الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب عوامل الجزم
ص: منها لام الطلب مكسورة، وفتحها لغة بعد الفاء والواو وثم، وتلزم في النثر في فعل غير الفاعل المخاطب مطلقا، خلافا لمن أجاز حذفها في نحو: قل له ليفعل. والغالب في أمر الفاعل المخاطب خلوه منها ومن حرف المضارعة. وهو موقوف لا مجزوم بلام محذوفة، خلافا للكوفيين. ولا بمعنى الأمر خلافا للأخفش في أحد قوليه، ويلزم آخره ما يلزم آخر المجزوم.
ش: عوامل الجزم لام الأمر، ولا التي للنهي، ولم، ولمّا أختها، وإن الشرطية وما ضمن معناها. وإنما عملت الجزم لأنها اختصت بالأفعال ولازمتها، ولم تنزل منها منزلة الجزء، فاقتضى ذلك أن تؤثر فيها وتعمل، لأن كل ما لازم شيئا أثر فيه غالبا، فعملت فيها الجزم لأنه أنسب، وذلك لأن الفعل بعد لام الأمر شبيه بالأمر المبني على السكون، ومثله في المعنى، فحمل عليه في اللفظ، فأعرب بالجزم الشبيه بالبناء.
وأما النهي فإنه يجزم فعله لأنه نقيض الأمر المبني.
كما يجزم الفعل بلم ولما، لأنه نقيض الماضي، والماضي مبني.
وأما إن الشرطية فلأنها تقتضي جملتين: شرطا وجزاء، وإنما عملت الجزم لأنه أخف وأحسن مع الإطالة.
واعلم أن الفعل يجزم باللام في الأمر، وهو طلب الفل على سبيل الاستعلاء نحو:(ليُنْفِق ذو سَعَة) وفي الدعاء، وهو طلب الفعل على سبيل
الخضوع، نحو:(ليَقْضِ علينا ربُّك) ومثله قول أبي طالب:
يا ربِّ إما تُخْرجَنّ طالبي
…
في مِقْنَب من تلكُمُ المقانب
فليكُن المغلوبُ غيرَ الغالب
…
وليكن المسلوبُ غيرَ السالب
فلذلك سماها لام الطلب، والنحويون يسمونها لام الأمر، لأنه الأصل فيها.
ولام الأمر مبنية على الكسر، لأنه أقرب إلى الجزم، لأنها حركة مقابل مقابله وهو الجر. ومن العرب من يبنيها على الفتح، قال الفراء في كلامه على قوله تعالى:(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) بنو سليم يفتحون لام الأمر نحو: "ليقم زيد".
وإذا وقعت لام الأمر بعد الفاء والواو وثم جاز تسكينها جملا على فعل، وإجراء للمنفصل مجرى المتصل لكثرة الاستعمال، وهو مع الواو والفاء أعرف من التحريك، ولذلك اتفق القراء على التسكين فيما سوى:(ولِيُوفوا نُذُورهم ولِيَطَّوَّفوا) وفي: (ولِيتمتعوا) فيما ولى واوا وفاء، كقوله تعالى:(فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) وقوله تعالى: (فليكتب وليُمْلِل الذي عليه الحق وليتق الله) وقوله تعالى: (فلتقم طائفةٌ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفةٌ أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهُم).
وأما تسكين اللام بعد ثم فقليل ومنه قراءة أبي عمرو وغيره: (ثم لْيقْضوا تَفَثَهم).
وتلزم لام الأمر في النثر فعل غير الفاعل المخاطب، وهو فعل الفاعل الغائب أو المتكلم، وحده أو مشاركا، وفعل ما لم يسم فاعله مطلقا، كقولك: ليقم زيد، وقوله صلى الله عليه وسلم:"قوموا فَلأُصَلِّ لكم" وقوله تعالى: (ولنحمل خطاياكم) وقولهم: لتُعْنَ بحاجتي، وليُزْهَ زيدٌ علينا، فاللام في كل هذا واجبة الذكر، ولا يجوز حذفها في مثله إلا في الشعر فإنه محل الاختصار والتغيير، فيجوز فيه حذف اللام وجزم الفعل بها مضمرة لاضطرار ودونه، فالأول، كقول الشاعر:
فلا تَسْتَطِلْ منِّي بقائي ومُدَّتي
…
ولكنْ يكنْ للخيرِ منك نصيبُ
أراد: ليكن للخير منك نصب، ولكنه اضطر فحذف، والثاني كقول الآخر:
على مثلِ أصحابِ البعوضة فاخمِشي
…
لك الويلُ حرَّ الوجه أو يَبْكِ من بكَى
لتمكنه من أن يقول: وليبك من بكى. ومثله قول الآخر:
قلت لبواب لديه دارها
…
تأذنْ فإني حَمْؤُها وجارها
لأنه لو لم يؤثر الجزم باللام المحذوفة لقال: ايذن، بلفظ الأمر. فأما قول الشاعر:
محمدُ تَفْد نفسَك كلُّ نفس
…
إذا ما خِفْتَ من شيء تَبالا
فليس يثبت، لجواز أن يكون أراد: تفدي نفسك، على الخبر، ولكن حذف الياء تخفيفها، كما حذفوا في: الأيد، يريد: الأيدي، وكذلك ما أنشده الفراء:
مَنْ كان لا يزعمُ أني شاعرُ
…
فَيَدْنُ منِّي تَنْهَهُ المَزاجِرُ
لأنه لو أراد الأمر لقال: فليدن مني، وإنما أراد عطف يدنو على يزعم، وحذف الواو من يدنو، لدلالة الضمة عليها، كما قال:
فيا ليت الأطِبا كانُ حولي
فحذف واو الضمير اكتفاء بالضمة. وأما تَنْه فمجزوم لأنه جواب مَنْ.
ولا يجوز في غير الشعر حذف لام الأمر، خلافا للكسائي، قال ثعلب: قال الكسائي في قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا) هو: ليغفروا، فأسقط اللام، وترك يغفروا مجزوما.
قلت: والوجه أن يكون مجزوما بجواب الأمر على معنى: إن تقل لهم: اغفروا يغفروا.
والغالب في أمر الفاعل المخاطب خلوه من اللام ومن حرف المضارعة، وقد لا يخلو منهما كقراءة عثمان وأنس وأبيّ:(فبذلك فلْتَفْرحوا)
وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لِتأخذوا مَصافَّكم" وهو قليل، والكثير المعروف في كلامهم مجيء أمر الفاعل المخاطب مجردا من اللام ومن حرف المضارعة، مجعولا آخره كآخر المجزوم.
فإن لم تتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء مخاطبة، فإن كان صحيحا فهو ساكن الآخر، نحو: اذهبْ واضربْ واخرجْ.
وإن كان معتلا فهو محذوف الآخر نحو: اخشَ وارمِ واغزُ.
وإن اتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء مخاطبة ثبتت في آخره بغير نون نحو: اضربا واضربوا واضربي.
وليس ذلك جزما بل بناءً، لأن دلالة "اضرب" ونحوه على الجزم إما بإضمار اللام، وهو مضارع محذوف منه حرف المضارعة، وإما بتضمين معناها، وهو مثال مأخوذ من لفظ المصدر للدلالة على الحدث، والنسبة تفيد الطلب.
لا جائز أن يكون بالإضمار، لما فيه من كثرة الحذف لغير موجب، فتعين أن يكون بالتضمين، وإذا كانت دلالة اضرب ونحوه على الأمر بتضمن معنى اللام، وجب الحكم عليه بالبناء لوجهين: أحدهما: عدم وجود علة الإعراب فيه، وهي شبه الاسم، فإن المضارع إنما أعرب لشبه بالاسم، إما لجواز قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة، وإما في احتمال الإبهام والتخصيص، وقبول لام الابتداء، والجريان على حركات اسم الفاعل وسكناته، وذلك وشبهه مفقود من فعل الأمر، فوجب أن يكون مبنيا كالماضي.
