها وينصب الجواب، كما لو لم
يتقدمها شيء، وذلك نحو قول ابن عَنَمة:
اردُدْ حمارك لا تَنْزِع سَوِيَّته
…
إذن يُرَدُّ وقَيْدُ العَيْرُ مكروبُ
وهذا نصب لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتم، ألا ترى أن قوله: اردد حمارك لا تنزع سويته، كلام تام، ثم استأنف، كأنه أجاب من قال: لا أفعل ذلك، فقال: إذن يرد وقيد العير مكروب.
وإذا وجدت الشروط المذكورة فالمعروف في كلامهم نصب الفعل بعدها. وزعم عيسى بن عمر أن ناسا يقولون: إذن أكرمُك، بالرفع، وإليه الإشارة بقوله: غالبا.
ولو كانت غير مصدرة، فإن وقعت بين واو العطف أو فائه وبين الفعل المستقبل كنت فيها بالخيار، إن شئت أعملتها فقلت: وإذن آتيك، أو فإذن آتيك، وشاهده قول سيبويه: وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف: (وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا) وقراءة بعضهم: (فإذن لا يؤتوا الناس نقيرا) وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر، وبه قرأ القراء.
وإن وقعت بين شرط وجزاء، أو بين مخبر عنه وخبره، أو منصوب وناصبه، ألغيت، نحو: إن تأتني إذن آتك، وأنا إذن أكرمُك، وزيدا إذن أضربُ. كما تلغى رأى وحسب إذا توسطت الكلام. وربما نصب بها بين مخبر عنه وخبر، كقول الراجز، أنشده ابن كيسان:
لا تَتْرُكَنِّي فيهم شَطيرا
…
إني إذن أهلِكَ أو أطيرا
ولو كان الفعل الذي بعدها حالا ألغيت، كقولك لمن قال: أنا أحبك: أنا إذن أصدقك، بالرفع لأنه موضع لا تعمل فيه أخوات إذن، فلم تعمل هي فيه.
وكذلك لو كان منفصلا بغير القسم، كقولك: إذن زيد يكرمُك وإذن طعامَك يأكلُ، وإذا فيك أرغبُ. فليس في هذا ونحوه إلا الرفع لوجود الفصل.
وأجاز ابن عصفور نصب المضارع بإذن مع الفصل بالظرف وشبهه وبالقسم، ولم يجز مثل ذلك في غير إذن إلا في الضرورة كقوله:
لن ما رأيتُ أبا يزيدَ مقاتلا
…
أدعَ القتال وأشهدَ الهيجاء
وأجاز الكسائي الفصل بالظرف وغيره بين الفعل وناصبه، نحو: جئت كي زيدا تضربَ، وأنشد:
وشفاءُ غيِّكِ خابِرا أن تسألي
وحمله الفراء على أن خابرا حال من الغي.
فصل: ص: ينصب الفعلُ بأنْ لازمة الإضمار بعد اللام المؤكدة لنفي خبر كان ماضية لفظا أو معنى، وبعد حتى المرادفة "لإلى" أو "كي" الجارة أو "إلّا أنْ" وقد تظهر أن مع المعطوف على منصوبها.
وتضمر أن أيضا لزوما بعد "أو" الواقعة موقع "إلى أنْ" أو "إلّا أنْ".
ش: لقوة أن في العمل نصب بها الفعل مظهرة ومضمرة جوازا ولزوما.
فنصب الفعل بأن لازمة الإضمار بعد لام الجحود، وحتى، والواو، والفاء، وأو.
أما لام الجحود فهي المؤكدة لنفي خبر كان ماضية لفظا نحو: (وما كان الله ليُضيع إيمانكم) أو معنى نحو: (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) وسميت مؤكدة لصحة الكلام بدونها، كما تقول في نحو: ما كان زيد ليفعل: ما كان زيد يفعل، لا لأنها زائدة لا معنى لها، إذ لو كانت كذلك لما كان لنصب الفعل بعدها وجه صحيح، وإنما هي لام الاختصاص، دخلت على الفعل لقصد معنى: ما كان زيد مقدرا، أو هاما، أو مستعدا لأن يفعل، وكذا قال سيبويه:"وكأنك إذا مثلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل".
ولام الجر مختصة بالأسماء، فلذا وجب في المضارع إذا وليها نصبه بأن مضمرة، لتكون هي والفعل في تأويل اسم مجرور باللام، ولا يجوز إظهار أن بعد لام الجحود، إما لأن ما قبل اللام من التقدير قد دل على الاستقبال، فأغنى عن ظهور أنْ، وإما لأن ما بعد اللام جواب، ونقض يفعل بفعل ليس في تقدير اسم، كأنه قيل: زيد سيفعل، فقلت: ما كان زيد ليفعل، فلو أظهرت أن لجعلت مقابل الفعل لفظ الاسم، وهو قبيح.
وقال الكوفيون: لام الجحد هي العاملة، وأجازوا تقديم معمول الفعل عليها، وأنشدوا:
لقد عَذَلَتْني أمُّ عمرو ولم أكن
…
مقالَتَها ما كنت حيا لأسْمعا
وهو عند البصريين محمول على إضمار فعل، كأنه قال: ولم أكن لأسمع مقالتها.
وأما حتى فيليها المضارع منصوبا بأن مضمرة إذا كانت حرف جر بمعنى إلى أو
كي، فالأول نحو قولك: أنا أسير حتى أدخلها، تريد أن الدخول نهاية للسير، ومثله: لأمشينّ حتى تغيب الشمس، وقوله:(قالوا لن نبرحَ عليه عاكفين حتى يرجعَ إلينا موسى).
والثاني كقولك: سرت حتى أدخلَها، تريد أن الدخول غاية للسير، ومثله: سألته حتى يعطيني، ولأتوبنّ حتى أدخل الجنة.
وزاد الشيخ رحمه الله كونها بمعنى إلّا أنْ، واستشهد بقول الشاعر:
ليس العطاءُ من الفضول سماحةً
…
حتى تجود وما لديك قليلُ
بناء على أنك لو جعلت "إلا أن" مكان حتى فقلت: ليس العطاء من الفضول سماحة إلا أن تجود وما لديك قليل، كان المعنى صحيحا. وأرى أنك لو جعلت "إلى أن" مكان حتى لم يكن المعنى فاسدا.
وإذا كان الفعل بعد حتى غاية أو علة في تمام الجملة التي قبلها فعند سيبويه أنها حرف جر، والفعل بعدها نصب بأن مضمرة، ولا يجوز إظهارها، لأن حتى صارت لطولها بدلا من اللفظ بأن. وعند الكوفيين النصب بعد حتى بها، ولو أظهرت أن فقيل: لأسيرن حتى أن أصبح القادسية، جاز وكان النصب بحتى، وأن بعدها توكيد.
قال الكسائي: حتى لا تخفض، إنما تخفض بعدها إلى مضمرة ومظهرة، فيقال: أكلت السمكة حتى رأسِها، فقد حصل بهذا أن حتى لا تعمل في الأسماء شيئا إذا كان الخفض بعدها بغيرها.
وقال الفراء: حتى من عوامل الأفعال، وقال في:(مطلع الفجر) هي الخافضة لمطلع لما قامت مقام إلى.
والمختار قول سيبويه، لأنه لو كانت حتى هي الناصبة للفعل للزم إما حسن
الخفض بالجار المحذوف، وإما كون حتى تعمل الجر في الأسماء، والنصب في الأفعال، ولظهر الجار قبلها في نحو: لأسيرنّ حتى تغرب الشمس، كما يظهر قبل أن. فهي إذن حرف جر، والفعل بعدها نصب بأن لازمة الإضمار، وقد أثر في المعطوف على منصوبها كما قد ذكر، لأنه يجوز في الثواني ما لا يجوز في الأوائل.
وأما "أو" فهو حرف عطف، معناها الشك والإبهام، ويليها المضارع على وجهين: أحدهما أن يكون مساويا للفعل الذي قبلها في الشك، فيتبعه في الإعراب، كقولهم: هو يقيم أو يذهب، ويؤكَّد أن تقوم أو تذهب، وليقمْ زيد أو يذهبْ.
