الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وَقد تكلم الْعلمَاء فِي شرح الْآيَات الَّتِي نزلت عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَبَيَان مناسبتها لتِلْك الْحَال.
قَالَ السُّهيْلي: " قيل لَهُ {اقْرَأ باسم رَبك} أَي إِنَّك لَا تقرؤه بحولك، وَلَا بِصفة نَفسك وَلَا بمعرفتك، وَلَكِن اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك مستعينا بِهِ فَهُوَ يعلمك كَمَا خلقك وكما نزع عَنْك علق الدَّم ".
قلت: فِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك} قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن الْبَاء زَائِدَة كَقَوْلِه:
ونرجوا بالفرج.
لَا يقْرَأن بالسور.
لَا يقْرَأن بِسُورَة الْأَحْزَاب.
وَهُوَ كثير، أَي اقْرَأ اسْم رَبك بِمَعْنى اذكر أسماءه وَصِفَاته وَمَا يسْتَحق أَن ينعَت بِهِ من صِفَات الْجلَال والكمال، ونزهه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ كَقَوْلِه:{وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين يصفونه بِمَا لَا يَلِيق بجلاله كَقَوْلِهِم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وكتسميتهم آلِهَتهم اللات والعزى ومناه وَنَحْوهَا، وكما يَقُوله فرق النَّصَارَى فِي أقانيمهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْبَاء لَيست بزائدة بل هِيَ لأحد مَعْنيين:
الأول: أَنه من بَاب قَوْلك: فعلت هَذَا بعون الله وتوفيقه، أَي ملتبسا بِهِ يُرَاد بذلك بركَة الْفِعْل وَإِسْنَاده إِلَى خالقه ومريده، يُقَال: فعلت كَذَا باسم الله وعَلى اسْم الله، قَالَ الله تَعَالَى:{وَقَالَ اركبوا فِيهَا باسم الله}
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فَقَالَت على اسْم الله أَمرك طَاعَة
…
)
وَالثَّانِي: أَن التَّقْدِير: اقْرَأ مفتتحا باسم الله، أَي لتكن قراءتك أبدا مفتتحة باسم الله، إِشَارَة إِلَى الِابْتِدَاء بِتَسْمِيَة الله وَهِي ذكره فِي ابْتِدَاء الْقِرَاءَة، كَمَا سنّ ذكره تَعَالَى فِي ابْتِدَاء كل أَمر ذِي بَال، وَهَذَا مسنون.
مجمع عَلَيْهِ بِدَلِيل الِاسْتِعَاذَة، وَبَالغ المبسملون فِي أَوَائِل السُّور فَقَالُوا: هَذَا إرشاد إِلَى شَرْعِيَّة الْبَسْمَلَة فِي أَوَائِل السُّور حَتَّى قَالَ السُّهيْلي: وَفِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك} من الْفِقْه وجوب استفتاح الْقِرَاءَة بِبسْم الله.
قلت:
وَهَذَا ضَعِيف إِذْ الِاحْتِمَالَات السَّابِقَة فِي هَذِه اللَّفْظَة تعَارض مَا ذكره، فَكيف يثبت شَيْء تعارضه أَشْيَاء، هَذَا لَو تَسَاوَت الِاحْتِمَالَات، وَلَا حَاجَة لنا - وَالْحَمْد لله - إِلَى إِثْبَات شَرْعِيَّة التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل السُّور بِهَذَا الدَّلِيل بل هِيَ ثَابِتَة بأدلة قَوِيَّة أَرْشدنِي الله تَعَالَى بتوفيقه إِلَى جمعهَا فِي مُصَنف مُسْتَقل مطول ومختصر.
وَالَّذين لَا يرَوْنَ التَّسْمِيَة مَشْرُوعَة فِي أَوَائِل السُّور استدلوا بِهَذِهِ الْآيَة فِي جملَة مَا استدلوا بِهِ، وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن القَاضِي أبي الْحسن بن الْقصار أَنه قَالَ: وَفِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} رد على الشَّافِعِي فِي أَن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة من كل سُورَة وَهَذِه أول سُورَة نزلت وَلَيْسَ ذَلِك فِيهَا ".
قلت:
هَذَا من جملَة شبههم الَّتِي اعتمدوا عَلَيْهَا فِي تَقْرِير مَذْهَبهم وَقد ذَكرنَاهَا فِي " كتاب الْبَسْمَلَة " وأجبنا عَنْهَا بِتَوْفِيق الله عز وجل، وَكَانَ من جَوَاب هَذَا أَن قُلْنَا: " لَا ضَرَر فِي ذَلِك فقد تكون الْبَسْمَلَة نزلت بعد
ذَلِك وَجعلت أَولهَا كنظائر لَهَا من الْآيَات كَثِيرَة تَأَخّر نُزُولهَا وَتَقَدَّمت على غَيرهَا.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: أُشير ب {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى السُّورَة كَقَوْلِك: قَرَأت الْحَمد، فَلَا يدل على أَنه لم يقرئه الْبَسْمَلَة ".
وروى الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ فِي " تَعْلِيقه: عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: أول مَا ألْقى عَليّ جِبْرِيل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
وَفِي " تَفْسِير أبي بكر النقاش " عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره قَالَ: " أول
مَا نزل بِهِ جِبْرِيل عليه السلام على النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
قَوْله: {الَّذِي خلق} .
أَي الْخَالِق أُرِيد إِثْبَات هَذِه الصّفة لَهُ على الْخُصُوص فَحذف الْمَفْعُول إِذْ كَانَ المُرَاد إِثْبَات أصل الصّفة من غير نظر إِلَى تعْيين الْمَخْلُوق إِذْ هُوَ الَّذِي يخلق لَا خَالق سواهُ، وَهَذَا معنى قَول أبي الْعَبَّاس الْمبرد: المُرَاد بِهِ ذكر الْفَاعِل فَحسب.
فَإِذا اتَّضَح أَن هَذَا الْمَعْنى هُوَ المُرَاد لم يحْتَج إِلَى إِظْهَار الْمَفْعُول إِذْ لَو أظهر لَكَانَ التَّقْدِير: الَّذِي خلق كل شَيْء أَو خلق الْعَالم.
وَقيل: التَّقْدِير: خلقك، فَيكون خَاصّا.
وَقَوله بعد ذَلِك: {خلق الْإِنْسَان} :
المُرَاد بالإنسان على القَوْل الثَّانِي من خُوطِبَ بِالْكَاف فِي {خلقك} على الِالْتِفَات، أَو أَرَادَ جنس وَهُوَ كل مَخْلُوق من نسل آدم عليه السلام. وعَلى القَوْل الأول يكون تَخْصِيصًا بعد تَعْمِيم لعظم شَأْن الْإِنْسَان وكرامته على ربه عز وجل.
و {العلق} : جمع علقَة وَهِي الدَّم الجامد وَغَيره يُقَال لَهُ المسفوح، وَإِنَّمَا جمع هُنَا لِأَن المُرَاد بالإنسان الْجِنْس على القَوْل الأول وَهُوَ الْأَصَح الْأَقْوَى، وَقيل: المُرَاد بالإنسان آدم عليه السلام.
وَقَوله {من علق} :
أَي من طين أَي يعلق بالكف، ثمَّ أكد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ فكرره فِي مُقَابلَة قَوْله:" مَا أَنا بقارئ " مرَارًا، أَي اقْرَأ وَأَن كنت أُمِّيا، وَكَيف تستبعد الْقِرَاءَة وَرَبك الأكرم الَّذِي علم النَّاس الْكِتَابَة بالقلم.
قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم:
" الأكرم الَّذِي لَهُ الْكَمَال فِي زِيَادَة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم الَّتِي لَا تحصى، ويحلم عَنْهُم فَلَا يعاجلهم بالعقوبة مَعَ كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي واطراحهم الْأَوَامِر، وَيقبل تَوْبَتهمْ ويتجاوز عَنْهُم بعد اقتراف العظائم، فَمَا لكرمه غَايَة وَلَا أمد، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاء التكرم بإفادة الْفَوَائِد العلمية تكرم حَيْثُ قَالَ: {الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} ، فَدلَّ على كَمَال كرمه بِأَنَّهُ علم عباده مَا لم يعلمُوا، ونقلهم من ظلمَة الْجَهْل إِلَى نور الْعلم، وَنبهَ على فضل علم الْكِتَابَة لما فِيهِ من الْمَنَافِع الْعَظِيمَة الَّتِي لَا يُحِيط بهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا دونت الْعُلُوم وَلَا قيدت الحكم وَلَا ضبطت أَخْبَار الْأَوَّلين ومقالاتهم وَلَا كتب الله الْمنزلَة إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ لما استقامت أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، وَلَو لم يكن على دَقِيق حِكْمَة الله ولطيف تَدْبيره دَلِيل إِلَّا أَمر الْقَلَم والخط لكفى بِهِ ".
قلت: فالواو فِي قَوْله: {وَرَبك الأكرم} للْحَال، و {رَبك} مُبْتَدأ و {الأكرم} خَبره أَو صفته، و {الَّذِي علم} خَبره، أَي علم الْقُرْآن بِأَن كتبه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فقرئ وَنقل، وَقيل: علم الْكِتَابَة بِخلق الْقَلَم ثمَّ عمم وَقَالَ: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} ، أَي كل شَيْء لم يكن يُعلمهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاح دينه ودنياه، وَلم يَأْتِ بواو الْعَطف.
وَقيل: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} بَيَان لقَوْله: {علم بالقلم} وَالْمرَاد بالإنسان الْجِنْس أَي علمه الْكتاب، علمه مَا لم يعلم.
وَقيل: المُرَاد بالإنسان هُنَا آدم لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ علمه أَسمَاء كل شَيْء.
وَقُرِئَ شاذا: علم الْخط بالقلم.
وَقيل: المُرَاد بالإنسان النَّبِي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم حَيْثُ علم البديهيات والنظريات، وَعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَهُوَ أُمِّي، فعلى هَذَا المُرَاد ب:{علم} يعلم، لِأَن هَذَا أول مَا نزل.
وَفِي ابْتِدَائه بإنزال هَؤُلَاءِ الْآيَات عَلَيْهِ التَّنْبِيه على النّظر والفكر المؤديين إِلَى علم التَّوْحِيد لذكر الربوبية المنتظمة للتربية وَالتَّدْبِير واللطف بِالصِّحَّةِ والرزق.
وتنبيه ثَان على الِاسْتِدْلَال بِمَا يرَاهُ من خلق جنسه من أَهله وَولده وَغَيرهم مِمَّا يعلم أَن حَاله وحالهم فِيهِ سَوَاء، من ظُهُورهمْ أشخاصا حَيَّة
متحركة من نظفة موَات حَاصِلَة فِي الرَّحِم، حَيْثُ لَا يصل إِلَيْهَا يَد وَلَا آله وَلَا يَمَسهَا شَيْء، بل يشْهد الْعقل بِأَنَّهَا تحول من حَال إِلَى حَال بِإِرَادَة حَيّ قَادر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ ".
وَفِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر - بعد ذكر نزُول الْآيَات - قَالَ: " فقرأتها ثمَّ انْتهى فَانْصَرف عني، وهببت من نومي وكأنما كتب فِي قلبِي كتابا ".