الثاني: أن فعل الأمر لو كان معربا لكان مجزوما، لأنه أبدا ساكن الآخر أو محذوفه، ولو كان مجزوما لكان الجازم له إما اللام وإما غيرها. لا جائز أن يكون مجزوما باللام، لأن المتضمن يمنع من إظهار مثله، لأنه لا فائدة فيه، ولا يصح أن يعمل متضمنه كما لا يعمل الشيء في نفسه. ولا جائز أن يكون مجزوما بغيرها لاستحالة تقديره، فتعين الحكم عليه بالبناء.
وذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر مجزوم بلام محذوفة وهو مضارع حذف منه حرف المضارعة، لأنه لو لم يكن كذلك لما كان لوجوب حذف آخر المعتل منه وجه. وهو ضعيف لجواز أن يكون الوجه في حذف آخر المعتل من فعل الأمر هو طلب التخفيف، استثقالا لحرف العلة المتطرف الساكن، ثم التزموا حذفه، كما أجازوا حذف المتحصن بالحركة المقدرة، كقراءة من قرأ:(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) و: (ذلك ما كنا نبغ) ولو لم يكن لحذف آخر فعل الأمر المعتل وجه من المناسبة والاستحسان، لكان دعواه أيسر من دعوى حذف لام الأمر وحرف المضارعة.
والمشهور عن الأخفش موافقة سيبويه في الحكم على فعل الأمر بالبناء، وعنه أيضا قول آخر وهو أن فعل الأمر مجزوم بمعنى الأمر، وهو قول بما لا نظير له، من غير دليل عليه.
ص: ومنها "لا" الطلبية، وقد يليها معمول مجزومها، وجزم فعل المتكلم بها أقل من جزمه باللام.
ش: من عوامل الجزم "لا" الطلبية، وهي الدالة على النهي عن الفعل كقوله:(لا تحْزَن) أو الدعاء بترك شخص أو عليه، كقوله تعالى:(ربنا لا تؤاخِذْنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصْرا).
والثاني كقول الشاعر:
بكى دَوْبَلٌ لا يُرْقِئِ اللهُ دمعَه
…
ألا إنما يبكي من الذُّل دوبلُ
وقد يليها معمول مجزومها، كقول الشاعر:
وقالوا أخانا لا تَخَشَّعْ لظالم
…
عزيزٍ ولا ذا حق قومِك تَظْلِمِ
أراد: ولا تظلم ذا حق قومك.
وأكثر ما يجزم بلا فعل المخاطب أو الغائب، وقد يجزم بها فعل المتكلم، وهو أقل من جزمه باللام، ومنه قول الأعشى:
لا أَعْرِفَنْ رَبْرَبا حُورًا مدامعُها
…
مُرَدَّفاتٍ على أحْناء أكْوار
وقول الآخر:
إذا ما خَرَجْنا من دِمَشْقَ فلا نَعُدْ
…
بها أبدا ما دام فيها الجُراضِمُ
ص: ومنها "لم" و"لمّا" أختها، وتنفرد لم بمصاحبة أدوات الشرط، وجواز انفصال نفيها عن الحال. ولمّا بوجوب اتصال نفيها بالحال، وجواز الاستغناء بها في الاختيار عن المنفي إذ دل عليه دليل. وقد يلي لم معمول مجزومها اضطرارا، وقد لا يجزم بها حملا على لا.
ش: من عوامل الجزم "لم" و"لمّا" أختها.
أما لم فحرف نفي يختص بالمضارع، ويصرفه إلى معنى المضي.
وأما لمّا فعلى ثلاثة أقسام: حرف نفي بمنزلة لم في الاختصاص بالمضارع وصرف معناه إلى المضي، وهي التي تجزم، نحوه:(كلّا لمّا يقضِ ما أمره).
وحرف استثناء بمعنى إلا، ويختص بالفعل المؤول بالمصدر في قولهم: عزمت
عليك لمّا فعلت. المعنى: لا أسألك إلا فعلك.
وحرف يقتضي فيما مضى وجوبا لوجوب نحو: لما قام زيد قام عمرو، وسيأتي ذكرها.
وتنفرد لم عن لمّا بأمرين: أحدهما: جواز مصاحبة أدوات الشرط، نحو:(فإن لم يستجيبوا لكم): (فمن لم يستطع) ولا يجوز مثل ذلك في لمّا، كأنهم كرهوها مع الشرط لطولها، وإمكان الاستغناء عنها بلم.
والثاني: جواز انفصال نفيها عن الحال، فتنفي الماضي المنقطع حدثه عن زمن الحال، كما تنفي الماضي المتصل به. مثال الأول قولهم: لم يكن كذا ثم كان. وقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) وقول الراجز.
وكنتَ إذ كنت إلهي وحْدَكا
…
لم يكُ شيءٌ يا إلهي قبلكا
ومثال الثاني قول سيبويه: ولما هو كائن لم ينقطع، وقوله تعالى:(ولم أكن بدعائك ربِّ شقيا) ومنه قول الطرماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ
…
ـم رجال يزهون بالإغماض
أي السماحة بترك الحق.
وتنفرد لمّا بأمرين: أحدهما: وجوب اتصال نفيها بالحال، ومن ثم امتنع أن يقال: لمّا يكن كذا ثم كان. وإنما يقال: لمّا يكن كذا وقد يكون، أو لا يكون. قال:
فإن كنتُ مأكُولا فكنْ خيرَ آكل
…
وإلا فأدْرِكْني ولمّا أُمَزَّق
والثاني: جواز الاستغناء في الاختيار بذكرها عن ذكر المنفي بها، إذا دل عليه دليل، كما تقول: ندم زيد ونفعه الندم، وندم غيره ولما، قال الشاعر:
فجئتُ قبورَهم بدْءًا ولمّا
…
فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَه
أراد: ولما أكن كذلك. ولا يسلك مثل ذلك بلم إلا في الضرورة، كقول الراجز:
يا رُبّ شيْخ من لُكَيْز ذي عَنَم
…
أجْنَح لم يَشْمَطْ وقد كاد ولم
وقد يلي لم معمول مجزومها اضطرارا كقول ذي الرمة:
فأضحتْ مَغانيها قِفارا بلادُها
…
كأنْ لم سوى أهلٍ من الوَحْشِ تُؤْهَل
تقديره: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش. وقول الآخر:
فذاك ولمْ إذا نحن امْتَرَيْنا
…
تكنْ في الناس يُدْرِكُكَ المراءُ
والتقدير: ولم تكن يدركك المراء إذا نحن امترينا.
وقد تلغى: "لم" حملا على "لا" النافية، فيرفع الفعل بعدها، ذكر ذلك جماعة، وأنشد عليه الأخفش وثعلب:
لولا فَوارسُ من نُعْمٍ وأُسْرَتهم
…
يوم الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُون بالجار
ص: ومنها أدوات الشرط وهي: إنْ، ومَنْ، وما، ومهما، وأي، وأنّى، ومتى وأيّان، وهما ظرفا زمان، وكسر همزة أيان لغة سليم، وتختص في الاستفهام بالمستقبل، بخلاف متى، وربما استفهم بمهما، وجوزي بكيف معنى لا عملا، خلافا للكوفيين.
ومن أدوات الشرط إذما، وحيثما وأين، وهما ظرفا مكان.
وما سوى "إنْ" أسماء متضمنة معناها، فلذلك بنيت إلا "أيًّا" وفي اسمية "إذما" خلاف.