والثاني أن يكون مخالفا، فيكون هو على الشك، والفعل الذي قبل أو على اليقين فلا يتبعه في الإعراب، لأنه لم يشاركه في حكمه، بل ينصب بأن لازمة الإضمار، إلا أن تقدر بناء الفعل على مبتدأ محذوف فيرفع. وعلامة مخالفة ما بعد "أو" ما قبلها، وقوعها موقع "إلى أنْ" كقولك: لأسيرنّ أو تغرب الشمس، ونحوه قول الشاعر:
لأستسهلنَّ الصعبَ أو أدركَ المنى
…
فما انقادت الآمالُ إلا لصابر
أو موقع "إلّا أنْ" كقولك: لأقتلن الكافر أو يسلم، ونحوه قول زياد الأعجم:
وكنتُ إذا غَمَزْتُ قناة قوم
…
كسرتُ كُعُوبها أو تستقيما
وكل ما يصح فيه تقدير "أو" بإلى أن يصح فيه تقديرها بإلا أنْ، من غير عكس. ولذلك لم يذكر سيبويه إلا تقديرها بإلا أن، وهو الصواب.
والأصل فيما مثلنا به: لأسيرن إلا أن تغرب الشمس، ولأقتلن الكافر إلا أن
يسلم، لأن المراد التعريف بثبوت السير والقتل على كل تقدير إلا عند غروب الشمس، وإسلام الكافر، فما بعد أو منه مخرج من الأصناف الثابت معها السير والقتل، فحقه أن يكون مخرجا بإلا، ولكن أقاموا "أو" مقامها لقربها منها، وكان ما بعد أو مخالفا في الشك لما قبلها، كما كان ما بعد إلا مخالفا لما قبلها، فإذا جاء الفعل بعد "أو" هذه فهو منصوب، ما لم يُبْنَ على مبتدأ محذوف فيرفع.
ونصبه عند البصريين ليس بأو، لأنها حرف عطف، وحروف العطف لا تعمل شيئا، بل بأن مضمرة، قال سيبويه بعد إنشاده قول امرئ القيس:
فقلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنّما
…
نحاول مُلْكا أو نموت فنُعْذَرا
المعنى: إلا أن نموت فنعذر، ولو رفعه لكان عربيا جائزا على وجهين: على أن يشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول تقديره: أو نحن نموت. ثم مثل بقوله: اضربه أو يستقيم، وبقوْل زياد: كسرت كعوبها أو تستقيم. ثم قال: المعنى إلا أن تستقيم. وإن شئت رفعت على الأمر على الابتداء، لأنه لا سبيل إلى الاشتراك، فحمل الرفع في المخالف على إضمار مبتدأ، والنصب على إضمار أن، بناء على أنها مع صلتها في تأويل اسم معطوف على ما قبل أو لتأوله بمصدر معمول لفعل محذوف تقديره فيما مثلنا: ليكونن سير مني أو غروب الشمس، وليكونن قتل مني للكافر أو إسلام منه. إلا أنهم لا يظهرون أن استكراها لعطف لفظ الاسم على لفظ الفعل.
ص: وتضمر أيضا لزوما بعد فاء السبب جوابا لأمر، أو نهي، أو دعاء، بفعل أصيل في ذلك، أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، أو لنفي محض أو مؤول، أو عرض، أو تحضيض، أو تمن، أو رجاء.
ش: اعلم أن الفاء حرف عطف في جميع أماكنها، ويقع بعدها المضارع على خمسة أوجه، لأنه إما مشارك لما قبلها داخل في حكمه، وإما مخالف لما قبلها خارج عن حكمه، وذلك إذا كان ما قبل الفاء غير واجب، وما بعدها إما مسبب عنه، غير مبني على مبتدأ محذوف، وإما مرتب عليه لإفادة نفي الجمع، وإما مرتب عليه لإفادة استئناف الإثبات.
فإذا قصد بالمضارع بعد الفاء اشتراكه بما قبلها في حكمه، تبعه في الإعراب، كقولك: زيد يأتيني فيحدثُني، وأريد أن يأتيني فيحدثني، وإن تأتني فتحدثْني أكرمْك.
وإن قصد به أنه مسبب مبني على مبتدأ محذوف، أو مرتب للاستئناف رفع، كقولك: ما تأتيني فتحدثُني، فترفع على جعل الإتيان سببا للحديث، وتقديره: فأنت تحدثُني. وعلى استئناف إثبات الحديث بعد نفي الإتيان، على معنى: وتحدثُني الساعة.
وإن قصد به أنه مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مرتب لإفادة نفي الجمع نصب، كقولك: ما تأتيني فتحدثني، فينصب على جعل الإتيان سببا للحديث، وتقديره: إن تأتني تحدثني. أو على الترتيب لنفي الجمع بين الفعلين وإرادة معنى: ما تأتيني محدثا، أي قد تأتيني وما تحدث.
ونصبه عند سيبويه بأن مضمرة، وما قبل الفاء في تأويل اسم معمول لفعل محذوف، ليصح العطف عليه، والتقدير: ما كان منك إتيان فحديث، فيصير الفعل على هذا التأويل بمعنى اسم، ليدلوا على أحد المعنيين المذكورين، ولم يظهروا أن بعد الفاء، كما لم يظهروها بعد أو.
وقال الكوفيون النصب بالفاء، والحجة عليهم أن الفاء لو كانت هي الناصبة لدخل عليها واو العطف وفاؤه، كما تدخل على واو القسم، ولجاز: ما أنت بصاحبي فأكرمك وفأحدثك، كما يجوز: والله ووالرحمن لأفعلن، فلما لم يجز
ذلك علم أنها حرف عطف مضمر بعدها العامل كواو رب.
ولا يطرد نصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء إلا في جواب نفي أو طلب وهو الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والعرض والتحضيض والتمني، وأتى وروده على ترتيب الكتاب.
فأما الأمر فكقولك: ايتني فأحدثك، تريد أن الإتيان سبب للحديث، فينتصب على تقدير: ليكن منك إتيان فحديث، قال أبو النجم:
يا ناقُ سيري عَنَقا فسيحا
…
إلى سليمانَ فنستريحا
ولو جزمته لم يستقم إلا أن تظهر اللام، ولو رفعته جاز على إضمار مبتدأ، وتقدير: إن تأتني فأنا أحدثك، أو على الاستئناف، كأنك قلت: ايتني فأنا ممن يحدثك، جئت أو لم تجئ.
وأما النهي فكقولك: لا تمددها فتشقها، (ولا تريد التشريك، فتنصب كما بعد الأمر، قال تعالى: (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) ولو جزمت فقلت: لا تمددها فتشققها)، جاز على التشريك في النهي، وإن كانت الفاء للسببية، قال:
فقلت له صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّه
…
فيذرِكَ من أعلى القطاةِ فتزلَقِ
ولو رفعت على معنى: فأنت تشقها، أو على الاستئناف، جاز.
وأما الدعاء فكقولك: اللهم ارحمني فأدخل جنتك، ولا تعذبني فآمن من
سخطك، فتنصب كما بعد الأمر والنهي، قال الشاعر:
فيا ربّ عجِّلْ ما نُؤَمِّلُ منهم
…
فيدفأ مَقْرُورٌ ويشبعَ مُرْمِل
وقال آخر:
ربِّ وَفِّقني فلا أعدِلَ عن
…
سَنَن الساعين في خيرِ سَنَن
ولا يجوز عند البصريين نصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب، لو قلت: رحم الله زيدا فيدخله الجنة، لم يجز، وإليه أشار بقوله:"بفعل أصيل في ذلك" وسيأتي التنبيه على الخلاف فيه.
وأما الاستفهام فكقولك: هل تأتيننا فتحدثَنا، ولا تريد التشريك فتنصب على تقدير: هل يكون منك إتيان فحديث، إما لأن الحديث مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف، والمعنى فيه: إن تأتني تحدثني، وإما لأنه مرتب لنفي الجمع، والمعنى فيه: هل تأتينا محدثا؟ قال الله تعالى: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) وقال الشاعر:
هل تعرفون لُباناتي فأرجوَ أن
…
تُقْضى فيرتدَّ بعضُ الروح للجسد
واختار شيخنا رحمه الله أنه لا يجوز النصب فيما ولى الفاء أو الواو بعد الاستفهام إلا إذا لم يتضمن وقوع الفعل، إما لأنه استفهام عن الفعل نفسه كما تقدم، وإما لأنه استفهام عن متعلق فعل غير محقق الوقوع كما في نحو: متى تزورني فأكرمَك، وأين تسير فأرافقَك؟ ومَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ فينصب لأنه جواب فعل غير واجب. ولو كان الاستفهام عن متعلق فعل محقق الوقوع، كما في قولك: لم يكن الإتيان والحديث، لِم تأتينا فتحدثُنا أو وتحدثنا، فليس إلا الرفع،
لأن الإتيان موجب فلا يجوز النصب بعده إلا على مذهب من ينصب في الواجب كقوله: وألحق بالحجاز فأستريحا
واقتدى في هذه المسألة بما ذكره أبو علي في الإغفال رادا على قول أبي إسحاق الزجاج في قوله تعالى: (لِم تلبسون الحقَّ بالباطل وتكتمون الحق) ولو قال: وتكتموا الحق لجاز، على قولك: لِمَ تجمعون بين ذا وذا؟ ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب.
