الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
مقدمة الناشر [[
زهير الشاويش]]
…
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فهذا شرح عقيدة الإمام جعفر الطحاوي، نقدمه في طبعة جديدة إلى الراغبين في الوقوف على عقيدة السلف الصالح، والتوحيد الخالص، الذي بعث الله تعالى به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ونستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب القيم يقلّ نظيره في التحقيق والبيان، والعمق والإحاطة، والتزام منهج الحق الذي كان عليه السلف الصالح.
لذلك لاقت هذه العقيدة مدح عدد كبير جدًا من العلماء1، وشرحها عدد كبير منهم أيضًا، وكان أحسن شروحها المعروفة هذا الشرح، وهو يمثل عقيدة السلف أحسن تمثيل، والمؤلف يكثر من النقل عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من غير إحالة عليها، ولعل له عذرًا في ذلك2، وهو: أن عقيدة السلف كانت تحارب من المتعصبين والحشويين وعلماء السوء الذين كان لهم تأثير كبير على
1 ومما يدلك على ذلك كلمة العلامة الشيخ عبد الوهاب السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" التي نقلنا ملخصها على غلاف الكتاب، وهي:"وهذه المذاهب الأربعة -ولله تعالى الحمد- في العقائد واحدة، إلا من لحق منها بأهل الاعتزال والتجسيم، وإلا فجمهورها على الحق يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفًا وخلفًا بالقبول".
2 قلت هذا منذ ثلاثين سنة، ثم تيقنت ذلك بعد معرفة صاحب الشرح وهو العلامة ابن أبي العز الحنفي، والتأكد من شرحه لها، وما لاقى في سبيل عقيدته من ظلم أهل الابتداع والضلال.
بعض الحكام، مما جعل بعض أصحاب هذه العقيدة لا يتظاهرون بها -غالبًا- في تلك الأيام التي كان فيها بعض الناس مغرمًا بإتلاف كتب شيخ الإسلام، الأمر الذي أدى إلى فقدان أو ندرة بعض مؤلفات هذا الإمام العظيم مما حفز ابن عروة الحنبلي الدمشقي إلى حفظها في مجموعه الضخم المعروف بـ"الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني" فإنه أدخل فيه العديد من كتب شيخ الإسلام لأدنى مناسبة.
وقد استمرت هذه المحنة حتى العصور المتأخرة، فقد كان أحد المتنفذين في دمشق في أواخر القرن الماضي يتلف ما يستطيع جمعه مع كتب شيخ الإسلام وتلامذته وما وجد من كتبهم على رأيهم.
مستخدمًا في ذلك ما له من جاه وسلطان انتصارًا لمذهبه واعتقاده في "الحلول والاتحاد"1.
وظني أن هذه المحنة وهذا العداء لعقيدة السلف الصالح كانا وراء خفاء اسم المؤلف لهذا الشرح المبارك، وكانا وراء خفاء اسم شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم من الشرح، مع أنه نقل عنهما في كتابه نقولا جمة، ربما تبلغ في بعض المواطن صفحات.
وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع مرتين2، لكن طبعتنا هذه تمتاز بأنها مقابلة
1 انظر مقدمة كتاب "الكلم الطيب" ص4 طبع المكتب الإسلامي.
2 كانت أولاهما في مكة المشرفة 1349هـ، وقد قامت بها لجنة من العلماء برئاسة العلامة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ -رحمه الله تعالى، واعتمدوا فيها على نسخة خطية، كثيرة الغلط والتحريف، لم يتيسر لهم الوقوف على غيرها، فلم يألوا جهدًا في تصحيحها، وتقويم ما انحرف عن الصواب فيها جزاهم الله الخير، ولكن طبعتهم مع ذلك لم تخل من أغلاط كثيرة، ثم تصدى للنشر ثانية أستاذي العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله، فقام بطبعه في القاهرة سنة 1373هـ معتمدًا الطبعة السالفة، واجتهد في تصحيح كلام الشارح، وقابل الأحاديث والآثار، فجاءت في طبعته أمثل من سابقتها وأقرب إلى الصحة. إلا أن في كلتا الطبعتين عيبًا لم يكن للقائمين عليهما حيلة في تداركه، فإن النسخة الخطية التي طبع عنها الكتاب في كلا المرتين لم يقتصر فسادها على ما فشا فيها من الغلط والتحريف، بل وقع فيها أيضًا سقط وخروم في مواطن كثيرة يبلغ بعضها ورقة كاملة، فاختل بذلك سياق الكلام، واضطرب نظامه، وأصبح فهم شطر كبير من هذا الكتاب متعذرًا على أكثر القراء.