وقد ترد "ما" و"مهما" ظرفي زمان، و"أيّ" بحسب ما تضاف إليه.
ش: من عوامل الجزم أدوت الشرط وهي كلمات وضعت لتدل على التعليق بين جملتين، والحكم بسببية أولاهما ومسببية الثانية. وهذا التعليق نوعان: تعليق ماض على ماض، وتعليق مستقبل على مستقبل.
فالنوع الأول له حرفان: لو، ولولا. وأكثر ما تصحب بناء الماضي نحو: لو قام زيد قام عمرو. وقد تصحب المضارع ولا تجزمه، لأنها لما قل استعمالها مع المضارع لم تقبل أن تؤثر فيه، وتعمل عمل ما لازم المضارع أو غلب استعماله معه.
والنوع الثاني له حروف وأسماء، فالحروف: إنْ، وإذما، وأمّا، ويأتي ذكر أمّا في آخر الباب.
وأما إنْ فللخلو عن الجزم بوقوع الشرط تحقيقا، أو باعتبار مجازى، وتعمل الجزم، كقولك: إن تقم أقم، لأها تصحب المضارع أكثر مما تصحب الماضي، فلما غلب استعمالها مع المضارع، كانت بمنزلة ما لازمه واختص به، فقبلت أن تؤثر فيه وتعمل، فعملت الجزم لأنه أخف.
وأما "إذما" فأصلها "إذ" ضم إليها "ما" بعدما سلبت معناها الأصلي، وجعل حرف شرط بمعنى إنْ، فجرى مجراها، وعمل عملها قال الشاعر:
وإنكَ إذما تابَ ما أنت آمرٌ
…
به تُلْفِ من إياه تأمُرْ آبيا
وأنشد سيبويه للعباس بن مرداس:
إذْ ما أتيتَ على الرسول فقل له
…
حقًّا عليك إذا اطمأنَّ المجلسُ
وأنشد الآخر:
إذ ما تريْني اليوم مُزْجًى ظَعائني
…
أُصَعِّد سَيْرا في البلاد وأُفْرِعُ
فإنّيَ من قومٍ سِواكم وإنّما
…
رجاليَ فَهْمٌ بالحجازِ وأشْجَعُ
وعند المبرد وابن السراج وأبي علي أنّ إذما باق على اسميته، وفي ذلك كلام يأتي ذكره في القول على حيثما.
وأما الأسماء فما تضمن معنى إنْ فيجرى مجراها في التعليق والعمل، وهي
خمسة أضرب: اسم محض، واسم يشبه الظرف، وظرف زمان، وظرف مكان، وما يستعمل اسما وظرفا.
الضرب الأول: مَنْ وما ومهما. فمن لتعميم أولى العلم، وتكون شرطا فتجزم، كقوله تعالى:(ومَنْ يؤمنْ بالله يهد قلبه).
وما لتعميم الأشياء، وتكون أيضا شرطا فتجزم، كقوله تعالى:(وما تفعلوا من خير يعلمه الله).
ومهما مثل ما وأعم منها، ولا شك في كونها اسما بدليل عود الضمير إليها، كما يعود إلى ما، قال الشاعر:
إذا سُدْتَه سُدْتَ مِطْواعةً
…
ومهما وَكَلْت إليه كفاه
فالهاء في كفاه عائدة إلى مهما، فهي اسم، ولكنها في معنى إنْ، فلذلك تجزم الفعل، كقوله تعالى:(وقالوا مهما تأتنا به من آية).
وعند الخليل أن أصلها "ما" فدخلت عليها "ما" الزائدة كما تدخل على "إنْ" و"متى" و"أين" ثم كرهوا التكرير، وأن يقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف.
وقال سيبويه: وقد يجوز أن تكون "مه" كإذ ضم إليها "ما" وإليه ذهب الزجاج.
وندر مجيء مهما اسم استفهام كقول الشاعر، أنشده أبو علي:
مهما لِيَ الليلةَ مهما ليه
…
أوْدَى بنعليّ وسِرْبالَيه
أراد: ما لي الليلة؟ استفهاما على طريق التعجب.
وزعم الشيخ رحمه الله أن "ما" و"مهما" في الشرط قد تردان ظرفي زمان فقال: جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل مَنْ في لزوم التجرد عن الظرفية، مع أن استعمالهما ظرفين ثابت في أشعار الفصحاء من العرب". وأنشد قول الشاعر:
فما تَكُ يابنَ عبد الله فينا
…
فلا ظُلما نخافُ ولا افتقارا
وقال عبد الله بن الزّبير:
فما تَحْيَ لا نَسْأمُ حياةً وإن تمُتْ
…
فلا خيرَ في الدنيا ولا العيش أجمعا
وقول حاتم الطائي:
وإنك مهما تُعْط نفسك سُؤْلَها
…
وفرجَك نالا مُنْتهى الذُّلِّ أجمعا
ولا أرى في هذه الأبيات حجة، لأنه كما يصح تقدير ما ومهما فيها بظرف زمان، كذلك يصح تقديرهما بالمصدر على معنى: أي كَوْنٍ قصير أو طويل تكن فينا فلا نخاف، وأي حياة هنيئة أو غير مرضية تحي فينا لا نسأم، وأي عطاء قليل أو كثير تعط نفسك سؤلها وفرجك نالا منتهى الذل. لكن يتعين جعل ما ومهما في الأبيات المذكورة مصدرين، لأن في كونهما ظرفين شذوذا وقولا بما لا يعرفه
جميع النحويين، بخلاف كونهما مصدرين، لأنه لا مانع من أن يكنى بما ومهما عن مصدر فعل الشرط، كما لا مانع من أن يكنى بهما عن المفعول به ونحوه، إذ لا فرق
الضرب الثاني: أنى وكيف.
فأنى لتعميم الأحوال، وليست ظرفا، لأنه لا زمان ولا مكان، ولكنها تشبه الظرف، لأنها بمعنى: على أي حال، فلما كانت تقدر بالجار والمجرور، والظرف يقدر بهما، كانت بمنزلته.
وقد تأتي أنى بمعنى متى، وبمعنى أين، وتكون استفهاما، وشرطا، وإذا كانت شرطا جزمت، قال الشاعر:
خليليّ أنّى تأتياني تأتيا
…
أخا غيرَ ما يُرضيكما لا يُحاول
وقول لبيد:
فأصْبَحْتَ أنَّى تأتِها تَلْتَبِس بها
…
كِلا مَرْكَبَيْها تحتَ رجلِك شاجِرُ
يخاطب رجلا وقع في قصة صعبة المخلص، يقول: على أي حال يأتي الخلاص من هذه القصة يلتبس ويختلط بها، كلا مركبيها تحت رجلك شاجر، أي داخل تحت الرجل، وإذا دخل شيء بين شيئين فقد شجرهما.
وأما كيف فاسم لتعميم الأحوال، وتسمى ظرفا، لتأولها بعلى أي حال، والدليل على اسميتها جواز الاكتفاء بها، مع صحة دخولها على الأفعال. وأكثر ما تكون استفهاما، وقد ترد شرطا في المعنى فحسب، فتعلق بين جملتين، ولا تعمل شيئا حملا على الاستفهامية، لأنها أصل، قال الله تعالى:(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) وقال تعالى: (بل يداه مبسوطتان ينفق
كيف يشاء) المعنى: على أي حال يشاء الإنفاق ينفق، فكيف هنا اسم شرط، ولكنها لم تجزم الفعل، كما لم تجزم في الاستفهام.
وأجاز الكوفيون الجزم بها قياسا، وأباه البصريون، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنعْ أصنعْ، قال: هي مستكرهة، وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها: على أي حال تكن أكن.
الضرب الثالث: إذا ومتى وأيان، بفتح الهمزة، وبنو سليم يكسرونها، فيقولون: إيان.