وقد حكى ابن كيسان نصب الفعل جواب الاستفهام في نحو: أين ذهب زيد فنتبعَه؟ وكم مالك فنعرفَه؟ ومَن أبوك فنكرمَه؟ ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل الفاء باسم معمول لفعل أمر، دل عليه الاستفهام، والتقدير: ليكن منك إعلامٌ بموضع ذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بقدر مالك فمعرفةٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامٌ منا له. وإذا كان مثل ذلك جائزا على ما ذكرنا، فالذي قاله الزجاج هو الصواب.
وأما النفي فكقولك: لا تأتيني فتحدثني، فالنصب على تقدير: لا يكون منك إتيان فحديث، وله معنيان: أحدهما أن يكون الإتيان سببا للحديث، وهو منفي نفيا مطلقا، والحديث ممتنع لعدم سببه، فكأنه قيل: أنت لا تأتيني فكيف تحدثني، ولو أتيتني حدثتني، كما قال تعالى:(لا يُقْضى عليهم فيموتوا).
والثاني أن يكون الإتيان منفيا بقيد اقتران الحديث به، كأنه قيل: ما تأتيني إلا لم تحدثني، أو لا تأتيني محدثا، أي: منك إتيان كثير بلا حديث، كما تقول: لا يسَعُني شيء ويعجز عنك.
ويجوز فيه الرفع على ثلاثة أوجه: إما على التشريك، كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني. وإما على السببية وبناء ما بعد الفاء على مبتدأ محذوف، كما قال تعالى:(ولا يُؤْذَنُ لهم فيعتذرون) تقديره: فهم يعتذرون، والمعنى: فكيف يعتذرون. وإما على الاستئناف كما قال:
غير أنّا لم تأتِنا بيقينٍ
…
فنُرَجِّي ونكثرُ التأميلا
كأنه قال: فنحن نرجى أبدا.
واعلم أن شرط النصب بعد النفي أن يكون داخلا على الفعل المعطوف عليه إما خاليا عما يزيل معناه وهو النفي المحض، كما قال: ما تأتيني فتحدثني، ونحوه مما تقدم ذكره. وإما معه ما يزيل معناه وينقل الكلام إلى الإثبات، وهو النفي المؤول، وذلك ما قبله استفهام، أو بعده استثناء. فالأول كقولك: ألم تأتنا فتحدثنا، فتنصب على معنى: ألم تأتنا محدثا، قال الشاعر:
ألم تسألْ فتُخْبرَك الرسومُ
…
على فِرْتاج والطللُ القديمُ
وكل موضع يدخل فيه الاستفهام على النفي فنصبه جائز على هذا المعنى، ولك فيه الجزم والعطف، على معنى: ألم تأتنا فلم تحدثنا، والرفع على الاستئناف وإضمار مبتدأ، كما قال:
ألم تسأل الرَّبْعَ القَواء فينطقُ
…
وهل يُخبِرَنْكَ اليومض بيداءُ سملقُ
كأنه قال: فهو ينطق.
والثاني كقولك: ما تأتينا فتقولَ إلا خيرا، فتنصب، مع أنك أتيت بإلا،
لأنه في معنى: ما تأتينا فتقول شرا. قال سيبويه: "وتقول: لا تأتينا فتحدثَنا إلا ازددنا فيك رغبة، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى: ما تأتيني محدثا" قال: ومثل ذلك قول اللعين المنقري:
وما حَلّ سَعْدِيٌّ غريبا ببلدة
…
فيُنْسَبَ إلا الزِّبْرِقانُ له أب
يعني أن نصب ما فيه الاستثناء إنما يجوز على وجه واحد من وجهي النصب في جواب النفي المحض، ولو رفع لجاز على التشريك، ومعنى: ما تأتينا وما تقول إلا خيرا. ولا يجوز على الاستئناف، لاستلزامه التفريغ في الموجب.
وتقول: ما أنت إلا تأتينا فتحدثُنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا فالرفع لا غير، لأن النفي لم يدخل في المعطوف عليه، إنما دخل في الأول على شيء مقدر أخرج منه المعطوف عليه وأوجب بإلا، وفي الثاني على متعلق المعطوف عليه، وكان معناه النفي، فصار إثباتا.
ويجوز أن يكون المراد بالنفي المحض ما يدل عليه بما وضع لمجرد النفي، كما ولا وليس، ويدخل فيه جميع ما ذكر من النفي الخالي عما يزيل معناه، والمقارن لما يزيله، ويكون المراد بالنفي المؤول على هذا، وهو الأقرب، ما يدل عليه مما له مسمى يقرب من معنى النفي، فيقام مقامه، نحو: غير، فإنه اسم بمعنى مخالف، وقد يقصد به النفي، فيكون له جواب مقرون بالفاء، كقولك: غير قائم الزيدان فنكرمَهما، ذكره ابن السراج، ثم قال: ولا يجوز هذا عندي، قال الشيخ رحمه الله: هو عندي جائز. وحجته في ذلك جواز ذكر "لا" مع المعطوف على المضافة هي إليه، كما في قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا
الضالين) وصحة إعمال الصفة للاعتماد عليها، كما في قول الشاعر:
غيرُ مأسوفٍ على زمن
…
ينقضي بالهمِّ والحَزَن
وأما العَرْضُ فكقولك: ألا تنزلُ فتصيبَ خيرا. وهو كجواب النفي بعد الاستفهام، والمعنى فيه: إذا نزلت أصَبْت، قال الشاعر:
يابنَ الكرام ألا تدنو فتُبْصرَ ما
…
قد حَدّثوك فما راءٍ كمنْ سَمِعا
وإن شئت رفعت على التشريك، أو إضمار مبتدأ، أو الاستئناف.
وأما التحضيض فكقولك: هلا أمرت فتطاعَ. وحكم الجواب بعده حكمه بعد العرض، قال الله تعالى:(لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ).
وأما التمني فكقولك: ليته عندنا فيحدّثنا، وألا ماء فأشربه، إن شئت نصبت على المعنى في نصب جواب الاستفهام، قال الله تعالى:(يا ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزا عظيما) وإن شئت رفعت على ما تقدم.
وربما نصبَ الجواب بعد "لو" جعلُها تمنيا، قال الشاعر:
ولو نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْب
…
فيُعْلمَ بالذَّنائب أيُّ زير
وقال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: (وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيدهنوا).
وأما الرجاء فقريب من التمني، وعند البصريين أن المقرون بأداة الترجي في
حكم الواجب، فلا يكون له جواب منصوب. وقال الكوفيون:"لعل" تكون استفهاما وشكا، وتجاب في الوجهين، ومن أمثلتهم: لعلي سأحج فأزورك. والبصريون لا يعرفون الاستفهام بلعل، ولا نصب الجواب بعدها.
والصحيح أن الترجي قد يحمل على التمني، فيكون له جواب منصوب، كقراءة حفص عن عاصم:(لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلعَ) وكقول الراجز: أنشده الفراء:
عَلّ صُرُوفَ الدهر أو دُولاتها
…
يُدِلْننا اللّمّةَ من لمّاتها
…
فتستريحَ النفسُ من زَفْراتها
ولا يحسن نصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء في غير ما ذكر، فلا يحسن نصبه بعد الخبر الواجب، لأن الذي أحوجنا بعد النفي والطلب إلى الإضمار، وحمل الكلام على غير ظاهره، هو الدلالة على المخالفة بين الأول والثاني على ما بيناه.
وإذا عطف بالفاء على الخبر الواجب، كما في نحو: أنت تأتينا فتحدثنا، لم يقع خلاف بين الأول والثاني، فلم يحتج إلى النصب على ذلك الإضمار والتأويل، ولم يرد استعماله إلا في أشياء قليلة سيأتي التنبيه عليها.