وَفِي حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: " فتح جِبْرِيل عينا من مَاء، فَتَوَضَّأ وَمُحَمّد صلى الله عليه وسلم ينظر إِلَيْهِ، فوضأ وَجهه وَيَديه غلى الْمرْفقين، وَمسح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ نضح فرجه، وَسجد سَجْدَتَيْنِ مُوَاجهَة الْبَيْت، فَفعل مُحَمَّد كَمَا رأى جِبْرِيل يفعل ".
قَوْلهَا: " فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ":
أَي بِالْآيَاتِ الْخمس الَّتِي أقرأه إِيَّاهَا الْملك قَرَأَهَا وحفظها، فَرجع ملتبسا بهَا حفظا وذكرا، ملاحظا لَهَا مفكرا فِي شَأْنهَا وأمرها.
قَوْلهَا: " يرجف فُؤَاده ":
هَذِه رِوَايَة عقيل، وَفِي رِوَايَة يُونُس وَمعمر:" ترجف بوادره "، وَمعنى " ترجف " تتحرك وتضطرب، والرجفة: الْحَرَكَة الشَّدِيدَة، يُقَال: رجف فُؤَاده رجوفا ورجفانا وَهُوَ أَن يرعد ويخفق.
والبوادر: جمع بادرة وَهِي لحْمَة بَين الْمنْكب والعنق.
وَقيل: هِيَ عروق تضطرب عِنْد الْفَزع.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: " بأدله " وَهِي مَا بَين الْعُنُق والترقوة وَاحِدهَا بادلة، وَقيل: بأدل.
وَقيل: البادلة أصل الثدي، وَقيل: شَحم الثديين، وَقيل غير ذَلِك.
قَوْله: " زَمِّلُونِي " أَي لففوني، وَكرر لفظ " زَمِّلُونِي " تَأْكِيدًا، وكل شَيْء لفف فِي شَيْء فقد زمل.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى أحد: " زملوهم فِي ثِيَابهمْ وَدِمَائِهِمْ " أَي لفوهم فِيهَا، وتزمل الرجل بِثَوْبِهِ إِذا اشْتَمَل بِهِ: قَالَ أمرؤ الْقَيْس:
(كَبِير أنَاس فِي بجاد مزمل
…
)
خفض لفظ " مزمل " على الْجوَار وَفِيه كَلَام للنحويين لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: " الرجفان الِاضْطِرَاب وَكَثْرَة الْحَرَكَة، وَمِنْه {يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال} ، وَهَذَا هُوَ سَبَب طلبه أَن يزمل ويدثر،
أَي يُغطي ويلف بالثياب لشدَّة مَا أَصَابَهُ من هول الْأَمر ولحقه من شدَّة الغط وَثقل الْوَحْي، وَإِن كَانَ قد قَالَ بعض الْمُفَسّرين: إِنَّه إِنَّمَا كَانَ يفعل هَذِه فرقا من جِبْرِيل لأوّل مَا يلقاه حَتَّى أنس بِهِ.
وَقيل: بل قيل لَهُ: {يَا أَيهَا المدثر} و {المزمل} لِأَنَّهُ حِين أَتَاهُ الْملك وجده متزملا ملتفا بِثَوْبِهِ فَنُوديَ بِصفة حَاله - قَالَ - وَالْأول أصح وَأولى لفظا وَمعنى، والمزمل والمدثر وَاحِد، وَيُقَال لكل مَا يلقى على الْجَسَد دثار وللفافة الْقرْبَة زمال، وَمعنى المزمل والمدثر والمتزمل والمتدثر أدغمت التَّاء فِيمَا بعْدهَا، وَقد جَاءَ فِي أثر أَنَّهُمَا من أَسْمَائِهِ عليه السلام ".
قلت:
الدثار هُوَ مَا يلقى على الْجَسَد فَوق الشعار، والشعار هُوَ الَّذِي يَلِي الْجَسَد، وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم:" الْأَنْصَار شعار، وَالنَّاس دثار " إِشَارَة إِلَى قربهم مِنْهُ.
قَوْلهَا: " فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع ":
أَي فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات:" زَمِّلُونِي فدثروه "، وَفِي أُخْرَى " دَثرُونِي فدثروه " لِأَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد.
و " الروع ": بِفَتْح الرَّاء الْفَزع وَشدَّة الْخَوْف قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع} ، يُقَال: رعته وروعته وَكَانَ حَقِيقَته: أصَاب روعه بِضَم الرَّاء أَي خلده لِأَن الْفَزع تَأْثِيره فِي الْقلب وَالله أعلم.
قَوْلهَا: " ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة مَالِي؟ وأخبرها الْخَبَر ":
هَذِه رِوَايَة يُونُس.
" أَي ": حرف من حُرُوف النداء.
و" مَالِي ": اسْتِفْهَام على سَبِيل الْخَوْف أَي: أَي شَيْء عرض لي.
وَفِي رِوَايَة عقيل: " فَقَالَ لِخَدِيجَة وأخبرها الْخَبَر ".
قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن خلف بن بطال فِي " شَرحه لكتاب البُخَارِيّ ":
" رُجُوع النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَزعًا فَقَالَ: زَمِّلُونِي، وَلم يخبر بِشَيْء حَتَّى ذهب عَنهُ الروع، فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْأَل الفازع عَن شَيْء من أمره مَا دَامَ فِي حَال فزعه، وَلذَلِك قَالَ مَالك وَغَيره: إِن المذعور لَا يلْزمه بيع وَلَا إِقْرَار وَلَا غَيره فِي حَال فزعه ".
وَقَوله: " لقد خشيت على نَفسِي: "
فِيهِ دَلِيل على أَن من نزلت بِهِ ملمة أَن يُشَارك فِيهَا من يتق بنصحه ورأيه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَاهد أمرا عَظِيما جسيما من أَمر الله تَعَالَى لم يعتده وَلم يسمع بِمثلِهِ، فخاف لما كَانَ ذَلِك بداءة أمره أَن يكون حَادِثا حدث لَهُ
من جِهَة الْجِنّ لِأَن أَمر الكهانة كَانَ فِي الْعَرَب مستفيضاً حِينَئِذٍ حَتَّى كَانَ الرجل مِنْهُم يَقُول: أَخْبرنِي رئيي بِكَذَا وَلفُلَان رئي. قَالَ القَاضِي عِيَاض:
" قَوْله: لقد خشيت على نَفسِي، لَيْسَ بِمَعْنى الشَّك فِيمَا آتَاهُ الله، لكنه عساه خشِي أَن لَا يقوى على مقاومة هَذَا الْأَمر، وَلَا يقدر على حمل أعباء الْوَحْي، فتزهق نَفسه، أَو ينخلع قلبه، لشدَّة مَا لقِيه أَولا عِنْد لِقَاء الْملك، أَو يكون قَوْله هَذَا لأوّل مَا رأى التباشير فِي النّوم واليقظة وَسمع الصَّوْت قبل لِقَاء المللك وَتحقّق رِسَالَة ربه فَيكون مَا خَافَ أَولا أَن يكون من الشَّيْطَان، فَأَما مُنْذُ جَاءَهُ الْملك برسالة ربه فَلَا يجوز عَلَيْهِ الشَّك فِيهِ، وَلَا يخْشَى من تسلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ - قَالَ -: وعَلى هَذَا الطَّرِيق يحمل كل مَا ورد من مثل هَذَا فِي حدي المبعث ". قَالَ السُّهيْلي: " تكلم الْعلمَاء فِي (معنى) هَذِه الخشية وَأَنَّهَا كَانَت مِنْهُ قبل أَن يحصل لَهُ الْعلم بِأَن الَّذِي جَاءَهُ ملك من عِنْد الله، وَكَانَ أشق شَيْء عَلَيْهِ أَن يُقَال عَنهُ مَجْنُون ".
قَالَ: " وَلم ير الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن هَذَا محَال فِي مبدأ الْأَمر، لِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قد لَا يحصل دفْعَة وَاحِدَة، وَضرب مثلا بِالْبَيْتِ من الشّعْر يسمع أَوله فَلَا يدرى أنظم هُوَ أم نثر، فَإِذا اسْتمرّ الإنشاد علمت قطعا أَنه قصد بِهِ قصر الشّعْر، كَذَلِك لما اسْتمرّ الْوَحْي واقترنت بِهِ الْقَرَائِن الْمُقْتَضِيَة للْعلم الْقطعِي حصل الْعلم الْقطعِي، وَقد أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الْعلم فَقَالَ: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه - إِلَى قَوْله - وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله} ، وإيمانه عليه السلام بِاللَّه وَمَلَائِكَته إِيمَان كسبي مَوْعُود عَلَيْهِ بالثواب الجزيل كَمَا وعد على سَائِر أَفعاله المكتسبة، كَانَت من أَفعَال الْقلب أم من أَفعَال الْجَوَارِح ".
قَالَ: " وَقد قيل فِي قَوْله: لقد خشيت على نَفسِي " أَي خشيت أَن لَا أنهض بأعباء النُّبُوَّة وَأَن أَضْعَف عَنْهَا، ثمَّ أَزَال الله خَشيته ورزقه الأيد وَالْقُوَّة والثبات والعصمة ".
قَالَ: " وَقد قيل فِي معنى الخشية أَقْوَال رغبت عَن الإطالة بذكرها ".
قلت:
الْمَعْنى الأول هُوَ المُرَاد صرح بِهِ فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " وَلم يكن من خلق الله أحد أبْغض إِلَيّ من شَاعِر أَو مَجْنُون، كنت لَا أُطِيق أَن أنظر إِلَيْهِمَا، قَالَ: قلت: إِن الْأَبْعَد - يَعْنِي نَفسه - لشاعر أَو مَجْنُون، لَا تحدث عني قُرَيْش بِهَذَا أبدا، لأعمدن إِلَى حالق من الْجَبَل فأطرحن نَفسِي عَلَيْهِ فلأقتلنها فأستريحن، قَالَ: فَخرجت أُرِيد ذَلِك حَتَّى إِذا كنت فِي وسط الْجَبَل سَمِعت صَوتا من السَّمَاء يَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنْت رَسُول الله وَأَنا جِبْرِيل، قَالَ: فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء أنظر، فَإِذا جِبْرِيل فِي صُورَة رجل صَاف قَدَمَيْهِ فِي أفق السَّمَاء يَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنْت رَسُول الله وَأَنا جِبْرِيل، قَالَ: فوقفت أنظر إِلَيْهِ وشغلني ذَلِك عَمَّا أردْت، فَمَا أتقدم وَمَا أتأخر، وَجعلت أصرف وَجْهي فِي آفَاق السَّمَاء فَلَا أنظر فِي نَاحيَة مِنْهَا إِلَّا رَأَيْته كَذَلِك، فَمَا زلت وَاقِفًا مَا أتقدم أَمَامِي وَمَا أرجع ورائي حَتَّى بعثت خَدِيجَة رسلها فِي طلبي، فبلغوا مَكَّة وَرَجَعُوا إِلَيْهَا وَأَنا وَاقِف فِي مَكَاني، ثمَّ انْصَرف عني وانصرفت رَاجعا إِلَى أَهلِي حَتَّى أتيت خَدِيجَة فَجَلَست إِلَى فَخذهَا مضيفا إِلَيْهَا فَقَالَت: يَا أَبَا الْقَاسِم، وَأَيْنَ كنت فوَاللَّه لقد بعثت رُسُلِي فِي طَلَبك حَتَّى بلغُوا مَكَّة وَرَجَعُوا إِلَيّ، قلت: إِن
الْأَبْعَد لشاعر أَو مَجْنُون، فَقَالَت: أُعِيذك بِاللَّه من ذَلِك يَا أَبَا الْقَاسِم، مَا كَانَ الله ليصنع ذَلِك بك مَعَ مَا أعلم مِنْك من صدق حَدِيثك، وعظيم أمانتك، وَحسن خلقك، وصلَة رَحِمك، وَمَا ذَلِك يَا بن عَم، لَعَلَّك رَأَيْت شَيْئا؟ قَالَ: قلت: نعم، ثمَّ حدثتها بِالَّذِي رَأَيْت، فَقَالَت أبشر يَا بن عَم وَأثبت فوالذي نفس خَدِيجَة بِيَدِهِ إِنِّي لأرجو أَن تكون نَبِي هَذِه الْأمة ".