فأما إذا فسيأتي ذكرها.
وأما متى وإيان فلتعميم الأزمنة، ولا تفارقان الظرفية، وتردان شرطا فتجزمان، كقول طرفة:
ولستُ بحلّال التِّلاع مخافةً
…
ولكنْ متى يَسْتَرفِد القومُ أرْفد
وقول الآخر:
أيّانَ نُؤْمِنْك تأمنْ غيرَنا وإذا
…
لم تدرِك الأمنَ منا لم تَزلْ حَذِرا
ويردان استفهاما أيضا، فلا يعملان شيئا، ولا يستفهم بأيان إلا عن زمان مستقبل، وأما متى فيستفهم بها عن زمان مستقبل نحو:(ويقولون متى هو) وعن زمان ماض نحو:
متى كان الخيام بذي طُلُوح
الضرب الرابع: حيثما وأين، وهما لتعميم الأمكنة، ولا ينفكان عن الظرفية، ويفترقان بأن أين لا تكون إلا شرطا أو استفهاما، وإذا كانت شرطا جزمت، كقول الشاعر:
أينَ تصرفْ بنا العُداة تجدْنا
…
نصرفُ العيسَ نحوها للتّلاقي
وقوله تعالى: (أينما تكونوا يدركْكم الموتُ).
وأما حيثما فلا تكون إلا شرطا، وكانت قبل دخول ما اسم مكان خاليا من معنى الشرط، ملازما للتخصيص بالإضافة إلى جملة، ولا يعمل في الأفعال، ثم أخرجوها إلى الجزاء فضمنوها معنى إن، وجعلوها اسم شرط، فلزمهم إتمامها، وحذف ما يُضافُ إليها، وألزموها ما تنبيها على إبطال مذهبها الأول، وجزموا بها الفعل كقول الشاعر:
حيثُما تستقمْ يُقَدِّرْ لك اللـ
…
ـهُ نجاحا في غابر الأزمان
ولا يجوز أن تكون منقولة كإذما إلى الحرفية، لأنها لم تزل عما كانت عليه قبلُ من الدلالة على المكان، بخلاف إذما، فإنها كانت قبل دخول ما عليها اسم زمان ماضٍ خاليا من معنى الشرط، فلما دخلت عليها "ما" صارت أداة شرط بمعنى "إنْ" مختصة بالمستقبل، وزال ما كان فيها من معنى الاسم، ولم نعلم نقلها إلى معنى آخر غير الشرط، فحكمنا بحرفيتها، لأن دلالتها على معنى الحرف مُتَيَقَّنة، ودلالتها على معنى الاسم مشكوك فيها، والحكم بمقتضى ما تُيُقِّن أولى.
الضرب الخامس: أيّ، وهي لتعميم أوصاف الشيء، والأوصاف مشتركة،
فلذا يلزم في أي أن تضاف لفظا أو معنى إلى الموصوف، على حد قولهم: سَحْق عمامة، رفعا لالتباس عموم الأوصاف بجنس، بعمومها لغيره، فتكون بحسب ما تضاف إليه. فإن أضيفت إلى الظرف فهي ظرف، وإن أضيفت إلى غير ذلك فهي بمعنى ما أضيفت إليه، لأن الصفة هي الموصوف في المعنى، وتقع في الشرط وغيره. وإذا كانت شرطية جزمت الفعل نحو: أيَّ يوم تقمْ أقمْ، و:(أيًّا ما تَدْعُوا فله الأسماءُ الحسنى) وبأيٍّ تمررْ أمررْ، وغلامَ أيِّهم تضربْ أضربْ، وأيُّهم يأت فله درهم.
هذه الأسماء المذكورة هي جميع أسماء الشرط، وكلها مبنية لتضمنها معنى إنْ، إلا أيًّا فإنها أعربت، لأنه قد عارض ما فيها من شبه الحرف لزوم الإضافة إلى الأسماء، فحماها ذلك من البناء.
ص: وكلها تقتضي جملتين: أولاهما شرط تصدر بفعل ظاهر أو مضمر مفسر بعد معموله بفعل يشذ كونه مضارعا دون "لم"، ولا يتقدم فيها الاسم مع غير إنْ إلا اضطرارا، وكذلك بعد استفهام بغير الهمزة.
وتسمى الجملة الثانية جزاء وجوابا، وتلزم الفاء في غير الضرورة إن لم يصح تقديره شرطا، وإن صدر بمضارع صالح للشرطية جزم في غير الضرورة، وجوبا إن كان الشرط مضارعا، وجوازا إن كان ماضيا، وإن قرن بالفاء رفع مطلقا.
ش: كل من الأدوات المذكورة يقتضي جملتين، أولاهما ملزومة للثانية، تسمى الأول شرطا، لأن وجود الملزوم علامة على وجود اللازم، والشرط في اللغة العلامة. وتسمى الثانية جزاء وجوابا، لأنه مدعى فيها بأنها لازمة لما جعل شرطا، كما يلزم في العرف الجواب للسؤال، والجزاء للإساءة أو الإحسان،
فسميت بذلك على الاستعارة والتشبيه.
ولا تكون جملة الشرط إلا مصدرة بفعل متصرف مجزوم بالأداة لفظا أو تقديرا، وهو إما ماض مجرد من حرف النفي، ومن حرف "قد" لفظا أو تقديرا، وإما مضارع مجرد أو منفي بلا أو لم، وأكثر ما يكون ظاهرا، ويجوز أن يضمر إذا دل عليه دليل، كما في: إنْ خيرا فخير وإن شرا فشر، تقديره: إن كان عمله خيرا فجزاؤه خير، وإن كان عمله شرا فجزاؤه شر، على ما تقدم ذكره في باب كان.
وأكثر ما يضمر إذا فسر بعد معموله بفعل مذكور، والغالب كونه ماضيا، أو مضارعا منفيا بلم، نحو:(وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره) وإن زيد لم يأتني آته. ومجيئه مضارعا بدون لم شاذ، ومنه قول الشاعر:
فإن أنت تفعل فللفاعليـ
…
ـن أنت المجيزين تلك الغِمارا
وقوله:
يُثني عليك وأنت أهل ثنائِه
…
ولديك إن هو يستزدْك مزيد
ولا يتقدم الاسم الفعل على الإضمار المذكور مع غير إنْ من أدوات الشرط إلا في الضرورة، كقوله:
فمَنْ نحنُ نُؤْمِنْه يَبتْ وهو آمنٌ
…
ومن لا نُجِرْه يُمْسِ منا مُفَزَّعا
وقوله:
صَعْدَةٌ نابتةٌ في حائرِ
…
أينما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
وقوله:
فمتى واغِلٌ يَنُبْهمُ يُحَيُّو
…
هُ ويُعْطَفْ عليه كأسُ السّاقي
والاستفهام في هذا الاستعمال كأدوات الشرط، مع كونه غير مختص، فإن كان بالهمزة جاز لكونها أم الباب.
وأصل أدوات الاستفهام أن يتقدم الفعل بعدها اسم مرفوع بالابتداء، أو معمول لفعل مضمر يفسره ما بعد الاسم. وإن كان بهل أو غيرها من أسماء الاستفهام امتنع أن يتقدم بعده الاسم على الفعل إلا في الضرورة، كقوله: أمْ هل كبيرٌ بكى
وامتنع حينئذ كونه مبتدأ، ووجب حمله على فعل مضمر عامل فيه عمل الفعل الظاهر فيما اشتغل به.