ص: ولا يتقدم ذا الجوابُ على سببه، خلافا للكوفيين، وقد يحذف سببه بعد الاستفهام، ويلحق بالنفي التشبيه الواقع موقعه، وربما نفي بقد فينصب الجواب بعدها.
ش: لا يجوز تقديم الجواب بالفاء على سببه، لأنه معطوف، فلا يتقدم على المعطوف عليه. وقال ابن السراج: وقد أجازوا، يعني الكوفيون، متى فآتيَك تخرجُ؟ ومتى فأسيرَ تسيرُ؟.
وقد يحذف سبب الجواب بالفاء بعد الاستفهام لدلالة القرينة عليه، قال الكوفيون: والعرب تحذف الأول مع الاستفهام للجواب ومعرفة الكلام، فيقولون: متى فأسيرَ معك؟
وقال الكوفيون: كأنّ ينصب الجواب معها، قال ابن السراج: وليس بالوجه، وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه، وهو نحو قولك: كأنك وال علينا فتشتمنا.
وربما نفي بقد فينصب بعدها الجواب، ذكر ذلك ابن سيده، وحكى عن بعض الفصحاء: قد كنت في خير فتعرفه، بالنصب على معنى: ما كنت في خير فتعرفَه.
فصل: ص: وتضمر أنْ الناصبة لزوما بعد واو الجمع واقعة في مواضع الفاء، فإن عطف بهما أو بأو على فعلٍ قبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن. ويميز واوَ الجمع تقدير مع موضعها، وفاء الجواب تقدير شرط قبلها، أو حال مكانها.
ش: الواو حرف عطف، وينصب المضارع بعدها على أربعة أوجه: لأنه إما مشارك لما قبلها في حكمه، وإما مخالف له، وذلك إذا كان ما قبل الواو غير واجب، وما بعدها إما مستأنف وإما مصاحب عطف لنفي الجمع، غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مبني على مبتدأ محذوف.
فإذا قصد بالمضارع بعد الواو اشتراكه فيما قبلها تبعه في إعرابه. وإن قصد به أنه مستأنف، أو مصاحب عطف لنفي الجمع، وهو مبني على مبتدأ محذوف رفع، كقولك: ما تأتيني وتحدثني، على استئناف إثبات الحديث بعد نفي الإتيان، أو على نفي الجمع بين الإتيان والحديث، والذهاب إلى معنى: وأنت تحدثنا.
وإن قصد به أنه مصاحب عطف لإفادة نفي الجمع، وليس مبنيا على مبتدأ محذوف نصب، كقولك: ما تأتينا وتحدثنا، على نفي الجمع بين الإتيان والحديث، على معنى: ما تأتينا محدثا، أي تأتي ولا تحدث.
ونصبه عند الكوفيين بالواو. وعند البصريين بأن لازمة الإضمار، وما قبل الواو في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف ليصح العطف عليه، والتقدير: ما كان منك إتيان وحديث، فنصبوا الفعل على هذا التأويل، ليدلوا على المصاحبة، ونفي الجمع، وإنما يكون ذلك في مواضع الفاء.
وأما الأمر فكقولك: زرني وأزورَك، فالنصب على معنى، زرني مع زيارتي لك، أي اجمع بين الزيارتين، والتقدير: لتكن زيارة منك وزيارة مني، قال الشاعر:
فقلت ادعِي وأدعُوَ إن أندى
…
لصوت أن ينادى داعيان
وأما النهي فكقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، والتقدير: لا يكن منك أكل للسمك وشرب للبن. ويجوز فيه الجزم على التشريك والنهي عن كل من الفعلين، والرفع على إضمار مبتدأ، والواو للحال، كأنه قيل: لا تأكل السمك وأنت تشرب اللبن، أي في حال شرب اللبن، أو على الاستئناف، كأنه قيل: ومشروبك اللبن، أكلت السمك أو لم تأكله، فأما قول الأخطل:
لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثلَه
…
عارٌ عليك إذا فعلت عظيمٌ
فالنصب على معنى: لا تجمع بين أن تهى وتأتي، ولو جزم كان المعنى فاسدا، ولو رفع جاز على إضمار مبتدأ، والواو للحال، لا على الاستئناف.
وأما الدعاء فكقولك: رب وفقني وأطيعَك، فتنصب فيه ما بعد الواو، وكما في الأمر.
وأما الاستفهام فكقولك: هل تأتينا وتحدثنا؟ فينصب على معنى: هل يكون منك إتيان وحديث؟ وإن شئت رفعت على الاشتراك في الاستفهام، أو على إضمار مبتدأ وقصد الحال، أو على الاستئناف.
وأما النفي فكقولك: لا يَسَعُني شيء ويعجز عنك، كما قال تعالى:(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين) وقال الأخطل:
ألم أكُ جارَكم ويكونَ بيني
…
وبينكم المودةُ والإخاء
وإن شئت رفعت على ما رفعت عليه بعد الاستفهام.
وأما العرض فقولك: ألا تنزلُ وتصيبَ خيرا.
وأما التحضيض فكقولك: هلا أمرت وتطاعَ، فتنصب فيهما بعد الواو كما في النصب بعد الاستفهام.
وأما التمني فكقولك: ليتك تأتيني وتحدثَني، فتنصب على معنى: ليتك تجمع بين الإتيان والحديث، والتقدير: ليته كان منك إتيان وحديث، ومثله قراءة حمزة وحفص:(يا ليتنا نُرَدُّ ولا نكذبَ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين) وإن شئت رفعت على الاشتراك بين الفعلين في معنى التمني، أو على إضمار مبتدأ وقصد الحال، أو على الاستئناف.
وقد نبه على وجه ترك النصب بإضمار أن بعد أو والفاء والواو بقوله: "فإن عطف بهما أو بأو على فعل قَبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن" بمعنى أن
هذه الأحرف إذا قصد بها عطف ما بعدها على فعل قبلها، واشتراكه في حكمه، تبعه في الإعراب، وبطل النصب بإضمار أن، وإن قصد بها استئناف ما بعدها، وذكره منقطعا عن حكم ما قبلها رفع، وبطل النصب بإضمار أن.
وقد فاته التنبيه على بطلان النصب بإضمار أن إذا قصد بناء ما بعد هذه الأحرف على مبتدأ محذوف، وقد مضى شرح هذا كله وتمثيله.
والأحسن أن يقال: فإن بني ما بعدهما أو بعد أو على مبتدأ محذوف، أو عطف على فعل قبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن.
ويميز واو الجمع من الواو العاطفة صحة تقدير مع موضعها، وأن واو الجمع إنما تكون في مقام نفي أو طلب للجمع بين فعلين. ومتى نفيت أو طلبت فعلا معلقا به "مع" مضافة إلى مصدر فقد أفدت نفي الجمع بين ما قبلها وما بعدها أو طلبه، ألا ترى أنك إذا قلت: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن، فنصبت لأنك جعلت الواو للجمع، وأردت النهي عن الجمع بين الفعلين، لا عن واحد منهما، فكيف يصح أن يجعل فيه "مع" مكان الواو، فيقال: لا تأكل السمك مع شرب اللبن، لأنك إذا نهيته عن الأكل المقيد بمصاحبة الشرب، فلم تنهه عن الأكل وحده، ولا عن الشرب وحده، ولكن عن الجمع بينهما، وذلك هو المعنى المراد في النصب.
ويميز فاءَ الجواب من العاطفة صحةُ تقدير شرط قبلها، أو حال مكانها، لأن المراد بفاء الجواب الفاء التي يصح نصب الفعل بعدها بإضمار أن، وتلك هي الواقعة إما قبل مسبب انتفى سببه، فيصح حينئذ تقدير شرط قبل الفاء، كما إذا قصدت الإخبار بنفي الحديث لانتفاء الإتيان فقلت: ما تأتينا فتحدثنا، فإنه يصح أن يقال فيه: ما تأتينا، وإن تأتنا فتحدثنا. وإما بين مرتبتين أريد نفي اجتماعهما، فيصح تقدير حال مكانها، كما إذا قصدت أن تنفي اجتماع الحديث والإتيان فقلت: ما تأتينا فتحدثنا، فإنه يصح فيه أن يقال: ما تأتينا محدثا، فإن النفي إذا دخل عليه الفعل المقيد بالحال لم ينفه مطلقا، إنما ينفيه بقيد تلك الحال، فهو لنفي الجمع بينه وبينها، وذلك هو المعنى المقصود من النصب على الوجه المذكور.