قلت:
فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة مَا قَالَت تشجعه بذلك، واستدلت بِمَا عهِدت من أخلاقه الجميلة وَصِفَاته الجليلة على أَن الله تَعَالَى لَا يُسلمهُ إِلَى مَكْرُوه، وَكَانَ هَذَا مِنْهَا، من أجل مناقبها وَأتم فضائلها رضي الله عنها.
وَالْمرَاد بالشاعر فِي هَذَا الحَدِيث من كَانَ لَهُ تَابع من الْجِنّ يساعده على مَا هُوَ بصدده نَحْو مَا كَانَ يجْرِي على لِسَان سطيح وشق من الْكَلَام المسجوع وَغَيره، وَهُوَ معنى وصف الْكَفَرَة لعنهم الله للنَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ شَاعِر أَي أَنه من ذَلِك الْقَتِيل قَالَ الله تَعَالَى:{بل قَالُوا أضغاث أَحْلَام بل افتراه بل هُوَ شَاعِر} وَالله أعلم.
قَوْلهَا: " قَالَت لَهُ خَدِيجَة: كلا أبشر ".
كلا: حرف ردع وزجر، وستعمل اسْتِعْمَال النَّفْي والتبرئة والتبعيد كَقَوْل خَدِيجَة هُنَا، فَهُوَ رد لما قَالَ لَهَا.
زَاد يُونُس فِي رِوَايَته بعد قَوْلهَا " كلا ": " أبشر "، وَلَيْسَ " أبشر " فِي رِوَايَة عقيل. يُقَال: أبشر الرجل بِكَذَا أَي سر بِهِ وَفَرح، فعلى هَذَا جَاءَ " أبشر " بِقطع الْهمزَة كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ} ، يُقَال: بَشرته بِكَذَا وبشرته بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَقُرِئَ بهما {يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ} ، فأبشر هُوَ، فَهُوَ على هَذَا من بَاب كبيته فأكب، مِمَّا جَاءَ مُطَاوع ثلاثيه على " أفعل " وَهُوَ قَلِيل، وَالْمَعْرُوف عكس ذَلِك نَحْو: أنشر الله الْمَوْتَى فنشروا. ثمَّ المبشر بِهِ تَارَة يذكر كَمَا فِي الْآيَة، وَتارَة يحذف كَمَا فِي الْخَبَر، وَتَقْدِيره: أبشر. بِمَا يَسُرك ويقر عَيْنك.
قَوْلهَا: " فوَاللَّه لَا يخزيك الله أبدا ":
اتّفق يُونُس وَعقيل على رِوَايَة " يخزيك " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعد الزَّاي يَاء، وَرَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ:" يحزنك " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون من الْحزن، يُقَال حزنه وأحزنه، وَقد قرئَ بهما.
والخزي: بُلُوغ غَايَة الذل والهوان والانكسار والفضيحة قَالَ الله تَعَالَى: {من قبل أَن نذل ونخزى} ، دلّ على أَن الخزي أبلغ من الذل، أَي لَا يفعل بك فعلا يخزيك مَعَ فعلك الْجَمِيل.
ثمَّ وَصفته بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْفَضَائِل قَالَ ابْن بطال: هَذَا قِيَاس مِنْهَا على الْعَادَات وَالْأَكْثَر فِي النَّاس فِي حسن عَاقِبَة من فعل الْخَيْر.
وَفِيه جَوَاز تكية الرجل فِي وَجهه بِمَا فِيهِ من الْخَيْر، وَلَيْسَ بمعارض لقَوْله عليه السلام:" احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين "، فَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِذا مدحوه بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الممدوح.
قَوْلهَا: " وَالله إِنَّك لتصل الرَّحِم " إِلَى آخِره:
هَذَا الْقسم فِي رِوَايَة يُونُس وَسقط فِي رِوَايَة غَيره، وَصفته صلى الله عليه وسلم بِصِفَات شريفة كَانَت مَشْهُورَة فِيهِ، وَذَلِكَ من قبل مَا زَاده الله تَعَالَى من صِفَات النُّبُوَّة وآثار الرسَالَة، وَعلمه مَا لم يكن يعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْهِ عَظِيما، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَشْهُورا عِنْد قومه بالأمانة وَصدق الحَدِيث وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب وَغَيرهم.
وَالرحم: كِنَايَة عَن الْقَرَابَة، وصلتها بر الْأَقَارِب وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، وَفِي الحَدِيث عَن الله تَعَالَى:" من وَصلهَا وصلته، وَمن قطعهَا بتته "، أَي لَا تقطع قرابتك وَلَا تمنع خيرك بل تصلهم بجميل فعلك.
قَوْلهَا: " وَتصدق الحَدِيث، وَتحمل الْكل ":
يُقَال: صدق فِي الحَدِيث، وَصدق الحَدِيث.
وَالْكل: الثّقل من كل شَيْء فِي الْمُؤْنَة والجسم يُقَال: ألْقى فلَان على كُله أَي ثقله قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} أَي ثقل وعيال على وليه وَهُوَ الَّذِي لَا يُغني نَفسه عَن قَائِم بمصالحها، أَرَادَت خَدِيجَة أَنه صلى الله عليه وسلم يعين الضَّعِيف الْعَاجِز عَن نَفسه، أَو تَعْنِي أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يتكفل بِأُمُور تشق على حامليها.
قَالَ الْقَزاز: وَيجوز أَن يكون قَوْلهَا: " وَتحمل الْكل " أَي تقوم باليتيم لِأَن الْعَرَب تجْعَل الْكل الْيَتِيم وَمِنْه قَول الشَّاعِر يذم رجلا:
(أكول لمَال الْكل قبل شبابه
…
إِذا كَانَ عظم الْكل غير شَدِيد)
قَالَ القَاضِي عِيَاض: " الْكل هُنَا بِفَتْح الْكَاف الثّقل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الضَّعِيف. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْيَتِيم وَالْمُسَافر وَهُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الكلال ".
قَوْلهَا: " وتكسب الْمَعْدُوم ": قَالَ الْخطابِيّ: " صَوَابه: وتكسب المعدم لِأَن الْمَعْدُوم لَا يدْخل تَحت الْأَفْعَال، تُرِيدُ أَنَّك تُعْطِي العائل وترفده، وَفِيه لُغَتَانِ يُقَال: كسبت الرجل مَالا وأكسبته، وأفصحهما بِحَذْف الْألف ".
وَقَالَ غَيره: " الَّذِي ذكر أَنه مَحْفُوظ وَوَجَدته فِي رِوَايَة أبي زيد: المعدم، فعلى هَذَا وَصفته بِالْكَرمِ وَإِعْطَاء الْفُقَرَاء ".
قَالَ: " وللمعدوم صفة زَائِدَة على الْعَطاء والبذل لِأَن الْمَعْدُوم مَا لَا يُوجد، فَإِذا قرن فِي الذّكر بِمَا يدل على وجوده فهم أَنه النفيس الَّذِي يعدمه كثير من النَّاس، فصفته صلى الله عليه وسلم على هَذَا إِنَّمَا هِيَ بإعطائه مَا لَا تسخو بِهِ نفس غَيره ".
وَقَالَ الْهَرَوِيّ فِي " كتاب الغريبين ":
يُقَال: فلَان يكْسب الْمَعْدُوم إِذا كَانَ مجدودا ينَال مَا يحرمه غَيره، يُقَال: هَذَا آكلكم للمأدوم، وأكسبكم للمعدوم، وأعطاكم للمحروم، يُقَال: عدمت الشَّيْء إِذا فقدته، وأعدم الرجل فَهُوَ مَعْدُوم إِذا افْتقر ".
قَالَ الْجَوْهَرِي: " كسبت أَهلِي خيرا، وكسبت الرجل مَالا فكسبه ".
قَالَ: " وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعلته فَفعل ".
وَقَالَ ابْن دُرَيْد: " وأكسبته خطأ ".
وَقَالَ ثَعْلَب: " كل النَّاس يَقُولُونَ: كسبك إِلَّا ابْن الْأَعرَابِي فَإِنَّهُ يَقُول: أكسبك "، وَأنْشد "
(فأكسبني مَالا وأكسبته حمدا
…
)
وَحكى ابْن سَيّده ": " كسبت الرجل خيرا وأكسبته إِيَّاه - قَالَ -: وَالْأولَى أَعلَى ".
قَالَ الْقَزاز: " تكسب حرف نَادِر يُقَال: كسبت المَال وكسبته غَيْرِي فكسبه، وَلَا يُقَال: أكسبته، وَلَكِن: كسبت الرجل المَال يَقُول: وتكسب النَّاس الْمَعْدُوم من كل مَا لَا يجدونه من معدومات الْفَوَائِد ".
قَالَ القَاضِي عِيَاض: " روايتنا فِي هَذَا عَن أَكثر شُيُوخنَا: تكسب بِفَتْح التَّاء، وَعند بَعضهم بضَمهَا، وبالوجهين قَرَأنَا الْحَرْف على الْحَافِظ أبي الْحُسَيْن فِي غير هَذَا الْكتاب ".
قَالَ: " وَذكر ثَابت فِي " دلائله " فِي معنى هَذَا: أَنَّك تصيب وتكسب مَا يعجز غَيْرك عَن كَسبه ويعدمه، وَالْعرب كَانَت تتمادح بكسب المَال لَا سِيمَا قُرَيْش ".
قَالَ: " وعَلى هَذَا لَا تكون التَّاء إِلَّا مَفْتُوحَة لِأَنَّهُ معدى لمفعول وَاحِد، وَكَانَ عليه السلام مجدودا فِي تِجَارَته وخيره بذلك مَشْهُور ".
وَقيل: مَعْنَاهُ تكسب النَّاس مَا لَا يجدونه من معدومات الْفَوَائِد، وَهَذَا معدى إِلَى مفعولين، وَالتَّاء هُنَا مَفْتُوحَة على قَول الْأَكْثَر، وتضم على قَول بَعضهم كَمَا تقدم، وَهَذَا أبلغ [فِي الْمَدْح] وَأشهر فِي خلق نَبينَا عليه السلام قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا ".
وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل:
" قَوْله: وتكسب الْمَعْدُوم، أَي تعطيه وتعاونه على جمع المَال، جعل الْعَاجِز الَّذِي لَا يقدر على السَّعْي فِي التعيش وَتَحْصِيل مَا تزجى بِهِ الْأَيَّام بِمَنْزِلَة الْمَعْدُوم ".