وأما الجزاء فيصلح له كل الجمل، فيكون جملة طلبية، وخبرية شرطية (وغير شرطية)، أو جملة اسمية أو فعلية. والأصل كونه جملة يصلح جعلها شرطا، وهي المصدرة بفعل متصرف، ماض مجرد من قد لفظا أو تقديرا، أو من غيرها، أو مضارع مجرد أو منفي بلا أولم. لأن الشرط بإن وأخواتها تعليق حصول ما
ليس بحاصل على حصول غيره، فاستلزم في جمليته امتناع الثبوت، أو إمكان الحصول، فلا تكون إحداهما اسمية أو طلبية إلا بتأويل. وإذا جاء الجزاء على غير ما هو الأصل فيه وجب اقترانه بالفاء ليعلم ارتباطه بالشرط، وتعلق أداته به، لما لم يكن على وفق ما يقتضيه الشرط، وذلك إذا كان جملة طلبية، كقوله تعالى:(قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني) وكقراءة ابن كثير: (ومن يعملْ من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أو شرطية نحو: إن تأتني فإن تحدثْني أكرمْك. أو اسمية نحو: إن تقم فزيد قائم، أو فعلية مصدرة بفعل غير متصرف نحو:(إنْ تَرَنِ أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) أو ماض مقرون بقد لفظا نحو: (إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أو تقديرا، وذلك إذا كان العفعل ماضي المعنى، كقوله تعالى:(إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت) أو مقرون بحرف نفي نحو: إن قام زيد فما قام عمرو. أو مضارع مقرون بقد أو حرف تنفيس أو نفي بغير لا أو لم نحو: إن تقم فقد أقوم، أو فسوف أقوم، أو فما أقوم، أو فلن أقوم.
فالفاء في أمثال كل هذا واجبة الذكر، لا يجوز أن تقام الواو وغيرها مقامها، ولا يجوز حذفها إلا في الضرورة كقوله:
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها
…
والشَّرُّ بالشر عند الله مثلان
وقوله:
ومَنْ لا يزلْ ينقادُ للغيِّ والهوى
…
سيُلْفى على طول السلامة نادما
وإذا جاء الجزاء على مقتضى الأصل صالحا للشرطية لم يحتج إلى فاء تربطه بالشرط، فالأولى خلوه منها، ويجوز اقترانه بها.
فإن خلا منها وصدر بمضارع جزم، سواء كان الشرط مضارعا نحو:(ومَنْ يتّق الله يجعل له مخرجا) أو ماضيا كقوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتَها نُوَفّ إليهم أعمالهم فيها) وقول الفرزدق:
دسَّتْ رسولا بأن القوم إن قَدروا
…
عليك يَشْفُوا صدورا ذاتَ توغِير
وقد يرفع بكثرة إن كان الشرط ماضيا، أو منفيا بلم، وبقلة إن كان غير ذلك. فالأول كقول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ
…
يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وقول أبي صخر:
وليس المُعَنَّى بالذي لا يَهِيجُه
…
إلى الشوق إلا الهاتفاتُ السَّواجِعُ
ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه
…
يقول – ويخفي الصبر – إني لجازعُ
وقول الآخر:
فإن كان لا يُرضيك إلا مَرَدّتي
…
إلى قَطَرِيٍّ لا إخالُك راضيا
وقول الآخر:
وإن بَعُدوا لا يأمنون اقترابه
…
تَشَوُّفَ أهل الغائب المُتَنَظِّر
والثاني قول جرير بن عبد الله البجلي:
يا أقرعُ بنَ حابس يا أقرعُ
…
إنك إن يصرعْ أخوك تصرعُ
ومثله قول الآخر:
مَنْ يأتِها لا يَضيرُها
وقراءة طلحة بن سليمان: (أينما تكونوا يدركُكُم الموت) ورفعه عند سيبويه على وجهين: على تقدير تقديمه، وكون الجواب محذوفا. وعلى حذف الفاء، لأنه قال: وقد يقولون: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني، وأنشد بيت زهير، ثم قال، فإذا قلت: آتى من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلة، وإن شئت كانت بمنزلتها في إن، ويجوز في الشعر: آتي من يأتني. قال:
فقلتث تحَمّلْ فوق طوقك إنها
…
مُطَبَّعَةٌ من يأتِها لا يَضيرُها
كأنه قال: لا يضيرها من يأتها. ولو أريد به حذف الفاء جاز.
ومنع أبو العباس تقدير التقديم، فقال: وأما قوله:
وإن أتاه خليل يومَ مسألة يقول
على القلب، فهو محال، وذلك لأن الجواب حده أن يكون بعد إنْ
وفعلها الأول، وإنما يعنى بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه، نحو: ضرب غلامَه زيدٌ، لأن حق الغلام أن يكون بعد زيد، وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء، فلو أجاز أن يعنى به التقديم لجاز أن نقول: ضرب غلامُه زيدا، تريد: ضرب زيدا غلامُه.
وإن قرن المضارع الصالح للشرطية بالفاء، وجب رفعه مطلقا، سواء كان الشرط ماضيا أو مضارعا، كقوله تعالى:(ومن عاد فينتقم الله منه) وقوله تعالى: (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) وكقراءة حمزة: (إن تضل إحداهما فتذكرُ إحداهما الأخرى).
وينبغي أن يكون الفعل بعد هذه الفاء خبر مبتدأ محذوف، ولولا ذلك لحكم بزيادة الفاء، وجزم المضارع، لأنها حينئذ في تقدير السقوط، لكن العرب التزمت رفع المضارع بعدها، فعلم أنها غير زائدة، وأنها داخلة على مبتدأ مقدر، كما تدخل على مبتدأ مظهر.
ص: وجزم الجواب بفعل الشرط، لا بالأداة وحدها، ولا بهما، ولا على الجوار، خلافا لزاعمي ذلك.
ش: اختلف في الجازم لجواب الشرط إذا حذفت منه الفاء، فعند الكوفيين هو مجزوم على الجوار، كخفض "خَرِب" من قولهم: هذا حجرُ ضبٍّ خربٍ، وتبطله أمور كثيرة: أحدها: أن الخفض على الجوار لا يكون واجبا، وجزم الجواب واجب.
الثاني: أن الخفض على الجوار لا يكون إلا بعد مخفوض خفضا ظاهرا لتحصل المشاكلة، وجزم الجواب يكون بعد جزم ظاهر وغير ظاهر.
الثالث: أن الخفض على الجوار لا يكون إلا مع الاتصال، وجزم الجواب يكون مع الاتصال والانفصال. فعلم أنه ليس مجزوما على الجوار.
فجزمه إما بفعل الشرط، أو بأداته، وإما بهما. لا جائز أن يكون جزمه بالأداة وحدها، لأن الجزم في الفعل نظير الجر في الاسم، وليس في عوامل الجر ما يعمل في شيئين دون إتباع، فوجب أن تكون عوامل الجزم كذلك، تسوية بين النظيرين، ولئلا يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى. وأيضا فإن العوامل اللفظية على ضربين: الأول ما يعمل عملا متعددا، والثاني ما يعمل عملا غير متعدد. والعامل عملا متعددا لا بد في عمله من اختلاف إن تغاير معنى معموليه، ليمتاز أحدهما من الآخر، والشرط والجواب متغايران، فلو كان عاملهما واحدا لوجب اختلاف عمليهما وجوب ذلك في الفاعل والمفعول. فالحكم على أداة الشرط بأنها جازمة للجواب مع أنها جزمت الشرط، حكم بما لا نظير له، فوجب منعه.
ولا جائز أيضا أن يكون جزم الجواب بالأداة والشرط معا، لأن كل عامل مركب من شيئين لا يجوز انفصال جزأيه، ولا حذف أحدهما، كإذما وحيثما، بخلاف أداة الشرط وفعله، فإن انفصالهما جائز نحو: إن زيدا تكرمْ يكرمْك، وقد يحذف فعل الشرط دون الأداة كقوله:
فطلِّقْها فلستَ لها بكُفْءٍ
…
وإلا يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ
فلو كان العمل بهما معا، وجب لهما ما وجب لإذما وحيثما من عدم الإفراد والانفصال.