ص: وتنفرد الفاء بأن ما بعدها في غير النفي يجزم عند سقوطها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط، لا بإنْ مضمرة خلافا لمن زعم ذلك، ويرفع مقصودا به الوصف، أو الاستئناف.
ش: كل فعل مأمور به أو منهي عنه فلا بد أن يكون سببا لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، وإلا فلا فائدة في طلبه، فمن لوازم الأمر بكل فعل أو النهي عنه، كونه سببا لأمر، فلهذا إذا خلا الجواب في غير النفي من الفاء وقصد الجزاء جزم، لأنه جواب لشرط مقدر، دل عليه ما قبل، تقول في الأمر: زرني أزرْك. وفي النهي: لا تعص الله تنلْ رضاه. وفي الدعاء: اللهم ارزقني مالا أتصدقْ به، فتجزم على تقدير: إن ترزقني، وإن لا تعص، وإن تزرني. ولك أن ترفع على الاستئناف، أو على أنه حال لمعرفة، أو نعت لنكرة.
وتقول في الاستفهام: هل تأتينا تحدثْنا، فتجزم لأنك تريد بالاستفهام الأمر، كما في نحو:(أأسلمتم) و: (فهل أنتم منتهون) فتدل على شرط هذا جزاؤه، وصار بمنزلة قولك: ايتنا تحدثْنا. وتقول: أين بيتك أزرْك، لأن المعنى: عرفني بيتك أزرْك. ولك أن ترفع كما بعد الأمر.
وتقول في العرض: ألا تنزلُ تُصِبْ خيرا. وفي التحضيض: هلا أمرت تطعْ. وفي التمني: ليته عندنا يحدثْنا، فيجرى الجزاء بعدها مجراه بعد الأمر.
وأما الترجي فجزم الجواب بعده غريب، أنشده الشيخ من شرح إكمال العمدة:
لعلّ التفاتا منكِ نحوي مُيَسَّرُ
…
يَمِل منك بعد العُسْر عطفيك لليُسْر
وأما النفي فجوابه إن قرن بالفاء جاز نصبه ورفعه كما سبق، وإن خلا منها رفع على
الحال أو النعت على الاستئناف، ولم يجز جزمه لأن النفي ليس مثل الطلب في دلالته على الشرط، وفي اقتضائه له.
واعلم أن الجواب المذكور لا خلاف في أنه جزاء شرط من جهة المعنى، ولكن اختلف في الذي عمل فيه الجزم ما هو، فقال أكثرهم: الجواب مجزوم بشرط مقدر دل عليه ما قبل. وقال قوم: هو مجزوم بنفس ما قبله، لتضمنه معنى الشرط، وهو ضعيف، لأن التضمن زيادة بتغيير للوضع، والإضمار زيادة بغير تغيير، فهو أسهل، ولأن التضمين لا يكون إلا لفائدة، ولا فائدة في تضمين الطلب معنى الشرط، (لأنه يدل عليه بالالتزام، فأي فائدة في تضمنه لمعناه؟ واختار شيخنا رحمه الله تعالى أن الجواب مجزوم بفعل الطلب لما فيه من معنى الشرط) أخذا بظاهر كلام سيبويه، قال في شرح الكافية: وأكثر المتأخرين ينسبون جزم جواب الطلب لإن مقدرة، والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ إنْ، بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما هو مغن أسماء الشرط، نحو:"مَنْ يأتني أكرمْه" قال: وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه رحمهما الله.
ولا شك أن سيبويه قال: "فأما الجزم بالأمر فكقولك ايتني آتك، وأما الجزم بالاستفهام فكقولك: ألا تأتيني أحدثْك، وأما الجزم بالتمني فكقولك: ليته عندنا يُحدثْنا، وأما الجزم بالعرض فكقولك: ألا تنزلُ تُصبْ خيرا. وإنما انجزم هذا الجواب فكما انجزم جواب: إن تأتني، بإن تأتني" ثم قال: وزعم الخليل أن هذه الأقاويل كلها فيها معنى إنْ، فلذلك انجزم الجواب.
وليس ذلك من سيبويه محمولا على ظاهره، قال السيرافي: هذه الأشياء التي ذكرناها من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض تغني عن ذكر الشرط بعدها، ويكتفى بذكرها عن ذكره، فلذلك تجوز سيبويه في عبارته، فأوهم أن هذه الأشياء هي الجازمة لما بعدها، ثم قال: وهذا من سيبويه مسامحة في اللفظ واتساع، كما اتسع في نصب الظرف، وقال في نحو: زيد خلفك، النصب بما
قبله، ثم حكى عن الخليل ما يدل على حقيقة الجازم. وهذا الذي ذكره السيرافي هو الذي يعول عليه في هذه المسألة. والله أعلم.
ص: والأمر المدلول عليه بخبر أو اسم فعل كالمدلول عليه بفعله في جزم الجواب لا في نصبه، خلافا للكسائي فيه وفي نصب جواب الدعاء المدلول عليه بالخبر، ولبعض أصحابنا في نصب جواب نَزال وشبهه.
فإن لم يحسن إقامة: إنْ تفعل وإنْ لا تفعلْ مقام الأمر والنهي لم يجزم جوابهما، خلافا للكسائي.
ش: قد يُلْحق الأمر الذي بلفظ الخبر واسم الفعل بفعل الأمر، فيكون لهما جواب مجزوم، كقولهم: حسبك ينم الناس، واتقى الله امرؤ فعل خيرا يثبْ عليه. لأنه بمعنى: اكتف، وليتق. ومنه قوله تعالى:(تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفرْ لكم ذنوبكم) فيغفر جزم لأنه جواب لتؤمنون، لكونه في معنى آمنوا.
وأجاز الكسائي أن يكون للأمر بلفظ الخبر، ولاسم الفعل جواب منصوب بعد الفاء نحو: صه فاحدثَك، ونَزالِ فأنزلَ، وحسبك الحديث فينامَ الناسُ. والقياس يأبى ذلك، ولأن المصحح للنصب بعد الفاء بإضمار أن إنما هو تأويل ما قبلها بمصدر ليصح العطف عليه، فإذا كان قبل الفاء أمر بلفظ المبتدأ والخبر، أو اسم فعل تعذر تأوله بالمصدر، لتعذر تقدير صلة لأن، فامتنع نصب ما بعد الفاء، ومن ثم لم يوافق الكسائي فيما ذهب إليه أحدٌ. إلا أن بعض أصحاب كتاب سيبويه، وهو أبو الحسن بن عصفور أجاز نصب جواب اسم الفعل المشتق من مصدر نحو: نَزالِ ودَراكِ، ولم يجز نصب جواب الأمر بلفظ الخبر، ولا نصب جواب اسم الفعل غير المشتق. وليس في كون نزال وشبهه مشتقا من لفظ المصدر ما يسوغ تأوله بالمصدر، فإن المصحح للنصب في نحو: أنزل
فأنزلَ، هو صحة تأول فعل الأمر بالمصدر، من قبل أن فعل الأمر يصح أن يقع في صلة أنْ مصدرا، كما في نحو: أوعزت إليه بأن افعل، ولا يصح ذلك في اسم الفعل المشتق من المصدر، كما لم يصح في غير المشتق، ولا فرق بينهما في امتناع نصب الجواب.
وقد تقدم أنه لا ينصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب. وحكى الشيخ هنا أن الكسائي يجيز نصب جواب الدعاء بلفظ الخبر، ولم ينفرد الكسائي بهذا الجواز، فإن ابن السراج حكى ذلك عنه، ثم قال: وقال الفراء: إن قلت: غفر الله لزيد فيدخلَه الجنة جاز.
واعلم أن الأمر إنما يجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه دلالة ظاهرة، ويستلزمه لزوما بيِّنا، وهو شرط الفعل المأمور به. وعلامة ذلك صحة تقدير: إن تفعل، مكان الأمر. تقول: ائتني آتك، لأنك لما أمرت بالإتيان دل على أنه سبب وشرط لشيء هو عندك الإتيان، فجزمت بناء على ما دل عليه الأمر، كأنك قلت: إن تأتني آتك. وتقول: ائتني لا أزورُك أبدا، فترفع على الاستئناف، ولا يجوز أن تجزمه على معنى: إن تأتني لا أزورك، لأن الإتيان لا يكون سببا لترك الزيارة. ولا على معنى: إن لا تأتني لا أزورك، لأن لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أنه شرط لفائدة، فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير: إن تفعل مكانه، وجعل ذلك الفعل جوابا له، وليس لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لشيء، فلا يجوز جزم الفعل بعده، بأنه جواب شرط مخالف.