قلت: وَمِنْه قَول أبي الْحسن التهامي: "
(عد ذَا الْفقر مَيتا وكساه
…
كفنا بَالِيًا ومأواه قبرا)
ثمَّ قَالَ) : " وَالْعرب تعبر بالقلة عَن الْعَدَم وبالعدم عَن الْقلَّة، والمحققون يذهبون فِي قَول المتنبي:
(إِذا رأى غير شَيْء ظَنّه رجلا
…
)
أَنه لَيْسَ بداخل فِي المستحيلات بل مَقْصُودَة إِذا رأى شخصا ضَعِيفا أَو شَيْئا قَلِيلا ظَنّه رجلا، فَعبر عَن المرئي الضَّعِيف ب:" غير شَيْء " وَهَذَا كَمَا أَنَّك تَقول - إِذا لقِيت رجلا مستضعفا جَبَانًا أَو جَاهِلا بَخِيلًا -: لَا شَيْء، وَلَيْسَ بِشَيْء وتنزله منزلَة الْمَعْدُوم للْمُبَالَغَة فِي الْعَجز والحقارة ".
قَالَ: " وَذكر الْخطابِيّ أَن صَوَابه المعدم ".
قَالَ: " وَالصَّوَاب هِيَ اللَّفْظَة المحفوظة بَين أَصْحَاب الحَدِيث الْمَشْهُورَة الصَّحِيحَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِأَن مَقْصُوده السَّعْي فِي حاجات الضِّعَاف.
وعَلى هَذَا مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يستنكف أَن يمشي مَعَ الضَّعِيف والأرملة يقْضِي لَهما حاجتهما ".
(قَالَ) : " وَأما التَّعْبِير بالقلة عَن المعدم فَقَوله تَعَالَى: {فقليلا مَا يُؤمنُونَ} أَي لَا يُؤمنُونَ رَأْسا لَا قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَمثله حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى: " كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقل اللَّغْو " أَي لَا يَلْغُو أصلا ".
قَالَ: " وَكنت قد راجعت فِي ابْتِدَاء الطّلب سيدنَا وَالِدي فِي معنى هَذِه اللَّفْظَة فَذكر وَجها لم أر أحسن مِنْهُ ".
قَالَ: " مَعْنَاهُ تسْعَى فِي طلب عَاجز تنعشه كَمَا أَن غَيْرك يسْعَى فِي طلب مَال يثمره، وَالْكَسْب هُوَ الاستفادة، فَكَمَا يرغب غَيْرك أَن يَسْتَفِيد مَالا ترغب أَنْت أَن تستفيد عَاجِزا تجبره وتعيينه، وَالْكَسْب الْآن يَقْتَضِي مَفْعُولا فَردا وَهُوَ أولى لِأَنَّك لَا تحْتَاج فِيهِ إِلَى إِضْمَار شَيْء كَمَا تحْتَاج هُنَاكَ ".
قلت:
يُقَال: كسبت مَالا اي حصلته، وكسبت زيدا مَالا أَي؛ حصلته لَهُ، فَقَوْلهم: كسبت زيدا مَالا كَقَوْلِك " أَعْطَيْت زيد مَالا، فَهُوَ فِي قَوْله: " تكسب الْمَعْدُوم " يحْتَمل أَن يكون من هَذَا الْبَاب، لَكِن لم يذكر إِلَّا مَفْعُولا وَاحِدًا، فَيحْتَمل أَن يكون الْمَحْذُوف هُوَ الْمَفْعُول الأول، وَيحْتَمل أَن يكون الثَّانِي.
فَإِن كَانَ الْمَحْذُوف هُوَ الأول صَار كَقَوْلِك: أَعْطَيْت مَالا وَلَا تذكر الْمُعْطى.
وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الأول الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ من لم يسمه فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنه يُعْطي مَا لَا تسخو بِهِ نفس غَيره، فتقديره على هَذَا: تُعْطِي النَّاس الْمَعْدُوم، وَفِي مَعْنَاهُ الْوَجْه الَّذِي ذكره الْهَرَوِيّ لِأَن مَعْنَاهُ تكسب نَفسك الْأَشْيَاء المعدومة لغيرك أَي تستفيد مَا لَا يستفيده غَيْرك.
وَيجوز أَن يكون هَذَا الْفِعْل يسْتَعْمل مُتَعَدِّيا إِلَى وَاحِد وَإِلَى اثْنَيْنِ، وَهَذَا سَائِغ فِي أَلْسِنَة النَّاس يَقُولُونَ لما قل نَظِيره مَعَ نفاسته: مَا هَذَا إِلَّا مَعْدُوم، بِمَعْنى أَنه مَعْدُوم النظير أَو أَنه لم يزل فِي حيّز الْعَدَم إِلَى أَن ظفر بِهِ الْآن مُبَالغَة فِي غرابته.
وَإِن كَانَ الْمَحْذُوف هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي فَيكون كَقَوْلِك: أَعْطَيْت زيدا وَلَا تذكر مَا أَعْطيته، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل، أَي تُعْطِي الْمَعْدُوم مَا يصير بِهِ مَوْجُودا.
وَأما الْوَجْه الَّذِي حَكَاهُ عَن وَالِده فحقيقة أَنَّك كسبت آجر الْمَعْدُوم وثوابه ومودته، فَإِن عين الرجل الضَّعِيف لَا يكْسب إِلَّا أَن يكون حَرْبِيّا فيغنم، ثمَّ يقدر الْمَفْعُول الأول محذوفا كَمَا قدرناه فِي الْوَجْه الَّذِي ذكره الْهَرَوِيّ، أَي تكسب نَفسك الْمَعْدُوم أَي ثَوَابه ومودته، فاحتيج هُنَا إِلَى إضمارين إِلَّا أَنه قد اتَّسع فِي حذف الْمَفْعُول الأول فِي بَاب " كسب " إِذا
كَانَ هُوَ الْفَاعِل حَتَّى صَار كَأَنَّهُ نسي منسي للاستغناء عَنهُ فَيُقَال: كُسِيت مَالا، وَتَقْدِير الْمَفْعُول: كسبت نَفسِي مَالا، وَهَكَذَا الْكَلَام فِيمَا كَانَ كَذَلِك نَحْو رجعت ورجعته وَالله أعلم.
وَسمعت القَاضِي أَبَا الْعَبَّاس الخويي يسْتَدلّ بقول الْعَرَب: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِي حقارته وَأَنه كَالْعدمِ على صِحَة مَذْهَب أهل الْحق فِي أَن الْمَعْدُوم لَا يُسمى شَيْئا لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُسمى شَيْئا لما حصلت للْعَرَب مُبَالغَة فِي قَوْلهم: هَذَا لَا يُسمى بِشَيْء.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه حسن لَكِن الْمُخَالفين يَقُولُونَ: الْمَعْدُوم الْمُمكن يُسمى شَيْئا، ووافقوا على نفي تَسْمِيَة غير الْمُمكن بِشَيْء، فعلى هَذَا تحصل الْمُبَالغَة للْعَرَب على أتم الْوُجُوه، وَتَقْدِيره: إِن هَذَا عدم مُسْتَحِيل وجوده، وَهَذَا أبلغ من قَوْلنَا: أَنه مَعْدُوم فَحسب وَالله أعلم.
قَوْلهَا: " وتقري الضَّيْف ":
أَي تَأتيه بالقرى وَهُوَ مَا يبره بِهِ عِنْد نُزُوله عَلَيْهِ من طَعَام وَغَيره مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، يُقَال: قرى الضَّيْف يقريه إِذا فعل بِهِ ذَلِك، قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر، وبفتحهما وَالْمدّ فَهُوَ قار.
قَوْلهَا: " وَتعين على نَوَائِب الْحق ":
النوائب: جمع نائبة وَهِي مَا يَنُوب الْإِنْسَان من خير أَو شَرّ، وأرادت هُنَا نَوَائِب الْخَيْر فَلهَذَا جعلته معينا عَلَيْهَا وعبرت عَنْهَا بنوائب الْحق.
قَالَ الْقَزاز: " أَي تعين - بِمَا تقدر عَلَيْهِ - من أَصَابَته نَوَائِب فِي حق أعنته فِي نوائبه، تذكر بِهَذَا كُله كرم أخلاقه، وَأَن الله تَعَالَى لَا يفعل مَا يخزيه مَعَ جميل فعله ".
قلت:
وَهَذِه الصِّفَات الجليلة الَّتِي وصفت بهَا خَدِيجَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف بهَا أَيْضا صَاحبه أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه، فَفِي " الصَّحِيح " عَن عَائِشَة أَيْضا أَن أَبَا بكر رضي الله عنه لما ابتلى الْمُسلمُونَ خرج مُهَاجرا إِلَى أَرض الْحَبَشَة حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد لقِيه ابْن الدغنة وَهُوَ سيد القارة فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر؟ قَالَ: أخرجني قومِي فَأُرِيد أَن أَن أسيح فِي الأَرْض فأعبد رَبِّي عز وجل، فَقَالَ: إِن مثلك لَا يخرج، إِنَّك تكسب الْمَعْدُوم، وَتصل الرَّحِم، وَتحمل الْكل، وتقري الضَّيْف، وَتعين على نَوَائِب الْحق، فَأَنا لَك جَار فَارْجِع فاعبد رَبك ببلدك ".
قَوْلهَا: " فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد ابْن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة أخي أَبِيهَا ":
قلت: هِيَ خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد القرشية الأَسدِية أول زَوْجَة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَأول من آمن بِهِ وَصدقه، وَصلى مَعَه، وآزره على أمره، وَلها الْفضل على غَيرهَا مِمَّن شاركها فِي هَذِه الْأَوْصَاف بِمَا انْفَرَدت بِهِ من تثبيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِزَالَة الْهم عَنهُ، واجتماعها بِمن كَانَ من أهل الْكتاب، وسؤالها عَن ذَلِك، وحرصها فِيهِ رضي الله عنها، وانضم إِلَى ذَلِك أَنَّهَا آنسته من كل وَحْشَة، وهونت عَلَيْهِ كل مَكْرُوه وأراحته بمالها من كل كد وَنصب، وفرغته لعبادة الله تَعَالَى وتنفيذ أمره.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: " وَكَانَت أول من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وصدقت بِمَا جَاءَهُ من الله، فَخفف بذلك عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لَا يسمع شَيْئا يكرههُ من رد عَلَيْهِ وَتَكْذيب لَهُ فحزنه ذَلِك إِلَّا فرج الله عَنهُ إِذا رَجَعَ إِلَيْهَا، تثبته وتخفف عَنهُ وَتصدقه وتهون عَلَيْهِ أَمر النَّاس ".
وَوَقع فِي " كتاب الزبير بن أبي بكر " قَالَ: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد: قَالَ آدم عليه السلام: مِمَّا فضل بِهِ عَليّ ابْني صَاحب الْبَعِير أَن زوجه كَانَت عونا لَهُ على تَبْلِيغ أَمر الله، وَإِن زَوْجَتي كَانَت لي عونا على الْمعْصِيَة.