على نسخة خطية كاملة وقعت لي ويسر الله تملكي لها جلية الخط، حسنة الضبط، أما ما وقع فيها من غلط في بعض المواضع، فإنه من النوع الذي يسهل تداركه، وقد جاء في ختامها ما نصه:"قد تم تحريرها على يد الفقير الحقير خادم العلماء الأعلام، والمحرري الكتب في جامع مدرسة مرجان عليه الرحمة والرضوان؛ عبد المحيي بن عبد الحميد بن الحاج محمد مكي الشيخلي البغدادي، يوم الاثنين التاسع من شهر رجب الأصم من شهور سنة اثني "كذا" وعشرين وثلاثمائة بعد الألف.
فاستظهرنا من أن الأصل الذي نسخت عنه ينبغي أن يكون في بغداد، فحرصت على أن أظفر بصورة منه، وكتبت في ذلك إلى علامة العراق الشيخ بهجة الأثري، مع تزكية لطلبي من أستاذي الجليل الشيخ بهجة البيطار، غير أن الأستاذ الأثري لم يوفق في الحصول على الأصل، أو معرفة شيء عنه، واستعنت بعدد من الأفاضل، منهم الصديق الأديب الدكتور عبد الله جبوري، والأستاذ الفاضل الدكتور عبد الكريم زيدان، وغيرهم جزاهم الله كل خير، وزرت العراق أكثر من مرة وبحثت عنها فلم أوفق إلى شيء حتى الآن.
ولما كانت الطبعة الأولى خلوًا من اسم المؤلف، تبعًا للأصل الذي طبعت عنه، وفي الطبعة الثانية استظهر أستاذنا الشيخ أحمد شاكر1 أن مؤلفه هو عليّ بن عليّ بن محمد بن أبي العز الحنفي2 اعتمادًا على ما أرشده إليه العالم الكريم الفاضل الشيخ محمد بن حسين نصيف3، من أن السيد مرتضى الزبيدي نقل عن هذا الكتاب قطعة في "شرح الإحياء""2/ 146" وعزاها إلى ابن أبي العز المذكور.
وأما نسختنا فقد كان اسم مؤلفها مثبتًا على الورقة الأولى منها، إلا أن بعض
1 توفي -عليه رحمة الله- في ذي الحجة 1377 تموز 1958.
2 انظر ترجمته في الصفحة 16.
3 انتقل الشيخ محمد نصيف إلى رحمة الله تعالى في 8 جمادى الثانية سنة 1391هـ الموافق 31 تموز "يوليو" 1971م.
الأيدي قد لعبت فيه بالمحو والكتابة أكثر من مرة، وأخيرًا أثبت عليه ما أثبته الشيخ أحمد شاكر.
وقد استطعنا أن نتبين من بقايا الكتابة الأولى الكلمات التالية "جمال الدين
…
ابن صلاح الدين أبي البركات موسى بن محمد الملطي الحنفي" فاستظهرنا أنه: يوسف بن موسى بن محمد أبو المحاسن جمال الدين الملطي المتوفى سنة 803هـ وترجمته في "الضوء اللامع" للسخاوي "10/ 335 - 336"، و"شذرات الذهب" لابن العماد "7/ 40" وابن إياس في تاريخه "315" وغيرهم.