والنهي فيما ذكرنا كالأمر، فإنه يجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه دلالة ظاهرة، ويستلزمه لزوما بينا، وهو شرط ترك الفعل للنهي عنه، وعلامة ذلك صحة تقدير: إن لا تفعل مكان النهي، تقول: لا تعص الله تنل رضاه، (لأنك لما نهيت عن المعصية، وطلبت تركها دل على أنه سبب وشرط لشيء، وكان ذلك الشيء عندك نيل الرضى، فجزمت بناء على ما دل عليه النهي، كأنك قلت: إن لا تعص الله تنل رضاه). وتقول لا تدن من الأسد يأكلُك، فترفع
على الاستئناف، ولا يجوز جزمه على معنى: إن لا تدن من الأسد يأكلك، لأن التباعد عن الأسد لا يكون سببا لأكله، ولا على معنى: إن تدن من الأسد يأكلك، لأن الفعل النهي دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لفائدة، فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير: إن لا تفعل مكانه، وجعل ذلك الفعل جوابا، وليس لفعل النهي دلالة ظاهرة على أن فعله شرط لشيء. فلا يجوز جزم الفعل بعده على أنه جواب شرط مخالف.
وأجاز الكسائي فيه الجزم، كما يجوز فيه النصب بعد الفاء.
قال سيبويه: لا تدن من الأسد يأكلْك، قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس، لأنك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سببا لأكله، فإن رفعت الكلام حسن، وإن أدخلت الفاء فحسن، وذلك قولك: لا تدن من الأسد فيأكلك، وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزم، ألا ترى أنك تقول: ما تأتينا فتحدثَنا، والجزاء هنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا دخلت الفاء. ومراد سيبويه بقبيح أنه غير مستعمل، وبحسن أنه مستعمل.
وحاصل الفرق بين النصب والجزم بعد النهي أن الجزم إنما يجوز في فعل يصح كونه جوابا لشرط مقدر دل عليه النهي، كما في قولك: لا تدن من الأسد تنج. وأما النصب فإنما يجوز في فعل مسبب عن فعل قبل الفاء منهي عنه، طالبا لنفي المسبب بانتفاء سببه، كما في قولك: لا تعص الله فتدخل النار. والمجزوم بعد النهي لازم لنهي ما قبله، والمنصوب بعده لازم لثبوت ما قبله، فوضح الفرق بين الموضعين.
وتقول: لا تدن من الأسد فتسلمُ، بالرفع على إضمار مبتدأ، وعلى الاستئناف، ولا يجوز أن تنصب، لأن دنو الأسد لا يكون سببا للسلامة، فيصح تقديره: بإن لا يكن منك دنو فسلامة.
وقد جاء من السماع ما يصلح أن يحتج به الكسائي كقول بعض الصحابة
رضي الله عنهم: "يا رسول الله، لا تشرف يصبْك سهم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يُؤْذِنا بريح الثوم" فيمن رواه بالجزم، ورواية الرفع أكثر، وحَمْل ما جاء من ذلك على الإبدال أولى من حمله على الشذوذ.
ص: وقد تضمر أن الناصبة بعد الواو والفاء الواقعتين بين مجزومي أداة شرط، أو بعدهما، أو بعد حصر بغنما اختيارا، أو بعد الحصر بإلا، والخبر المثبت الخالي من الشرط اضطرارا. وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء اللازم لسقوطها الجزم. والمنفي بلا الصالح قبلها "كي" جائز الرفع والجزم سماعا عن العرب.
ش: قد تضمر أنْ الناصبة بعد واو الجمع، وفاء الجواب في غير المواضع المذكورة، وذلك على ضربين: أحدهما جائز في الاختيار وسعة الكلام، والآخر مخصوص بالضرورة.
فيجوز في الاختيار إضمار أنْ الناصبة بعد الواو والفاء الواقعتين بين مجزومي أداة شرط، أو بعدهما، أو بعد حصر بإنما.
مثال الأول: إن تأتني فتحدثني أكرمْك، فتنصب ما بعد الفاء لأن الشرط غير واجب، فيجوز أن يلحق بالنفي، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثَني، وإن تأتني وتحدثَني أحدثْك. فقال: هذا يجوز، والجزمُ الوجه، ووجه نصبه أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد أن يقول: إن يكن إتيان فحديث أحدثْك، فما قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أنْ، لأن الفعل معها اسم، وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد
من الحديث، وأنشد الشيخ رحمه الله:
ومَن يقتربْ منا ويخضعَ نُؤْوه
…
ولا يخشَ ظلما ما أقام ولا هَضْما
وأما قول زهير:
ومَنْ لا يُقَدِّمْ رجلَه مُطْمَئِنّة
…
فَيُثْبِتها في مُسْتوى الأرضِ يَزلق
فنصب يثبت فيه لأن الفعل المتقدم على الفاء منفي، وجواب النفي النصب، في مجازاة وغيرها.
وأجاز الكوفيون نصب المعطوف على الشرط بثم كما في الواو والفاء، ومنه قراءة الحسن:(ومَن يخرجْ من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركَه الموت).
ومثال الثاني: إن تأتني آتك وأحسنْ إليك، فالوجه فيه الجزم على الإشراط في معنى الجزاء، أو الرفع على الاستئناف. ويجوز نصبه بإضمار أنْ على تقدير: إن تأتني يكن إتيان وإحسان.
وحكى سيبويه أن بعضهم قرأ: (يُحاسبْكم به الله فيغفرَ لمن يشاء ويعذبَ من يشاء) ثم قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قولك: إن تأتني آتك وأعطيَك، ضعيف، وهو نحو من قوله:
وألحقُ بالحجاز فأستريحا
فهذا يجوز، وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا، لأنه ليس بواجب أن يفعل، إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجب كالاستفهام ونحوه، أجازوا فيه هذا على ضعف، وإن كان معناه كمعنى ما قبله، وأنشد الأعشى:
ومن يَغْتربْ من قومنا لا يزلْ يرى
…
مصارعَ مظلومٍ مَجَرًّا ومَسْحَبا
وتُدْفَنَ فيه الصالحاتُ وإنْ يُسئْ
…
يكنْ ما أساء النارَ في رأس كوكبا
ومثال الثالث قراءة ابن عامر: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كنْ فيكونَ) بالنصب، على تقدير: فإنما يكون منه كن فيكون من ذلك الأمر، وهو نادر لا يكاد يعثر على مثله إلا في ضرورة الشعر. فأما قولهم: إنما هي ضربة من الأسد فيحطم ظهره، فمن النصب بإضمار أن جوازا، لعطف مصدر مؤول على مصدر صريح، والمعنى: هي ضربة فحطمة، لا من باب قراءة ابن عامر.
ويختص بالضرورة إضمار أن الناصبة بعد الحصر بإلا، كقولك: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا.
وبعد الخبر المثبت الخالي من الشرط كقول الشاعر:
سأترك منزلي لبنى تميم
…
وألحقُ بالحجاز فأستريحا
أصل الكلام: ألحق بالحجاز فأستريحُ، ولكن لما كان الرَّوِيُّ مفتوحا اضطر فنصب على تقدير: يكون لحاق فاستراحة، ومثله قول طرفة:
لنا هَضْبةٌ لا ينزلُ الذُّلُّ وسْطَها
…
ويأوى إليها المستجيرُ فَيُعصَما
وقول الأعشى:
ثُمّتَ لا تَجْزُونني بعد ذاكُمُ
…
ولكن سيجزيني الإلهُ فيُعْقِبا
وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء اللازم لسقوطها الجزم، وهي الفاء الواقعة في جواب شرط أو طلب.