وَذكرت عَائِشَة فِي هَذَا الحَدِيث أَن خَدِيجَة انْطَلَقت بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ورقة، وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر أَنَّهَا ذهبت وَحدهَا إِلَى ورقة فَأَخْبَرته، ثمَّ اجْتمع بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَالَ - بعد حِكَايَة قَوْلهَا لَهُ - إِنِّي
لأرجو أَن تكون نَبِي هَذِه الْأمة، ثمَّ قَامَت فَجمعت عَلَيْهَا ثِيَابهَا، ثمَّ انْطَلَقت إِلَى ورقة بن نَوْفَل بن أَسد وَهُوَ ابْن عَمها، وَكَانَ ورقة قد تنصر، وَقَرَأَ الْكتب، وَسمع من أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، فَأَخْبَرته بِمَا أخْبرهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه رأى وَسمع، فَقَالَ ورقة: قدوس قدوس وَالَّذِي نفس ورقة بِيَدِهِ لَئِن كنت صدقتيني يَا خَدِيجَة لقد جَاءَهُ الناموس الْأَكْبَر الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإنَّهُ لنَبِيّ لهَذِهِ الْأمة، فَقولِي لَهُ فليثبت، فَرَجَعت خَدِيجَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرته بِمَا قَالَ ورقة، فسهل ذَلِك عَنهُ بعض مَا كَانَ فِيهِ من الْهم بِمَا جَاءَهُ، فَلَمَّا قضى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جواره وَانْصَرف صنع كَمَا كَانَ يصنع، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بهَا، فَلَقِيَهُ ورقة بن نَوْفَل وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا بن أخي، أَخْبرنِي بِمَا رَأَيْت وَسمعت، فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ ورقة: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّك لنَبِيّ هَذِه الْأمة، وَلَقَد جَاءَك الناموس الْأَكْبَر الَّذِي جَاءَ مُوسَى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك لأنصرن الله نصرا يُعلمهُ، ثمَّ أدنى رَأسه مِنْهُ فَقيل يَافُوخه، ثمَّ انْصَرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى منزله وَقد زَاده ذَلِك من قَول ورقة ثباتا، وخفف عَنهُ بعض مَا كَانَ فِيهِ من الْهم.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وحَدثني إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم مولى الزبير أَنه حدث عَن خَدِيجَة أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم - فِيمَا تثبته بِهِ فِيمَا أكْرمه الله بِهِ من النُّبُوَّة - أَي ابْن عَم، أتستطيع أَن تُخبرنِي بصاحبك هَذَا الَّذِي يَأْتِيك
إِذا جَاءَك؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فَإِذا جَاءَك فَأَخْبرنِي بِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيل كَمَا كَانَ يَأْتِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِخَدِيجَة: يَا خَدِيجَة، هَذَا جِبْرِيل قد جَاءَنِي، فَقَالَت: قُم يَا بن عَم، فاجلس على فَخذي الْيُسْرَى فَفعل، قَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فتحول فَاقْعُدْ على فَخذي الْيُمْنَى فَفعل، فَقَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: نعم، فحسرت فَأَلْقَت خمارها وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَالس فِي حجرها، قَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَت: يَا بن عَم فَاثْبتْ وأبشر، فوَاللَّه إِنَّه لملك وَمَا هُوَ شَيْطَان.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَحدثت عبد الله بن الْحسن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: قد سَمِعت فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن - يَعْنِي أمه - تحدث بِهَذَا الحَدِيث إِلَّا أَنِّي سَمعتهَا تَقول: أدخلت خَدِيجَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَينهَا بَين درعيها فَذهب عِنْد ذَلِك جِبْرِيل عليه السلام ".
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: " وَهَذَا شَيْء كَانَت خَدِيجَة رضي الله عنها تَصنعهُ تستثبت بِهِ الْأَمر احْتِيَاطًا لدينها وتصديقها، فَأَما النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقد كَانَ وثق بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيل عليه السلام، وَأرَاهُ من الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا
مرّة بعد أُخْرَى، وَمَا كَانَ من تَسْلِيم الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ من إِجَابَة الشّجر لدعائه، وَذَلِكَ بَعْدَمَا كذبه قومه وشكاهم إِلَى جِبْرِيل عليه السلام، فَأَرَادَ أَن يطيب قلبه ".
قَوْلهَا: " وَكَانَ امرء تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمى ":
هَذِه صِفَات ورقة بن نَوْفَل، وَوَقع فِي رِوَايَة عقيل فِي " صَحِيح البُخَارِيّ "" وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية "، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا فقد كَانَ يعرف الكتابيين الْعَرَبِيّ والعبراني، وَلَوْلَا ذَلِك لما قدر على أَن يكْتب الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ ورقة أحد الْجَمَاعَة الَّذين رَغِبُوا فِي الْجَاهِلِيَّة عَن عبَادَة الْأَوْثَان، وَسَأَلَ عَن الدّين الحنيف عُلَمَاء أهل الْأَدْيَان، وَكَانَ ينْتَظر خُرُوج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليتبعه لِأَنَّهُ سمع أرمه من أهل الْكتاب، ووقف على بعض صِفَاته عِنْدهم، وَكَانَت خَدِيجَة تخبره عَن أَحْوَال النَّبِي صلى الله عليه وسلم من حِين أخْبرهَا غلامها ميسرَة الَّذِي وجهته مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَاجِرًا إِلَى الشَّام، وَسمع مَا قالته فِيهِ الرهبان.
قَالَ مُوسَى بن عقبَة: " ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم على رَأس خمس عشر سنة من بُنيان الْكَعْبَة ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وحَدثني عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: توفّي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وحَدثني مثل ذَلِك سعيد بن الْمسيب وَكَانَ فِيمَا بلغنَا أول مَا رأى أَن الله عز وجل أرَاهُ رُؤْيا فِي الْمَنَام فشق ذَلِك عَلَيْهِ، فَذكرهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لامْرَأَته خَدِيجَة، فعصمها الله عز وجل من التَّكْذِيب وَشرح صدرها بالتصديق، فَقَالَت: أبشر فَإِن الله عز وجل لن يصنع بك إِلَّا خيرا، ثمَّ إِنَّه خرج من عِنْدهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَأَخْبرهَا أَنه رأى بَطْنه شقّ ثمَّ طهر وَغسل ثمَّ أُعِيد كَمَا كَانَ، قَالَت: وَالله هَذَا خير فأبشر، ثمَّ استعلن لَهُ جِبْرِيل عليه السلام وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة فأجلسه على مجْلِس كريم معجب كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول: أجلسني على بِسَاط كَهَيئَةِ الدرنوك فِيهِ الْيَاقُوت واللؤلؤ، فبشره برساله الله عز وجل حَتَّى اطْمَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: اقْرَأ، فَقَالَ: كَيفَ اقْرَأ؟ قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق - إِلَى - مَا لم يعلم} ، قَالَ: وَيَزْعُم نَاس أَن {يَا أَيهَا المدثر} أول سُورَة نزلت عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَت خَدِيجَة أول من آمن بِاللَّه وَصدق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَن تفرض الصَّلَاة، قَالَ: فَقيل الرَّسُول رِسَالَة ربه عز وَجل
وَاتبع الَّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيل عليه السلام من عِنْد الله، فَلَمَّا انْصَرف منقلبا إِلَى بَيته جعل لَا يمر على شَجَرَة وَلَا حجر إِلَّا سلم عَلَيْهِ، فَرجع مَسْرُورا إِلَى أَهله موقنا قد رأى أمرأ عَظِيما، فَلَمَّا دخل على خَدِيجَة قَالَ:
أرأيتك الَّذِي كنت أحَدثك أَنِّي رَأَيْته فِي الْمَنَام فَإِنَّهُ جِبْرِيل عليه السلام استعلن لي أرْسلهُ إِلَى رَبِّي، فَأَخْبرهَا بِالَّذِي جَاءَهُ من الله عز وجل وَمَا سمع مِنْهُ، فَقَالَت:
أبشر فوَاللَّه لَا يفعل الله بك إِلَّا خيرا، فَأقبل الَّذِي جَاءَك من الله فَإِنَّهُ حق، وأبشر فَإنَّك رَسُول الله حَقًا.
ثمَّ انْطَلَقت مَكَانهَا حَتَّى أَتَت غُلَاما لعتبة بن ربيعَة بن عبد شمس نَصْرَانِيّا من أهل نِينَوَى يُقَال لَهُ عداس فَقَالَت: يَا عداس، أذكرك بِاللَّه إِلَّا مَا أَخْبَرتنِي هَل عنْدك علم من جِبْرِيل؟ فَقَالَ عداس: قدوس قدوس مَا شَأْن جِبْرِيل يذكر بِهَذِهِ الأَرْض الَّتِي أَهلهَا أهل الْأَوْثَان؟ فَقَالَت: أَخْبرنِي بعلمك فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِين الله بَينه وَبَين النَّبِيين وَهُوَ صَاحب مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام.
فَرَجَعت خَدِيجَة من عِنْده فَجَاءَت ورقة بن نَوْفَل وَكَانَ ورقة قد كره عبَادَة الْأَوْثَان هُوَ وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وَكَانَ زيد قد حرم كل شَيْء
حرمه الله عز وجل من الدَّم والذبيحة على النصب وَمن أَبْوَاب الظُّلم فِي الْجَاهِلِيَّة، فَعمد هُوَ وورقة بن نَوْفَل يلتمسان الْعلم حَتَّى وَقعا بِالشَّام، فعرضت الْيَهُود عَلَيْهِمَا دينهم فكرهاه وسألا رُهْبَان النصرانيىة، فَأَما ورقة فَتَنَصَّرَ، وَأما زيد فكره النَّصْرَانِيَّة فَقَالَ لَهُ قَائِل من الرهبان: أَنَّك تلتمس دينا لَيْسَ يُوجد الْيَوْم فِي الأَرْض، فَقَالَ لَهُ زيد: أَي دين ذَلِك؟ قَالَ الْقَائِل: دين الْقيم دين إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن، قَالَ: وَمَا كَانَ دينه؟ قَالَ: كَانَ حَنِيفا مُسلما، فَلَمَّا وصف لَهُ دين إِبْرَاهِيم قَالَ زيد: أَنا على دين إِبْرَاهِيم، وَأَنا ساجد نَحْو الْكَعْبَة الَّتِي بنى إِبْرَاهِيم، فَسجدَ نَحْو الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ زيد لما تبين الْهدى:
(أسلمت وَجْهي لمن أسلمت
…
لَهُ المزن تحمل عذبا زلالا)
ثمَّ توفّي زيد وَبَقِي ورقة بعده كَمَا يَزْعمُونَ سِنِين، فَلَمَّا وصفت خَدِيجَة لورقة حِين جَاءَتْهُ شَأْن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَذكرت لَهُ جِبْرِيل عليه السلام وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من عِنْد الله عز وجل قَالَ لَهَا ورقة: يَا ابْنة أخي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحبك النَّبِي الَّذِي تنْتَظر أهل الْكتاب الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَأقسم بِاللَّه لَئِن كَانَ إِيَّاه ثمَّ أظهر دعاءه وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِي طَاعَة رَسُوله وَحسن مؤازرته الصَّبْر والنصر، فَمَاتَ ورقة ".
قَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ: " وَالَّذِي ذكر فِيهِ من شقّ بَطْنه يحْتَمل أَن يكون حِكَايَة مِنْهُ لما صنع بِهِ فِي صباه، وَيحْتَمل أَن يكون شقّ مرّة أُخْرَى، ثمَّ مرّة ثَالِثَة حِين عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء وَالله أعلم.
قلت: هَذِه الْمرة الثَّانِيَة إِنَّمَا كَانَت عَن مَنَام وَوَقع تَفْسِيرهَا عِنْد عروجه إِلَى السَّمَاء وَالله أعلم.
وَالْقَاضِي عِيَاض يرى أَنه إِنَّمَا فعل بِهِ ذَلِك مرّة وَاحِدَة فِي عمره، وَقد بَينا ذَلِك فِي " شرح ذَات الْأُصُول ".
قَوْلهَا: " فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة: أَي عَم، اسْمَع من ابْن أَخِيك ":
وَفِي رِوَايَة: " أَي ابْن عَم " وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُ ابْن عَمها حَقِيقَة. وَوجه الرِّوَايَة الأولى أَنَّهَا خاطبته بذلك على وَجه التَّعْظِيم لَهُ لَا على وَجه النّسَب بَينهمَا تَنْزِيلا لَهُ منزلَة الْأَب كَمَا يخاطبه الْأَجْنَبِيّ الصَّغِير بذلك. وَمثله يَقع فِي بعض الْأَسَانِيد من رِوَايَة حَنْبَل بن إِسْحَاق بن حَنْبَل، عَن ابْن عَمه الإِمَام أبي عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل فَيَقُول: ثَنَا عمي - يَعْنِي أَحْمد - وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عَمه.
وَأما تعبيرها عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ ابْن أَخِيه فَهُوَ من بَاب التَّعْظِيم لَهُ أَيْضا والتوفيق فِي الْخطاب طلبا للإقبال عَلَيْهِ والإصغاء إِلَيْهِ، وَلَيْسَ من بَاب النّسَب فَإِن ورقة وَإِن كَانَ قرشيا فَلَيْسَ عَمَّا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أسدي وَالنَّبِيّ
- صلى الله عليه وسلم هاشمي، وَإِنَّمَا يَلْتَقِيَانِ فِي نسب قُرَيْش عِنْد قصي بن كلاب بن مرّة فالنبي صلى الله عليه وسلم من ذُرِّيَّة عبد منَاف بن قصي وورقة من ذُرِّيَّة عبد الْعُزَّى بن قصي.
قَوْلهَا: " فَقَالَ ورقة: يَا بن أخي، مَاذَا ترى؟ فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خبر مَا رأى ":
لقَوْله: "مَاذَا ترى؟ " تقديران:
أَحدهمَا: مَا الَّذِي ترى.
وَالثَّانِي: أَي شَيْء ترى.
وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " مُنْقَطِعًا عَن أبي ميسرَة عَمْرو بن شرحيبل أَن رَسُول الله
قَالَ لِخَدِيجَة: " إِنِّي إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء، وَقد خشيت وَالله أَن يكون لهَذَا أَمر، قَالَت: معَاذ الله، مَا كَانَ الله ليفعل ذَلِك بك، فوَاللَّه أَنَّك لتؤدي الْأَمَانَة، وَتصل الرَّحِم، وَتصدق الحَدِيث، فَلَمَّا دخل أَبُو بكر وَلَيْسَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ذكرت خَدِيجَة لَهُ، فَقَالَت: يَا عَتيق، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّد إِلَى ورقة، فَلَمَّا دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَخذ أَبُو بكر بِيَدِهِ فَقَالَ: انْطلق بِنَا إِلَى ورقة، فَقَالَ: وَمن أخْبرك؟ قَالَ: خَدِيجَة، فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فقصا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء خَلْفي: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَانْطَلق هَارِبا فِي الأَرْض، فَقَالَ لَهُ: لَا تفعل، إِذا أَتَاك فاثيت حَتَّى تسمع مَا يَقُول لَك، ثمَّ ائْتِنِي فَأَخْبرنِي، فَلَمَّا خلا ناداه: يَا مُحَمَّد، قل:
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} حَتَّى بلغ: {وَلَا الضَّالّين} ، قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَأتى ورقة فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ ورقة: أبشر ثمَّ أبشر، فَأَنا أشهد أَنَّك الَّذِي بشر بك ابْن مَرْيَم، وَأَنَّك على مثل ناموس مُوسَى، وَأَنَّك نَبِي مُرْسل، وَأَنَّك ستؤمر بِالْجِهَادِ بعد يَوْمك هَذَا، وَلَئِن أدركني ذَلِك لأجاهدن مَعَك، فَلَمَّا توفّي قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رَأَيْت القس فِي الْجنَّة وَعَلِيهِ ثِيَاب الْحَرِير لِأَنَّهُ آمن بِي وصدقني - يَعْنِي ورقة - ".
لفظ مَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي " كِتَابه "، وَأخرجه أَبُو نعيم بِمَعْنَاهُ وَقَالَ:" فأسرت ذَلِك إِلَى أبي بكر وَكَانَ نديما لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة ".
قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق بِسَنَدِهِ إِلَى أبي ميسرَة فَذكر الحَدِيث بِاللَّفْظِ الأول ".
(قَالَ) : " وَفِي رِوَايَة يُونُس أَيْضا - يَعْنِي عَن ابْن إِسْحَاق - أَنه عليه السلام قَالَ لرجل يسب ورقة: أما علمت أَنِّي رَأَيْت لورقة جنَّة أَو
جنتين ".
قَالَ: " وَهَذَا الحَدِيث الْأَخير قد أسْندهُ الْبَزَّار ".
قَوْلهَا: " فَقَالَ لَهُ ورقة: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى صلى الله عليه وسلم ":
وَفِي رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَ: " هُوَ وَالله الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى صلى الله عليه وسلم ".
قَالَ الْهَرَوِيّ: " الناموس صَاحب سر الْملك يُقَال: نمس ينمس نمسا إِذا كتم السِّرّ، ونامسته منامسة إِذا ساررته، وَسمي جِبْرِيل عليه السلام ناموسا لِأَن الله تَعَالَى خصّه بِالْوَحْي والغيب اللَّذين لَا يطلع عَلَيْهِمَا غَيره ".
قَالَ الْجَوْهَرِي: " ناموس الرجل صَاحب سره الَّذِي يطلعه على بَاطِن أمره ويخصه بِمَا يستره عَن غَيره، وَأهل الْكتاب يسمون جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
الناموس والناموس قترة الصَّائِد لِأَنَّهُ يختفي فِيهَا، ونمست الرجل ونامسته إِذا ساررته قَالَ الْكُمَيْت:
(فأبلغ يزِيد إِن عرضت ومنذرا
…
وعميهما والمستسر المنامسا)
قَالَ الْخطابِيّ: " قَوْله: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى، يُرِيد جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِمَا. وَأَخْبرنِي أَبُو عمر، وَأخْبرنَا أَبُو الْعَبَّاس، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: الناموس صَاحب سر الْخَيْر، والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ.
وَيُقَال: إِن أَصله مَأْخُوذ من قَوْلك: نامست الرجل إِذا ساررته فَقيل مِنْهُ: ناموس على بِنَاء فاعول.
وَقيل: هُوَ مقلوب من ناسمته فَقدم الْمِيم على السِّين ". قَالَ السُّهيْلي: " وَإِنَّمَا ذكر ورقة مُوسَى وَلم يذكر عِيسَى - وَهُوَ أقرب - لِأَن ورقة كَانَ قد تنصر، وَالنَّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى: إِنَّه نَبِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل إِنَّمَا يَقُولُونَ فِيهِ: إِن أقنوما من الأقانيم الثَّلَاثَة اللاهوتيه حل بناسوت الْمَسِيح، واتحد بِهِ على اخْتِلَاف بَينهم فِي ذَلِك الْحُلُول، وَهُوَ أقنوم الْكَلِمَة والكلمة عِنْدهم عبارَة عَن الْعلم، فَلذَلِك كَانَ الْمَسِيح فِي زعمهم
يعلم الْغَيْب ويخبر بِمَا فِي غَد، فَلَمَّا كَانَ هَذَا من مَذْهَب النَّصَارَى الكذبة على الله المدعين الْمحَال عدل عَن ذكر عِيسَى إِلَى ذكر مُوسَى عليهما السلام، لعلمه أَو لاعْتِقَاده أَن جِبْرِيل كَانَ ينزل على مُوسَى، لَكِن ورقة قد ثَبت إيمَانه بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم، وَقد قدمنَا حَدِيث التِّرْمِذِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَآهُ فِي الْمَنَام وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض إِلَى آخر الحَدِيث ".
قلت: قد سبق فِي حَدِيث عداس - وَكَانَ أَيْضا نَصْرَانِيّا - أَنه وصف جِبْرِيل لِخَدِيجَة فَقَالَ: أَنه أَمِين الله بَينه وَبَين النَّبِيين، وَهُوَ صَاحب مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام.
وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " لأبي نعيم عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن يحيى بن عُرْوَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ ورقة - لما ذكرت لَهُ خَدِيجَة أَنه ذكر لَهَا جِبْرِيل -: سبوح سبوح، وَمَا لجبريل يذكر فِي هَذِه الأَرْض الَّتِي تعبد فِيهَا الْأَوْثَان، جِبْرِيل أَمِين الله بَينه وَبَين رسله، اذهبي بِهِ إِلَى الْمَكَان الَّذِي رأى فِيهِ مَا رأى فَإِذا أَتَاهُ فتحسري، فَإِن يكن من عِنْد الله لَا يرَاهُ، فَفعلت فَلَمَّا تحسرت تغيب جِبْرِيل فَلم يره، فَرَجَعت وأخبرت ورقة، فَقَالَ: إِنَّه ليَأْتِيه الناموس الْأَكْبَر الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل أَبْنَاءَهُم إِلَّا بِالثّمن، ثمَّ أَقَامَ ورقة ينْتَظر إِظْهَار الدعْوَة.
وَرَوَاهُ عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام وَقَالَ: لَئِن كنت صدقتني إِنَّه ليَأْتِيه الناموس الْأَكْبَر ناموس عِيسَى الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل أَبْنَاءَهُم، وَلَئِن نطق وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِيهِ بلَاء حسنا.
قَوْله: " يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا ":
قَالَ الْهَرَوِيّ: " يَعْنِي فِي نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَقُول: يَا لَيْتَني كنت شَابًّا فِيهَا يَعْنِي حِين تظهر نبوته حَتَّى أبالغ فِي نصرته، وَالْأَصْل فِي الْجذع سنو الدَّوَابّ وَهُوَ قبل أَن يثني بِسنة، والدهر جذع أبدا أَي شَاب لَا يهرم ".
وَقَالَ الْخطابِيّ: " مَعْنَاهُ لَيْتَني بقيت حَيا إِلَى وَقت مخرجك، وَأَيَّام دعوتك، وَكنت فِيهَا شَابًّا بِمَنْزِلَة الْجذع من الْحَيَوَان كَقَوْل دُرَيْد:
(يَا لَيْتَني فِيهَا جذع
…
أحب فِيهَا وأضع)
قَالَ: " وَقَوله: " فِيهَا " على التَّأْنِيث أضمر إِمَّا الدعْوَة وَإِمَّا النُّبُوَّة أَو الدولة، وَنصب " جذعا " على معنى: لَيْتَني كنت جذعا فأضمر " كنت " لِأَن " لَيْت " قد شغل بالمكنى فَلم يبْق لَهُ فعلا فِيمَا بعده ".