وإذا بطل جزم الجواب بما سوى فعل الشرط، تعين كونه مجزوما بفعله، لاقتضائه إياه، بما أحدثت فيه الأداة من المعنى والاستلزام، وعلى هذا يؤول قول سيبويه:"واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال، ويجزم الجواب بما قبله"
لأن ترك تأويله يقتضي أن يكون للفاعل والمفعول حظ في جزم الجواب، وذلك لا يصح اتفاقا، وقد دل الدليل على أن جزم الجواب ليس بالأداة والشرط معا، ولا بالأداة وحدها، فلم يبق ما يحمل عليه قول سيبويه إلا فعل الشرط وحده.
وبهذا الجواب يسلم من ترجيح الاسم على الفعل في العمل، مع أصالته فيه، وفرعية الاسم، وذلك أن الاسم قد عمل في جنسه نحو: هذا ضاربٌ زيدا، وفي غير جنسه نحو: من يكرمْني أكرمْه، فلو لم يكن جزم الجواب بفعل الشرط، لزم كون الفعل مقصور العمل على غير جنسه، وذلك انحطاط أصل عن رتبة فرع، فإذا كان جزم الجواب بفعل الشرط، أمن ذلك، فوجب القول به.
فصل: ص: قد يجزم "بإذا" الاستقبالية حملا على "متى" وتهمل "متى" حملا على "إذا" وقد تهمل "إن" حملا على "لو" والأصح امتناع حمل "لو" على "إن" وقد يجزم مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط.
ش: "إذا" في الكلام على ضربين: ظرف مستقبل، وحرف مفاجأة. فالتي هي حرف مفاجأة مختصة بالجمل الاسمية، ولا عمل لها.
والاستقبالية مختصة بالجمل الفعلية، وتأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون خالية من معنى الشرط، نحو:(والليل إذا يغْشى * والنهار إذا تجلَّى).
والثاني: أن تكون متضمنة معنى الشرط، وهو الغالب فيها، نحو:(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) وهي كالخالية من معنى الشرط في عدم استحقاق عمل الجزم، لأن إذا الشرطية مختصة بالتعليق على الشرط المقطوع بوقوعه حقيقة أو حكما، كقولك: آتيك إذا احمرّ البُسْر، وإذا قدم الحاج. ولو قلت: آتيك إن احمر البسر، كان قبيحا، فلما خالفت "إذا""إنْ" وأخواتها فلم تكن للتعليق على الشرط المشكوك في وقوعه، فارقتها في حكمها، فلم يجزم بها في السعة، بل تضاف إلى الجملة، وإذا وليها المضارع كان مرفوعا، كقوله تعالى:(وهو على جمعهم إذا يشاءُ قدير).
وأما في الشعر فشاع الجزم بها حملا على متى، قال سيبويه: وقد جازوا بها في الشعر مضطرين، شبهوها بإن حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بد لها من جواب، قال قيس بن خطيم:
إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها
…
خُطانا إلى أعدائنا فنُضاربِ
فالقافية مكسورة، وقال الفرزدق:
ترفعُ لي خندفٌ والله يرفعُ لي
…
نارا إذا خَمَدتْ نيرانُهم تَقِدِ
وأنشد الفراء:
استغنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى
…
وإذا تُصِبْك خَصاصةٌ فتَجَمَّلِ
وقال الشاعر:
وإذا نطاوع أمرَ سادتنا
…
لا يَثْنِنا بُخلٌ ولا جُبْنُ
قال الشيخ رحمه الله: وليس قائل هذا مضطرا، لأنه لو رفع "نطاوع" لم يكسر الوزن ولم يزاحفه.
وقد تهمل "متى" فيرفع الفعل بعدها حملا على إذا، وهو غريب، ومنه:"إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقومُ مقامك رقّ".
وقد تهمل "إن" حملا على "لو" كقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك
تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك".
وأجاز الجزم بلو في الشعر قوم منهم الشجري، واحتج بقول الشاعر:
لو يَشَا طار به ذو مَيْعَةٍ
…
لاحقُ الآطال نَهْدٌ ذو خُصَل
قال الشيخ رحمه الله: وهذا لا حجة فيه، لأن من العرب من يقول: جايجي، وشايشا، بترك الهمزة، فيمكن أن يكون قائل هذا البيت من لغته ترك همزة يشاء، فقال: يشا، ثم أبدل الألف همزة، كما قيل في: عالم وخاتم: عألم وخأتم. وكما فعل ابن ذكوان في: (تأكل مِنْسَأته) حين قرأ: "مِنْسَاته والأصل: مِنْسَأَته" مِفْعَلَى من نَسَأه، إذا زجره بالعصا، فأبدل الهمزة ألفا، ثم أبدل الألف همزة ساكنة، فعلى ذلك يحمل قوله: لو يشأ. وأما قول الشاعر:
تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْك ما صنعت
…
إحدى نساء بني ذُهْل بنِ شَيْبانا
فهو من تسكين ضمة الإعراب تخفيفا، كما قرأ أبو عمرو:(يشعرْكم) و: (ينصرْكم) وكما قرأ بعض السلف: (رُسُلْنا لديهم يكتبون) بسكون اللام.
وأشار بقوله: وقد يجزم مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط إلى ما أنشد ابن الأعرابي من قول الشاعر:
ولا تَحفِرنْ بئرا تُريد أخابها
…
فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما
…
تُصبْه على رغم عواقبُ ما صنع
ص: ويجوز نحو: إنْ تفعلْ زيدٌ يفعلْ، وفاقا لسيبويه، ونحو: إن تنطلقْ خيرا تصبْ، خلافا للفراء. وقد تنوب بعد "إن""إذا" المفاجأة عن الفاء في الجملة الاسمية غير الطلبية.
ش: يجوز في الشرط بإنْ تقديم معموله عليه، وحده باتفاق، وأجاز سيبويه والكسائي نحو: إنْ طعامَنا تأكلْ نكرمْك. وفي الجزاء المجزوم بإنْ تقديم معموله عليه نحو: إنْ تكرمْنا طعامَك نأكلْ، وإنْ تنطلقْ خيرا تصبْ، كما جاز مثله في الشرط، وأنشد الكسائي:
وللخَيْل أيامٌ فمن يصْطَبِرْ لها
…
ويعرفْ لها أيامَها الخيرَ تُعقِبِ
ومنع ذلك الفراء، وأوجب في الجزاء إذا تقدم معموله الرفع على القلب أو على تقدير الفاء نحو: إنْ تنطلق خيرا تصب، وجعل الخير في البيت صفة للأيام.
وإن صدر الجزاء باسم يليه فعل مسند إلى ضميره، فالوجه ذكر الفاء ورفع الفعل، نحو: إن تفعل فزيد يفعلُ. وأجاز سيبويه ترك الفاء والجزم، نحو: إن تفعلْ زيدٌ يقلْ ذاك، ووجهه أن يكون الاسم مرفوعا بفعل يفسره الفعل الظاهر، لصحة عمله في محل الاسم السابق لو خلا عن الشاغل، ومنع ذلك الفراء والكسائي.
أما الفراء فمنعه له يتجه على أصله، فإنه لما منع عمل الجواب المجزوم فيما قبله، وجب عليه أن يمنع تفسيره عاملا فيما قبله.