أما الشرط فإذا عطف على جوابه المقرون بالفاء مضارع فالوجه رفعه، كقوله تعالى:(وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفرُ عنكم من سيئاتكم) لأن الكلام الذي بعد الفاء أجرى مجراه في غير الجزاء، فحق ما عطف عليه أن يكون كذلك، ويجوز فيه النصب بإضمار أن كما تقدم، والجزم أيضا بالعطف على موضع الفاء، كقراءة بعضهم:(من يضلل الله فلا هادي له ويذَرْهم في طُغْيانهم يعمهون) ونظّر سيبويه الجزم فيه بالنصب في قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وأما الطلب فإذا عُطِف على جوابه المقرون بالفاء مضارعٌ كما في قولك: زرني فأزورَك وأحسن عشرتك، فلك في المعطوف النصب على التشريك في عمل أنْ المضمرة، والرفع على الاستئناف، والجزم على توهم حذف الفاء، ومنه قراءة بعضهم:(لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين) فالجزم في ذا نظير الجر في قوله:
ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا
وحكى الفراء عن العرب الرفع والجزم في المضارع المنفي بلا الصالح قبلها كي، وأنهم يقولون: ربطت الفرس لا ينفلتُ، ولا ينفلتْ، وأوثقت العبد لا يفرُّ ولا يفررْ، قال: وإنما جزم لأن تأويله: إن لم أربطه فر، فجزم على التأويل، وأنشد لرجل من عقيل:
وحتى رأَيْنا أحسنَ الفعل بيننا
…
مُجاملةً لا يقرف الشَّرَّ قارِفُ
ولآخر:
لو كنتَ إذ جئتَنا حاولت رُؤْيتنا
…
أتيتنا ماشيا لا تُعرَفِ الفرسُ
بجزم يقرف وتعرف، ورفعهما.
فصل: ص: تظهر أنْ وتضمر بعد عاطف الفعل على اسم صريح، وبعد لام الجر غير الجحودية، ما لم يقرن الفعل بلا بعد اللام فيتعين الإظهار. ولا تنصب أن محذوفة في غير المواضع المذكورة إلا نادرا، وفي القياس عليه خلاف.
ش: اطرد نصب المضارع بإضمار أن جائزة الإظهار في موضعين: أحدهما: أن يكون الفعل معطوفا على اسم صريح، كقول الشاعر:
لَلُبْسُ عباءة وتقرَّ عيني
…
أحبُّ إليّ من لُبْس الشُّفوف
أراد: للبس عباءة وأن تقر عيني، فحذف أن وأبقى عملها، ولو استقام الوزن بإظهار أنْ كان أقيس.
ولا يختص هذا الإضمار بالمعطوف بالواو، بل يجوز في المعطوف بغيرها،
كالفاء، وثم، وأو، مثاله بالفاء قول بعض الطائيين:
لولا تَوَقُّعُ مُعْتَرٍّ فأُرضيَهُ
…
ما كنتُ أُوثِر إتْرابا على تَرَب
ومثاله بثم قول الآخر:
إنّي وقتْلي سُلَيْكا ثم أعقلَه
…
كالثور يضربُ لما عافت البقرُ
ومثاله بأو قراءة السبعة إلا نافعا: (أو يرسلَ رسولا) بنصب يرسل، عطفا على "وَحْيا" وأصله: أو أن يرسل رسولا، ومثله قول الشاعر:
ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزةٌ
…
وآلُ سُلَيم أو أسوءَك عَلْقَما
والثاني: أن يكون بعد لام الجر غير المؤكدة للنفي، وهي لام التعليل، كما في نحو: جئت لتحسنَ. ولام العاقبة كما في قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكونَ لهم عدوا وحزنا) والزائدة كما في قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم) فإن الفعل إذا وقع بعد إحدى هذه اللامات كان نصبه بإضمار أن، لأن اللام حرف جر، فهي كسائر عوامل الأسماء في امتناع دخولها على الأفعال، فإذا وليها الفعل وجب أن يكون مقدرا بأن، ليكون معها اسما مجرورا باللام، فنصبوه بها، وإن شئت أظهرت أن نحو: جئت لأن تحسن، وأردت لأن تفعل.
وإنما يجوز إضمار أن وإظهارها بعد اللام المذكورة إذا كان الفعل بعدها مثبتا، فلو كان منفيا بلا وجب إظهار أن، كما في قولك: جئت لئلا تجيء.
ولا يجوز إضمار أن بعد غير اللام من حروف الجر، خصوصا بذلك لكثرة دور معناها في الكلام.
وقد تحذف أن قبل المضارع في غير المواضع المذكورة، فتلغى غالبا، كقولهم: تسمعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه. وقول الشاعر:
ألا أيُّهذا الزَّاجري أحضرُ الوغى
…
وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخْلِدي
وقول الآخر:
وما راعني إلا يسيرُ بشرطة
…
وعَهْدي به قينا يَفُشُّ بِكير
تقديره: أن تسمع، وعن أن أحضر، وإلا أن يسير، ولكنهم رفعوا لأنهم ألْغَوا "أنْ" لما ضعفت بالحذف على غير القياس.
وقد لا يلغونها، فينصبون بها المضارع، كقوله:
فلم أرَ مثلها خُباسَة واحِد
…
ونَهْنَهْتُ نفسي بعد ما كدتُ أفْعَلَه
قال سيبويه: "أراد: بعد ما كدت أن أفعله" وهو قليل لا يقاس عليه، ورآه الكوفيون مقيسا، وروَوْا: خذ اللصَّ قبل يأخذَك. وأنشدوا:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضرَ الوغى
بالنصب.
فصل: ص: تزاد "أنْ" جوازا بعد لمّا، وبين القسم ولو، وشذوذا بعد كاف الجر.
وتفيد تفسيرا بعد معنى القول لا لفظه، وتفيده "أيْ" غالبا فيما سوى
ذلك. وتقع بين مشتركين في الإعراب فتُعَدّ عاطفة على رأى.
وإن ولى أنْ الصالحة للتفسير مضارع معه "لا" رفع على النفي، وجزم على النهي، ونصب على جعل أنْ مصدرية.
ولا تفيد أن مجازاة خلافا للكوفيين، ولا نفيا خلافا لبعضهم.
ش: أن في الكلام على ثلاثة أضرب: مصدرية، وزائدة، ومفسرة.
فالمصدرية نحو: أريد أن تفعل، وعلمت أن سوف تقوم، وقد تقدم ذكرها.
والزائدة هي التي دخولها في الكلام كخروجها، وتقع بعد لمّا الحينية، كقوله تعالى:(فلمّا أن جاء البشير) وبين القسم ولو، كقولك: أما والله أنْ لو قام زيد قام عمرو، ومثله قول الشاعر:
فأقسمُ أنْ لو التقينا وأنتمُ
…
لكان لكم يومٌ من الشَّرِّ مظلمُ
وشذ زيادتها بعد كاف الجر كما في قوله:
كأنْ ظبيةٍ تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَم
يروى بنصب ظبية على أنه اسم كأن، وبرفعها على أنها الخبر، والاسم محذوف، وبجرها على زيادة أن، والكاف حرف تشبيه.
وأما المفسرة فهي الداخلة على جملة محكي بها قول مقدر مفسر بجملة قبله بمعنى القول لا لفظه، مذكورة أو محذوفة، فالمذكورة كقوله تعالى: (ونُودوا أنْ
تلكمُ الجنة) ومثله: (فأوحينا إليه أن اصنع الفُلْك) وقوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله) لأن "ما أمرتني به" في معنى القول لا لفظه، وما بعده مفسر له، والمعنى: ما أمرتني به أي قول: اعبدوا الله.
وأما المحذوفة فكقوله تعالى: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) المعنى: ثم نهضوا وانطلقوا من مجالسهم يؤمئُون، أي يقول بعضهم لبعض: امشوا. ولو كان المحذوف مقدرا بلفظ القول لم تدخل "أن" كقوله تعالى: "والملائكةُ باسِطو أيديهم أخْرِجُوا أنفسكم) وقوله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم).
ولو لم يكن ما قبل أن جملة كما في قوله تعالى: (وآخِرُ دعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين) فهي مصدرية في موضع رفع بالخبر لا مفسرة، لأن المفسرة لا تدخل إلا على جملة محكية هي فضلة في الكلام.
ويستفاد التفسير بأي بعد ما فيه معنى القول قليلا، وبعد غيره مما يحتاج إلى التفسير لإجمال اللفظ، أو غرابة فيه، أو حذف منه كثيرا، فيؤتى بها مع المفسر بيانا لما قبلها، أو بدلا منه.
وقد تقع بين مشتركين في الإعراب، فيعدها صاحب المفتاح عاطفة، وليس بمرضى، لأنه يجوز الاستغناء عنها، وحرف العطف لا يستغنى عنه. فإن قلت: إذا جاز الاستغناء عن وقوع أي بين المشتركين في الإعراب، فما الفائدة في ذكره؟ قلت: الفائدة هي التنبيه على حاجة ما قبلها إلى التفسير، ورفع توهم
كون التابع بدل غلط أو نسيان أو إضراب.