قَالَ الْمَازرِيّ: " الظَّاهِر أَن يكون " جذعا " مَنْصُوبًا على أَنه خبر " كَانَ " المحذوفة، فالتقدير: لَيْتَني أكون فِيهَا جذعا.
قَالَ: وَهَذَا على طَريقَة الْكُوفِيّين، وَمثل مَا يضمر فِيهِ " كَانَ "
عِنْدهم قَول الله تَعَالَى: {انْتَهوا خيرا لكم} ، تَقْدِيره عِنْد الْكسَائي: يكن الِانْتِهَاء خيرا لكم ".
قَالَ القَاضِي عِيَاض: " كَذَا وَقع هَذَا الْحَرْف فِي أَكثر الرِّوَايَات فِي الْأُم وَفِي " كتاب البُخَارِيّ ": " جذعا " بِالنّصب، وَوَقع هُنَا عندنَا لِابْنِ ماهان: " جذع " على خبر " لَيْت " وَكَذَلِكَ هُوَ فِي البُخَارِيّ عِنْد الْأصيلِيّ.
وَوجه النصب عِنْدِي فِيهِ وأظهره كَونه على الْحَال، وَخبر " لَيْت " مُضْمر فِي " فِيهَا " تَقْدِيره: لَيْتَني فِي أَيَّام نبوتك حَيّ، أَو لأيامها مدرك، فِي حَال شبيبة وَصِحَّة وَقُوَّة لنصرتك، إِذْ كَانَ قد أسن وَعمي عِنْد قَوْله هَذَا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث ".
قلت: الْوَجْهَانِ جيدان وَذَلِكَ قريب من قَول الشَّاعِر الَّذِي تكلم النُّحَاة عَلَيْهِ:
(يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رواجعا
…
)
وَقَالُوا: التَّقْدِير: أَقبلت رواجعا، فَيكون نصبا على الْحَال.
وَقَالَ الْكسَائي: " كَانَت رواجعا، هُوَ خبر كَانَ ".
وَأَجَازَ الْفراء: لَيْت زيدا قَائِما، بِنصب خبر " لَيْت "، ويجريه مجْرى: أَتَمَنَّى زيدا قَائِما.
وَقد قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: إِن الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْفراء لُغَة عكل ينصبون خبر " لَيْت " وَأنْشد على ذَلِك قَول النمر:
(أَلا لَيْتَني حجرا بواد
…
أَصمّ وليت أُمِّي لم تلدني)
فَإِن قُلْنَا: إِن " جذعا " نصب على الْحَال كَانَ قَوْله " فِيهَا " خبر " لَيْت "، أَي لَيْتَني كَائِن أَو مَوْجُود فِي أَيَّام نبوتك كَقَوْل كَعْب بن لؤَي ابْن غَالب:
(يَا لَيْتَني شَاهد فحواء دَعوته
…
حِين الْعَشِيرَة تبغي الْحق خذلانا)
ويروي: فحوى نبوته.
قَوْله: " يَا لَيْتَني أكون حَيا حِين يخْرجك قَوْمك ":
حَيا: خبر " أكون " وَهَذَا يُقَوي نصب " جذعا " الْمُتَقَدّم على إِضْمَار " أكون " ودلنا هَذَا الظَّاهِر على ذَلِك الْمُقدر لِأَن كلتا الجملتين تمن، تمنى الْحَيَاة عِنْد إِخْرَاج قومه لَهُ حبا لنصره ورغبة فِي جِهَاد أعدائه، وَتمنى الْقُوَّة والشباب فِي زمن النُّبُوَّة ليظْهر غناؤه، وتتضاعف مؤازرته واعتناؤه.
قَوْلهَا: " فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: أَو مخرجي هم؟ ":
وَفِي رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " أَو مخرجي قومِي؟ ".
قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي حَدِيث ورقة أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم لتكذبنه، فَلم يقل لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَيْئا، ثمَّ قَالَ: ولتؤذينه، فَلم يقل النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَيْئا، ثمَّ قَالَ: ولتخرجنه، فَقَالَ: أَو مخرجي هم؟
فَفِي هَذَا دَلِيل على حب الوطن وَشدَّة مُفَارقَته على النَّفس، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حرم الله وَجوَار بَيته وبلد أَبِيه إِسْمَاعِيل، فَلذَلِك تحركت نَفسه عِنْد ذكر الْخُرُوج مِنْهُ مَا لم يَتَحَرَّك قبل ذَلِك فَقَالَ: أَو مخرجي هم؟
والموضع الدَّال على تحرّك النَّفس وتحرقها إِدْخَال الْوَاو بعد ألف الِاسْتِفْهَام مَعَ اخْتِصَاص الْإِخْرَاج بالسؤال عَنهُ، وَذَلِكَ أَن الْوَاو ترد إِلَى الْكَلَام الْمُتَقَدّم، وتشعر الْمُخَاطب بِأَن الِاسْتِفْهَام على جِهَة الْإِنْكَار أَو التفجع لكَلَامه والتألم مِنْهُ، وَالْهَاء فِي قَوْله:" لتكذبنه " وَمَا بعْدهَا لَا ينْطق بهَا إِلَّا سَاكِنة لِأَنَّهَا هَاء السكت وَلَيْسَت بهاء إِضْمَار.
وَلَا بُد من تَشْدِيد الْيَاء من " مخرجي " لِأَنَّهُ جمع وَالْأَصْل: " مخرجوي " فأدغمت الْوَاو فِي الْيَاء لاجتماعهما وَسبق إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ وَهُوَ قِيَاس مطرد وَهُوَ خبر ابْتِدَاء مقدم، وَلَو كَانَ الْمُبْتَدَأ اسْما ظَاهرا لجَاز تَخْفيف الْيَاء وَيكون الِاسْم الظَّاهِر فَاعِلا لَا مُبْتَدأ، كَمَا تَقول: أضارب قَوْمك، أخارج إخْوَتك، فتفرد لِأَنَّك رفعت بِهِ فَاعِلا ".
(قلت: فعلى هَذَا يجوز تَخْفيف الْيَاء على رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " أَو مخرجي قومِي ".
ثمَّ قَالَ) : " وَهُوَ حسن فِي مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ والأخفش، وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَام، لما جَازَ الْإِفْرَاد إِلَّا على مَذْهَب الْأَخْفَش فَإِنَّهُ يَقُول: قَائِم الزيدون دون اسْتِفْهَام، فَإِن كَانَ الِاسْم الْمُبْتَدَأ من الْمُضْمرَات نَحْو: أخارج أَنْت؟ وأقائم هُوَ؟ لم يَصح فِيهِ إِلَّا الِابْتِدَاء لِأَن الْفَاعِل إِذا كَانَ مضمرا لم يكن مُنْفَصِلا، لَا تَقول: قَامَ أَنا، وَلَا ذهب أَنْت، فَكَذَلِك لَا تَقول: أذاهب أَنْت؟ على حد الْفَاعِل وَلَكِن على حد الْمُبْتَدَأ، وَإِذا كَانَ على حد الْمُبْتَدَأ فَلَا بُد من جمع الْخَبَر، فعلى هَذَا يَقُول: أَو مخرجي هم؟ بِالتَّشْدِيدِ تُرِيدُ: أمخرجون، ثمَّ أضفت إِلَى الْيَاء وحذفت النُّون للإضافة ثمَّ أدغمت الْوَاو كَمَا يَقْتَضِي الْقيَاس ".
(قَالَ) : " وَهَذَا فصل بديع فِي النَّحْو قل من تنبه إِلَيْهِ وَشَرحه بِهَذَا الْبَيَان ".
قَوْلهَا: " قَالَ ورقة: نعم، لم يَأْتِ رجل قطّ بِمَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي: "
وَفِي رِوَايَة: " أَو ذِي مَكَان " عودي "، وَفِي رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ الْجمع بَينهمَا قَالَ: " إِلَّا عودي وأوذي، فليتني فِيهَا جذعا ".
وَفِي حَدِيث عبد الله بن شَدَّاد قَالَ: " فَقَالَ ورقة لِخَدِيجَة: هَل رأى زَوجك صَاحبه فِي خضر؟ فَقَالَت: نعم، فَقَالَ: إِن زَوجك نَبِي، وسيصيبه فِي أمته بلَاء " رَوَاهُمَا أَبُو نعيم فِي " دلائله ".
قلت: وَهَذِه سنة الله تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ مَعَ قَومهمْ غير الموفقين للْإيمَان مِنْهُم فَإِنَّهُم يظهرون لَهُم الْعَدَاوَة والأذى على الْجُمْلَة، ويشتد عَلَيْهِم الْفِطَام عَمَّا كَانَ آباؤهم عَلَيْهِ، فيبالغون فِي أَذَى نَبِيّهم وَالَّذين آمنُوا بِهِ، فيضطرونهم إِلَى الْخُرُوج عَنْهُم كَمَا جرى لنبينا وَأَصْحَابه، وَلَعَلَّ ورقة سمع ذَلِك من أهل الْكتاب الَّذين عرف مِنْهُم صفة النَّبِي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَوقت مبعثه.
وَلَفظ " قطّ " فِي تَأْكِيد نفي الْفِعْل الْمَاضِي كَلَفْظِ " أبدا " فِي نفي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، والطاء مَضْمُومَة مُشَدّدَة ومخففة.
قَوْله: " وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا: "
وَوَقع فِي رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " فليتني حَيا يَوْم يخْرجك قَوْمك فأنصرك نصرا مؤزرا "، وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر:" وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك ".
قَالَ السُّهيْلي: " إِن يدركني يَوْمك " هُوَ الْقيَاس لِأَن ورقة سَابق
بالوجود وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي يدْرك من يَأْتِي بعده كَمَا جَاءَ: " أَشْقَى النَّاس من أَدْرَكته السَّاعَة وَهُوَ حَيّ ".
قَالَ: " وَرِوَايَة ابْن إِسْحَاق أَيْضا لَهَا وَجه لِأَن الْمَعْنى: إِن أر ذَلِك الْيَوْم، فَسُمي رُؤْيَته إدراكا، وَفِي التَّنْزِيل:{لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} أَي لَا ترَاهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقَوله: " مؤزرا " من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة والعون ".
وَقَالَ الْخطابِيّ: " مؤزرا أَي بليغا مقوى ".
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: " مؤزرا أَي بَالغا، يُقَال: آزرته ووازرته أَي عاودته، وَكَذَلِكَ آسى وواسى ".
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: " الْعَامَّة تَقول: وازرته ".
قَالَ ابْن سَيّده: " هِيَ على الْبَدَل ".
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: " الأزر الْقُوَّة أَو الضعْف فَهُوَ من الأضداد، والأزر: الظّهْر فَقَوله تَعَالَى: {اشْدُد بِهِ أزري} يحْتَمل الْمعَانِي الثَّلَاثَة ".
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْقَزاز: " هَكَذَا نقل هَذَا الْحَرْف " مؤزرا " وَهُوَ من: وازرته موازرة إِذا عاونته فِي أمره، وَأَنت موازر لَهُ فِيهِ أَي معاون ".