وأما الكسائي فإنه يجيز عمل الجواب المجزوم فيما قبله، فقد كان ينبغي له أن
يجيز تفسيره عاملا فيما قبله. اللهم إلا أن يكون مذهب الكسائي امتناع إضمار الفعل على شريطة التفسير، إلا عند وجود الموجب لإضماره، أو المرجح أو المسوى، فحينئذ يكون نحو: لو تنطلق زيد يفعل، ممتنعا عند الكسائي، لوجوب كون زيد مبتدأ، وكون الفعل خبره، وامتناع جزم الخبر.
ويقوم مقام الفاء بعد إن الشرطية خاصة إذا المفاجأة (في ربط الجزاء بالشرط، وإنما يكون ذلك إذا كان الجزاء جملة اسمية غير طلبية نحو: إن تقم إذا زيد قائم، لأن إذا المفاجأة) لا تدخل على الجملة الفعلية ولا الطلبية. وإنما قامت مقام الفاء لأنها مثلها في عدم الابتداء بها، وفي إفادة معنى التعقيب، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله تعالى: (وإن تصبْهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) قال: هذا معلق بالكلام الأول، كما كانت الفاء معلقة بالكلام الأول، وهذا ههنا في موضع قنطوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنها لا تجيء مبتدأة كما لا تجيء الفاء. ثم قال: وزعم اخليل أن إدخال الفاء على إذا قبيح، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسنا لكان الكلام بغير الفاء قبيحا، فهذا قد استغنى عن الفاء، كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هنا جوابا، كما صارت الفاء جوابا.
فصل: ص: لأداة الشرط صدر الكلام، فإن تقدم عليها شبيه بالجواب معنى، فهو دليل عليه وليس إياه، خلافا للكوفيين والمبرد وأبي زيد، ولا يكون الشرط حينئذ غير ماض إلا في الشعر، وإن كان غير ماض مع "مَنْ" أو "ما" أو "أي" وجب لها في السعة حكم "الذي" وكذا إن أضيف إليهن "حين" ويجب ذلك مطلقا لهن إثر "هل" أو "ما" النافية، أو "إنّ" أو
"كان" أو إحدى أخواتها، أو "لكن" أو "إذا" المفاجأة غير مضمر بعدها مبتدأ.
ش: لإن الشرطية صدر الكلام، فلا يتقدم عليها ما بعدها، ولا يعمل فيها ما قبلها، ولا تكون مع الشرط والجزاء إلا كلاما مستأنفا، أو مبنيا على ذي خبر أو نحوه، كقولك: زيد إن يقم يقم أخوه، وكذا جميع أسماء الشرط، فلذلك لو تقدم على أداة الشرط مفعول في المعنى لفعل الشرط أو الجزاء وجب رفعه بالابتداء، وشغل الفعل بضمير مذكور أو مقدر، خلافا للكسائي في جواز نحو: طعامَك إن آكل يعجبْك، وله وللفراء في جواز: طعامَك إن تذهبْ نأكلْ.
ولو تقدم على الأداة جملة هي الجواب في المعنى، فليست هي نفس الجواب، بل دليلا عليه، وهي كلام منقطع عما بعده، وقد يكون حكمه مطلقا، وقد يكون مقيدا بشرط مقدر، وإلا لزم هذا المعلق عليه تقديمه. وذهب الكوفيون وأبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري إلى أن المتقدم على الشرط نفس الجواب، ويرده أن حرف الشرط دال على معنى في الشرط والجزاء، وهو الملازمة بينهما، فوجب تقديمه عليهما، كما وجب تقديم سائر حروف المعاني على ما فيه معناه.
واحتج أبو زيد على أن المتقدم هو نفس الجواب بمجيئه مقرونا بالفاء كقوله:
فلم أرْقِه إنْ ينجُ منها وإن يمتْ
…
فطعنةُ لانِكس ولا بمُغَمّرِ
وليس بشيء، لأن تقدير معطوف عليه خبر من تقديم الجزاء على الشرط، وتصدير حرف العطف.
ولا يجوز أن يتقدم دليل الجواب على الشرط في السعة إلا إذا كان ماضيا، نحو: آتيك إن أتيتني، ولا يجوز: آتيك إن تأتني إلا في الشعر، كما في قوله:
فلم أرقه إن ينج منها
قال سيبويه: "وقبُح في الكلام أن تعمل إنْ أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمها في اللفظ، ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله، فهكذا جرى هذا في كلامهم".
وإذا تقدم دليل الجواب وكان الشرط غير ماض مع "من" أو "ما" أو "أي" وجب لها في السعة حكم الذي، وإن كان المعنى على المجازاة فلا يجزم، ويكون ما بعدها صلة، وما قبلها عاملا فيها، وذلك قولك: آتي من يأتيني، وأقول ما تقولُ، وأعطيك أيَّها تشاءُ، فترفع، لأنه لما امتنع في السعة تأخير أداة الجزاء إذا جزمت ما بعدها، حملوا هذه الأسماء على الذي، لأنه لا قبح فيه، ولم يحملوها على الجزاء إلا في الشعر، وقد تقدم عند ذكر فاء الجواب حكاية كلام سيبويه في هذه المسألة، فلا حاجة إلى إعادته.
ويجب حكم الذي أيضا لمَنْ أو ما أو أي إذا وقعت صفة لا تقع إنْ موضعها، وذلك في صور: إحداها: أن يضاف إليها حين، كقولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وإنما كرهوا الجزاء ههنا لأنه ليس من مواضعه، لأن أسماء الأحيان لا تضاف إلى الجمل الشرطية، ألا ترى أنه لا يقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، فلما كان قبيحا في إنْ قبح في سائر أخواتها، ولم يرد إلا في الشعر، كقول لبيد:
على حين مَنْ تَثْبُتْ عليه ذُنوبُه
…
يَجِد فقدها إذْ في المقام تَدابُر
والوجه حمله على ضمير الشأن، والمعنى: على حين الشأن من تثبت عليه ذنوبه يجد فقدها، كما تقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، (لأن الجملة الشرطية يصح أن تكون خبرا، ولا يصح أن تكون مضافا إليها.
الثانية: أن تقع بعد هل، كقولك: هل من يأتينا نأتيه)، فليس لك في نحو هذا إلا الرفع، لأن من موصولة، ولا يجوز جعلها شرطية، لأن هل لا يستفهم بها عن الشرطية، فلا يقال: هل إن أقم تقم، ولو كان الاستفهام بالهمزة جاز الجزم وكون من شرطية، لأنه توسع في الهمزة، فاستفهم بها عن الجمل الشرطية، كما يستفهم بها عن غير ذلك، كقولك: أئن تأتني آتك، فلما حسن دخولها على إن حسن دخولها على أخواتها، فيقال: أمن يأتنا نأته، ولم يجز مثله في هل.