ويجوز الحكم على أن الصالحة للتفسير بكونها مصدرية، فتقول: أشرت إليه أن أفعل. على معنى: أشرت إليه بالفعل، بدليل ظهور الباء في قولهم: أوعزت إليه بأن افعل.
وإذا وَلِيَ أن هذه مضارع، فإن كان مثبتا كقولك: أوحيت إليه أن يفعل، جاز رفعه على معنى أي، ونصبه على جعل أنْ مصدرية.
وإن كان بعد "لا" جاز جزمه على النهي، وكون أن مصدرية، ورفعه ونصبه على النفي ومعنى أي، أو كون أن مصدرية.
وزعم الكوفيون في أنْ أنها حرف مجازاة في مثل قوله:
أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبةَ حُزَّتا
…
جهارا ولم تَجْزعْ لقتل ابن مالك
لصحة وقوع إنْ موقعها، كقولك: أتجزع إنْ أذنا قتيبة حزتا؟ والصحيح أنها مصدرية مقدر معها اللام، كأنه قال: أتجزع لأن حزت أذنا قتيبة.
ولا تدل أنْ على نفي خلافا لبعضهم.
فص: ص: المنصوب بعد حتى مستقبل، أو ماض في حكمه، وعلامة ذلك كون ما بعدها غاية لما قبلها، أو متسببا عنه، وإن كان الفعل حالا أو مؤولا به رفع، وعلامة ذلك صلاحية جعل الفاء مكان حتى، وكون ما بعدها فضلة متسببا عما قبلها ذا محل صالح للابتداء، فإن دل على حدث غير واجب تعين النصب خلافا للأخفش.
ش: حتى الداخلة على المضارع إما حرف بمعنى إلى أو كي، فيليها المضارع غاية لما قبلها أو مسببا عنه، وينصب بأن مضمرة لكونه من تمام الكلام الذي
قبلها، وإما حرف ابتداء بمنزلة الفاء، فتأتي بعد تمام الكلام، داخلة على جملة محصلة المعنى، مسببة عما قبلها، متصلة به، أو منقطعة عنه، فيليها المضارع مرفوعا لكونه مستأنفا لم يدخل عليه ناصب ولا جازم.
ولا يخلو المضارع بعد حتى من أن يكون مستقبلا أو حالا أو ماضيا، فإن كان مستقبلا فهي حرف جر بمعنى إلى أو كي، والفعل بعدها نصب بإضمار أن، ليكون معها اسما مجرورا بحتى، وذلك قولك: لأسيرن حتى تطلعَ الشمس، أي: إلى أن تطلع الشمس، وكلمته حتى يأمر بشيء، أي: كي يأمر، ولا يجوز كونها ابتدائية ورفع ما بعدها، لأنه غير محصل لكونه مستقبلا.
وإن كان المضارع بعد "حتى" حالا فهي حرف ابتداء، وما بعدها رفع، لأنه منقطع عما قبلها، فلم يدخل عليه ناصب ولا جازم، وذلك قولك: سرت حتى أدخُلها الآن، ومرض حتى لا يرجونه، وضرب أمس حتى لا يستطيعُ أن يتحرك اليوم، ورأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيعُ أن أكلمه العام بشيء، وقول حسان:
يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهم
…
لا يسألون عن السَّواد المُقْبِل
ولا يجوز أن تكون جارة، لأن الجارة لا تدخل على المضارع إلا منصوبا بأن مضمرة، وأن لا تنصب الحال.
وإن كان المضارع بعد حتى ماضي المعنى فهو مؤول إما بالمستقبل نظرا إلى أنه غاية لما قبل حتى، فهو مستقبل بالإضافة إليه، وإما بالحال على قصد الإخبار بمضى ما قبل حتى وحكاية حال ما بعدها.
فإن كان الماضي المعنى غير فضلة، أو غير متسبب عما قبل حتى، أو محله غير صالح للابتداء لأنه جعل غاية، فهو مؤول بالمستقبل.
فالأول كما إذا وقع اسم كان الناقصة، كقولك: كان سيري حتى أدخلَها، فتنصب على التأويل بالمستقبل، وجعل حتى الجارة في موضع خبر كان، ولا يجوز
الرفع على التأويل بالحال، وجعل حتى ابتدائية، لئلا تبقى كان بلا خبر، فإن حتى الابتدائية بمنزلة الفاء.
والثاني كما إذا كان الدخول من شخص والسير من آخر، فقلت: كنتُ سرت حتى يدخلَها زيد، فإنك تنصب على التأويل بالمستقبل وجعل حتى جارة، والمعنى: إلى أن يدخلها زيد. ولا يجوز الرفع على الحال وجعل حتى ابتدائية، لأن حتى الابتدائية لا تخلو من معنى السببية، وسيرك لا يكون سببا لدخول غيرك.
والثالث كما إذا أردت بيان الغاية فقلت: كنت سرت حتى أدخلَها، فتنصب على معنى: إلى أن أدخلها، ولا يجوز الرفع، لأن الغاية حرف جر، وحرف الجر لا يليه المبتدأ والخبر، فلا يليه الفعل المرفوع.
وإذا كان الماضي المعنى متسببا عما قبلها، وكان ذا محل صالح للابتداء، لأن المراد بيان السببية، فهو مؤول بالحال فيرفع، لأن حتى قبل الحال حرف ابتداء بمنزلة الفاء، وذلك قولك في كان التامة: كان سيرى حتى أدخلُها، لأنه تم الكلام قبل حتى، فيبقى ما بعدها جملة مستأنفة، فيرفع على معنى: فأنا أدخلها، لأن حتى الابتدائية بمنزلة الفاء في السببية، ولأنها لا تقع بين العامل ومعموله، وليست بمنزلة الفاء في إشْراك الفعل الآخر الأول إذا قلت: لم أجئ فآكل، لجواز مجيئها حيث لا يصح التشريك، كقولك: كان سيرى شديدا حتى أدخلُها. ويجوز تأويله بالمستقبل وقصد الغاية فينصب، على معنى: إلى أن أدخلها، ومثله:(وزُلزِلوا حتى يقولَ الرسول) قراءة نافع بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب.
واعلم أن المضارع الماضي المعنى إنما يرتفع بعد حتى إذا كان متسببا عما قبلها، فلهذا لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان واجبا، أي حاصلا لحصول سببه يقينا أو ظنا، فإن الضمير ينعقد على الظن كانعقاده على العلم، وذلك قولك: إن
زيدا سار حتى يدخلُها، وما سار إلا قليلا حتى يدخلُها، وأظن عبد الله سار حتى يدخلُها، فلك في كل هذا الرفع على الابتداء، لأن الدخول قد وجب بوجوب السير، وتأدّى به.
وإن كان الماضي المعنى بعد حتى غير واجب، لأن ما قبله غير مؤد إليه، ولا مسبب له، كقولك: ما سار زيد حتى يدخلَها، تعين النصب على الغاية، وقصد معنى: ما سار إلى أن يدخلها، بل إلى ما دون ذلك، لأنك لو رفعته على الابتداء لكان ما بعد حتى الابتدائية غير محصل، ولا متسبب عما قبلها، وذلك لا يكون.
وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، بالنصب إن أردت النفي، وإن أردت بيان أنك سرت قليلا نصبت على الغاية، ورفعت على الابتداء.
وتقول: إنما سرت حتى أدخلها، بالنصب إن أردت الغاية، أو تحقير السير، وجعلته سيرا لا يوجب الدخول. وإن لم ترد ذلك تعين الرفع.
وأجاز الأخفش رفع غير الواجب، وقال: ما سرت حتى أدخلُها، معنى الرفع فيها صحيح، إلا أن العرب لا ترفع غير الواجب، ألا ترى أنك لو قلت: ما سرت فأدخلها، أي ما كان مني سير ولا دخول. أو قلت: ماسرت فإذا أنا داخل الآن لا أمتنع، كان حسنا". وغلط في ذلك بأن الدخول في حتى إذا وقع إنما يقع بالسير، قال السيرافي: والذي عندي أن أبا الحسن أراد أن "ما" تدخل على: سرت حتى أدخلها، بعد وجوب الرفع، فتنفي جملة الكلام، فلذلك رآه صحيحا في القياس، وإن كانت العرب لا تتكلم به.