ولكن حال دون القطع بذلك أن صاحب هذا الشرح، كما ذكر هو نفسه في غير موضع من الكتاب من تلامذة ابن كثير، ولم يذكر أحد ممن ترجموا للملطي المذكور أنه تلميذ لابن كثير، كما لم يذكروا أيضًا أن له شرحًا على الطحاوية، ويبعد أن يؤلف مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي الشريف وهو القائل كما في "شذرات الذهب" 7/ 40: من نظر في البخاري فقد تزندق. فبقيت المسألة معلقة تنتظر الدليل القاطع للبت في طبعتنا الثالثة، وأما في طبعتنا هذه تيقنًا أنها لابن أبي العز جزاه الله خيرًا عن الإسلام وأهله1.
هذا وقد قمنا بمقابلة مخطوطتنا على مطبوعة مكة، ومطبوعة الشيخ أحمد شاكر، وبما أننا قد جعلنا مخطوطتنا هي الأصل، فكل زيادة كانت فيها، أدرجت دون الإشارة إليها، وهو كثير2 وما كان من زيادة في إحدى المطبوعتين أثبتناه ضمن حاضرتين هكذا [] ، كما أننا قمنا بترقيم الآيات، والعناية بالطبع، والتصحيح، ومراجعة النصوص على أصولها، وضبط ما أشكل منها قدر المستطاع.
ثم يسر الله لي مصورتين لمخطوطتين لم نكن نعرف عنهما شيئًا.
كما أننا قابلنا المتن على عدد كبير من المخطوطات وقد قام أستاذنا الجليل
1 انظر صورة مخطوط المغرب صفحة 66.
2 انظر مثلًا السطر الثامن من الصفحة 81 من مطبوعتنا المقابلة للصفحة 23 من مطبوعة شاكر تلاحظ سقطًا مقداره 34 سطرًا غير موجود في مطبوعة مكة وشاكر.
المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بتخريج ما فيها من الأحاديث وأعاد النظر في تخريجه مرة أخرى بما زاد طبعتنا هذه حسنًا وإفادة.
وساعد على مقابلتها وإعدادها للطبع، وتحقيق نصوصها، وضبط ألفاظها في طبعتها الثالثة -الأولى بالنسبة لنا- كل من الأساتذة الأفاضل: عبد الرحمن الباني، وهبي سليمان غاوجي، سعيد الطنطاوي، شعيب الأرناؤوط، عبد القادر الأرناؤوط1، مساهمة منهم في نشر العلم -جزاهم الله كل خير.
وقد تلقى العلماء طبعتنا بالقبول، كما قرر تدريسها في المعاهد والكليات بالرياض، والجامعة الإسلامية بالمدينة أستاذنا الجليل المفتي الأكبر محمد بن إبراهيم آل الشيخ -عليه رحمة الله.
وقامت كلية الدراسات الإسلامية في بغداد بتدريسها ثم اختصارها -بإذن منا- وكذلك اعتمدها مرجعًا لا غنى عنه في كلية الشريعة بجامعة دمشق أستاذنا المفضال الدكتور مصطفى السباعي عميد كلية الشريعة آنذاك -عليه رحمة الله.
وقد امتازت طبعتنا هذه بإضافات جليلة القدر، عظيمة النفع منها:
- تعليق سماحة أستاذي العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز الذي تجده في الصفحة 109.
- إحالات أستاذي العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم مما هو مثبت في هذا الشرح.
- إعادة النظر في تخريج الأحاديث من قبل أستاذي المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، مع الإبقاء على مقدمته القيمة.
1 وقد طبعتها مصورة مرات، غير أن بعض من لا خلاق لهم عمدوا إلى سرقتها تصويرًا، أو طباعة بعد حذف أشياء منها، وبعضهم حذف اسم المكتب والبعض أبقاه، فالله سبحانه وتعالى حسيبهم، كما أن بعضهم صور مطبوعة الأستاذ شاكر مزاحمة ومضاهاة، ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بما كان يتمتع به من علم وإنصاف، اطلع على طبعتنا هذه لكان من المحبذين لها، والمفضلين لها على طبعته، لأننا أثبتنا فوائد طبعته وزدنا عليها الكثير.