الثالثة: أن تقع بعد ما النافية كقولك: ما من يأتينا نأتيه، وما أيها تشاء أعطيك، فترفع ما بعد الاسم لأنه موصول، ولا يجوز الجزم وجعل الاسم شرطيا، لأن ما لا تنفي الجملة الشرطية، فلا يقال: ما إن تأتنا نأتك، فلما لم يجز ذلك في إن، لم يجز في سواها، ولو كان النفي بلا لم يجب لما ذكر حكم الذي، فيجوز جعله شرطيا فيجزم ما بعده كقولك: لا من يأتك تعطه، ولا من تعطه يأتك، لأنهم لما توسعوا في "لا" فقدموا العامل عليها، نفوا بها المفرد والجملة، ونفوا بها الجملة الشرطية أيضا، كقولك: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن بعدنا عنك عرضت علينا، قال ابن مقبل:
وقِدْرٍ ككفِّ القِرْد لا مُسْتعيرُها
…
يُعارُ ولا مَنْ يأتِها يتدسم
الرابعة: أن تقع بعد إنّ أو إحدى أخواتها، كقولك: إنّ من يأتيني آتيه، وليت ما أقولُ تقولُ، فترفع، لأنك لما أعملت إنّ وليت في "من" وجب أن تكون موصولة، لأن الشرطية لا يعمل فيها لفظ قبلها، إلا أن يكون حرف جر،
نحو: بمن تمررْ أمررْ، وعلى أيِّها تركبْ أركبْ، لأنه مُعَدٍّ لفعل الشرط إلى الاسم، فصار مع الفعل بمنزلة فعل وصل إلى الاسم بغير حرف جر. فلما لم يعمل في الأسماء الشرطية لفظ قبلها غير حرف الجر، وجب فيما وقع منها بعد إنّ أو إحدى أخواتها أن تكون موصولة، لأن هذه الحروف لا تدخل على إنْ الشرطية، لأنها مختصة بالأسماء، ولا تدخل على ما تضمن معنى إنْ إلا في الشعر، ولا يكون ذلك إلا على حذف الاسم، قال الأعشى:
إنّ من لامَ في بني بنْتِ حسّا
…
ن ألُمْهُ وأعْصِهِ في الخُطوب
وقال أمية بن أبي الصلت:
ولكنّ مَنْ لا يلْقَ أمرا ينوبُه
…
بعُدَّته ينزلْ به وهو أعزلُ
قال سيبويه: فزعم الخليل أنه إنما جاز حيث أضمر الهاء، وأراد: إنّه ولكنّه.
الخامسة: أن تقع بعد كان أو إحدى أخواتها، كقولك: كان من يأتيني آتيه، (وليس من يأتيني آتيه)، فترفع بعد كان وليس، كما ترفع بعد إن وأخواتها، ويجوز الجزم على أن تضمر في كان ضمير الشأن فتقول: كان من يأتني آته، وليس من يأتنا نحدثْه، لأنك جعلت الجملة خبرا، فجاز على حد قولك: كنت من يأتنا نأته، ولست من يأتني أحدثه.
السادسة: أن تقع بعد لكنْ المخففة غير مضمر بعدها مبتدأ، كقولك: ما أنا ببخيل، ولكن من يأتيني أعطيه، فترفع، لأنك لمّا لم تضمر قبل من مبتدأ وجب أن تكون موصولة، لأن لكن لا تدخل على الجملة الشرطية، ولك أن
تجزم على جعل من شرطية، وإضمار مبتدأ قبلها، كما أضمر بعد لكن في غير ذلك، نحو: ما زيد عاقلا ولكن أحمق، فتقول: ما أنا ببخيل ولكن ما يأتني أعطه، كما قال:
ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أرْفِد
تقديره: ولكن أنا متى، ولا يجوز في "متى" ولا غيرها من الظروف أن توصل بالفعل كما توصل من وما وأي، ولا تقع في شيء من الصور المذكورة إلا على تقدير مبتدأ قبلها.
السابعة: أن تقع بعد إذا المفاجأة غير مضمر بعدها مبتدأ، كقولك: مررت به فإذا من يأتيه أعطيه، بالرفع، لأنك لم تضمر قبل من مبتدأ، فتعين أن تكون موصولة، لأن إذا المفاجأة لا تدخل على الشرط والجزاء، ولك أن تضمر قبل من مبتدأ وتجزم، قال سيبويه: وإن شئت جزمت، لأن الإضمار يحسن ههنا، ألا ترى أنك تقول، مررت به فإذا أجملُ الناس، ومررت به فإذا أيُّما رجل، فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: مررت به فإذا هو من يأته يعطه، فإن لم تضمر وجعلت إذا تلى من، فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم.
وإذا كان الشرط والجزاء فعلين جاز أن يكونا مضارعين، وأن يكونا ماضيين، وأن يكون الشرط ماضيا والجواب مضارعا، وأن يكون الشرط مضارعا والجواب ماضيا. والأكثر أن يكونا مضارعين، لأنه الأصل ومنه:(وإن تُبْدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبْكم به الله).
ويليه في الكثرة أن يكونا ماضيين وضعا أوبمصاحبة لم، أحدهما أو كلاهما، لأنه وإن كان أبعد عن الأصل من كون أحدهما مضارعا، فهو أدخل في المشاكلة، وذلك نحو:(وإن عُدْتم عُدنا) ونحو: إن قمت لم أقم، وإن لم تقم قمت،
وإن لم تقم لم أقعد.
وأما كون الشرط ماضيا والجواب مضارعا فقليل بالنسبة، ومن أمثلته قوله تعالى:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتَها نُوَفِّ إليهم أعمالهم فيها).
وأقل منه كون الشرط مضارعا والجواب ماضيا، لأن الشرط الماضي لا يلتبس بغيره، لأنه مقرون بأداة الشرط، والجواب الماضي قد يلتبس بغيره لعدم ظهور الجزم فيه، ومما جاء منه قول الشاعر:
من يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه
…
كالشَّجا بين حلقِه والوريد
وقوله:
إن تَصْرِمونا صَرَمْناكم وإن تَصلوا
…
ملأتُمُ أنفسَ الأعداء إرهابا
وقوله:
إن يَسْمِعوا سَيِّئا طاروا به فرحا
…
مِنِّي وما سمعوا من صالح دفنوا
وأكثر النحويين يخصون هذا الاستعمال بالضرورة، قال شيخنا رحمه الله: ولا أرى ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له من ذنبه ما تقدم" ولأن قائل البيت متمكن من أن يقول بدل كنت: أك منه. وقائل الثاني متمكن من أن يقول بدل وصلناكم: نواصلكم. وبدل وإن تصلوا ملأتم: وإن تصلوا تملئوا. وقائل البيت الثالث متمكن من أن يقول بدل إن
يسمعوا: إن سمعوا. فلما لم يقولوا ذلك مع إمكانه، وسهولة تعاطيه، علم أنهم غير مضطرين.
وقد صرح بجواز ذلك الفراء رحمه الله تعالى، وجعل منه قوله تعالى:(إن نشأ نُنَزِّلْ عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) لأن ظلت بلفظ الماضي، وقد عطفت على ننزل، وحق المعطوف أن يصلح لحلوله محل المعطوف عليه.
ص: ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ كان أو غيرها إلا مُؤولا، وقد يكون الجواب ماضي اللفظ والمعنى مقرونا بالفاء مع قد ظاهرة أو مقدرة. ولا ترد إن بمعنى إذ، خلافا للكوفيين.
ش: إن الشرطية وأخواتها مختصة بالمستقبل، فلا يكون شرطها ولا جزاؤه بمعنى الماضي، ولا بمعنى الحال، وما أوهم ذلك أوِّل، فإذا جاء في موضع الشرط أو الجزاء ما هو حال أو ماض بلفظ كان أو غيرها حمل على أنه متعلق بفعل مستقبل هو الشرط أو الجزاء في الحقيقة، ولكنه حذف اختصارا أو استغناء عنه بانصراف الكلام إلى معناه، وذلك قولك: إن أحسنت إليّ أمس فقد أحسنت إليك اليوم، والمعنى: إن تبين إحسانك أمس تبين إحساني اليوم.
وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يجوز بلا تأويل كون الشرط ماضي المعنى بلفظ كان دون غيرها، فإنه قال: وما يسأل عنه في هذا الباب قولك: إن كنت زرتني أمس أكرمتك اليوم. فقد صار ما بعد إن يقع في معنى الماضي. قيل للسائل: ليس ذا من قبيل إن، ولكن لقوة كان، وأنها أصل الأفعال وعبارتها، جاز أن تغلبْ إنْ فتقول: إن كنت أعطيتني فسوف أكافئك، فلا يكون ذلك إلا ماضيا، وكقوله تعالى:(إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه) والدليل على أنه كما