قَالَ: " وأحسب أَن الْألف سَقَطت من أَمَام الْوَاو أَي كَانَ: " مؤازرا " إِذْ لَا أصل ل " مؤزر " فِي كَلَام الْعَرَب غير مَا ذكرنَا، وَمن المؤازرة أَخذ اسْم وَزِير الْملك لِأَنَّهُ معاون لَهُ فِي أُمُوره ".
قَالَ القَاضِي عِيَاض: " وَقد ظهر لي أَنه صَحِيح على مَا جَاءَت بِهِ الرِّوَايَة وَأَنه أولى وأليق بِالْمَعْنَى، وَالْمرَاد: نصرا قَوِيا، مَأْخُوذ من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة وَمِنْه: تأزر النبت إِذا اشْتَدَّ وَطَالَ قَالَ الله تَعَالَى: {اشْدُد بِهِ أزري} قيل: وقوتي وَقيل: ظَهْري، وَلَو كَانَ على مَا ذهب إِلَيْهِ هَذَا
الْقَائِل لَكَانَ صَوَاب الْكَلَام " مؤازرا " بِكَسْر الزَّاي، وَبعد أَن ظهر لي هَذَا وجدت مَعْنَاهُ مُعَلّقا عَن بعض الْمَشَايِخ وَوَجَدته للخطابي وَهُوَ صَحِيح " ،
قلت: لَيْسَ فِيمَا قَالَه القَاضِي مَا يُجَاب بِهِ عَن اعْتِرَاض الْقَزاز و (لَا) مَا يصحح بِهِ لفظ " مؤزر " من جِهَة الِاشْتِقَاق على قِيَاس الْعَرَبيَّة إِلَّا قَوْله: تأزر النبت إِذا التف وَاشْتَدَّ.
أنْشد الْجَوْهَرِي:
(تأزر فِيهِ النبت حَتَّى تخايلت
…
رباه وَحَتَّى مَا ترى الشَّاء نوما)
فوزن " تأزر " تفعل، وَتفعل هُوَ مُطَاوع فعل كتكسر وتعرف، وَفعل وأفعل يتفقان فِي التَّعْدِيَة كثيرا كأنزل وَنزل، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:{فآزره} ، فَهَذَا أفعل، فَلَا بعد فِي جَوَاز فعل وَقد دلّ عَلَيْهِ مطاوعه، فَقَوله:" مؤزرا " اسْم مفعول من ذَلِك مثل مشرف ومفضل، وَلَيْسَ لنا من غير ذَلِك أزره فَهُوَ مؤزر إِلَّا فِي لبس الْإِزَار يُقَال: أزرته تأزيرا فتأزر هُوَ واتزر.
فَأَقُول: يجوز أَن يكون مأخوذا من هَذَا لِأَن لبس الْإِزَار يكنى بِهِ عَن الْجد والتشمير فِي الْأَمر وَالْقِيَام بِهِ على الْوَجْه المرضي، وَأَصله أَن يتْرك
مضاجعة أَهله كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دخل الْعشْر الْأَوَاخِر شدّ المئزر وَأَيْقَظَ أَهله ".
وَقَالَ الشَّاعِر:
(قوم إِذا حَاربُوا شدوا مآزرهم
…
)
فَمَعْنَاه: أنصرك نصرا قد اعتني بِهِ واجتهد فِيهِ وشمر لَهُ، فهوة على أكمل وُجُوه النَّصْر وَالله أعلم.
وَفِي حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة: " أَن ورقة قَالَ لِخَدِيجَة: يَا بنت أخي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحبك الَّذِي ينْتَظر أهل الْكتاب الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا فِي الْإِنْجِيل، فأقسم بِاللَّه لَئِن كَانَ إِيَّاه ثمَّ دَعَا إِلَى الله وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِي طَاعَة رَسُوله وَحسن المؤازرة والنصرة لَهُ ".
أخرجه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي " دلائله ".
وَقد تقدم نَحوه أَيْضا فِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، فَهَذَا يُقَوي مَا صَار إِلَيْهِ الْقَزاز وَالله أعلم.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَقد كَانَت خَدِيجَة ذكرت لورقة مَا ذكر لَهَا غلامها ميسرَة من قَول الراهب وَمَا كَانَ رأى مِنْهُ إِذْ كَانَ الْملكَانِ يظلانه، فَقَالَ ورقة: لَئِن كَانَ هَذَا حَقًا يَا خَدِيجَة إِن مُحَمَّدًا لنَبِيّ هَذِه الْأمة، قد
عرفت أَنه كَائِن لهَذِهِ الْأمة نَبِي ينْتَظر هَذَا زَمَانه، فَجعل ورقة يستبطئ الْأَمر وَيَقُول: حَتَّى مَتى، فَكَانَ فِيمَا يذكرُونَ يَقُول أشعارا يستبطئ فِيهَا خير خَدِيجَة فَقَالَ:
(أتبكر أم أَنْت العشية رائح
…
وَفِي الصَّدْر من إضمارك الْحزن فادح)
(لفرقة قوم لَا تحب فراقهم
…
كَأَنَّك عَنْهُم بعد يَوْمَيْنِ نازح)
(وأخبار صدق خبرت عَن مُحَمَّد
…
يخبرها عَنهُ إِذا غَابَ نَاصح)
(فَقَالَ الَّذِي وجهت يَا خير حرَّة
…
بغور وبالنجدين حَيْثُ الصحاصح)
(إِلَى سوق بصرى فِي الركاب الَّتِي غَدَتْ
…
وَهن من الْأَحْمَال قعس دوالح)
(فخبرنا عَن كل خير بِعِلْمِهِ
…
وللخير أَبْوَاب لَهُنَّ مفاتح)
(بِأَن ابْن عبد الله أَحْمد مُرْسل
…
إِلَى كل من ضمت عَلَيْهِ الأباطح)
(وظني بِهِ أَن سَوف يبْعَث صَادِقا
…
كَمَا أرسل العبدان هود وَصَالح)
(ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم حَتَّى يرى لَهُ
…
بهاء ومنشور من الذّكر وَاضح)
(ويتبعه حَيا لؤَي جمَاعَة
…
شبابهم والأشيبون الجحاجح)
(فَإِن أبق حَتَّى يدْرك النَّاس دهره
…
فَإِنِّي بِهِ مُسْتَبْشِرٍ الود فارح)
(وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَة فاعلمي
…
عَن أَرْضك فِي الأَرْض العريضة سائح)
(فمتبع دين الَّذِي أسس الْهَدْي
…
وكل لَهُ فضل على النَّاس رَاجِح)
(وَأسسَ بنيانا بِمَكَّة ثَابتا
…
تلألأ فِيهِ بالظلام المصابح)
(منيفا على تشييد كل مشيد
…
على بَابه ذِي العروتين الصفائح)
(مثابا لأفناء الْقَبَائِل كلهَا
…
تخب إِلَيْهِ اليعملات الطلائح)
(حراجيج حدب قد كللن من السرى
…
تعلق فِي أرساغهن السرائح)
وَقَالَ ورقة أَيْضا:
(إِن يَك حَقًا يَا خَدِيجَة فاعلمي
…
حَدِيثك إيانا فَأَحْمَد مُرْسل)
(وَجِبْرِيل يَأْتِيهِ وميكال مَعَهُمَا
…
من الله وَحي يشْرَح الصَّدْر منزل)
(يفوز بِهِ من فَازَ فِيهَا بتوبة
…
ويشقى بِهِ العاتي الغوي المضلل)
(فريقان مِنْهُم فرقة فِي جنانه
…
وَأُخْرَى بأجوار الْجَحِيم تغلل)
(إِذا مَا دعوا بِالْوَيْلِ فِيهَا تَتَابَعَت
…
مَقَامِع فِي هاماتهم ثمَّ تشعل)
(فسبحان من تهوى الرِّيَاح بأَمْره
…
وَمن هُوَ فِي الْأَيَّام مَا شَاءَ يفعل)
(وَمن عَرْشه فَوق السَّمَوَات كلهَا
…
وَأَحْكَامه فِي خلقه لَا تبدل)
وَقَالَ ورقة أَيْضا:
(يَا للرِّجَال لصرف الدَّهْر وَالْقدر
…
وَمَا لشَيْء قَضَاهُ الله من غير)
(حَتَّى خَدِيجَة تَدعُونِي لأخبرها
…
وَمَا لنا بخفي الْغَيْب من خبر)
(فَكَانَ مَا سَأَلت عَنهُ لأخبرها
…
أمرأ أرَاهُ سَيَأْتِي النَّاس عَن أخر)
(فخبرتني بِأَمْر قد سَمِعت بِهِ
…
فِيمَا مضى من قديم النَّاس وَالْعصر)
(بِأَن أَحْمد يَأْتِيهِ فيحبره
…
جِبْرِيل أَنَّك مَبْعُوث إِلَى الْبشر)
(فَقلت عل الَّذِي ترجين يُنجزهُ
…
لَك الْإِلَه فَرجي الْخَيْر وانتظري)
(وأرسليه إِلَيْنَا كي نسائله
…
عَن أَمر مَا يرى فِي النّوم والسهر)
(فَقَالَ حِين أَتَانَا منطقا عجبا
…
تقف مِنْهُ أعالي الْجلد وَالشعر)
(إِنِّي رَأَيْت أَمِين الله واجهني
…
فِي صُورَة أكملت من أعظم الصُّور)
(ثمَّ اسْتمرّ فَكَانَ الْخَوْف يذعرني
…
مِمَّا يسلم مَا حَولي من الشّجر)
(فَقلت ظَنِّي وَمَا يدْرِي أيصدقني
…
أَن سَوف تبْعَث تتلو منزل السُّور)
(وسوف أبليك إِن أعلنت دعوتهم
…
من الْجِهَاد بِلَا من وَلَا كدر)
وَقَالَ ورقة أَيْضا:
(لججت وَكنت فِي الذكرى لجوجا
…
لَهُم طَال مَا بعث النشيجا)
(وَوصف من خَدِيجَة بعد وصف
…
فقد طَال انتظاري يَا خديجا)
(بِبَطن المكتين على رَجَاء
…
حَدِيثك لَو أرى مِنْهُ خُرُوجًا)
(بِمَا خبرتني عَن قَول قس
…
من الرهبان يكره أَن يعوجا)
(بِأَن مُحَمَّدًا سيسود يَوْمًا
…
ويحطم من يكون لَهُ حجيجا)
(وَيظْهر فِي الْبِلَاد ضِيَاء نور
…
يُقيم بِهِ الْبَريَّة أَن تموجا)
(فَيلقى من يحاربه خسارا
…
ويلقى من يسالمه فلوجا)
(فيا لَيْتَني إِذا مَا كَانَ ذاكم
…
شهِدت وَكنت أَوَّلهمْ ولوجا)
(ولوجا فِي الَّذِي كرهت قُرَيْش
…
وَإِن عجت بمكتها عجيجا)
(أرجي بِالَّذِي كَرهُوا جَمِيعًا
…
إِلَى ذِي الْعَرْش إِن سفلوا عروجا)
(فَإِن يبقوا وتبق تكن أُمُور
…
يضج الْكَافِرُونَ بهَا ضَجِيجًا)
(وَإِن أهلك فَكل فَتى سيلقى
…
من الأقدار متلفة خلوجا)