- كذلك إبقائي للتوضيح، الذي دعت الحاجة إلى نشره، رغم رغبتي وسعيي الحثيث لرفعه مع المقدمة، ولكن الذين بدءوا الاعتداء وعملوا على نشر الباطل في تقريرهم، واستمرار مسعاهم في نشر الرسائل والتعليقات والمقالات، والعمل على طبع شرح الطحاوية محرفًا ومدلسًا على الناس أنه طبعتنا، وما زلت عند قولي في "التوضيح"1.
وإليك بعض ما ذكرت في مقدمتي "للعقيدة الطحاوية؛ شرح وتعليق" للمحدث الألباني:
فإن عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي، هي عقيدة أهل السنة والجماعة المتفق على اتباعها من علماء الأمة؛ لأنها وافقت معتقد علماء هذه الملة خلال قرون متعددة، ومنهم أبو حنيفة النعمان، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأكثر أتباعهم، كما أنها عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري، التي استقر عليها أخيرًا بالجملة، ولم يشذ عنها إلا من أشرب في قلبه نوع من الاعتزال، والجهمية، ومناصبة السنة العداوة.
وقد امتن الله عليَّ، فيسر لي طبع "شرح العقيدة الطحاوية" للعلامة ابن أبي العز الحنفي، بعد حصولي على مخطوطة قيمة2.
ولم أجزم في طبعتنا بنسبة الشرح لابن أبي العز رحمه الله غير أن أستاذي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، في سفرته الأولى إلى المغرب سنة 1395، أهدى إليه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أبو خبزة مدير مكتبة مدينة "تطون" من المملكة
1 وقد دعت الضرورة أن نطبع كمية من النسخ خالية من المقدمة والتوضيح بناء على رغبة جهة كريمة، لا أشك برغبتها بصدق نيتها في الإصلاح.
2 انظر ذلك، في طبعتنا هذه التي بين يديك، في ثوبها الجديد، ففيها ما يعرفك بالكثير مما يلزمك، ولا تغتر بالطبعات المسروقة عن طبعتنا الرابعة الخالية من "التوضيح"، ومن "مقدمة الشيخ ناصر الدين الألباني" ولا بالمصورة عن طبعة العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فإن في كل ذلك النقص والتحريف، ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر، اطلع على طبعتنا، لكان من المحبذين لها، لما كان يتمتع به من علم وإنصاف.
المغربية، رسالة مصورة من مخطوط، ذكر تحت عنوانها، أن مؤلف شرح العقيدة الطحاوية، هو ابن أبي العز الحنفي.
وهذا مما حداني إلى مراجعة ما سبق وجمعته بشأن معرفة الشارح، واستبعدت أن يكون جمال الدين يوسف بن الملطي، كما كان ظاهرًا من بعض الكلمات الممحية من المخطوطة، لاستبعاد أن يؤلف الملطي مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي، وهو القائل كما في "شذرات الذهب" "7/ 40": من نظر في صحيح البخاري فقد تزندق؟!
وكان يفتي بأكل الحشيشة، ووجوه الحيل في أكل الربا، زاعمًا أن يخرج ذلك على نصوص مذهبه، هو بلا شك افتراء منه، ومن أتباعه حتى يومنا هذا على الإمام أبي حنيفة ورجال مذهبه الأفاضل الأتقياء.
وقد أشار ابن الشحنة إلى ذلك، حيث هجاه بقوله:
عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى
…
وما راقب الرحمن يومًا وما اتقى
يرى جائزًا أكل الحشيشة والربا
…
ومن يستمع للوحي حقا تزندقا
ثم اتضح أن السبب في إخفاء ابن أبي العز، أو النساخ لاسمه، وهو الخوف من الهجمة الشرسة، التي كانت سائدة في عصره من قبل المخرفين، والمتعصبين، مؤيدين بقوة السلاطين الجاهلين
…
الظاهر برقوق، وابنه الناصر فرج، ولاجين بن عبد الله الشركسي وأمثالهم، وكانوا على عقيدة سيئة، فضلا عما في سلوكهم من انحراف، وكانوا يقربون أصحاب وحدة الوجود، وأهل السحر، والزيج، وضرب الرمل، ولا تكاد تجد من المقربين إليهم إلا من اشتهر بذلك أو بما هو أسوأ!!
ولا أدل على هذا مما رواه ابن حجر وإليك كلامه بنصه1:
وفي سنة 784 كانت واقعة الشيخ صدر الدين عليّ بن أبي العز الحنفي
1 انظر "إنباء الغمر" 1/ 258 و2/ 75 طبع إحياء التراث. تحقيق الأستاذ حسن حبشي، "الضوء اللامع" 5/ 665، "النجوم" 6/ 138 توجد نسخة محفوظة باسم "تحفة العالم في سيرة سيد العوالم" لنصر الدين أبي عبد الله محمد بن أيبك بن عبد الله القافاء الذي عاش حوالي 782، "مجلة المجمع" 53/ 2/ 450.
بدمشق، وأولها أن الأديب عليّ بن أيبك الصفدي، عمل قصيدة لامية على وزن "بانت سعاد"، وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوه، ومنهم صدر الدين عليّ بن علاء الدين ابن أبي العز الحنفي، ثم انتقد فيها أشياء، فوقف عليها عليّ بن أيبك المذكور، فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء، فأنكر غالب من وقف عليها وشاع الأمر.
فالتمس ابن أيبك من ابن أبي العز أن يعطيه شيئًا ويعيد إليه الورقة فامتنع، فدار على المخالفين وألبهم عليه، وشاع الأمر، إلى أن انتهى إلى مصر فقام بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية للسلطان، فكتب مرسومًا طويلا منه:
"بلغنا أن عليّ بن أيبك مدح النبي -صلى الله عليه سلم- بقصيدة، وأن عليّ ابن أبي العز اعترض عليه وأنكر أمورًا منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك، وأن العلماء بالديار المصرية -خصوصًا أهل مذهبه من الحنفية- أنكروا ذلك فيتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ويعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره". وفي المرسوم أيضًا:
"بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه، منهم القرشي وابن ألجاي "كذا"1 وابن الحسباني، والياسوفي، فيتقدم بطلبهم، فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة". وفيه:
"وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية". فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية، فطلب النائب القضاء وغيرهم، فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتيين، فقرئ عليهم المرسوم، وأحضر خط ابن أبي العز فوجد فيه قوله:"حسبي رسول الله: هذا لا يقال إلا لله! " وقوله: "اشفع
1 هي مصحفة غالبًا عن "الجابي" فيكون أحمد بن عثمان الياسوفي الأصل، الدمشقي المعروف بابن الجابي. مات سنة 787.
لي"، قال: "لا تطلب منه الشفاعة". ومنها "توسلت بك" فقال: "لا يتوسل به".
وقوله: "المعصوم من الزلل"، قال:"إلا من زلة العتاب".
وقوله: "يا خير خلق الله" الراجح تفضيل الملائكة إلى غير ذلك.
فسئل فاعترف ثم قال: "رجعت عن ذلك، وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولا" فكتب ما قال وانفصل المجلس.
ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضًا، وممن حضر القاضي شمس الدين الصرخدي، والقاضي شرف الدين ابن الشريشي، والقاضي شهاب الدين الزهري، وجمع كثير، وأعيد الكلام، فقال بعضهم:"يعزر" وقال بعضهم: "ما وقع معه من الكلام أولا كاف في تعزير مثله" وانفصلوا.
ثم طلبوا ثالثًا، وطلب من تأخر وكتبت أسماؤهم في ورقة، فحضر القاضي الشافعي، وحضر ممن لم يحضر أولا: أمين الدين الأتقى، وبرهان الدين الصنهاجي، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة.
ودار الكلام أيضًا بينهم ثم انفصلوا.
وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضًا، وممن حضر سعد الدين النووي وجمال الدين الكردي، وشرف الدين الغزي، وزين الدين ابن رجب، وتقي الدين ابن مفلح، وأخوه، وشهاب الدين ابن حجي، فتواردوا على الإنكار على ابن أبي العز في أكثر ما قاله.
ثم سئلوا ن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر، وإلى ابن تيمية، فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في المسنون من جهة الاعتقاد إلا خيرًا، وتوقف ابن مفلح في بعضهم، ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أن لا بد من تعزير ابن أبي العز، إلا الحنبلي.
فسئل ابن أبي العز عما أراد بما كتب فقال: "ما أردت إلا تعظيم جانب
النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره: أنه لا يعطي فوق حقه".
فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله، وإن أساء في التعبير، وكتب خطه بذلك.
وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره، فحكم القاضي الشافعي بحبسه، فحبس بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات، ونفذه بقية القضاة.
ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البرية إلى مصر فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن أبي العز، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي، والجوهرية علي الملقب الأكبر، واستمر ابن أبي العز في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة.
وأحدث من يومئذ -عقب صلاة الصبح- التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين، ففعلوه.
وفي الرابع من ذي القعدة طلب ابن الزهري شمس الدين محمد بن خليل الحريري المنصفي فعزره بسبب فتواه بمسألة الطلاق على رأي ابن تيمية، وبسبب قوله:"الله في السماء".
وكان الذي شكاه القرشي فضربه بالدرة وأمر بتطويفه على أبواب دور القضاة، ثم اعتذر ابن الزهري بعد ذلك وقال:"ما ظننته إلا من العوام لأنهم أنهوا إلي أن فلانًا الحريري قال: كيت وكيت".
حكى ذلك ابن الحجي، وهذا العذر دال على أنه تهور في أمره ولم يثبت، فلله الأمر.
ومن أطرف ما حكي عن ابن المنصفي أن بعض الناس اغتم له مما جرى فقال: "ما أسفي إلا على أخذهم خطي بأني أشعري فيراه عيسى بن مريم إذا نزل". انتهى.
وهذه أسباب أوجبت إخفاء المؤلف ابن أبي العز اسمه، أو أن النساخ حذفوا اسمه خوفًا من بطش هؤلاء الحكام وأتباعهم الظالمين، وإذا تتبعنا تلك الحقبة،
وما جرى فيها على العلماء من الإيذاء والإهانات، لطال بنا البحث.
ولا تغتر بتعليقات الكوثري التي يدافع بها عن برقوق ولاجين وأمثالهما، فإن للعصبية لأبناء جنسه "الشركسي" دخلا في ذلك، إضافة إلى العصبية للمذهب والمعتقد.
- وقد امتازت طبعتنا هذه بالفهرس الذي جمعنا فيه أطراف الأحاديث والآثار وبعض الألفاظ الواردة في الكتاب تسهيلا للمراجع والمطالع وهو بعض الواجب علينا في خدمة عقيدتنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما كان هذا الفهرس هو لسهولة الرجوع إلى ما في الكتاب، فقد دمجنا به الأحاديث الصحيحة الموصولة وغيرها مما لم يصح، أو كان معلقًا أو موقوفًا أو مرسلا، وبذلك فإن يشمل الآثار أيضًا وقد أدخلنا الأحاديث المحلاة بـ"أل" مع جسم الحرف من غير فصل مثال حديث:"الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فإنك تجده بعد حديث: "أسري بجسده
…
" كما أننا فهرسنا بعض الألفاظ وجعلناها أطرافًا لحديث مع أن طرف الحديث لفظ آخر: "يَا غُلَامُ! أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ
…
" ، فإنك ستجده عند حرف "يا غلام" وعند "
…
احفظ الله".
وقد ساعد بالجهد الأكبر في الفهرسة الأخ الفاضل الأستاذ رجب قمرية.
والله تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه، وفي سبيل مرضاته، وأن يحسن مثوبة كل من ساعد في نشر عقيدة السلف، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بيروت 15 المحرم 1407
زهير الشاويش